مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 20-04-2007, 07:16 AM   #20
ريبد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2006
المشاركات: 51
القبيلة والمجتمع (العائلة بوصفها قبيلة صغيرة)



د. عبدالله محمد الغذامي
كنت قد أشرت في المقالة التاسعة إلى مفهوم (الشعب بما إنه قبيلة كبيرة) وكان من الأولى أن يتصل هذا المقال بذاك المقال لولا موضوعات طرحها بعض القراء واستوجب الأمر الوقوف عليها، وأعود الآن لوصل ما انقطع، وكما هو الأمر بين تصورنا للشعب كقبيلة كبيرة من حيث تمثل هذا المفهوم لكل القيم والسمات التي نجدها في ثقافة القبيلة، ورأينا أن الشعب - أي شعب - يقول عن نفسه ويتمثل في سلوكه وفي رمزياته المعنوية سمات وصفات هي مما تقوله القبيلة عن نفسها، من مثل صفات الكرم والشجاعة وسمات الحمية والعصبية وقيم الثقافة في الحماسة الشعرية والانتماء للاسم والعلامة بوصفهما هوية ورمزاً من مثل العلم (الراية) والنشيد الوطني وشعار الدولة،و مما يماثل قصائد الحماسة وكأن عمرو بن كلثوم هو المرجعية الثقافية لكل الأناشيد الوطنية لأي دولة حديثة، وهذا أمر يشير إلى أن البشر - كل البشر - يمثلون مخزوناً وجدانياً عن ذواتهم وتاريخهم يجعلهم ينسبون كل فعل حميد لهم، وتتفق سمات وصفات المحمود فيما بينهم، مثلما يقع الجميع في خطأ نسقي شامل يجعل كل أمر قبيح من نصيب خصومهم أو حتى أندادهم. كذا هي الشعوب في تصورها لنفسها وفي حميتها الذاتية والحضارية، ولسوف نرى أن العائلات أيضاً تعطي نفسها صفات وسمات لا تختلف عما تعطيه القبيلة لنفسها، ولكي لا أكون متفرداً في الزعم سوف استعين بعبارات قالها أحد القراء في موقع "الرياض" على الانترنت في تعليقه على إحدى مقالاتي هذه وقال إن القبيلة تتصف بصفات خمس هي: الصفاء والكرم والشجاعة واحترام الجار وحفظ العهد.
وكم أنا ممتن لهذا القارئ الكريم لأنني محتاج لمن يساعدني على كشف دفاتر الثقافة وذلك بإعطاء الناس حقوقهم من الصفات التي يرونها لأنفسهم بحيث لا نظل ندعي عليهم ونزعم لهم صفات ونحرمهم من أخرى، كنت قد قلت من قبل إنني لم أجد في كل ما بحثته وسألت عنه من شيء أرى ارتباطه بالقبيلة سوى صفتي الشجاعة والكرم وهما الصفتان اللتان تفتخر بهما القبيلة وبهما يعلو شأن أي قبيلة ومن نقص نصيبه من هاتين الصفتين نقصت منزلته بمقدار نقص صفته.

وها هو القارئ الكريم يزيدني صفات إلى تلك، ولا شك أن صفات احترام الجار وحفظ العهد مضافة إلى صفتي الكرم والشجاعة هي صفات نبيلة وجليلة ولقد أشرت من قبل إلى كلمة المثقب العبدي عن إكرام الجار ورعاية حقه وان هذا من معرفة الحق وجعل ذلك بمنزلة عليا في سلم الخلق القويم، وهي من صفات التقوى وقد وردت أحاديث كثيرة عن حق الجار الذي تلقى رسولنا الكريم التوصية به من جبريل مباشرة حتى أوشك ذلك أن يبلغ حد التوريث - كما ورد في الحديث الشريف - كما ان حفظ العهد له منزلة عليا في النصوص الدينية حتى ان إخلافه قد يوقع المرء في صفة النفاق الذي من علاماته ان المنافق إذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان، وهذا كله درس أخلاقي رفيع، مثله مثل الشجاعة المعنوية والشخصية، وسنتفق كلنا على ذلك ولا ريب.

ولكننا سنتناقش في مسألتين وهما هل هذه الصفات الكريمة النبيلة محصورة بقوم دون قوم...؟ هذا أولاً، ثم هل صفة الصفاء الواردة في كلام القارئ قابلة للتصنيف العلمي، أي اننا لن نختلف على فهم المراد من الكرم والشجاعة واحترام الجار وحفظ العهد، ولكننا لن نصل إلى تصور مماثل لمفهوم الصفاء، وما المقصود به....؟.

