القبيلة والمجتمع (والناس طبقات)
د. عبدالله محمد الغذامي
(إذا كنت ذا أصل وأنا ذا أصل فعلى من سأفتخر إذن..؟؟ مشكلة القول بأن الناس سواسية سيضعف حظ النفس في التفاخر على الآخر)- خالد إبراهيم
(أفتخر بالدال، أفتخر بالقبيلة، هذا حق لي) - إبراهيم أبوحيمد.
هذان تعليقان وردا على الإنترنت / موقع الرياض.
وهما معا يضربان على الوتر النسقي بشكل مباشر وصريح، وهما محقان في ذلك بكل تأكيد وقراءتهما للحالة الإنسانية صحيحة، ومن شأن الذات البشرية أن تكون فخورة بشخصها أولاً ثم بمرجعياتها العائلية والمكانية والسلالية والثقافية، وأي شخص عربي بل وأي شخص إنجليزي أو ياباني أو تركي له ولهم من السجل التفاخري ماهو كبير وعريض، والشعر والحكايات قامت على هذا المعني وكل الملاحم الأدبية من الإلياذة والشاهنامة وعنترة وأبي زيد الهلالي هي مدونات في ثقافة النسق. وهي لم تخلق النسق ولكنها حملته في رحمها وأرضعته ثم أطلقته ليدرج في الحياة، وما قرأ أحد منا سيرة عنترة أو الهلالي إلا وتماهي معه أو معهما وتصور نفسه في بعض المواقف، وفي الدراسات الثقافية ما يكشف عن سيرة القراء مع النصوص المقروءة وفي ذلك نتائج مهمة تدل على مقدار تماهي القراء مع المقروء حتى لقد سجلت وقائع بعضها إيجابي من مثل شفاء بعض الحالات النفسية حتى قامت نظرية علاجية نفسية تسمى العلاج بالشعر ومن مثل تحول بعض القراء من كائن سلبي إلى كائن إيجابي بسبب فعل التماهي النصوصي، وأقربه للأمثلة تحول القارئ إلى كاتب مبدع بما إنه اتخذ النصوص نماذج عملية وعقلية له، والعرب يقولون: كل إناء بما فيه ينضح، وهناك نماذج سلبية أيضاً مثلماً كشفته دراسة عن عدد الذين انتحروا بعد قراءتهم لآلام فرتر لجوته. وهناك حوادث بعضها مسجل في المحاكم عن حالات مطالبة بتعويض نتيجة لتصور الأهل بأن سبب ما حدث لأبنائهم هو تأثرهم ببعض المقروء أو المشاهد سينمائيا أو المسموع موسيقيا، ويكون قد تسبب في حال انفعالية بالغة أدت إلى حدث مأساوي يرى الأهل مقاضاة المتسبب فيه.
هذا استطراد أبعدني قليلا عن موضوعي ولكنه يساعدني على طرح فكرة التماهي الثقافي، واستهلاك الصيغة النسقية هو واحد من هذا التماهي. وكل مولود يولد منا يبدأ تاريخه الثقافي من مجلس أهله في البيت وهناك يبدأ في تلقى دروس خصوصية في النسق، ولي أن أضع نفسي على المحك، وأنا كنت من صغري أسمع كلام مجالس الكبار تحكي عن أمجاد أهل عنيزة وعن شجاعتهم وعن أشعارهم وفرسانهم، وعن تميز رجالاتهم وانفتاح مجتمعهم، وتعلم نسائهم قبل أي نساء في الجزيرة وعن ترحالهم في الهند والعراق، وأن أول مدرسة حديثة كانت عندنا، وأن مشائخنا كانوا سباقين في وعيهم وفي ثقافتهم وأن الإدارة التأسيسية في الدولة قامت على أبناء هذه المدينة، وكنا نسمع قصص الفارس زامل السليم والشاعر الخياط وقصيدته عن عنيزة: هاذي عنيزة ما نبيعها بالزهيد - وهي أشبه ماتكون بنشيد وطني تاريخي، ومثله قصيدته العظيمة: يا ديرتي ما لك علينا لوم - لومك على من خان، ولقد أخطأ بعض الرواة ونسبها لسلطان الأطرش والصحيح أنها للخياط وكان العقيلات من أبناء عنيزة يرددونها وهم في الشام وهناك تخلقت الرواية المتداخلة.
