المقال التاسع :
القبيلة والمجتمع (الشعوبية)
د. عبدالله محمد الغذامي
طلب احد القراء الوقوف على مفهوم الشعوبية وذكر في موقع "الرياض" على الانترنت انه جلس في مجلس وجرى ذكر الشعوبية فيه بما يوحي بشيء من التعارض الدلالي، وكأن ملاحظة القارئ الكريم تشير الى فهم علم يأخذ به بعض الناس في تصورهم للشعوبية ونسبة هذا التيار الى فئة من الفئات، وهو يريد مني دحض هذا الظن الخاطئ، وهذا ما سأجعله موضوع هذه الحلقة.
ولعل اللبس قد جاء عند هؤلاء من تصورهم ان ورود كلمة الشعوب مجاورة لكلمة القبائل في الآية الكريمة (وجعلناكم شعوباً وقبائل) انما هي اشارة الى الشعوبية، وهذا لن يكون فهماً صحيحاً للآية الكريمة ولا يمكن لتركيبة المعاني ان تسمح فيه، ولو تصورنا ان كلمة شعوب في الآية تعني الشعوبية للزمنا ان نتصور ان كلمة قبائل ايضاً تعني القبائلية، وسيغرينا التوهم حينئذ على ان الآية تقول (وجعلناكم شعوبية وقبائلية لتعارفوا)، وهذا مستحيل لأن الشعوبية والقبائلية نقيضان للتعارف وهما معنيان في التناكر والتقاطع وليس في صلة الارحام ولا في بناء المعاش الاجتماعي الطبيعي، هذا امر تقرره النتائج الدلالية للنص، غير ان ما يجب ان نشير اليه هنا ان هناك من يقول بفكرة الشعوبية، اما كشعار ضد العرب، او كوصف غاضب ضد الآخرين، ولقد سمعت مرة قصيدة قالها شاعر غاضب صب جام غضبه على قوم سماهم بالشعوبيين ووصفهم بالعداء للعرب وانهم في حالة احتقان ضد الامة منذ زمن ذي قار وانهم يسعون للثأر لتلك المعركة والانتقام من العرب، وهذا تطرف عنصري سببه الغضب الاعمى ولا يقوم على اية حقيقة تاريخية او واقعية.
والشعوبية بهذا الاصطلاح كانت تياراً سياسياً واجتماعياً له اسبابه المعروفة حينما قامت مع بداية العصر العباسي، و قد جاءت بعد فترة من الحكم العربي الخالص في زمن بني امية، حيث كانت العربية هي لب السلطة حتى ان بني امية كانوا لا يسندون الخلافة إلا لرجل تكون امه عربية مثل ابيه ولذا حرموا مسلمة بن عبدالملك من الولاية لأنه ابن جارية، بينما كان العباسيون ابناء جوار الا في القليل، وهذا يأخذ بأبعاد اخرى وهي كون العصبة الداخلية للحكم عند بني العباس هي عصبة غير عربية في غالبها في مقابل عروبية بني امية، ونتج عن هذا العامل صراع قوي داخل البنية السياسية والثقافية في زمن العباسيين وبدأ من مطلع الدولة حيث جرت تصفية ابي مسلم الخراساني ومن بعده البرامكة وهو في الحالين موقف سياسي لوقف المد الطاغي للفئات الفارسية في تطلعها للاطباق على الحكم والتوغل فيه مما اثار حفيظة الحكم وحسم الامر دموياً، والدموية في زمن العباسيين كانت هي لغة السلطة حتى انك لا تجد وزيراً عباسياً مات ميتة طبيعية وكلهم انتهوا بالقتل والسحل، وعلى ذلك مثال الزيات الذي تفنن في صناعة تنور لتعذيب خصومه واستغرق بناء التنور منه سنوات وصنع فيه سكاكين على جوانبه تمزق جسد الخصم المعذب وهو يهوي في التنور حتى يصل الى النار الحارقة في اسفله، ولما انتهى من بناء التنور وصار جاهزاً للخصوم كان اول زبائن هذا التنور هو الزيات نفسه بعد ان تغيرت عليه الاحوال.
ذلك جو ثقافي غير طبيعي وغير انساني من الاطراف كلها وفي ذلك الجور صارت المحنة حيث عذب المأمون ومعه المعتزلة (الاحرار العقلانيون..!!؟؟) خصومهم المخالفين لهم بالرأي والفكر وسجنوهم وجلدوهم على خلافات فكرية، وهو جو انفعالي ودكتاتوري، وهو الجو الذي ولدت فيه الشعوبية، وهي ولادة قيصرية جمعت اسوأ ما في الانساق الثقافية من عدائية للآخر، وجاء تيار يكره العرب جنساً وثقافة حتى قال ابو نواس كلمته الحمقى: ليس الاعاريب عند الله من احد، وهي كلمة اقل ما يقال عنها انها كلمة رجل غاضب لا يستند في غضبه الى دليل ديني او علمي او اخلاقي، وكان من الصفات التي حذر منها رسولنا الكريم هي حالة الخصام الغاضبة وجعلها من صفات المنافقين وهم الذين اذا خاصم الواحد منهم فجر، وهذا كله من الفجور في الخصام حين تتجاوز الخصومة حدود الصراع الطبيعي بين البشر لتصل الى حد التكفير والتخوين وسلب السمات الفطرية والانسانية للخصم، وهذا امر يقع باستمرار على مستوى الخصومات الفردية والدينية والثقافية، وهو امر واقعي شديد الواقعية، وفي الوقت ذاته هو علة نسقية مرضية تصل بصاحبها درجة الوقوع بالنفاق كما ورد في الحديث الشريف عن علامات المنافق واحداها انه اذا خاصم فجر.