وكم هو عيب أمر هذا (الصفاء)، وهو صفة تدعيها كل طبقات البشر، ومن الشعوب إلى العائلات إلى الأفراد، وقد كان هتلر يعتقد بسمو العرق الآري، وسعى إلى تنقية هذا العرق وتمييزه قسرياً وبقوة القانون والعلم، وكل الأوروبيين يرون صفاء هذا العرق وتميزه ويرون انه ذو ذهنية عقلانية بينما يقللون من شأن العرق السامي ويرون انه عرق عاطفي لا عقلاني، ويرون فروقاً في بنية الخيال بين الآريين والساميين، ومن الطرائف هنا أن المرحوم محمد حسن عواد كان يتباهى على رفاقه بأنه أرقى عقلاً منهم ويقول انه آري العرق وهم ساميون عاطفيون، وكان يقول ذلك في لحظات اشتداد الجدل مع أدباء جدة وعدم مجاراة زملائه لآرائه فيعلل ذلك بعجز في قدرتهم على تصور ما يراه وما يقول به. ولقد سمعت هذه الحكاية من عدد من مجايلي العواد، وكانوا يعاملون ذلك بوصفه طرفة تشير إلى مدى اعتزاز العواد بذاته واعتقاده بسموه العقلي على زملائه ومجايليه.

تأتي فكرة الصفاء العرقي لتكون دعوى بشرية يدعيها كل قوم لأنفسهم، وفي حالة مقالتنا هذه فإن العائلات تجنح لوصف نفسها بهذه الصفة، وكلنا نعرف مقولة أبناء الأصول، وكلمة الأصول هنا تعنى الصفاء في السمات والأعراف، وهي كلمة تسود في أوساط العائلات الكبيرة والمتوسطة في المدن والبيئات الحضرية، ففي القاهرة ودمشق وبيروت مثلاً، لا تجد للقبيلة وجوداً ملموساً لا في الذهنية العامة ولا في الخطابات، ولكن مفهوم العائلة ومفهوم الأصول مع ربطه بالعائلة هو المعنى الأبرز في تصور كل عائلة لنفسها، وهناك تجد الثقافة العامة تتحدث عن عائلات بيروت أو عائلات الشام، وتجنح إلى إعطاء العائلات قيماً عليا في التنظيم الاجتماعي والسياسي والتاريخي لهذه العائلات، حتى لتصف العائلة نفسها بالكرم والشجاعة والحمية والوفاء وبأنهم من أبناء الأصول، تماماً مثلما ذكر القارئ من صفات حتى لكأنه يصف هذه العائلات. ولا شك ان مجتمعنا هنا يقول بشيء مماثل عن العائلة في المدن، ونحن نعرف عائلات المدن عندنا وما تراه هذه العائلات عن نفسها من صفات وسمات وما تتبرأ منه من صفات وسمات، وكذا فإن العائلات تميز نفسها وتقسم طبقاتها حسب ما يتواتر من صفات عن هذه العائلة أو تلك. وهذا ليس محصوراً في العائلات ذات النسب القبلي، بل هو شامل للجميع، وكلنا نعرف ما تقوله عائلات مكة والمدينة عن أنفسهم وما يتباهون به من مقامات لهم وتاريخ معنوي يحيلون القول إليه مثلهم مثل عائلات الرياض والقطيف والقصيم، ويتعدى هذا شرط الأصل القبلي.

سنجد - إذن - أننا أمام ثلاث منظومات بشرية هي: الشعب، القبيلة، العائلة، وسنجد أن كل واحدة من هذه المنظومات تعطي نفسها صفات وسمات لا تختلف إحداها عن الأخرى، مما يعني أن الجنس البشري واحد في تصوره لنفسه وان لدى البشر مطمحاً كلياً لبلوغ الحد الأعلى في الصفات الحميدة، وهذه الصفات الحميدة لن تكون ميزة ومفخرة إلا إذا تم احتكارها، ولو تساوى الناس بالكرم والشجاعة مثلاً لما صار لأي من هاتين الصفتين من ميزة لأن الجميع كرماء وشجعان، ولذا صارت الثقافة البشرية تغري الناس بلعبة الإقصاء عبر أفعال التفضيل فيقولون مثلاً بأنهم أندى العالمين بطون راحة، وبأنهم أشجع الناس، والمصريون يقولون كلمتهم المشهورة عن العائلات والشعوب (أحسن ناس)، وهي جملة في المفاخرة يقولها كل ناس عن أنفسهم.

