القبيلة والمجتمع (الشعب بوصفه قبيلة كبيرة)
د. عبدالله محمد الغذامي
أشار عدد من المفسرين إلى ان معنى كلمة شعوب تعني القبائل الكبيرة، وذلك في تفسيرهم لقوله تعالى: (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، ولا شك ان لهذا المعنى وجهاً كبيراً من الصواب، إذا أخذناه بمعناه المفاهيمي والثقافي، فالشعب قبيلة كبيرة، وحين أقول هذا فإنني أشير إلى الأبعاد الدلالية لمفهوم التعارف البشري، فالناس إذا ما صاروا شعباً فإنما يكونون كذلك بناء على روابط اجتماعية أولها اللغة المشتركة مع منظومة المصالح البشرية الأساسية في المعاش والأمن ونظام العلاقات الداخلي، وهم إذا ما كانوا شعباً فإن مصالحهم ستوحد حسهم الوجداني مثلماً قد اتحدوا في شروط حياتهم وشرط بقائهم وصيانة وجودهم، وسيكون النظام الثقافي الناتج عن تفاعل هذا الشعب أو ذاك فيما بينه سيكون هوية له وعلامة عليه، وان يكن في أصله ناتجاً عن شرط وظيفي معاشي، لكنه يتحول مع تكرار الممارسة إلى ذائقة ووجدان نفسي وذهني يتجاوز شروط الحاجة وان ظل متجاوراً معها. والشعر مثال على ذلك فنحن نجد إشارات قديمة تكشف عن وظيفية الشعر بما انه خطاب عملي في تحميس الناس للحرب وفي الدفاع عن حياض القبيلة، ثم صار وسيلة لكسب المال، ولكنه مع هذا الجانب الوظيفي صار قيمة جمالية وذوقية، ومثله رقصات الحرب التي نشأت لأسباب عملية لحشد الهمم ثم تحولت مع الزمن والممارسة إلى فن وثقافة كالعرضة ولا عجب ان نرى مدنا معينة تتفوق على آخريات في فن العرضة لارتباطهم الأصلي مع الحرب أكثر من غيرهم، والعرضة فن حربي مرتبط بالمدينة وهي ثقافة مدنية ابتدأت لغرض عملي ثم صارت فناً ثقافياً احتفالياً وجمالياً. وان شاعت العرضة في كثير من المدن كرقصة حرب ثم رقصة ثقافة إلاّ أنها تترقى عند مدن أكثر من أخرى حسب علاقة كل منها بتواريخ الحروب وثقافة المعارك. وهي سمة مدنية شاعت لتصبح سمة شعبية عامة.
والشعب - أي شعب - لا يقوم إلاّ على مفهوم (التعارف) الذي أشارت إليه الآية الكريمة بوصفه علة لتقسيم الخلق إلى مكونات فئوية، وهو معنى يؤسس لتصور مفاهيمي جوهري في نظرية العمران البشري ولقد أشار المفسرون إلى ان التعارف هو ان يعرف الناس بعضهم بعضاً فيقيمون حقوق التواصل بدءا من صلة الأرحام وهي الخلية الأولى لبناء العائلة وامتداداً إلى إقامة حقوق التكافل الاجتماعي والبنيوي الذي هو شرط لبقاء النوع وحمايته.
إذا قلنا هذا وهو أمر لا مشاحة فيه فإننا سنقول معه ان الشعب هو نظام معاشي مثلما ان القبيلة نظام معاشي، وستنتظم الأمور بين المفهومين ولن يحدث تعارض أو تقاطع بينهما إذا ما تمثل فيهما شرط (التعارف)، وهو علة وجود هذا التنظيم وسببه، أما لو حصل تعارض بين شرط التعارف عند الشعب مع شرط التعارف عند القبيلة فنحن هنا أمام علتين لوجودين متناقضين، وسيكون التعارف هنا تناكراً وليس تعارفاً، وسمة التواصل والتعايش لن تكون في صيغتها الطبيعية التي تقتضيها حكمة تقسيم الخلق إلى فئات متعارفة.
