مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 11-08-2002, 02:56 AM   #26
مفك14
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2002
البلد: خب بريده
المشاركات: 193
الواقع:

عند النظر إلى النظام السعودي الحالي بهذه الطريقة فإن المتأمل يخرج باستنتاج غريب مؤدّاه أن ذلك النظام لم يقصر في ذلك الواجب الشرعي الذي من أجله شرعت الإمامة في الإسلام، بل نقضه نقضاً وعمل على خلافه، ولقد تبين أن تعامل النظام مع قضية التمكين لدين الله في الأرض وإظهار الشعائر والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبارة عن خطة كاملة واستراتيجية عريضة، مؤداها مسخ هذا المجتمع، وبتر الأمة عن إرثها الديني العظيم، وتحويل المسلمين إلى مجرد أفراد من المسلمين كلٌّ دينه بينه وبين ربه، ونزع الجانب الاجتماعي، وجانب الدولة عن الإسلام على الأقل من الناحية العملية، وإليك بعض النماذج لواقع الشعائر الإسلامية في النظام السعودي الحالي:

النموذج الأول: شعيرة الجهاد، والحد الأدنى منها الذي تعتبر بعده معطلةً تعطيلاً كاملاً هو حماية البيضة وتحصين الثغور، حتى يكون المسلمون في أمن على دينهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم، قال الماوردي في تعداده لمسؤوليات الإمام: (... الثالث: حماية البيضة، والذب عن الحريم لتتصرف الناس في المعايش وينتشروا في الأسفار آمنين من تغرير بنفس أو مال ...)(17)، وقال إمام الحرمين: (... وأما اعتناء الإمام بسد الثغور فهو من أهم الأمور وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع ـ إلى قوله ـ ويرتب على كل ثغر من الرجال ما يليق به...)(18)، ومن المعلوم من الدين بالضرورة وجوب الجهاد وتحقيق أدنى درجاته بما ذكر من حماية الببضة وتحصين الثغور ولاشك أن الإضعاف المتعمد للجيش، وانكشاف البلد أمام الأعداء، والاعتماد الكامل في حماية البلاد على أعداء الإسلام واستقدام قواتهم وتمكينها من ثغور المسلمين وقرب الحرمين، بل جعل الاعتماد على هؤلاء والاحتماء بهم أمراً عادياً والاعتراف به صراحة أمام الناس، وعقد المعاهدات من أجله هو تعطيل صريح ونقض كامل لأدنى مراتب تلك الشعيرة العظيمة، وعندما انكشفت تلك الجريمة النكراء في حرب الخليج الثانية، توقع البعض ممن أحسن الظن بأن الوضع سيصلح، لكن الذي حدث هو التأكيد على هذا الواقع، من خلال بقاء جيوش اليهود والنصارى "قوات الحماية" في بلاد المسلمين، والتوقيع على مزيد من المعاهدات في ذلك مما أوقع جزيرة العرب ومهد الإسلام في احتلال كامل، ولا نزيد تعليقاً على اعتبار هذا الوضع مما ينطبق عليه كلام ابن تيمية في وصف الطوائف الممتنعة، حيث اعتبر رحمه الله مجرد التوقف عن جباية الجزية من تعطيل الشعائر فكيف بما ذكر.

