عـمــر والـعــراقـيـون
حرر مصر فأوفى له المصريون
وحرر أرض السواد فكبا أهلها!
العراق العمري:
تاريخياً وبإجماع لم يخرج عليه مؤرخ، أن عمر بن الخطاب هو ناشر الإسلام العراقي ومؤسس العراق العربي الأول.
ولو كان عمر من أباطرة الأمم والشعوب، التي مرت على العراق فأقامت أو رحلت، لكان \"العمريون\"هو الاسم الذي يتسمى به سكان الرافدين، بدلاً من لقبهم الوطني حالياً، مثلما سُمي أهل تلك البلاد بالسومريين والآشوريين والبابليين ثم العثمانيين.
وتاريخ العراق العمري يبدأ في العام الثاني عشر للهجرة بقرار بناء مدينة البصرة، ثم الكوفة من بعدها، لتشكل هاتان المدينتان الجذر المزروع لحضارة عربية إسلامية، ستنشأ وتربو وتهيّء لأبي جعفر المنصور بناء المدينة الثالثة التي استعصم فيها، فصارت بغداد مركز تلك الحضارة، والبصرة والكوفة جناحيها اللذين طارت بهما من الصين إلى أبواب فرنسا.
إن عمر من هذا الجانب مؤسس حضارة رافدية مثلما كان سرجون الأول وحمورابي ونبوخذ نصر.
ولعله أضاف إلى سكان بلاد الحضارات الرافدية، حضارةً أخرى إلى جانب السومرية والبابلية والآكادية والآشورية.
وسيكون الاهتمام بعمر والاقتراب منه من باب الاهتمام بالتاريخ العراقي وتكريم مؤسسيه الأوائل.
وسيكون حُب عمر بن الخطاب من حُب العراق والاعتزاز به من باب اعتزاز الشعوب برجال استقلالها وإنماء شخصيتها الحضارية التي كانت نهب الناهبين، والعراق آنذاك في منطقة فراغ، إذ لم يغط الاحتلال الفارسي للعراق الكتلة السكانية والجغرافية وإنما عاش محصوراً في قطع صغيرة، وانتشر بأسلوب الأرخبيل على جزر لم تشكل أكثر من ربع مساحته الجغرافية، بينما أنساح العراق العمري على جغرافية العراق من بصرتها إلى موصلها.
إن عمر بن الخطاب بدوره هذا، إنما مَنَح دوراً للعراقيين ولبقاع مغمورة كالبصرة ومهجورة كالكوفة وغير معروفة كبغداد أن تكون جاذباً لاستقطاب القبائل العربية الكبرى، فاستقرت المضرية في البصرة واليمانية في الكوفةِ وبهما أخذ العراق شكله العربي الأول.
وخلال وقت لا يحسب بجداول الزمن، صارت الكوفة مركز القيادة لحركة الفتوحات، وأصبحت مصائر دول عريقة وشعوب آسيويةٍ تمتد من جنوب العراق ومن بحر قزوين حتى مشارف الصين، مرهونةً بالقرار الذي سيصدر من الكوفة.
والعربي في العراق لابدَّ أن يكون خارجاً إلى مدينته الحالية من الكوفة، ولو كان جنوبياً، إذا لم تتحرك الجيوش العربية صاعدةً من البصرة، بل نازلةً من الكوفة إلى مدن الفرات الجنوبية، أو عابرةً إلى دجلة ومنها إلى بحر القزوين، بعد أن تكون قد التفتت إلى الشمال لتتربع الموصل على جذرها العربي القادم من الكوفة.
و بفضلِ عمر مؤسس البصرة وممُصر الكوفة، تعرفت العرب على مدارس النحو واللغة وعلوم الكلام والفلسفة.
إن دور عمر في العراق مثل دوره في مصر، والعراق العمري صنو مصر العمرية التي أضافت إلى حضارتها حضارةً جديدة ومدناً جديدة.
الفرق أن المصريين كانوا مع عمر أنقى ومع تاريخه أوفى.
