[ 6 ]
قبل الانتقال إلى المرحلة الجديدة !
آه من دولاب الدهر ، وانطواء العمر ، كثيرًا ما قرأنا في كتب أهل العلم ، وسمعنا من كلامهم أنه من المستحيل أن يثبت أحدنا على حال واحدة ، ( لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر ) ، في ديننا .. إما أن تجد أحدنا متقدمًا عبر الصبر على طاعة الله ، وعن معصية الله ، أو متأخرًا عبر الركون إلى الكسل ، والاستسلام للفتور ، ثم الانغماس في المعاصي ، والغرق في مستنقعات الغفلة .
كنت يومًا من أيام التأخر ، جالسًا مع أحد طلبة العلم من صغار السن في شقتي ، وهو إنسان ديّنٌ قوام ليلٍ محب لكتاب الله – تعالى - ... أحسبه كذلك والله حسيبه ، ولقد عرفني في مرحلة فتور وكسل .. وغفلة ، وسكن معي لأن أخاه الكبير يسكن معي ؛ فأخذ هذا الشاب يحدثني عن حفظ كتاب الله – عز وجل – وقراءته .. ، فسألته سؤال غريبًا ، قلت له : لو قلت لك أن هذا الشخص الذي أمامك ، كان يجلس – في مرحلة مضت – من بعد الغداء حتى صلاة العِشاء في المسجد يقرأ في كتاب الله – عز وجل – ويحفظ ويراجع .. هل تصدق ؟! نظر إلي وقد علت ملامحه ابتسامة يشوبها دهشة ، وقال لي بشجاعة : لا . فقلت : فاحرص على أدعية الثبات والإعانة ، واستشر واستخر ، ولا تجتهد من تلقاء نفسك ، وإلا فستجد نفسك يومًا وحيدًا ، تبحث عن شخصك الذي فقدته مع كر الأيام ، وانصرام الأعوام .
أحبتي ! لست أعرّض بنفسي ، أو أجلد ذاتي ، إنما أكتب لكم ما يؤدي إلى أخذ العِبرة من هذه الذكريات التي لن تساوي شيئا إذا لم تستفيدوا منها عبرا وعظات ومتعة وفائدة ... قدر ما أستطيع ، هذا الحوار الذي جرى قبل مدة ، تذكرته وأنا أستعيد الأسابيع التي سبقت الانتقال من المرحلة الثانوية ، إلى المرحلة الجامعية .
لم أدرك في تلك الأسابيع أنني سأنقطع تمامًا عن كل ما يربطني بمجتمع الحلقات والشباب في تلك المدينة ، وقد أثر هذا الانقطاع على طبيعتي واجتهادي ونشاطي في الجامعة على مراحل لم أحس بها إلا بعد حين من الدهر ، وأول سبب للانقطاع عنها هو توقف حلقتي ، وتفرق طلابها ؛ لانشغال المدرس ، وعدم وجود من يسد محله .
انغماس تام في أشطة المركز الصيفي ، خصوصًا في الجانب المسرحي والذي أحبه وأعشقه ، ولم أنقطع عنه طوال السنوات الماضية ... وحتى هذا العام ، الأيام تجري بسرعة ، من المركز الصيفي إلى رحلة المركز الصيفي ، وعودة إلى بريدة مرة أخرى عبر هذه الرحلة ، تذكرت همّ السكن ، وشعرت ببعض التوتر ... ، بعد الرحلة استسلمت للكسل الذي يغمر الشباب في الأسابيع الأخيرة بالعطلة الصيفية ، ولم ألاحظ أنني انقطعت بشكل تام عن حفظ ما لم أحفظ من كتاب الله تعالى ، وشبه تام عن مراجعة حفظي ، وذلك بسبب الخطأ العظيم الذي ارتكبته ، وهو عدم تسجيلي ( مباشرة ) في حلقة أخرى بعد انقطاع حلقتي .
اتصال هاتفي تلقيته من ( أبي الوليد ) وهو ذلك المدرس الذي كان لنا عونًا حين تسجيلنا في الجامعة ، وأخبرني أنني سأسكن مع فلان ، وهو ليس غريبًا عني ، بل شاب ملتزم خلوق في مثل سني ، وقد درس معي خمسة سنوات ، من الصف الثاني متوسط ، إلى ثالث ثانوي علمي ، ثم تخرج وانضم لركب جامعة الملك سعود ، أما أنا فقد انسحبت في آخر تلك السنة ، وأعدت الدراسة في السنة التالية .. لكن في قسم الشرعي . إضافة إلى أن ( عاصم ) وهذا الاسم الذي سأطلقه على هذا الشاب ؛ كان من طلاب حلقتي لعامين متتاليين في الأول ثانوي ، والثاني ثانوي . وقد فرحت بطلبه بأن أسكن معه ، لكنه لم يكن أمير الشقة ، ولم أعرف – حقا – من الشباب الآخرين الذين سأسكن معهم ، لكن كل هذا لا يهم مادام يسكن معي شخص واحد على الأقل .. أعرفه ، وأرضى بخلقه وطبعه من خلال معرفتي به في المدرسة والحلقة سابقا ، إضافة إلى أنني سأكون قريبًا من دندنته ، فـ ( عاصم ) هذا آتاه اله صوتًا جميلا جدا ، ولعلي أضع لكم إحدى أناشيده في قسم الصوتيات حين تصبح في متناول يدي .