هذا فجور في الخصومة ولذا فإن الشعوبية هي فجور ثقافي، له اسبابه وله تاريخهه، ولن يقابل الشعوبية في نسقيتها سوى القبائلية، اي النفي مقابل النفي، وهنا نكون قد دخلنا في لعبة الصراع الاقصائية التي لا تقيد البشرية في شيء، وهذا امر نلحظه اليوم في الموقف الامريكي والاوروبي من كل ما هو عربي، وما يقابل ذلك من توتر في الرد على ذلك الموقف حتى صارت ردود بعضنا على انحيازات امريكا تجر الويلات علينا اكثر مما هي رد حاسم عليهم.
وليس هذا من هذا ببعيد، اي حينما تأتي الشعوبية القديمة من الفرس او الحديثة من الغرب، وكلاهما ضد العرب، وتأتي من الداخل نعرات ثقافية تصف بعضنا بأنهم ليسوا منا وتوغل في النفي للذات في النهاية ولقد جاء المعنى القرآني الكريم في تأكيد ذلك حينما نهت الآية عن سب اصنام الكفار لكي لا ندفع بالكفار الى سب ربنا جل وعلا، وكذلك نهانا الرسول عن ان نسب والدينا ولما سأله احدنا كيف يسب الرجل والديه قال هو ان تسب والدي رجل ما فيرد الرجل بسب اهلك، وانا اسوق الحديث بمعناه وهو معنى يشير مثله مثل الآية الى ان عملية نفي الآخر تنتهي اخيراً بنفي الذات.
وقديماً لم تمر الشعوبية دون مواجهة، ولا شك ان المواجهة كانت راقية وحضارية ولقد كانت المواجهة ثقافية وعلمية وجدلية، هذا على مستوى الشعب والثقافة العامة، على خلاف موقف السلطة التي كانت تستثمر النزاعات لمصلحتها وهو موقف مفهوم وواقعي حسب شروط لعبة السلطة، ولكن الامة قد تعاملت مع المشكلات تعاملاً متطوراً، ولنأخذ مثال الجاحظ وهو من اشد المناوئين للشعوبية، والجاحظ لم يكن ابن قبيلة لا عاربة ولا مستعربة، ولكنه كان فرداً من افراد الشعب العربي، وواحداً من اعقل عقول الثقافة، وكان رده نموذجاً على الموقف الثقافي العربي الذي لم يقتل ابا نواس على شتمه للاعاريب ولم يكفره ولم يخونه ولم يصفه بالعدو الداخلي ولا بالطابور الخامس، ولكن الرد كان بالوقوف على خصائص الثقافة العربية وثقافة الاعراب والدفع باتجاه تخصيص العلامات الجذرية للثقافة وجاء كتاب العصا وكتاب الخطابة وكتاب الشعر وعلامة العمامة ممزوجة بسرد للامثال والحكم والنوادر وخصائص العرب وتاريخهم الثقافي، مما اسس لخطاب ثقافي ايجابي لم يواجه الشعوبية فحسب، بل بنى نسقاً ثقافياً مغايراً، اقام معنى للهامش كله ولذا نجد النساء والغلمان والجواري مثلما نجد الاعراب في كتب الجاحظ لأن مشروعه مشروع انساني ثقافي، وليس مشروعاً في النفي، هذا على عكس هجائيات جرير والفرزدق التي كانت خطاباً ذاتياً نرجسياً وانانياً يقوم على صناعة القبح مغلفاً بغلاف الجمال مثل الشكولاتة الفاسدة حينما تطوى بالسلولوفان وتزين بورق لماع ومن تحته السم. هذان مثالان ثقافيان احدهما يبني ثقافة ويؤسس لنسق مخالف يعلي ويرفع والآخر نسق عام يقوم على نفي نفسه كلما نفى غيره ويزيد من نفي نفسه كلما اوغل في نفي الآخر، وما من مرة قال فيها الفرزدق قصيدة مقذعة ضد جرير الا وجاءه ما هو اشد هجائية له، والعكس صحيح، مما يعني ان كل واحد منهما انما كان يهجو نفسه.
سنهجو انفسنا وسننفي انفسنا كلما هجونا غيرنا او نفيناهم، خاصة اذا كان هذا الغير هو الآخر الداخلي، اي نحن بصيغة اخرى.
|