افتخر المصريون ببطلهم الجديد،فأنصفوه وحملوه أسلوباً للإدارة، وأنموذجاً للزهد والتسامي، وروحاً للعدالة الإلهية. فيما كبا أهل العراق كبوتهم، فلم يكتب فيه مثقف ينتسب إلى ثقافة التسنن. أو آخر منسوب على التشييع سوى علي الوردي وآخرين خارج المحيط الديني.
إن مؤسس العراق العربي أهملهُ العروبيون، فلم يصدر كتاب مستقل فيه عن مؤرخين \"فطاحل\"، وأُدباء \"فُحول\"، أمثال الشيخ محمد بهجت الأثري والدكتور عبد العزيز الدُوري، وأستاذ التاريخ العربي ناجي معروف، كما لم تصدر المؤسسة الدينية ومركزها الأعظمية أو الموصل كتاباً يُعرِّف العراقيين بمؤسس حضارتهم الإسلامية وممّصر بصرتهم وكوفتهم.
بيد أن المصريين أخلصوا الودّ لمؤسس حضارتهم العربية. فكتب العقاد عبقرياته منشورةً في غرف الدرس وعلى أرصفة المدن العربية. وكتب طه حسين \"الشيخان\" و\"الفتنة الكبرى\" بجزئيها مُنصفاً مستلهماً روح الإسلام ومنهج البحث العلمي الحديث.
وكتبت بنت الشاطىء والمستشار عبد الحليم الجندي وأبو زُهرة وعبد الرحمن الشرقاوي في الإمام علي وفي تلك الفترة الإسلامية المثيرة، فتشكلت المدرسة المصرية مرجعاً سنوليه الاهتمام في صفحات قادمة.
أمّا العراق فَخُلوٌ من هذا المنهج، وتلك المدرسة، رغم كونه ميدان الصراع الطائفي القديم والحاضر، وإذ يعزو المُطلعون على أسبابه إلى جهل الناس بتاريخهم الإسلامي، فَلم يسأل أحدٌ إلى من تُعزى أسباب هذا الجهل.
إنهم يكتبون من فوق، ناشرين طُعونهم على العامة، وكأنهم يتوقعون أن يولد العراقي وهو يرضع العلم، ويحتسي أكواب الثقافة من مشارب لا يمتلكها أساساً.
إن المجتمع بمؤسساته الدينية والدولة بمؤسساتها الثقافية هي التي تتحمل المسؤولية عن جهل الناس بتاريخهم، ولم تلتفت الحوزات العلمية الشيعية والمدارس الدينية السُنية إلى التعريف بثروة من التراث الإسلامي المقيم في معماريات الأئمة والشيوخ والأولياء، فيراها الناس شاخصة، ولا يعرفون شيئاً عن أسرار المقيمين في ثراها سوى ما يقدمه السدنة من أوراد وإذكار..!.
إن وزارات الثقافة العراقية كان يمكن لها أن تنهض بمهمة تُجنّب العراقيين شيئاً من هذا الصراع، لو عُنيت بإصدار سلسلة كتب للتعريف بمن تنتسب إليهم تلك المعماريات، لكن وزارة الثقافة أصدرت مرةً كتاباً عن ألعاب الصبيان في سامراء متجاهلةً معمارية سامراء العباسية، تلف أحزانها ملتويةً إلى السماء، وتهمل شاخصة الإسلام العَلوي في معمارية الإمامين علي الهادي والحسن العسكري، التي تعرف عليها الناس مقطوعة الأسماء وممزقة الأحشاء!.
ومن المفارقات أن حكومات العراق ذات الطابع السُني، في قرارها، وفي أغلبيتها خلال الثمانين عاماً الماضية، لم تلتفت إلى هذا الجانب فتنشر كتاباً مستقلاً بأبي حنيفة المقيم في الأعظمية، وبمعماريته الفقهية، ولا توقفت يوماً في باب الشيخ ودخلت مسجد الشيخ الحسني عبد القادر الكيلاني، فلم يُعرف عنه سوى أنه (أبو قبقاب).