النموذج الثاني: من الشعائر المعطلة بشكل صريح شعيرة تحريم الربا الذي ثبت تحريمه قطعياً في الكتاب والسنة وأصبح تحريمه من المعلوم من الدين بالضرورة، بل نص القرآن على أنه حرب لله ورسوله قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون" (البقرة، 279)، وقد ثبت في الحديث أن تحريم الربا أعظم من تحريم ما يستعظمه الناس وهو الزنا، ومع كل ذلك التحريم ومع أنه حرب لله ورسوله، فقد أصر الحكام ليس على مجرد السماح للربا علناً ـ وهو بحد ذاته جريمة كبرى ـ بل لقد اعتبروه أساس التعامل الاقتصادي داخل البلاد وخارجها، ودعموا كل المؤسسات الربوية قانوناً ونظاماً، بل وحتى بالمال حيث أنقذت الدولة بقوتها المالية البنوك أكثر من مرة حين أوشكت على الإفلاس، ولم تكتف الدولة بذلك بل منعت رسمياً وبسلطتها إنشاء المصارف الإسلامية، ومنعت نشر فتاوى العلماء حول البنوك الربوية، ومنعت الأحاديث والإعلانات التي تؤيد المصارف الإسلامية، حتى الموجودة منها في بلاد الكفر، فهل يشك أحد بعد ذلك أن شعيرة تحريم الربا معطلة في بلاد الحرمين. نعود ونذكر بحديث شيخ الإسلام ابن تيمية عن الطوائف الممتنعة، واعتباره مجرد الإقرار بالوجوب أو التحريم لا يمنع من انطباق الوصف عليها بتعطيل الشعيرة وما يترتب شرعاً على ذلك(19).

النموذج الثالث: للشعائر المعطلة أو المنقوضة هو شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمقصود الشرعي بذلك ليس ما يسمى في بلادنا بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل هو قيام الدولة من خلال سلطتها على جميع المستويات بنشر الدعوة والأمر بالمعروف وحمايتهما، ومنع المنكرات كما في كلام ابن تيمية رحمه الله فيما سبق(20)، ولربما تبين لطالب الحق أن الدولة لم تقصر في تلك الشعيرة فحسب، بل لقد سعت ضدها فأمرت بالمنكر، ونهت عن المعروف، وحاربت الدعوة، ولو تأمل المرء طريقة الدولة في التعامل مع الدعوة لاكتشف أن تعاملها عبارة عن برنامج متكامل شبيه ببرامج "تجفيف المنابع" المنفذة في بعض دول شمال أفريقيا، وفي هذا البرنامج سعت الدولة لسد كل المنافذ التي يمكن أن تصل بها كلمة الحق والمعروف إلى الناس، وتسهيل كل الطرق التي يصل بها الباطل والمنكر إلى الناس.

