مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 11-05-2007, 07:18 PM   #6
قاهر الروس
عـضـو
 
صورة قاهر الروس الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Oct 2004
البلد: عَ ـــابرٌ إِلَى الجَنة
المشاركات: 6,346
.
.




جلسنا على طاولة الطعام .. وبينما نحن نتناول الشاي قال:
لما أنت هنا وحيد .. أين الأهل والإخوان .. فأجبته أني هنا ضيف .. فأحب الانعزال والوحدانية ..

جلس يصوب سهام همومه إلى قلبي .. فأنا قد أكون ( عاطفيّا زيادة عن اللزوم) فتنهّد قائلاً :
رحمكما الله يا والديّ .. فقد تنكّرت الحياة أمامنا .. وأصبحتُ وإخوتي نفترش الطرق ونتوسد الأرصفة ..
فعندما كانا والديّ على قيد الحياة .. كنّا نؤمل ما يؤمله الصّغار.. ولكنّا تفاجئنا بالحياة مريرة تعيسة ..مسكننا أخذه منّا الأجير .. والمساجد تغلق بعد صلاة الأخير .. والحدائق يقف على أبوابها الحراس ..
فالشوارع فيها نسكن ونعيش ..أنتم تفرحون بالجوِّ المطير .. " ونحن حينما نرى الغيوم نقول إرحمنا ياستّير "

في بلادكم تنعمون بالعيش الرغيد .. وهنا قد حَكَمَ القوي على الضعيف .. وفي بلادكم الأمن والأمان .. وهنا نخشى من اللصوص وخاطفي الصغار .. ولو أُخِذَت منكم كل هذا الصفات يبقى عندكم حُبُكم للخير بينكم ..


هنا صمت على شهقة غير إرادية من بكائي ..فاقترب مني وأزاح شعري الذي غطى وجهي .. ومن ثم مسح دموعي .. حتى أصبحت أنا الصغير بين يديه وقال :
عمَّاه .. لم آتيكـ لأجلب لك الأحزان .. وأبعث إليكـ بالهموم والشجون .. ووعد مني أن ألزم السكوت .. فأرجوك " لا تطردني عن هذا المكان "

حينما قال " لا تطردني " خُيّـل لي أن الذي يقولها أخي .. فنظرت إليه بلطف وحنان وقلت له: " كيف يطرد الأخ أخاهـ ؟ "

وما إن سَمِعَها تهلل وجهه .. ورسم الإبتسامة
وقال : هل سأكون معك طول فترة جلوسك هنا ؟!
أجبته بأن نعم .. كاد يطير من الفرح .. وسرعان ما تغيرت ملامحه .. وبدا شاحب الوجه سألته : ما بك ؟
فقال : كيف سأنعم هنا وإخوتي تقسوا عليهم الأيام .. فأرجوكـ أخرجني من هنا .. أريد أن أحس بمعاناتهم ..
هدئت من روعه .. وتنفس الصعداء ..
أخبرته أننا في الصباح سنبحث عنهم .. ليسكنوا معنا .. فَنَم قرير العين ..
نام الطفل بجواري .. ولكن عيني لم تغفوا حتى أذان الفجر .. ومن ثَم عدتُ لأنام ..حتى التاسعة صباحاً استيقظت من النوم وإذا بالطفل في سبات عميق .. كرهت إيقاظه .. لكنه ذو إحساس سريع .. استيقظ بنهوضي من السرير .. فقال : هل سنذهب لإحضار إخوتي .
قلت له: نعم .

لبست معطفي وشالي وقبعتي .. وتلفلف هو ببعض ما لدي ونزلنا ..
قال: موظف الاستقبال .. أنجلب لك سيارة ياسيدي ؟! أخبرته أني سأمشي سيراً على الأقدام رياضة لجسمي ..

بدأنا البحث عن إخوة هذا الطفل .. ومع طول البحث إذ بي أراهم ولكن ماذا أرى ؟!! ليتني لم أراهم ..!!
لقد توسدوا أحد الأرصفة .. فقد نحلت أجسامهم من عناء البحث عن لقمة العيش .. نظر إلي هذا الطفل وقال : أيقظهم .
فقلت : لا بل أنت أيقظهم حتى لا يفزعوا مني ..
أيقَظَهُم واستنكروا وقوفي عندهم .. وكأن لسان حالهم يقول : مَن يكون هذا ؟!
أمرهم أخوهم باللحاق بنا و أنه سيخبرهم فيما بعد .. رجعنا إلى الفندق ودخلنا الغرفة الوفية التي احتضنت هؤلاء .. أخبرهم بما حصل بيننا .. وأخبرتهم أنهم بضيافة أخيهم الأكبر ..

