تنبيه هام:
قطعاً للطريق على المغالطين والمجادلين فإن الاعتراض على الشرعية لم يرد على قضية تغلب الإمام وحيازته الملك على غير رضا من المسلمين، ولم يرد على قضية فسق الإمام وانحرافه ومجرد بطشه وظلمه، ولم يرد على تقصيره وتهاونه ببعض واجبات الإمامة الشرعية، بل جاء على التعطيل الكامل لأركان الحكم في الإسلام، والتي شرعت الإمامة من أجلها، وفي مقدمتها الحكم بما أنزل الله وهيمنة الإسلام والتمكين لدين الله وسيادة الشريعة.
لقد اختلف العلماء في شرعية من يتغلب تغلباً أو من ينحرف في شخصه أو من يظلم أو يقصر في بعض الواجبات مادام مقيماً للشريعة ملتزماً بالكتاب والسنة في أركان دولته، لكنهم لم يختلفوا في أن الإمامة التي تنقض تلك الواجبات وتعرض عن حكم الله وتوالي أعداء الله ليست إمامة شرعية وأن إمامة المتغلب إنما تصح إذا قام المتغلب بالواجبات الشرعية للإمام، ولم يأت بما يناقض الإمامة، أما إذا أخل المتغلب بالواجبات الشرعية وارتكب نواقض الشريعة فقد صارت باطلاً على باطل، ولم يصححها شيء.
والذين يصرون على اختزال قضية الشرعية في شخص الحاكم والحكم عليه بظاهر الإسلام هؤلاء هاربون من الحقيقة، ومعطلون لكل تلك النصوص الشرعية وكأن القرآن والسنة جاءا لأهداف كمالية اختيارية ولم تأت إلزاماً وفرضاً، وحتى لو قُبل كلامهم جدلاً وحُصرت القضية في شرعية الفرد الحاكم أو الفئة التي معه، فإن هذا الفرد أو تلك الفئة مسؤولة مباشرة عن تلك الجرائم التي صنفها العلماء بأعمال مخرجة من الملة، وقد تقدم حديث الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حكمه عليهم وحكمه رحمه الله على من يدافع عنهم(11). والذين يصرون على الحكم بالشرعية ليس لهم إلا حل واحد وهو التنازل عن الاحتكام إلى الكتاب والسنة والاحتكام فقط إلى الأهواء والشهوة، ويكفي ما قاله في شأنهم الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، أما دفاعهم وجدالهم بالباطل فإنه بمثابة ارتكاب عدة جرائم عظيمة والمتأمل لحال بعض العلماء في بلاد الحرمين ممن انساق وراء النظام يلاحظ تلبسه بسلسلة من الجرائم هي:
الجريمة الأولى: كتمان العلم والسكوت عن بيان الحق في تلك المخالفات الشرعية المقطوع بها والمعلومة من الدين بالضرورة، وكاتم العلم مستحق للعنة الله بنص القرآن ولا تقبل توبته إلا بعد البيان والإصلاح، قال تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" (البقرة، 159-160).
الجريمة الثانية: القعود عن إصلاح الأوضاع والقيام بفرائض الكفاية في إقامة الواجبات الشرعية العامة. وقد ثبت بالكتاب والسنة أن القعود عن الإصلاح وترك تغيير المنكر إثمه عظيم، ويؤدي دائماً إلى حلول العذاب الدنيوي، وقصة أصحاب السبت مشهورة حيث لم ينفع الذين لم يمارسوا المنكر مجرد تركهم المنكر، بل أصاب العذاب الجميع والآيات والأحاديث في ذلك مشهورة معلومة.
الجريمة الثالثة: تزكية المجرمين والثناء عليهم وتزيين أعمالهم، والبحث عن التخريجات الفقهية لتبرير أعمالهم، وذلك في الحقيقة ليس إلا شهادة زور بما تعنيه هذه الكلمة، لما في ذلك الثناء وتلك التزكية من تضليل للأمة، وغش للمسلمين مع ما يترتب على ذلك من فتنة الناس وغوايتهم من ورائهم وتشويه الدين، فأمانة العالم على علمه وتنزيله حكم الله في مسائل الحياة أعظم بكثير من أمانة الشاهد على حادثة فردية محدودة، فهل يدرك كثير ممن يثنون على النظام ويدافعون عنه أنهم يقترفون تلك الجريمة العظيمة أولا يدركون؟.