ومثل أولئك كان الشاعر محمد العبدالله القاضي والداهية صالح العثمان، ويتوجها الشيخ السعدي. وهم ليسوا مجرد أسماء ولكنهم حكايات وقصص وتواريخ ومخيال ثري وعميق، يفضي إلى تصور ببيئة عنيزة على أنها بيئة منفتحة ومثقفة ومتطورة من وقت مبكر، وأنها بيئة إبداعية إضافة إلى عناصر الشجاعة وسجلات الحروب ومثله الكرم والجوار وهبة الريح وفن السامري وهو الفن الذي يتشربه كل مولود في تلك البيئة. ولابد أن أذكر هنا أن السجل التفاخري ذو مرجعية مكانية/ مدنية، والقبيلة ليست شرطاً فيه، وفارس عنيزة وشاعرها العملاق الخياط لم يكن ابن قبيلة ولكنه ابن المكان والزمان وهو مثال على صيغة ثقافية مدنية كما أنه مرجعية وجدانية نموذجية لكل المكونات.
وهذا كله رصيد معنوي عميق ورأسمال رمزي يملأ خيال أي طفل وينمو معه حتى ليصبغ صورته في العالم ويشكل مقامه في ذاته وفي عالمه.
كنت أسمع هذه القصص وأختزن هذه المعاني ومزيدا منها، خاصة حينما أقابل أحدا في الرياض أو في جدة وحينما يعرف أنني من عنيزة يبدأ في ترديد نوع من الثناء الذي صار شبه نمطي عن انفتاح أهل عنيزة وعن مقولة الريحاني عن باريس نجد، وكان المرحوم محمد حسين زيدان لايكل عن ترداد هذه القصة وعن تبجيل ذاكرة عنيزة. وهي كلها ضرب على حديد الذات في أعمق أحاسيسها الانطباعية. مما يعزز من الرأسمال الرمزي لدى الفرد ويقويه.
ولاشك أن كل شخص في كل بيئة أخرى قد مر بما يماثل ذلك سواء كنت ابن مدينة أو كنت ابن قبيلة، ولاشك أن هذا سيشمل فيما يشمل العائلة وبعض أجدادك، وتاريخ أسرتك. ومن عاداتنا الاجتماعية أننا إذا سألنا شخصاً عن نفسه أو عن أهله نبادر مباشرة بالتنعيم عليه وعلى أهله وإذا سلحتنا الذاكرة بشيء من القصص عن جماعته فإننا نبادر بذكرها لأنها تعطينا قيمة لحظية في أننا نعرف أولاً وفي أننا نقدر ثانياً مثلماً يسهم هذا في تأسيس حال من التلاقي الأخوي وكأنها مسألة علاقات عامة وتواصل تأسيسي.
وهذه أولاً حكايات ممتعة وهي ثانياً تربية اجتماعية تحفيزية على اتخاذ النماذج، وهي ضرورة حكائية لأنها لو لم تكن لما قامت المجالس ولأغلقت الصوالين، وكل ذلك فوائد، ولكنها تنتهي أخيراً لتكون في سجل المدونة النسقية، ويستغلها النسق لمصلحته فيو همك بأنك الوحيد الذي تملك هذا السجل من الفخر وأن غيرك لايملك سجلاً مماثلاً.
والأدهي أن النفس البشرية تقاوم التماثل هنا فتجنح - كما ذكر القارئ- إلى نفي أي تماثل، ولو قال قائل لي إن بلدانا أخرى غير عنيزة تملك سجلا مماثلاً لما قلته عن عنيزة فالذي يجري أن قبول هذه الدعوى سيحرمني من رصيد وجداني ومن قيمة رمزية أنتمي نفسيا إليها، وهي قيمة إضافية تعطينا مكسباً إضافياً، وسلبها مني كأنما هو سلب لقيمة شرفية قد تبلغ حد الخطر، وهو خطر نفسي في الغالب، وقد يكون خطراً مادياً، وقد حدثت حوادث تشير إلى أن سلب حقوق الناس في التفاخر تؤدي الى نتائج دموية. وهذا دليل على التماهي مع ثقافة الذات حد الانتماء للقصص وتمثلها كقيمة عضوية.