هذا منزع إنساني يختار القيم العليا ويمجدها ويميل إلى احتكارها لنفسه وجنسه وسلبها عن غيره، وهذا من مصلحة المثل العليا التي يحاول كل جرها لجانبه وعبر هذا تسود القيم وتنمو، ولو توقف الناس عن الانتساب لهذه القيم لماتت القيم ولم نجد من يتباهى بها.

إن العائلة قيمة اجتماعية واقتصادية، وأحياناً سياسية، وهي بما إنها كذلك فإنها تشكل الوحدة الأساس في بناء المدينة، بينما القبيلة هي الوحدة الجذرية لبنية الصحراء، ويفرق الأمر هنا بين ثقافة الترحال وثقافة الاستقرار، ولكل من الثقافتين نظامها الخاص، فالبدوي مترحل وهو بالضرورة كائن قبلي، والحضري مستقر ويكون كائناً عائلياً كنتيجة لذلك، وفي الحالين تكون صفات الصفاء والكرم والشجاعة والحمية هي من أبرز ما يتصف به كل نظام من هذه الأنظمة، وقد نجد مرادفات لفظية لكلمة الصفاء من مثل الأصالة الحضارية والثقافية وهي مما تصف الشعوب بها نفسها، ومن مثل كلمة أبناء الأصول أو أبناء الذوات، وهي صفة تمنحها العائلات لنفسها حسب سلمها الاجتماعي الذي هو في حقيقته ناتج عن سلمها الاقتصادي أوالسياسي، وكلما صارت العائلة ذات واقع مالي رفيع أو ذات وجاهة سياسية عالية صارت حينئذ تصف نفسها بصفة الذوات وهو معنى افتراضي لأن الذوات جمع لكلمة ذات، وليس هناك أحد ليس ابن ذات، ولكن الثقافة تجنح إلى تمييز بعض الكلمات مثلما تميز بعض البشر، وتعطي كلا من الاثنين معنى افتراضياً يندرج في سلم التباهي، وقد شرحنا من قبل أن ليس هناك أحد ليس له أصل، والكل جاءوا من شجرة نسب ومن سلالة بشرية قوامها امرأة ورجل، ولن يخرج عن هذا أحد، ولذا فإنك لن تجد معنى علمياً لكلمة أصل أو كلمة ذوات، أو كلمة صفاء، سوى انها كلمات تنتجها الثقافة وتمنحها لطالبيها مثلها مثل أوسمة التكريم وألقاب السيادة واللوردات في بريطانيا، التي صارت تمنح بمراسيم ولم تعد تكتسب بالعمل كما كانت ثقافة السابقين التي لا يكون الفارس فارساً إلا عبر ما في جسده من كلوم وجراح في معارك حقيقية تدمي وتجرح وتقتل.

هنا نرى أن الشعب والقبيلة والعائلة، هي أنظمة اجتماعية ضرورية بما إن الإنسان كائن تعارفي كشرط لوجوده يتماثل مع شرط ولادته، وبما إنها أنظمة ضرورية وتعارفيه فإنها تبني لنفسها نظاماً رمزياً متماثلاً في سماته وصفاته، ويكون الشعب قبيلة كبيرة مثلما تكون العائلة قبيلة صغيرة، وكلها صيغ بشرية لتعامل المرء مع ظروفه ومع مقامه الثقافي. هذا إذا كنا سنأخذ بالشرط العلمي للتعريف، وهي أن الأشياء إذا تماثلت في الصفات صارت جنساً واحداً، وها نحن نشاهد تماثلاً فيما بين ما تقوله الشعوب عن نفسها وما تقوله العائلات عن نفسها ومثله ما تقوله القبيلة عن نفسها وحينئذ يتساوى الجميع ولا يتميز أحد عن أحد إلا بصدق الدعوى في الصفات الحميدة المفترضة هنا، بينما ينقص بنقصان نصيبه من تلك الصفات. ويظل الإنسان كائناً تعارفياً بالضرورة وبالحقيقة والواقع وهو القانون البشري الكلي في تساو تام، وكل نقص في هذه السمة هو لحن ثقافي وخلل في نظام الأشياء.
ريبد غير متصل