إن علماء السنة وشيوخها ومثقفيها لم يُنصفوا إمامهم الأعظم، ولم ينشروا علم العلماء المدفون في مساجد الشيخ معروف الكرخي والشيخ جنيد والشيخ السهروردي وآخرين.
ومثلهم في التقصير والإغفال كان فقهاء التشيع، وحوزاتهم العلمية التي لم تنشر بعد ألف عام على تأسيسها كتاباً عن الإمام علي بن أبي طالب يطلع عليه جيل عن جيل، ولا كتاباً مستقلاً عن الإمام الحُسين، لكن بعض أتباعهم من الدرجات الوسطى ربما اهتموا اهتماماً خاصاً بفاجعة كربلاء فكتبوا عن الفاجعة دون الكتابة عن الحسين.
وباستثناء كتابات في التاريخ العام للعتبات المقدسة، ومدن التشييع العراقي وكتب الرجال، وقد صدرت من خارج الحوزات العلمية، فلم يتوفر لشيعة العراق كتاب يُعرفهم بأئمتهم على الطريقة، التي كتب فيها العقاد وطه حسين والشرقاوي وأبو زهرة.
ومن الغريب أن الذين أعتنوا بهذا الجانب من التاريخ الإسلامي، هم من خارج الإطار الديني، ومن المحسوبين على العلمانية، وربما اتهموا بالزندقة والإلحاد، كالدكتور علي الوردي وهادي العلوي وفيصل السامر.
أما التاريخ العام فقد حظي باهتمام فريق من علماء التاريخ كالدكتور عبد العزيز الدوري والدكتور مصطفى جواد والدكتور جواد علي والأستاذ ناجي معروف، ممن ابتعدوا عن تاريخ سير الأئمة والفقهاء الذين تدور حولهم اهتماماتنا.
الكوفة جمجمة العرب
ولأنها مركز القوة العربية الأول وفاتحة فارس فقد أحبَّها عُمَر وفضّلها على المدن التي أقامها، كالبصرة في العراق، والفسطاس في مصر، ولم يُعرف لِعُمر عشقُ الشام بما نعرفه عنه من عشق الكوفة، فأطلق عليها أجمل اسمين تحمِلهما مدينة: رأس الإسلام مرةً وجمجمة العرب مرةً أخرى.
فهي العروبة والإسلام وليست الشقاق والنفاق كما تزعمون.
أما البصرة فكانت في مركز هامشي لم يتوجه إليها سوى قبائل غير متمرسة في القتال كما يقول هشام جعيط في كتاب الفتنة وكان مركزها هامشياً ولَعلها قامت في بعض الأحيان بدور مساعد للكوفة.
وإن كان ذلك لا يعني أنّه فضّل أهلها على أهل البصرة، وإنما كان الاهتمام بسبب دورها أمّا العطاءُ فكان واحداً لأهل البصرة وأهل الكوفة ولعطاء غيرهم من المقاتلين.
ومع ذلك فقد نَفِسَ أهل البصرة كما يقول محمد حسين هيكل في كتابه الفاروق على أهل الكوفة موقع بلَدِهم وما تدر عليهم من الخير.
وكان وفدٌ من البصرة قدم إلى المدينة وشكا من سوء أحوالهم المناخية فقال الأحنف بن قيس لِعُمر:
يا أمير المؤمنين إن مفتاح الخير بيد الله وإن إخواننا من أهل الأنصار نزلوا منازل الأمم الخالية بين المياه العذبة والجنان الملتفة وإنا نزلنا سبخةً ملتفة لا يجف نداها ولا ينبُت مَرْعَاها فليس لنا زرعٌ ولا قرع، ويخرج الرجل الضعيف يستعذبُ الماء في فرسخين وتخرج المرأة لذلك فَتُربقُ ولَدْهَا كما يُربقُ العنز \"أي يربط بالحبل\" يخاف بادرة العدو، وأكلِ السبع، فان لا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقومٍ هلكوا.
اتخذ عمر ساعتها قرارين، أن يزيد عطاءَهم وأمر عامله على الكوفة أبا موسى الأشعري ليجري لهم نهراً على بُعد ثلاثة فراسِخ إلى شمال البصرة حيثُ الماءُ هناك أعذب لم يتلوث بمياه البحر بَعْد.