هو النسق - إذن - وهو تكوين ثقافي ووجداني، وليس تكوينا عقلانيا، ولا يمكن حله بالطرق العقلانية، ومهما قلنا انه مناف للعقل فإننا لن نصل الى حل للمشكل وذلك لأن المشكل وجداني وليس عقلانيا.
ولكن الذي يجري عادة في الثقافات هو تحول نظام التفاخر من صيغة الى صيغة، وبدل افتخاري بعنيزة وانتمائي الوجدان لها سيتحول هذا المعنى ليكون أكثر شمولية ويعم الوطن او الثقافة او الانتماء الفكري والمهني، كأن يكون انتمائي للمؤسسة الاكاديمية او لتوجه ثقافي، او يكون انتماء لجماعة ثقافية او سياسية او مهنية، وهنا لا تتنازل الذات عن حقها في الانتماء ولا عن حقها في التفاخر ولا عن شرطها النسقي، ولكنها توسع هويتها بناء على أمرين، هما توسع مدركاتها، ثم توسع مصالحها، وهذان عاملان مهمان في تغيير الهويات وتحويلها من حال الى حال، واذا تغيرت الهوية الذاتية بناء على تحول الحال فإن التاريخ الذاتي الاول سيصبح ثقافة وذاكرة فيما تصبح الذات قيمة علمية، ويكون التجاور فيما بين العملي والوجداني، ويستطيع البشر عمليا الجمع بين البعدين، وهو ان تكون منتميا لوطن او لجماعة فكرية او غيرها وفي الوقت ذاته لك ذاكرة وجدانية هي مثل السيرة الذاتية ولكنها لا تمس القيم العملية ولا شروط الانتماء الجديد ولا تمس حقوق التعايش السلمي بين الفئات حيث ان توسع الانتماء يجعلك في محيط متنوع لا يمكن ان تسير فيه بإيجاب ما لم تتماه مع صفاته الكلية.
ولاشك ان الصراع سيكون قويا بين ما تملك النفس من رصيد فئوي وما تكتسبه من قيم جديدة، ولذا يلاحظ على المهاجرين انهم لا يندمجون مع البيئات الجديدة الا بعد جيلين او اكثر حيث ينبت الجيل الصاعد في منابت البيئة الجديدة ويكتسب خصائصها بعيدا عن تأثير المنابت الاولى. ولذا فإن عمليات التجنيس تتم بعد اشهار القسم بالولاء للبلد المضيف كما انها تشترط سنوات من الاقامة وهي امتحان على تحقق التحول المطلوب، ولو كنا نحتاج الى قسم مماثل كشرط لتحولنا من بيئة فئوية الى وطن شامل لرأينا العجب في طريقة صياغة هذا القسم، وليجرب كل واحد منا كيف يمكنه ان يقسم على نفسه بأن يتحول بولائه وهواه وجسده ونفسه الى البنية الوطنية، وهو تحول عسير يحتاج الى مؤسسات مجتمعية تملأ وجدان المتحول، وتعطيه معنى عملياً وعقلانيا يساعده على كسر هذا التحول العسير.
ولا شك أننا قد مررنا بتحولات كبيرة وقوية، وصاحب هذه التحولات بعض انكسارات، وهي انكسارات سأحاول التحدث عنها في مقالات لاحقة - إن شاء الله -.
__________________
أَتيـتَ والنـاسُ فَـوْضَى لا تمـرُّ بهم .... إِلاّ عـلى صَنـم, قـد هـام فـي صنمِ
والأَرض مملــوءَةٌ جـورًا, مُسَـخَّرَةٌ .... لكــلّ طاغيـةٍ فـي الخَـلْق مُحـتكِمِ
مُسَـيْطِرُ الفـرْسِ يبغـى فـي رعيّتـهِ .... وقيصـرُ الـروم مـن كِـبْرٍ أَصمُّ عَمِ
يُعذِّبــان عبــادَ اللــهِ فـي شُـبهٍ .... ..... ويذبَحــان كمــا ضحَّــيت َبـالغَنَمِ
والخــلقُ يَفْتِــك أَقـواهم بـأَضعفِهم ... كــاللَّيث بـالبَهْم, أَو كـالحوتِ بـالبَلَمِ
|