هذا يشبه حال الشعر، والشعر مظهر ثقافي ينطبق عليه صغة التعارف في أصل نشأته، ولكنه انحرف في بعض ممارساته ليكون نقيضاً لشرط التعارف، وجاء فن الهجاء ليكون خطاباً سلبياً من داخل خطاب ايجابي، وبذا صار نقيضاً ثقافياً يحرف الوظيفة الجمالية الأصلية، وكذا هو الشأن مع أي تكوين اجتماعي هو في أصله وجود طبيعي له مسبباته وله ظروفه الصحيحة، ولكنه يصاب في مرحلة من المراحل بعلة من العلل الثقافية ويصير خطاباً في الهجاء بعد ان كان شرطاً للبقاء.
ونحن لو نظرنا في أدبيات أي تكوين قبائلي فإننا سنلاحظ بسهولة أنه تكوين لا يختلف عن أي تكوين اجتماعي آخر، والشبه بين العائلة الكبيرة مثلاً والقبيلة يكاد يكون في تطابق تام، وكذا فإن سلوك أي شعب سيكون مثل سلوك أي قبيلة، ثقافياً واجتماعياً، فالشعب يتسمى بمسمى واحد ويحكي لغة واحدة ويملك قضايا يتحد حولها الجميع، مثلما يملك نظام مشيخة من نوع ما، وهي في حالة الشعب تسمى حكومة، وكذا فإن له ثقافة مشتركة كما له حساسيات مشتركة، وله غضبة تميمية أو غير تميمية واحدة، ومن يراجع ملاحظاته فسيتذكر مثلاً طريقة الزعامات الفرنسية في ردة فعلهم على أي حادث خارجي، ولن يجد في ذلك فارقاً عن ردة فعل أي تشكيل قبائلي على غيرهم، وليس في حالة العدوان الحربي فحسب بل حتى في اللمز على الثقافة أو الماضي، ولقد ثارت ثائرة الأوروبيين حينما جرى وصف أوروبا بالقارة العجوز، وقد جرى ذلك على لسان بعض السياسيين الأمريكيين في لحظة صراع سياسي على بعض القرارات العالمية، وغضبة الأوروبيين من ذلك الوصف تشبه غضبة بني تميم كما أورثنا إياها جرير. والحمية الثقافية فيما بين الشعوب هي أمر مشهود تشهده مباريات كرة القدم ومنافسات المسابقات العالمية. ومن سمات الإعلام الإنجليزي الانتصار لأي بريطاني أو بريطانيا يمسك بجرم في بلد أجنبي ولقد دافعوا دفاعاً انفعالياً عن فتاة بريطانية مسكت في أمريكا بجريمة تعذيب طفلة كانت تحت رعايتها، ودافعوا عن شاب إنجليزي مسك في قضية مخدرات في سنغافورة، وهي حمية شعبية مثلها مثل أي حمية أخرى بما إنها خصائص في الطبع البشري في انتصار الذات لذاتها بغض النظر عن الحقيقة المثالية.
وكما ان القبيلة تملك علاماتها الخاصة في الوشم مثلاً فإن الشعوب تملك علاماتها الخاصة في شكل العلم ولونه، وفي الشعار الرسمي، ولهم قصائدهم العصماء وهي بالمصطلح تسمى النشيد الوطني، وللنشيد الوطني منزلة خاصة ودستورية عليا، حتى ان اهانة الشعار عند الشعوب تصل إلى حد الخيانة الوطنية ولقد جرت محاسبة مطربة أمريكية لأنها بصقت أثناء أداء النشيد الوطني الأمريكي في احتفالات رياضية في لوس أنجلوس.
تلك سمات ثقافية تجنح الشعوب إلى تمثلها وهي صناعة ثقافية بسيطة في أصلها، ولكن الأمم تمنح هذا البسيط قيمة عليا وتنسب نفسها لهذه القيمة، وترى ان احترام هذه القيمة والمحافظة عليها والحرب من أجلها هي حقوق وطنية أولاً ثم هي شرف للشعب وواجب حتمي عليه.