ففي المجال الأول ضيقت الدولة على الدعاة فجعلت الحديث إلى الناس سواء في المسجد أو في المنتديات العامة ممنوعاً إلا بإذن، واستخدم هذا النظام في منع عدد كبير من الدعاة المخلصين، وفي نفس الاتجاه فصلت الدولة عدداً كبيراً من الخطباء والعلماء والدعاة من المساجد، بل وحتى من الجامعات، رغم أن بعضهم لا يتجاوز حديثه الإيمانيات، ثم استكملت الدولة تلك الخطوة باعتقال عدد كبير من العلماء والدعاة ومئات من أتباعهم، وغيّبتهم خلف القضبان بل وعرّضت بعضهم للعذاب، وحرمت الأمة من مجرد رؤيتهم ومقابلتهم، هذا فيما يخص الدعاة والعاملين للإسلام من داخل البلاد، أما فيما يخص من هم خارج البلاد فقد كانت بلاد الحرمين إلى عهد قريب ملاذاً للذين يهربون من الطغاة والظالمين، وأما الآن فقد أصبح من دواعي منع الحصول على تأشيرة لدخول البلد وحتى الحج والعمرة هو الانخراط في نشاط إسلامي سياسي، وأدهى من ذلك جرماً تسليم من يلوذ بالحرم لحكوماتهم لقتلهم والتنكيل بهم، وأما في سياق الحرب على الدعوة، فقد فرضت الدولة حصاراً شديداً على الشريط الإسلامي بإقفال عدد كبير من محلات التسجيلات الإسلامية ومنعت عدداً كبيراً من الأشرطة، وفرضت عقوبات صارمة على من يخالف ذلك، وفي نفس الميدان منعت المجلات الإسلامية بالكامل تقريباً ، ومُنِع الإسلاميون من التحدث إلى الأمة من خلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، إلا من يلتزم في حدود العبادات الفردية، ومُنع الإسلاميون كذلك من الوصول إلى أي منصب سياسي أو عسكري أو أمني أو تعليمي حساس، وتدخلت الدولة حتى في تعيين عمداء الكليات ورؤساء الأقسام سعياً لمنع الإسلاميين من نشر الخير ورفع لواء الدعوة، ولنفس الغرض وهو حصار الدعوة فقد نفذت حديثاً سياسة إيقاف كل الأنشطة المالية حتى الخيرية، وأقفلت جميع المبرات والمؤسسات الخيرية، وسعت الدولة وبكل قوة لمنع أي شكل من أشكال التجمع لهدف التعاون على البر والتقوى، وتعاملت مع ذلك بكل قسوة وعنف، والمطلع على تفاصيل تنفيذ هذه الخطة يخرج بقناعة أن المقصود منها هو الإسلام ذاته، وليس مجرد الانزعاج من شيخ أو عالم دأب على انتقاد الحكام، وهذه قصة ما يسمى بـ"شارع الموت" التي تجسّد فيها مفهوم حرب الدولة للإسلام ذاته، وليس لمن ينتقد الحكام، فقبل بضع سنوات لاحظ عدد من الدعاة والغيورين على الإسلام تجمعات من الشباب المنحرف خارج مدينة الرياض تجتمع للعب بالسيارات، وتداول المخدرات واللواط وغيره، فسعى أولئك الدعاة لإقامة مخيم قريب منهم، ودعوهم بأساليب غاية في الرقة والترغيب، ولم تمض أيام حتى استقطبت تلك الفكرة آلاف من أولئك الشباب المنحرف، وبدأوا يتحولون إلى شباب صالح، ولكن لم تبدأ الفكرة بالانتعاش حتى داهمت قوات الأمن المخيم، وتم تكسيره وطرد المجتمعين بحجة عدم وجود إذن له، فلم ييأس الدعاة وسعوا إلى استصدار إذن شخصي من الشيخ بن باز، وأعادوا تأسيس المخيم، ولم يمض يومان حتى داهمتهم قوات الأمن وحطمت المخيم مرة أخرى، واعتقل الشخص الذي سعى لاستصدار إذن من الشيخ بن باز، ولم يُفرج عنه إلا بعد تعهد بعدم تكرار ما عمل، فبالله عليكم أليس هذا دليلاً على حرب الدعوة ذاتها والسعي في نشر الباطل بكل أشكاله؟؟.

وفي مقابل حصار الدعوة سعت الدولة حثيثاً لتخريب المجتمع بكل وسائل التخريب ففي الإعلام التخريب الفكري والتخريب الأخلاقي، وخروجاً من الحرج في نشر الرذيلة والانحراف الفكري والخلقي في وسائل الإعلام الرسمية، فقد صدّرت الدولة وسائل إعلامها إلى الخارج لتبث السموم من هناك، وفي مجال السماح لأعداء الإسلام والمنحرفين فكرياً وخلقياً والتمكين لهم، فقد استحوذ هؤلاء على معظم المناصب والأماكن الحساسة في البلد، بل لقد أصبح من ضرورات توظيف الإنسان في مركز حساس أن يثبت عدم التزامه الشرعي، حيث تحول الالتزام الشرعي إلى صفة قادحة فيمن يستلم تلك المسؤوليات، وفي الوقت الذي مُنِع فيه المصلحون عن مخاطبة الأمة، فقد فتح الباب على مصراعيه للمفسدين في وسائل الإعلام، ففي الوقت الذي تمنع فيه المجلات الإسلامية، سمح للمجلات الهابطة والساقطة بغزو البلد وتخريبه، وكذلك الحال بالنسبة للتسجيلات الإسلامية، ومحلات الفيديو، بل لقد دعمت الدولة من خلال المتنفذين من الأمراء وحاشيتهم كل أشكال الفساد من دعارة وخلاعة ومخدرات وخمر ولواط وتحلل وانحراف بل وحمت أصحابها من كل أشكال العقاب، والحكايات في هذا الميدان يشيب لها الولدان، وتصور أن آلاف الأمراء كل أمير يستطيع أن يستورد ويوزع ويبيع ويحمي من يريد، فكيف تريد للبلد أن ينجو من الهلاك دون الأخذ على يديه؟.

