مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 03-05-2007, 05:59 PM   #6
ريبد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Aug 2006
المشاركات: 51
القبيلة والمجتمع (طبقات المدينة)

http://www.alriyadh.com/2007/05/03/article246529.html

عبدالله محمد الغذامي
كانت قريش قبيلة ومكانا حيث مكة دارهم وعصبة وجودهم، ولما جاء الإسلام تغير مسمى القرشيين تغيراً جذرياً حيث اكتسبوا اسما جديداً هو (المهاجرون)، وحدث مثل ذلك لقبيلتي الأوس والخزرج حيث صار لهما اسم جديد هو الانصار، وهذا تغير جذري من نسق ثقافي الى نسق ثقافي آخر، وكان السلوك هو العامل الجوهري في احداث هذا التغيير فالذي ترحل بدينه من مكة الى المدينة واحدث في نفسه وفي أسرته وغير مكانه وبيئته وربط معتقده بمجموع هذه الحركات هو شخص يتحول من حال كلية الى حال كلية أخرى، وهو تغيير نفسي واجتماعي واقتصادي وثقافي مثلما هو في الاصل تغيير ديني جذري، وهو اذ يدخل في الإسلام في تاريخ جديد له ولعائلته لوجوده كله، ومن هنا اكتسب اسما جديداً، وكلمة المهاجر هي كلمة مكتنزة المعنى فهو مسلم وهو من أهل مكة ثم صار من أهل المدينة وهو رجل تجرد من جسده الاول ولبس جسداً جديداً ولغة جديدة ووجها مختلفا ورضي بإدارة مركزية تحدد له معاشه ونظام تفكيره وذائقته مثلما تعيد صياغة لغته وتحالفاته وعصبته الامنية والثقافية، ومثله الأنصاري الذي يقابل هوية المهاجر بهوية مكملة فلا تتحقق هجرة المهاجر الا بنصرة الانصاري، ولا تتحقق صفة الانصاري الا بنظيره المهاجر، وهذه لحمة معنوية ولغوية مثلما هي لحمة اقتصادية واجتماعية ترتب عليها تغير جذري في مفهوم القبيلة وفي وظيفتها. فالمهاجر لم يعد قرشيا والانصاري لم يعد خزرجيا. ولم تكن القبيلة شرطا للحصول على هذه الصفة فكل من هاجر او نصر فهو كذلك سواء كان من قبيلة او غيرها، وفي هذي تساو بين الناس بناء على العمل في حين يتراجع النسب عن ان يكون أساس التقييم.
من هنا تغير اسم المكان ذاته فاختفت يثرب وحل محلها مسمى المدينة، وهذه مفهومة بالنظرية الألسنية اذ ان تغير الشكل يغير المضمون بالضرورة، وهناك تغير شكل المكان بتغير شكل السكان فتغيرت المسميات وتغيرت الهويات الثقافية للأشياء مع تغير لغة الشارع وعلاقات الناس المستخدمين للمكان والعابرين من فوقه.

هذا اول تغير ثقافي يمس علاقة المدينة كمكان من القبيلة كهوية وكمكان، وان كانت مكة محصورة من قبل بقبيلة تملك المكان وتسيطر على ثقافته وكذا الحال مع يثرب الا ان فاتحة الدين الجديد هي التي تولت تغيير سلوك المكان ليصبح هو الهوية بدلا من القبيلة وتولت تغيير المسميات فصار المهاجرون وصار الانصار، ونشأت طبقة ومعها طبقات هي الخلاصة السكانية للبيئة الإسلامية، ونجد علامة ذلك فيما نقله ابو يوسف في كتاب الخراج في وصية عمر رضي الله عنه وقوله: (أوصي الخليفة من بعدي بتقوى الله وأوصيه بالمهاجرين الأولين ان يعرف لهم حقهم وكرامتهم، واوصيه بالأنصار الذين تبوأوا الدار والايمان من قبل، ان يقبل من محسنهم وان يتجاوز عن مسيئهم، واوصيه بأهل الامصار فإنها ردء الإسلام وغيظ العدو وجباة المال ألا يأخذ منهم إلا فضلهم عن رضى منهم، واوصيه بالأعراب فإنهم اصل العرب ومادة الإسلام أن يأخذ من حواشي أموالهم فيرد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله (ص) أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكفلوا فوق طاقتهم - ص 13، نقلا عن ناصر الدين الأسد: تحقيقات لغوية ص 91).