الجريمة الرابعة: التشنيع على من ينكر المنكرات ويقول كلمة الحق فيها، والإصرار على هذا التشنيع ورفع الصوت فيه والبحث عن كل الأوصاف المذمومة لتبرير هذا التشنيع فهم "خوارج"، و"مثيرون للفتنة"، و"مهيجون للناس"، ومقاصدهم سيئة، إلى غير ذلك من الأوصاف المذمومة، ولقد دأب المدافعون عن النظام من علماء السلطة على ذلك السلوك إلى أن تحول إلى عمل رتيب وكأنه دين يدينون الله به، فكم من خطيب وواعظ فصل وسجن بتوجيه من هؤلاء؟، وكم من بيان صدر من الهيئات الرسمية في تقبيح أعمال المصلحين من خطاب المطالب إلى مذكرة النصيحة إلى لجنة الدفاع؟، ولقد قرأ الجميع ما كُتب من قبل نفس الجهة في الشيخين سلمان وسفر، وحث الدولة على “حماية المجتمع من أخطائهما”، فكيف يطلب من الحاكم المعطل لشرع الله أن يحمي المجتمع من أخطاء الشيخين سلمان العودة وسفر الحوالي؟.
فإذا صدرت تلك الجرائم من قبل من حباه الله علماً بالكتاب والسنة ندرك أن هؤلاء على خطر أعظم من خطر الحكام أنفسهم، لأن الحكام إنما اتكأوا عليهم في تبرير ما يفعلون، وتزيينه للناس، واتكأوا عليهم كذلك في حرب الإصلاح والمصلحين، فهل تصور هؤلاء ذلك الخطر وتلك الجرائم؟. وإن كانوا لا يعلمون فالجميع يشهد عليهم أمام الله ثم أمام الأمة أن الحجة قد قامت عليهم سابقاً ولاحقاً وسوف يشهد عليهم علمهم وأيديهم أمام الله يوم القيامة بكل تلك الجرائم، "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم" (الشعراء، 88-89)، وإن كانوا يعلمون فليس لهم مثل إلا اليهود المغضوب عليهم الذين عرفوا الحق فحادوا عنه، وجنسهم هذا يعد أخطر جنس على الإسلام.. والعياذ بالله.
هوامش حكم مبدّلي
الشرائع والمدافعين عنهم
1)انظر محمد بن إبراهيم، رسالة تحكيم القوانين، 5 .
2) انظر فتح المجيد، 393.
3) انظر محمد بن إبراهيم ، رسالة تحكيم القوانين 80 .
4) محمد بن عبدالوهاب، الرسائل الشخصية، 188.
5) ابن حزم، المحلى، ج13/35.
6) انظر الدرر السنية، 7/11.
7) محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، ،29 وانظر الرسائل والمسائل النجدية، ج2/124-135.
8) انظر الرسائل والمسائل النجدية، 1/745.
9) ابن تيمية، السياسة الشرعية، 108.
10) ابن تيمية، الفتاوى، 28/503.
11) محمد بن عبدالوهاب، مجموعة التوحيد، 29 .
واجبات الأمة تجاه النظام
لقد سبقت مناقشة الوضع الشرعي لنظام الحكم الحالي من خلال استقراء الأدلة الشرعية وأقوال العلماء وإنزال ذلك على واقع ذلك النظام وممارساته، وهذه المناقشة ليست من باب الترف الفكري والجدل البيزنطي، بل يترتب عليها إلزامات وأحكام شرعية عديدة على المسلم، فالمسلم يدين الله كما أراد الله، وهذا لا يكون إلا إذا توخى المسلم قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخصه منه من الإلزامات الشرعية، وهذه طريقة الإسلام، أما تقليد الأحبار والرهبان وإلقاء التبعة عليهم فهذه طريقة اليهود والنصارى وليست طريقة المسلمين، فنحن متعبدون بما أراد الله سبحانه، وأراد رسوله صلى الله عليه وسلم، ونتبع من العلماء من كانوا موقعين حقيقة عن الله، ومن وافق مرادهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما من جادل عن الطواغيت ودافع عن الظملة أو تهرّب عن المسؤولية الشرعية بترديد العموميات غير المنضبطة شرعاً في الواقع المراد، أو تعلّق ببعض شواهد التاريخ التي أجمعت الأمة أنها ليست دليلاً شرعياً، فهؤلاء ضلوا وأضلوا ولن يصمد جدلهم أمام قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، والمسلم مأمور على كل حال إذا عرض له أمر أن يجتهد لدينه ويحرص على إصابة الحق فيه عملاً بالكتاب والسنة على طريقة فهم السلف الصالح، فتحديد الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم الواقع يجب أن يكون منضبطاً تماماً بالضوابط الشرعية.