كما ان التماثل فيما بين مفهومي الشعب والقبيلة سيمتد إلى الصفات التي يمنحها كل منهما لذاته مثل صفتي الشجاعة والكرم وهما صفتان نجدهما في أدبيات الشعوب مثلما هي في أدبيات القبيلة والإنجليز مثلاً يطلقون النكات على الاسكتلنديين بصفة البخل، والبخل سمة سلبية وإذا اتصف بها شخص أو قبيلة أو شعب أو ثقافة صارت مادة للسخرية والتندر، كما فعل الجاحظ وكما هي نكت الإنجليز وسخرياتهم. أما صفة الشجاعة فتشهد عليها الأناشيد الوطنية للشعوب وهي قانون ثقافي يمثل شرف أي تجمع بشري بما انها شرط للحماية والبقاء.
وهذا يعني ان ما ورد في القرآن الكريم من وضع الشعوب مع القبائل في صيغة لغوية واحدة يجمع بينهما فعل واحد وحرف عطف واحد وعلة وجودية واحدة يجعل التماثل تماثلاً تماماً حد التطابق والتوافق. وبذا فإن أي تكوين بشري هو تكوين عرفي - تعارفي، يختزن منظومة رمزية له ويحس بالانتماء إليها، وهذه سمة يشترك فيها البشر - كل البشر - . وهذا هو المعنى العميق للآية الكريمة بنصها الدقيق: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا)، وليست منظومة العلامات الثقافية من مثل الوشم عند البادية إلى العلم (الراية) وما يتبعها من علامات تمييزية لشعب عن شعب ولتكوين عن تكوين، ليست هذه كلها سوى تجليات لشرط التعارف، وأنت إذا رأيت وشماً أو رأيت راية فإنك ستعرف ما وراء هذه العلامة وستقيم حق التعارف. وان من مسميات الراية أو العلم البيرق، وذلك لأنه يبرق في الأفق مشهراً صفة التعارف بين المتعارفين.
هذا - وهو حق وطبع - هو من المسلمات الثقافية العمومية وهو من طبع خلق الله ومن صفات الناس وعلاماتهم، وبما أننا نتساوى في هذا المسلك فإننا سنتساوى في سائر الأمور، خيرها وسلبيها، ولكل منا نوازعه الطبيعية للدخول في تكوين يتعارف معه ثم ينتمي إليه ثم يترابط معه على شروط الحياة كلها حتى السلبي منها، وان كان الشاعر الجاهلي يمدح قومه بأنهم يطيعون الداعي حتى لا يسألون على ما قال برهاناً فهذا هو نفسه القانون العسكري الذي يفرض على الجنود تنفيذ أوامر قادتهم دون نقاش، ولو سأل عسكري رئيسه عن الأسباب والمبررات وناقشه في الميدان لجرى تجريده من سلاحه وتأديبه تأديباً عسكرياً صارماً.
هو - إذن - شأن النظام البشري، وهو شأن متماثل، وبما انه يتماثل عند الكل فإن الكل سواء بسواء، إن خيراً فخير وإن سلباً فسلب، ولن يفضل هنا أحداً أحداً، بما ان الجميع يمارسون سلوكاً واحداً وان تنوعت المسميات، وهي كلها أنساق ثقافية، تميل بعض الممارسات على تصور حالها أفضل من غيرها، ويرد قوم على قوم في لعبة تناسخ ليست غريبة لأنها سلوك ثقافي عام، ولقد جرى من ابن خلدون مثلاً ان مجد القبيلة مرة وان ذمها مرة أخرى في فارق من الصفحات بسيط، وهو قد ظلم القبيلة في موقع وأنصفها في موقع وللتناقض عنده أسبابه، وأترك المسألة هذه لمقال آخر - إن شاء الله - .
|