وكانت قبائل البصرة تتنافس مع قبائل الكوفة، ونافست المدينتان على أمجادها ودخلت القبائل في هذا التنافس فدَخَلَ معها شعرُ التفاخر، وهو أول تفاخرٍ للمكان بعد الفخر بالقبيلة.
فهل كانت تلك بداية لاختلاف أهل البصرة وأهل الكوفة في علم النحو، فيكون لكل منهم مدرسة خاصة وأن يختلفا في الذائقة البلاغية، فيكون لمدرسة الكوفة ذوق أقرب إلى طبيعة البداوة ونقاء الصحراء وسهولة المقاصد والأفكار، فيما جنحت البصرة نحو التعقيد مُستعينةً بعلم المنطق والرياضيات في كتابة النحو والبلاغة؟.
ولم يكن ذلك كافياً لسترِ الكوفة وحمايتها عن الطعون على مرِّ القرون العربيّة.
وأهل الكوفة ما يزالون يوصمون بالتمرد والاحتجاج ومناكدة الولاة وإثارة القلاقِل وأضيفت إليهم طعون بعد مقتلِ الإمام الحسين في معركة الطف وخذلانه بعد تأييدهم، فَضُرِبَ المثل في الكوفة حتى سُميت حمص بالكوفة الصغرى لكثرة احتجاجها على الولاة.
وفي ظننا أن ما يجمع الكوفة وحمص ظرفٌ واحد: كونهما على أطراف البادية وارتياح القبائل العربية للسكن فيهما وخضوعهما لذات المؤثرات.
الكوفة ناشئة ولم تكن سوى أرضٍ معروفة برملتها الحمراء غير المأهولة، فأخذت اسمها من رملتها التي تسمى عند العرب بالكوفة لحمرتها. وإنما كان ظاهرها عامراً ويُدعى بالحيرة مملكة المناذرة الشهيرة،ِ والمعروفة بالعصر الجاهلي باسم الغَري قبل أن تأخذ لقبها الحالي وتسمى بالنجف، والنجف هي ما ارتفع من المكان ولهذا يُسمي المصريون ثريات الضوء بالنجفة لأنها مرتفعة ومتألقة.
وكانت الحيرة معروفةً بدياراتها المسيحية المدهونة بالطلاء الأبيض فكأنها تبدو من بعيد نجوماً متألقة، فكيف وصل المصريون إلى هذه النتيجة ولم يصل إليها العراقيون؟.
هذا شيء عن كوفة الفرات، فعن أي كوفةٍ تتحدثون؟.
كوفة الإسلام في عنفوانه العُمري وصراعه مع الخارج الأجنبي الناكر للإسلام، أم كوفة الإسلام في مثاله العَلوي تصارع المنشق عن الخلافة لتستعيد وحدة الدولة العربية المسلمة كما رسمها عمر بن الخطاب؟.
سنحتكم في الجواب إلى الكوفة ذاتها، وإلى مناهجها الأولى، فهي في عهدها الأول بنت لعمر ولفقهه وتاريخه، وأبو حنيفة النعمان بن ثابت هو فقيه الكوفة وعند هذا الرجل يلتقي العُمران والعَليان في الدرس الفقهي الواحد، وليس على حلبةِ الملاكمة كما يشطح الجاهلون والسُذَّجِ والمُخدرون بالمال الأموي والترياق الصفوي.
الكوفة جمجمة عمر ورأس علي، توأم الخط المحمدي، الذي سارت عليه قاطرة العرب. لكن فيها من جانبٍ آخر صراعاً شفيفاً ليس بين عمر وعلي، بل صراع مدارس وثقافة وتربية ورأي يُمسك مالك بن أنَسْ بفقه المدينة المحافظ ويمسك أبو حنيفة بفقه الكوفة المنفتح أو الراديكالي كما يُسمى في أيامنا.