نأكل ونشرب معاً .. حتى أنهم في إحدى الأيام قال أحدهم " أول مرة ننام كذا بدون خوف " ونحن جالسين إذ قطع كلامنا طَرقُ الباب .. يا الله من يكون ؟!! لا أحد يعرفني .. نهضت لأفتح الباب وإذا به موظف الاستعلامات .. يقول بكل وقاحة " من الممنوع إيواء الغريب " !!
نظر الأطفال إلى بعضهم وأجهشوا بالبكاء .. حينها علمت أنهم هم المقصودين ..
فقلت له : " عفواً لا يوجد بيننا غريب " وأغلقت الباب في وجهه ,, طرق عدة طَرَقَات بعدها ثم رحل .

قالت الصغيرة :" إِنْ طَرَدْتَنَا فَمَع مَنْ سَنَعِيش ؟!"


أطرقت رأسي في حيرة . فأنا بين قوي وضعيف ، ولكن يبقى أن القوي الله .. فهو يعطي الإنسان على قدر نيته .
عاد الطرق مرة أخرى .. فإذا به صاحبنا الأول .. يقول " من الممنوع إيواء الغريب "
قلت : بالله عليك من تعني بالغريب ؟ .. قال هؤلاء وأشار بإصبعه إلى هؤلاء المساكين ..

سألته منذ متى أصبح الإخوة غرباء ؟! .. صمت فالسؤال حيّرهـ ..
ثم أردف قائلاً :" هذه قوانين الفندق يجب أن تخضع لها . فبمحاولات مني .. كان متعلقاً بعدم الرضا ببقائهم معي .
قلت له بعنجهية :" أخرجني معهم " ..
فاندهش وقال : تعلم صعوبة إخراجك .
فقلت له : " اعلم أني معهم أينما ذهبوا "
قال : أبقهم معك ولكن من يسألك عنهم قل إنهم ضيوفك .. فإني لن أتحمل مسؤوليتك ومسؤوليتهم .
قلت له : اذهب وأنا المسئول .

جلسوا معي قرابة الثمانية أيام .. نتنـزه جميعاً وندخل الملاهي والحدائق معاً ، وعند رحيلي حضروا معي للمطار ليودِّعوني .. فطلبت مِن " بوليس " المطار أن يسمح لهم بالدخول لصالات المغادرين حتى أركب في الطائرة .. وعندما هممت بالذهاب للطائرة .. فبدأت أقبلهم واحداً تلو الآخر .. فأجهشوا بالبكاء ، وعانقوني .. فاجتمع الناس حولنا ، ونظرات الاستغراب تتجه نحونا .. حتى أتى ذلك السؤال من أحد الحاضرين وكأنه مرسل إليّ ليطرح عليَّ هذا السؤال فقال :
مـــا يُبكي هؤلاء الأطفال ؟!

فكان جوابي كصاروخ مستعد للإنطلاق .." أتسألني لماذا يبكي هؤلاء الصغار!! "

لأنكم تعدونهم غرباء .. وما هم والله إلا إخواننا .. ومتى أصبح الأخ غريب .. ألسوءِ حالتهم نتخلى عنهم .. هم فلذات قلوبنا .. زُرِعَت في نفوسهم ما زُرِعَ في نفوسنا .. فإن كان أحدٌ يسأل لماذا يبكي هؤلاء .. فليعلم أنه هو سبب ذلكـ البكاء ..

كانت يدي آخر ما لمست تلكـ الأجساد .. فمسحت على رؤؤسهم ..
فقالوا : لن ننساك ما حيينا "



كتبها
محبكم
قــاهر الروس


.
.
__________________

إِنَّ دَمْعيْ يَحْتَضر ، وَ قَلبيْ يَنْتَظِرْ ، يَا شَاطِئَ العُمرِ اقْتَرِبْ ، فَمَا زِلْتَ بَعيدٌ بَعيدْ
رُفِعتْ الأشْرِعَة ، وَبدتْ الوُجوهـُ شَاحِبَةْ ، وَدَاعَاً لِكُلِّ قَلبٍ أحببنيْ وَأحبَبْتُهُ ..!!

يَقول الله سُبحَانَهُ [اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ ]!!
يَا رَب إِنْ ضَاقَتْ بِيَ الأرجَاءُ فـ خُذْ بِيَديْ ..!
قاهر الروس غير متصل