تمر الأيام وعلاقتي مع الصديق الجديد ( راكان ) تزداد ارتباطا ، بدا لي أنه يميل حقا للاستقامة والالتزام ، لكنه يحتاج إلى بعض الوقت ، وأفضل طريقة لجذبه إلى عالم الاستقامة والقرب من الله - تعالى – هي أن تجعله يعيش مجتمع الاستقامة - إن صح التعبير - ، فتعيش معه هموم طالب الحلقة ، في الحفظ ، وفي المراجعة ، وفي الاستراحة ، وتعيش معه الهموم الفكرية للمستقيم ، في القراءة ، وحضور الدروس العلمية ، وفي تحليل الأحداث من حولنا بحسب ما يمليه العقل ... وهكذا .
وتمر الأيام كذلك ... . في آخر ليلة قضيتها في رفحاء ، جلست مع راكان ، وصديق آخر من طلاب الحلقة ، وهو من أبطال هذه الذكريات ، إيجابًا وسلبًا في النهاية مع الأسف الشديد .. الشديد ، ( سامي ) هو اسم هذا الصديق ، تعرفنا على بعضنا في الحلقة ، وقويت العلاقة بعد ذلك في آخر سنة .. في ثالث ثانوي ، وله معي في السنة الجامعية الأولى مواقف جميلة ورائعة ، وله – كذلك - فضل علي كبير لا أنكره ، وهو صديق قديم لـ ( راكان ) ، عرفه قبل أن أعرفه ، إضافة إلى قرابة بينهما ، لكن الدنيا لا تثبت على حال تحبها وتتمنى دوامها :
طبعت على كدر وأنت تريدها **** صفوًا من الأقذاء والأقذار
كانت ليلة محزنة ؛ إذ كنت أشعر بغصّة في حلقي ، وعبرة في عيني . لا أعرف سبب هذا الحزن ، وكأنني ذاهبٌ إلى سجن ، أو مأتم لقريب ، جلسنا نحن الثلاثة نتحدث عن شققنا الجديدة ، وساكنيها معنا ، وتحدثنا عن اللقاء المقبل مع بعضنا ... ليلة طويلة جميلة ... حزينة ، ودعنا في نهايتها صاحبنا ( راكان ) ، ورجعنا إلى منازلنا .
في غرفتي – رحمها الله ! -... لم أنم تلك الليلة أبدًا ، فقد أهمني التفكير في كل شيء ، عن أهلي ، وحلقتي ، وجدولي اليومي في الجامعة ، وعن اليوم الأول فيها ، وعن طبيعة العلاقات التي سأرتبط بها في الجامعة ، وعن الشقة ، فكرت كذلك بغرفتي فيها ، وأين سيكون مكان سريري ، أتمنى أن يكون تحت المكيف ، وهل المكيف يبرد جيدًا ، وفكرت بأفراد الشقة – وللشقة حلقات وحلقات - ، وعن كتاب الله - عز وجل - ، وأنني يجب أن أتدارك التقصير الذي حصل مني تجاه هذه الأمانة ، وعن حالتي الدينية والنفسية .. بقدر ما كنت حزينًا ، فقد كنت متحمسًا جدا كذلك .. ولقد فكرت في كل شيء .
في ساعة الذهاب ، جهّزت أمي كل أغراضي ومتعلقاتي ، ثم ودّعتها هي وجدتي وأبي وجدي .. وأخوتي ، من المفروض أن يكون هذا المشهد هو الأجمل والأعظم والأنقى والأكثر تأثيرًا في حياتي وذكرياتي ، عائلة صغيرة تجتمع لتودع أكبر أبناءها في ذهابه لعالمٍ جديد ... الجامعة ! يا لِهَيْبة هذا الاسم .. في تلك الأيام ، لن أنسى دموع أمي ، ودعاء جدتي ، ونظرات أبي ، وتأمل جدي المتكئ على عصاه ، وتجمع أخوتي الصغار ، الكل يودعني بما يمثل شخصيته ... كم أحبهم !
ركبت ( الطائر الأزرق ) ، فانتبهت لأبي وقد خرج من المنزل واقترب مني قائلا : لا تسرع ، وانتبه من الجِمال ، ثم أتبع كلامه بالجملة التي سمعتها منه كثيرًا ، منذ بداية تعلمي للقيادة في الصف الثالث الابتدائي عام 1413هـ وإلى لحظة كتابة هذه الأسطر وهي قوله : اعتبر – أثناء القيادة – أن كل الناس مجانين ، وأنت العاقل الوحيد . وإلى ليلة ما قبل البارحة لما غادرت مركز الملك خالد الحضاري بعد الندوة الرائعة ، اتصلت عليه لأخبره أنني سأرجع إلى رفحاء في هذه الليلة ؛ فردّد هذه الجملة على سمعي .
بعد الوداع مررت بمحمد و نايف ، ثم انطلقنا إلى القصيم ، وكان الطريق المناسب – في ذلك الوقت – هو ( رفحاء ) إلى ( حفر الباطن ) إلى ( الأرطاوية ) إلى ( الزلفي ) إلى ( طريق الرياض السريع ) .... إلى ( بريدة ) ، قبل أن يُنشأ الطريق الجديد والمختصر ( رفحاء ) إلى ( سامودة ) إلى ( قبة ) إلى ( أبا الورود ) إلى ( الطرفية ) .... إلى ( بريدة ) .
و لِسَفر العزاب قوانين وآداب ، أنتم على موعدٍ معها في الحلقة القادمة ، والتي سأكتبها لكم غدًا – بإذن الله تعالى – من ( كورنيش ) مدينة الخفجي ، والتي سأسافر إليها اليوم - بعون الله تعالى – ، كما أنني سأكتب موضوعًا مُصَوَّرًا خلال الأيام القادمة عن هذه المدينة ، التي تحتضن في مشرقها أفضل ساحلٍ بحري في المملكة – في رأيي ، وقد سبحت في غرب المملكة وشرقها - .
لا تنسوني من دعائكم .