ونترك المستشار عبد الحليم الجندي في كتابه عن أبي حنيفة الصادر عن دار المعارف في القاهرة يَسوحُ بين المدينتين سياحة العالم العارف بدقائِقها.
كان للمدينة من السلطان الروحي ما عبر عنه مالك لليث بن سعد بقوله: \"إن الناس تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن\".
وكانت حضارتها بسيطة غير معقدة ولا مشوبة بتخليط، المشاكل فيها قلائل، والوقائع تتشابه وتتشاكل. فإذا عرضت مسألة، فإن أشباهاً في السوابق حِكماً في النصوص: يسيطر على أهلها اعتقادهم أنهم لن يصنعوا خيراً مما صنع آباؤهم، لأنهم تابعون وآباؤهم متبوعون، ومن عقيدة التابع أنه ليس كالمتبوع، وأنه لن يكون جيل التابعين ولا أي جيل بعده أو قبله كجيل الصحابة رضوان الله عليهم.
أما الكوفة ففي ذلك الإقليم من أقصى الجزيرة حيث لم تكنُ مادة الفقه والأحاديث والسنن هي الهواء الذي يتنفس الناس فيه في كل مكان كالمدينة، فإذا أقبل بنوها على العلم أقبلوا من تسامح المحيط الواسع الذي ينادي بالاجتهاد بالرأي، حيث الناس من كل الأجناس، يقبلون على الدين الجديد تؤنسهم مدينة كبيرة وتكتنفهم معاملات وتجارات ونوازع شتى وفنون حضارة تحتاج في كل وقت إلى الرأي الجديد، لا تغنى عنه النصوص القليلة المتداولة. جاءوا يدلون بدلوهم في الدلاء، يتحرون ويتقرون لم تكد تهدأ رحلتهم بعد، ولم تكن لتهدأ إلا بعد أن تستنفدها شتى ضروب النشاط المادي والفكري أو يعتورها الكلال والهرم.
لقد تلازم الاجتهاد والجهاد في تاريخ الإسلام، وتحالف الركود الفكري والركود العسكري من ألف عام:
قامت مدرسة الكوفة تقول بالخلق والابتكار، واستعصم أبو حنيفة فيها مستمسكاً بالرأي وبالتشدد في قبول الأحاديث ورواتها وعارض فقهاء المدينة وأشياعهم.
ثم تطاول الخلاف الفقهي فتحول إلى خصام، وأعلنت حرب المذاهب بين كلمات قارصة كقول القائل: \" وضع أبو حنيفة أشياء في العلم، مضغ الماء أحسن منها.\" ومستشنعات من الألفاظ سنرى أمثالاً منها بعد: وغدا فقه العراق هِمَّ الحجاز المقيم المعقد...\"
لكن سياسة عثمان أولَت البصرة اهتماماً جعلَها المركز الأساسي لإرسال الجيوش التي زحفت إلى كرمان وسجستان وخراسان سنة 31 للهجرة وعُني عثمان بالبصرة وأهلها عناية عمر بالكوفة وأهلها.
إن الإمام علياً عندما فكّر في جعل الكوفة عاصمةً للخلافة فكأنه يستلمها من عُمر بعد معركة الجمل بين البصرة العثمانية والكوفة العمرية وكان الإمام علي يسعى لأن تستعيد الكوفة مجدها السابق.
وبتعبير المذاهب والفرق كانت الكوفة من شيعة عمر وعلي وعمار بن ياسر.
والبصرة من شيعة عثمان وعائشة والزُبير وطلحة بن عبيد الله، والفريقان هما، من أتباع محمد (ص).
إن المؤرخين يتداولون بظلم معلوماتٍ وأحكاماً عن أهل الكوفة كمثال للشخصية العربية المعروفة عندهم بالشقاق والنفاق وقطع الأعناق والأرزاق، فيما أخذت الكوفة قطعَ الأعناق والشقاق مرةً من قبائل الردة التي استوطنتها، ومرةً من انشقاق البصرة على خليفتها الشرعي، وبقيت الكوفة عربيةً خالصة ولم يكن للعراقيين الأصليين عليها شيءٌ من عناصر النفوذ والقوة وشعبها متسلح بتقاليده اللقاحية الصارمة وعقيدته الإسلامية النافذة. فتعرب بها من تعرّب من لم يكن عربياً ولم تتعرق الكوفة إلاّ في القرن الثاني للهجرة.