ومادام الحديث عن الإلزامات الشرعية فإن العلماء أمام قضية النظام ينقسمون إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ترجح لديه عدم شرعية النظام لتعطيله الكامل لمقاصد الإمامة في الإسلام، بل لعمله بضدها، وعلى الخصوص لارتكابه أكبر سبب من أسباب عدم الشرعية، وهو سن التشريعات الكفرية وإلزام الناس بها.
الصنف الثاني: يوافق على كل ما قيل عن نقض مقاصد الإمامة في الإسلام بتفاصيلها المذكورة سابقاً، لكنه يتوقف عند ذلك ويتحرج من أن يستنتج بناءً على ذلك أن النظام غير شرعي بسبب فهمه لبعض الأحاديث وأقوال العلماء التي تشدد على وجوب الطاعة حتى للإمام الفاجر والظالم.
الصنف الثالث: لا يوافق أصلاً على ما قيل كله، ويدعي أن النظام قائم بما يستطيع من الواجبات الشرعية، وأنه حريص على خدمة الإسلام والمسلمين والدفاع عن الدين، وأن ما يبدو في أعين الناس من جرائم هي حقيقة من الاجتهاد الذي قد يخطيء فيه الإمام، وما عدا ذلك فهو من الفسق الفردي والظلم البشري الذي لا مناص منه، والذي لا يقدح أبداً في الشرعية أو في أركان الإمامة ومقاصدها.
ورداً على مزاعم الصنف الثالث، فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الصنف من العلماء وطلبة العلم يمارس جريمة أعظم من جريمة الحاكم نفسه، لما يصنعونه لدى الأمة من تلبيس وتضليل وتعطيل لكل الإلزامات الشرعية المترتبة على تعطيل فروض الكفاية، وهم بتصرفهم هذا أقرب إلى التعاون على الإثم والعدوان، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (... ولا يحل للرجل أن يكون عوناً على ظلم، فإن التعاون نوعان، الأول: تعاون على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين، فهذا مما أمر الله به ورسوله، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضاً من الأعيان، أو على الكفاية متوهماً أنه متورع، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع، إذ كل منهما كف وإمساك، والثاني: تعاون على الإثم والعدوان، كالإعانة على دم معصوم، أو أخذ مال معصوم، أو ضرب من لا يستحق الضرب، ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله ...)(1)، ومن المعلوم أن إصدار الفتاوى والبيانات لتبرير جرائم السلطان في حق الدعاة وسجنهم وإيقافهم وفصلهم واتهامهم بسوء النية، وتضليل الأمة في تزكية الحاكم، فضلاً عن السكوت عن جرائمه وتبديله للشرائع أخطر بكثير من الإعانة على دم معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب، وهو قطعاً من التعاون على الاثم والعدوان، والأولى أن ينطبق عليه كلام شيخ الإسلام رحمه الله، والعالم من هؤلاء جريمته أعظم لأنه يعلم الواقع ويعلم الشرع، وإذا استمر في الخصومة واستمات في الجدال في الدفاع عن الباطل الذي ثبت ثبوتاً لاشك فيه فالأحرى أن يكون مقصوداً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث عن بن عمر: “ومن خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع”(2)، وإصرار هؤلاء على التشبث بالدفاع عن الظلمة وتبرير جرائمهم هو إصرار على كبيرة، والإصرار على الكبيرة أمر عظيم خاصة إذا ثبتت الحجة على من يرتكبها، فهذا الصنف هو من أعوان الظلمة بل ربما كانوا من الظلمة أنفسهم إذا كانوا في منصب القضاء أو الإفتاء أو السلطة وأعانوا الظالم بفتواهم وقضائهم أو بسلطتهم ومركزهم، وقد سأل أحد السجانين الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إن كان من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام أحمد: "بل أنت من الظلمة أنفسهم"، وقد ذكر أصحاب الحديث من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “سيكون بعدي أمراء فمن دخل عليهم وصدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، وليس بوارد على الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يقصدهم بكذبهم فهو مني وأنا منه وهو وارد على الحوض”(3)، فهذا هو القول في الصنف الثالث وفقاً للأدلة الشرعية.