بالإضافة إلى ما سبق سعت الدولة إلى حل جذري لتلك القضايا، وذلك من خلال تغيير المناهج التعليمية، حتى ينعزل الطالب عن ارتباطه بالعقيدة والدين، ولا يفرق بعدها بين إسلام وكفر، أو بين سنة وبدعة، ويتحول إلى بهيمة تبحث عن إشباع غرائزها.
بقي أمر واحد وهو الحديث عما يسمى بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحقيقة هذه الهيئات أنها ورطة تورط النظام في إرثها، ولم يستطع التخلص منها خوفاً من ردة الفعل لدى العلماء، فسعى إلى أن يجعلها تؤدي دوراً معاكساً لما يراد منها، وهو تشويه الإسلام وتنفير الناس منه، وحوّلها بعد عدد من الإجراءات إلى مؤسسة عاجزة لا يساوي نفوذها نفوذ أصغر مركز من مراكز الشرطة، وحرمها من كل أشكال التطوير والتنظيم، وفرض عليها عدداً من الموظفين المدربين في المخابرات لتشويه صورة الإسلام، ولولا الجهود العظيمة من قبل بعض المخلصين من داخل هذا الجهاز لكان أثر هذا المشروع في تشويه صورة الإسلام من خلال هذا الجهاز أكبر بكثير من الحاصل حالياً.

فهذا واقع النظام إذاً: برنامج متكامل لحرب الإسلام في المسجد والسوق والمدرسة والتلفاز والمذياع والمجلة والجريدة وعلى مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة، برنامج لمسخ الأمة وعزلها عن دينها وحضارتها، فهل يستطيع أحد أن يثبت أن النظام يدافع عن الإسلام والدعوة ويحميها؟ إن ذلك مستحيل!، بل أن يثبت أن وضع النظام مع الدعوة هو مجرد تقصير وعجز!؟. وبعد فقد أقيمت الحجة على أن حرباً غير معلنة قائمة ضد الإسلام والدعوة والدعاة في بلاد الحرمين، فكيف تبقى شرعية بعدئذ لمن نقض شعائر عظيمة مثل شعيرة الجهاد وحماية الثغور وحارب الدعوة وحمى الربا والفساد؟!.



















هوامش رفع شعائر الإسلام



1)القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 7/73.

2) محمد بن عبدالوهاب، المجموعة الكاملة، 9/42.

3) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 139.

4) الجويني، غياث الأمم، 138.

5) الماوردي، الأحكام السلطانية، 5.

6) ابن تيمية، الحسبة، 6.

7) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، 246.

8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 2/11.

9) ابن تيمية، الحسبة، 6.

10) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 1/230.

11) رواه أبو داود والترمذي.

12) أورده أبو داود والترمذي.

13) رواه أبو داود.

14) رواه الترمذي ورواه مسلم في كتاب الإمارة ووجوب طاعة الأمير.

15) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.

16) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.

17) الماوردي، الأحكام السلطانية، 16.

18) الجويني، غياث الأمم، 156.

19) انظر ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.

20) انظر ص 40 وما بعدها من هذا البحث .