أي أن العراقيين لم يقتلوا الإمام الحسين،لأن أهل الكوفة لم يكونوا عراقيين آنذاك.
واستمرت مدينة أُحادية الجنس قبل أن تتحول في القرن الثاني إلى مدينة عالمية متعددة الثقافات والأعراق.
إن الكوفة في فجرها الأول هي على ما رأيتم.
والكوفة في فجرها الثاني هي مدينة الثقافة والعلوم والشعر واللغة مهمومة بهموم النُعمان بن ثابت ومدرسته وبنحو الكسائي ومدرسته.
أهل الكوفة ليسوا عراقيين !
مازلت مُتردداً في أي منهما سيكون نَسَباً تنتسبُ إليه الكوفة، وهل يَصِحُّ القول: إنها عراقية وأهلها عراقيون، وليس فيها من العراق إلاّ أرضها وموقعها على الخريطة.
أهل الكوفة هم أهلَ الأيام من المحاربين الأوائل في مأثرة الفتح وعناصر من المشاركين السابقين في حروبِ الردة، الذين تابوا وشاركوا في فتح بلاد فارس فاستوطنت الكوفة، ولم تكن من قبل مأهولة قبل صعود قبائل عربية من اليمن ومُضر ومذحج وكندة وتميم وأسد، فتشكل منها المركز العسكري العربي الكبير في العالم الساساني السابق ومركز القوة العربية، وكان أهل الكوفة هم الذين سيطروا أساساً على وسط إيران وشماله، من ميديا وقوقس وجرجان إلى طبرستان وأذربيجان.
ولأن مُجتمعها من تلك الأصول القبليّة العريقة المعروفة بثقافتها اللقاحية أي رفضها للسيطرة المركزية والخضوع لقوةٍ فوقها وتمردها على الآخر المُتسلط، فقد طُعِنَت الكوفة بالانشقاق والنفاقِ، كونها عراقية، ولم تكن بَعْد قد تأثرت بمناخ العراق.
نخلة العراق أم زيتون الشام:
بعد استطراد تاريخي وسياسي أشغلنا قليلاً عن فاكهة الشام وعلاقة العرب بالزيتونة، التي يلتقونها حديثاً، أقولُ:
إن العرب فضلت رُطبَةَ التمر على التينِ فهل تُفضِل عليها مرارة الزيتون؟.
ألا ترى أن العرب حتى الآن لا يستسيغون الزيتون مثلما يتلفتون في موائدهم بحثاً عن الرُطَبِ المفقود.
أقولُ: إن الشجرة العربية المفضلة هي النخلة بلا منازع وليست الزيتونة وسنحتكم إلى أحاديث نبويّة وشواهد من شعر العرب لتصبحَ النخلة منجماً لغوياًُ تخرج منه المصطلحات إلى يومنا هذا، فتستقل بما لم تستقل شجرةٌ أخرى باسمٍ خاص لأغصانها وهو السَعفُ، وجعلوا من سُعفتها أداة لإغاثة المستغيث وجبر المكسور فقالوا: أسعفْهُ، أي قدّم إليه السَعفة فأغاثه ونجّاه من الغرق أو طبّبه بها ومنها عرفنا الإسعاف الطبي. فهل رأيتم أثراً للزيتونة في لغة العرب؟.
كان عَصُر عمر امتحاناً لقبائل الجزيرة واليمن لاختيار شجرتهم ومدينتهم. فصدقوا للنخلة وانتسبوا للبصرة والكوفة، فكيف استطالت صراعات المذاهب فصارَ العراق لعلي والشام لِعُمر، فريقين متصارعين، وهُما جيش واحد ومدينة واحدة وسلوك محمدي لا ينشطر الواحد فيه شطرين إلاّ بمناشير القطيعة؟.
يتبع...