في هذه الوصية نلاحظ اختفاء اسم القبيلة وحلول طبقات اجتماعية تشير الى المكون السكاني والمكون الاقتصادي ايضا، وهم خمس فئات: المهاجرون/ الأنصار/ أهل الأمصار/ الأعراب/ أهل الذمة.

وأول ما نفقده هنا هو عنصر القبيلة فالأمة الآن لم تعد أمة قبائلية بل هي خليط سكاني من فئات اكتسبت مسميات جديدة، وهي مسميات عملية فالهجرة ليست نسبا وكلمة الأنصاري ليست سلالة كما ان اهل الأمصار هم سكان مدنيون وأهل الذمة كذلك، اما الاعراب فهم هنا سكان الصحراء، وصاروا لذلك اعرابا واذا حل احدهم في بلد فسيكون من أهل الامصار وينتقل من أهل الاعراب.

هذه مسميات ومصطلحات ثقافية تعود الى مرجعيات عملية ذات صلة بالمكان حيث ترك المهاجر مكانا وحل في مكان آخر ولذا صار مهاجرا، والانصاري هو من فتح المكان للفارين بدينهم، وأهل الامصار هم من أسس وبنى مدنا للإسلام في العراق والشام من مثل البصرة والكوفة وغيرهما، والبصرة والكوفة هما اول مشروع لتوطين البادية وهما الهجر الأولى في تاريخنا، ويظل المكان هو العامل الأصل في التسميات هنا بما ان أهل الذمة سكان مدن والاعراب سكان الصحراء، وهكذا فإن المكان هو المانح للمسمى والدال على الهوية.

وفي التكوينات المدنية المختلطة (حسب تقسيمنا لها في المقالة السابقة) نلحظ، اول ما نلحظ ان الناس الذين خرجوا من قبائلهم وقرروا الاستقرار في مكان آهل او قاموا بتأهيل المكان يجنحون الى تحويل مسمياتهم من قبلية الى عائلية ويدخلون في تناسب تكاملي مع من هم معهم في المكان ذاته، فتتغير الاسماء ويجري نسيان القبيلة تبعا لذلك حتى لا يعلم الناس عن بعضهم بعضا من اي قبيلة هم في الاصل كانوا، وأنا شاهد على ذلك فكل علاقاتي وصداقاتي منذ صغري هي مع اناس اعرفهم بأسماء عائلاتهم ولا اعلم البتة عن قبائلهم ان كانوا من اصول قبلية ام لا، وما كنت قط معنيا بأن لا يكونوا كذلك او ان اعرف ذلك ولا حتى على مستوى السؤال المجرد، وهذا امر يعم كل جيلي ومن هم سابقون علي وتلك كانت ثقافتنا، ثقافة مدنية تآلفية والمدينة هي عصبتنا (واختلف الامر بعد ذلك لأسباب سآتي عليها في مقال لاحق - إن شاء الله -).

على ان الاسماء كانت تأخذ لنفسها مسالك معينة فقد تقف عند اسم أحد الاجداد ليكون اسما عائليا لنسله، وقد تكون لقبا (معيارة)، وتلزم نسله، وقد تكون اسم حرفة او مهنة، مثل ان يكون امام مسجد او مؤذنا او خطيبا او صائغا وخياطا، فنجد اسماء عائلات هي مما يعود الى ذلك كالمطوع والريس وما سواها. ولقد جاء اسم عائلتنا بسبب كلمة كان جدنا البعيد يقولها وهي: اغذموا اولادكم، اي اطعموهم، وهي كلمة لها اصل تراثي قديم مثلما هي من مفردات محلية اندثرت الآن. وفي النصوص ان الغذم هو العطاء بسخاء، وفيها ورد نص في رسائل الجاحظ (347/2) ان أبا سفيان ذهب مع اثنين من ابنائه الى الشام لزيارة معاوية فكتبت اليه هند تقول: قد قدم اليك أبوك وأخواك فلا تغذم لهم فيعزلك عمر. ولقد شرح المعري هذا بقوله: غذم له من العطاء اذا اعطاه بكثرة (الفصول والغايات 169). وهناك انتساب للمكان وبعض انتساب للقبيلة، وهما قليلان في المدن المختلطة على عكس المدينة القبلية حيث تكون الاسماء كلها قبلية.