وأما الصنف الثاني: فلهم شبهة لما جاء في الأحاديث وأقوال العلماء من وجوب طاعة الأمير، ولكن انكشاف الواقع واستفاضة الأدلة كفيل بتغيير موقفهم.
أما عن الإلزامات الشرعية المترتبة على فهم واقع النظام فيمكن أن تبسط كالتالي:
أولاً: ما يجب على أعيان الناس وهو الإنكار بالقلب، وقد ثبت أن ذلك فرض على الأعيان في الحديث الصحيح الصريح بقوله صلى الله عليه وسلم: “من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان”(4)، وفي رواية “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل”، وقد نقل ابن حزم في كتاب الإجماع أن الأمة أجمعت على أن الإنكار بالقلب من فروض الأعيان(5)، وقرن شيخ الإسلام ابن تيمية بين الإنكار بالقلب وأصل الإيمان، فذكر أن انعدام الإنكار بالقلب بالكلية يُضاد الإيمان واستدل على ذلك بنفس الحديث قال شيخ الإسلام: (... فأما القلب فيجب بكل حال إذ لا ضرر في فعله ومن لم يفعله فليس بمؤمن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “وذلك أدنى أو أضعف الإيمان” وقال: “وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)(6).
وقضية الإنكار بالقلب نفسها لها مستلزماتها فلا يتحقق الإنكار بالقلب إلا بانعكاس ذلك على عدم تأييد المنكر والرضا به، فلا يجوز أن يدعي مدّعٍ أنه قد أنكر بقلبه، وهو يساير الظلمة ويعينهم ويبش لهم ويحضر مجالسهم دون أن ينكر عليهم، وربما دافع ونافح وجادل عنهم، فهذا كله يتنافى مع دعوى الإنكار بالقلب ويقدح في إيمان المرء، ففي الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها”(7)، ورغم أن الإنكار بالقلب ضمان السلامة في الآخرة إلا أنه لا يضمن النجاة من عذاب الدنيا المترتب على عدم تغيير المنكر، وهذا مقتضى تفريقه صلى الله عليه وسلم بين من أنكر فسلم ومن كره فبرئ، ففي الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها، قال صلى الله عليه وسلم: “ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع”(8)، وهو كذلك مقتضى قصة أصحاب السبت في قوله تعالى: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً أليماً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون. فلما نسوا ما ذُكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" (الأعراف 164/165) حيث سلم المنكرون وهلك أصحاب المنكر والساكتون على أصح القولين، وفي الحديث كذلك “أن الله عز وجل لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة”(9).
ثانياً: من فروض الأعيان كذلك الالتفاف حول العلماء الصادقين المصلحين المجاهدين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، قال ابن العربي في شرح سنن الترمذي: (... إنما أراد عبدالله بن المبارك بالجماعة حيث يجتمع أركان الدين وذلك عند الإمام العادل أو الرجل العالم فهو الجماعة، وذلك صحيح، فإن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً وجماعته العلم والعدالة والله أعلم ...)(10)، وقال إمام الحرمين: (... فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم)(11).
ثالثاً: أما فروض الكفاية في تلك القضية فمدارها على ثلاثة فرائض:
الأول: بيان الحق للناس وما يترتب عليه من كشف الباطل حتى لا يضلوا بممارسة الحكام وأهل النفوذ ويختلط عليهم الحق بالباطل.
الثاني: السعي لإقامة الفرائض الكفائية المعطلة بكل السبل المشروعة.
الثالث: السعي لتغيير المنكرات الظاهرة قدر الاستطاعة.
ففي وجوب البيان يقول تعالى: "وإذ أخد الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبينّنه للناس ولا تكتمونه" ( آل عمران، 187)، ويقول: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" (البقرة، 159). قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: (... هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدي النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده في كتبه التي أنزلها على رسله ...) وقال: (... فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء والطير في الهواء، فهؤلاء بخلاف العلماء فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ـ إلى قوله ـ ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه، فقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبيّنوا" أي رجعوا عما كانوا فيه، وأصلحوا أعمالهم وبيّنوا للناس ما كانوا يكتمونه)(12). وفي الصحيح عن أبي هريرة أنه قال (لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحداً شيئاً وذكر الآية "إن الذين يكتمون ...") وجاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم “من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار”(13).
|