الواجبات تجاه الرعية


لقد بّين العلماء من خلال فهم النصوص الشرعية ومن عمل الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين أن على الإمام واجبات شرعية محددة تجاه رعيته، فكان أبرز هذه الواجبات هو إقامة العدل، وحفظ المال العام وجمعه وصرفه بالطرق المشروعة، وتولية أهل القوة والأمانة في المناصب والولايات، بالإضافة إلى مسؤولية الحاكم في تسهيل سبل المعيشة، وهذه الواجبات فروض شرعية ملزمة، وليست منّة يمنّ بها الحاكم على شعبه، وتنفيذه لها وحرصه عليها هو تنفيذ لواجب، وليس تفضلاً على أحد، وحقيقة دوره في تلك المسألة أنه أعظمهم مسؤولية وأكثرهم حملاً، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”، وذكر منها “الإمام الأعظم الذي على الناس راع، وهو مسؤول عن رعيته”(1)، وعن معقل بن يسار قوله صلى الله عليه وسلم: “ما من عبد يسترعيه الله رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة”(2)، وقال صلى الله عليه وسلم “ما من عبد يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح لهم إلا لم يدخل الجنة معهم”(3)، وعن عائذ بن عمرو رضي الله عنه قوله مخاطباً عبيد الله بن زياد قال: أي بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول “إن شر الرعاء الحُطمة فإياك أن تكون منهم”(4)، وعن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بيتي هذا: “اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به”(5)، وهكذا فالمسألة تكليف وواجب وليست منة وتفضلاً، وهذه الواجبات متعددة من أهمها:

الواجب الأول: إقامة العدل، قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ... الآية" (النحل، 90)، وقال: "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" .... الآية (النساء، 58)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ... وذكر منهم إمام عادل”(6)، وقال “ليس من وال أمةِ قلت أو كثرت لا يعدل فيها إلا كبّه الله تبارك وتعالى على وجهه في النار”(7)، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قوله كذلك “ما من أمير عشيرة إلا يؤتى يوم القيامة مغلولاً لا يقله إلا العدل أو يوبقه الجور”(8). وفي ذم الظلم قال تعالى: "وإذا ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريّتي قال لا ينال عهدي الظالمين" (البقرة، 124)، قال ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: (لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه) وقال: (ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه)(9)، وقال الجصاص في تفسير الآية: (فلا يجوز أن يكون الظالم نبياً، ولا خليفة لنبي، ولا قاضياً، ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين من مفت أو شاهد)(10)، وقال: (... فثبت بهذه الآية بطلان إمامة الفاسق، وأنه لا يكون خليفة، وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته ...)(11)، وقال القرطبي: (... قال إبن خويز منداد: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راويا ...)(12)، وقال تعالى: "إن الظالمين لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة" (الشورى21،)، وفي الحديــث القدســي “يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”(13)، وقال صلى الله عليه وسلم: “اتقو الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة”(14)، وقال صلى الله عليه وسلم: “صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي، إمام ظلوم غشوم، وكل غال مارق”(15). قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (... والمقصود أن الحكم بالعدل واجب مطلقاً في كل زمان ومكان على كل أحد ولكل أحد، والحكم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو عدل خاص، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها، والحكم به واجب على النبي صلى الله عليه وسلم، وكل من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر ...)(16)، وقال: (... وإذا كانت الآية قد أوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل، فهذان جماع السياسة العادلة، والسياسة الصالحة)(17)، وقال ابن القيم: (...إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها وحكمة كلها، وكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه ...)(18).

وزوال العدل وانتشار الظلم لا يدل على جور الحاكم ومخالفته الشريعة فحسب، بل يؤدي إلى خراب البلاد وحلول العذاب، قال تعالى: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" (هود، 102)، قال ابن تيمية: (... ولهذا يروى: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة ...)(91)، وقال كذلك: (... إن العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، وإن لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ...)(20).