ويميل المتحولون الى المدن الى تبني نظام العائلة في العصبة وفي المسمى وفي التصنيف الاجتماعي والاقتصادي.

هذا ما يجري في المدن المختلطة (والتصنيف هنا من المقال السابق)، وتبقى المدن القبلية على نظام مسميات قبلية، ولقد ذكر ابن كثير في تفسيره ان حمير تنسب للمخاليف، اي للمكان، والحجاز للقبائل (217/4)، وهناك انتساب الى المذهب والطائفة والطبقة، وكلها أنظمة تشير الى قانون ثقافي واحد هو قانون (التعارف) الذي هو علة التقسيم البشري وسببه وعلة التواصل والصانع لشرط المعرفة والصلة وبناء الخلية الجوهرية للمعاش البشري.

ولكن المسمى العائلي هو العلامة القوية على التحول الثقافي وعلى اعتماد بنية المدينة بما انها وحدة اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية، وذلك كمرحلة تسبق تأسيس الدولة وقيام المجتمع السياسي والمدني على أساس مفهوم الشعب، وتظل العائلة هي الوحدة المشتركة في كل الانظمة الاجتماعية، غير ان الفارق الجوهري يأتي عبر التسمية ذاتها بأن تتسمى العائلة باسم يخصها او تظل على نسبتها القبلية وهذا مؤشر مهم على التحول من ثقافة القبيلة الى ثقافة المدينة، واذا كبرت العائلة اكتسبت مسمى اضافيا هو (الحمولة) وهي تسمية ثقافية تعطي معنى طبقيا من مثل اولاد الحمايل ومن مثل قوله ان ذلك الشخص ابن حمولة وفي حالة الذم يقولون انه ليس من ابناء الحمايل وهي مماثلة لمعاني الذوات وابناء الذوات في افتراض التميز.

والمدينة بالضرورة كيان مختلط يقوم على تقسيم داخلي هو الحارة، وقد اكتسبت الحارة في الثقافة التقليدية قيمة معنوية وتمييزية عالية الدلالة، وكل حارة هي شخصية ثقافية ترمز الى معاني طبقية واقتصادية حتى لقد كانت الحارة سابقا بمثابة العصبة وتحمل معنى في العصبية عالي القيمة، ولقد ادركت في صغري آخر علامات هذه العصبية وكنت ارى الاولاد الاكبر منا يحملون عصيهم ويركبون على سعف النخل المقطوع كما يركب الفارس على الفرس وذلك بأن يفرد الولد قدميه على السعفة وكأنما هي فرسه المدرب ثم يجري مسرعا ومعه جمع من ابناء حارته ويتجهون نحو حارات أخرى لكي يتحاربوا مع اولادها بالعصي وتجري معارك صلفة وخطرة على مشهد من الكبار وتشجيع منهم وفرح بالنتائج وكانوا يرون ذلك تدريبا على الرجولة وتهيئة لساعة الحاجة، وتسيل الدماء وكنا نسمع مديحا لمن كان جرحه على جبينه وليس على ظهر رأسه، وهي علامة على الاقدام فيمدح المقدم ويذم المدبر ويوبخه اهله ويظل خجلا من حاله حتى يتمكن من مسح هذه المذلة بحرب أخرى ينتظرها مع حارة أخرى ليبلي فيها بلاء ينسخ خيبته الاولى.

تلك هي الحارة بما انها خلية اولى من خلايا المدينة ومعها الأسماء العائلية بما انها علامات اجتماعية تصنع ثقافة المكان، في حين انها تنتمي للمكان، والمهم هنا أؤكد ما هو واقعي وهو ان هذه الثقافة الموصوفة هنا هي ثقافة بيئية يتساوى فيها سكان المدينة والتمايز فيها هو بالصفات ولم يكن تمايزا قبليا قط، وفرسان المدينة وشعراؤها هم من أبنائها ولم تكن القبيلة معيارا في ذلك، وانما يكتسب الاسم قيمته بناء على افعال المنتسبين، وفي تلك البيئة تأتي الفروسية بوصفها انجازا وليس بوصفها علاقة نسبية، هذه في الاصل ثقافة المدينة، ولقد حدثت تغيرات جوهرية لصالح المدينة اكثر واكثر، ولكن وسط ذلك حدثت ردة فعل ثقافية عصية على التحول، وهي ما نحن بصدده وفي مزيد من القول - إن شاء الله -.
ريبد غير متصل