الواجب الثاني: حفظ المال العام وجمعه وصرفه بطريقة شرعية، حيث حددت الشريعة طرق معينة لا يجوز تجاوزها لجمع المال العام، والزمت الإمام بحفظه وصونه وصرفه في الوجوه الشرعية، ووردت الأدلة بالوعيد الشديد على من يفرط في ذلك، قال صلى الله عليه وسلم: “إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة”(21)، قال ابن حجر: (... وفي هذا الحديث ردع الولاة أن يأخذوا من المال شيئاً بغير حقه، أو يمنعوه من أهله ...)(22)، وقال أبي يعلى في جباية المال: (... جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصاً واجتهاداً من غير عسف ...)، وقال في صرف المال: (... تقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير ...)(23)، وقد روي عن عمر تشبيهه دور الإمام مع المال بدور ولي مال اليتيم (ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت عففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف)(24)، والآيات والأحاديث في تحريم الغلول والوعيد الشديد منه كثيرة معلومة، ومن أكثر هذه الأحاديث تحديداً لدرجة الغلول ما رواه أبو داود عن المستورد بن شداد قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادماً، فإن لم يكن له مسكناً فليكتسب مسكناً"، قال: قال أبو بكر: أخبرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “من اتخذ غير ذلك فهو غال أو سارق”(25)، وقد فصل علماء المسلمين في الأموال تفصيلاً دقيقاً من خلال فهمهم للكتاب والسنة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، قال الماوردي في تعداده لواجبات الإمام: (... تقدير ما يتولاه من الأموال بسبب الدين من غير تحريف في أخذها وإعطائها ...)(26)، قال ابن تيمية رحمه الله في تقسيم أنواع الجباية: (... نوع يستحق الإمام قبضه بالكتاب والسنة والإجماع، كما ذكرناه، ونوع يحرم أخذه بالإجماع، كالجبايات التي من أهل القرية لبيت المال لأجل قتيل قتل بينهم، وإن كان له وارث، أو على حد ارتكب وتسقط عنه العقوبة بذلك، وكالمكوس التي لا يسوغ وضعها اتفاقاً، ونوع فيه اجتهاد وتنازع كمال من له ذو رحم وليس بذي فرض ولا عصبة ونحو ذلك ...)(27).

الواجب الثالث: تعيين الأكفاء من أولي القوة والأمانة في مناصب الدولة الحساسة، قال تعالى: "إن خير من استأجرت القوي الأمين" (القصص، 26)، قال ابن تيمية رحمه الله في تفسيرها: (وهذه الشروط القوة والأمانة، وتعنيان العلم والخبرة في العمل الموكل إليه والقدرة عليه والخشية لله لا للناس ...)(28)، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: “من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله”، وفي رواية “من قلد رجلاً عملاً على عصابة، وهو يجد في تلك العصابة أرضى منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين”(29)، وقال عمر بن الخطاب: (من ولي من أمر المسلمين شيئاً فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين)، وقال عمر كذلك: (من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر فهو مثله)(30)، وعند البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره لتضييع الأمانة: “إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة”(31)، قال الماوردي في تعداد واجبــات الإمام (والسابع اختيار خلفائـــه في الأمور أن يكونوا من أهل الكفايــة فيها والأمانة عليها ...)(32)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... يجب على ولي الأمر أن يولي على كل عمل من أعمال المسلمين أصلح من يجده لذلك العمل، وهذا واجب عليه، فيجب عليه البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار ومن الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان والقضاة ومن أمراء الأجناد، وعلى كل واحد من هؤلاء أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده، فيجب على من ولي شيئاً من أمر المسلمين من هؤلاء وغيرهم أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية أو سبق في الطلب فذلك سبب للمنع ...)(33). وإضافة إلى وجوب اختيار أهل الأمانة والقوة فقد أوجبت الشريعة محاسبة الولاة وعزلهم أو عقابهم عند صدور ما يستدعي ذلك، فقد ثبت في الصحيح حديث ابن اللتبية الذي حاسبه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقات، وهكذا كانت سياسة الخلفاء بعده صلى الله عليه وسلم(34).
مفك14 غير متصل