بارك الله فيك
قولك : ( فأنت تريد حصر العامي في اتباع شيخ لا يحيد عنه ولا ينتقل من آرائه إلى رأي غيره من العلماء .. وهذا تحجير يتعارض مع العقل والمنطق . ) أقول : أنا لم أقل باتباع العامي لشيخ واحد لا يحيد عنه أبداً ، بل ذكرت لك بأن العامي الذي حقه السؤال فإنما عليه سؤال العالم الذي يثق به ثم يعمل بما أفتاه ، وأما إذا تبين له أن هذا العالم خالف الدليل فعليه عندئذ الانتقال إلى ما يوافق الدليل بل التقليد في هذه الحالة مذموم ، أما المسألة التي أشكلت عليك فهي التنقل بين أقوال العلماء بلا حجة فهذه وفقك الله هي ما يريده أهل العلم بقولهم تتبع الرخص ، وإلا ما هو تتبع الرخص عندك ؟
وقولك : ( مالونتـُه بالأزرق من كلامك هو عين الدخول في النيات .. فما هذا الجزم والقطع يا هداك الله ؟ ) أقول : لا ليس دخولاً في النيات فقد أخبرتك بأن أهل العلم يذكرون ذلك ، فبالتأكيد أن الذي سيختار تسهيلات المذاهب هو متشهي ومتبع لهواه ، لأنه سيجمع عنده من الأقوال ما لم يجتمع عند غيره فالطريقة الغالبة التي سيختار بها من الأقوال هي اتباع ما تهواه النفس ، لأنه يظن أن له الحق باختيار أيهما يريد من الأقوال بخلاف من عنده من العلم ما يجعله متيقناً بأن واجبه التحري عن الراجح والنظر في الادلة ونحو ذلك فهذا سيقل عنده الخطأ واتباع الرخص .
وأما قولك : ( أما إن كنتَ تجيز للعامي أن يسأل في كل مسألة شيخاً , فهذا يتعارض كلياً مع الحجة التي تحتج بها عليّ , لأن هذا هو عين تتبع الرخص ( بحسب وجهة نظرك ) ) أقول : فرق بين من يسأل من يثق به ويريد الفتوى لكي يعمل بها ، وبين من يسأل لكي يجد أسهل الإجابات فتجده يسأل عشرة تسعة منهم يقولون بتحريم ذلك وواحد يقول بجوازه ثم يأخذ رأي الواحد لأنه يتوافق مع هواه ، وكذلك من يريد التشديد خاصة على غيره فيسأل عشرة فتسعة يجيزون هذا الشيء وواحد يحرمه فذهب إلى هذا القول لأنه أصلاً يبحث عنه ، فهذا تشهي وفقك الله .
وقولك : ( طيب : قد يذهب العامي إلى عالم ينحى منحى التيسير في آرائه ) فأقول : العامي عليه أن يسأل من يثق بعلمه ، فهو قد تحرى باختيار هذا العالم فإنه سيعمل بما يفتيه به وقد قال جماعة من السلف : " إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم " فهو إن اختار هذا العالم لسؤاله فإنه سيعمل بذلك ، فالشريعة كلها ولله الحمد ميسرة وكلها تيسير كما جاءت بذلك النصوص .
وبالنسبة لقولك : ( في تعليقك السابق تقول إن العلماء ( اتفقوا ) على منع انتقال العامي من قول شيخه إلى قول آخر بحجة أنه عامي .. والآن تصرّح بعدم الاتفاق ! ) ففرق بين المسألتين وفقك الله فالانتقال بين الأقوال بلا حجة شيء واستفتاء عالم آخر أعلم وأورع شيء آخر فلا تخلط بينهما وفقك الله فالذي اتفقوا على منعه هو تتبع الرخص وليس ذلك في ما ذكرته لك وتظنه تعارضاً .
وقولك : ( أنت تتعارض وتناقض نفسك أو لنقل إنك تقول أشياء ثم تتراجع عنها عند التنبيه , وهذه ليست المرة الأولى ! ) فأقول : إن تبين ذلك فليس بعيب فكلنا خطاء ولكن أين التعارض الذي تقوله ؟ فيبدوا لي أنك إذا لم تفهم نقطة معينة اتهمتني بالتعارض ولكن لا مانع فالحق إن شاء الله أكبر مني فأنا إذا تبين لي الحق رجعت إليه بعد توفيق الله ، ولكني لم أجد هذا التعارض الذي تقول .
وقولك : ( أرجو أن تنقل لنا من قال باتفاق العلماء على منع التخيير والتشهي . ) هو تتبع الرخص فإذا ذكر العلماء التشهي فهم يقصدون تتبع الرخص لأن المعنى واحد وفقك الله .
وقولك : ( فعلماؤنا - حسب علمي - يقولون إن له البقاء على قول مشايخه , ولكنهم لا يحرّمون عليه الانتقال من قول مشايخه إلى قولهم , فتنبه . ) نعم وفقك الله فهم عندما يفتونه فهم يرون أن الدليل معهم فلذلك لا يمنعونه من الأخذ بقولهم ، بخلاف من يترك قول علمائه لقول يوافق هواه .
وأما قولك : ( بل أنت تريد من العامي أن يتبع قول شيخه حتى وإن كان العامي في قرارة نفسه غير مرتاح وغير مقتنع أبداً بقول شيخه ومرتاح ومقتنع جداً أن قول الشيخ الآخر أقرب إلى الصواب ! ) أما هذه الحالة فهو عندئذ ليس عامياً بل لم يقتنع بالقول الآخر إلا لدليل معه يرى بأنه الأقوى وأما العامي فهو لا يعرف الأدلة وأيهما أقوى ، وأما من اقتنع بقول من الأقوال بأنه هو الصواب فإنه لم يقتنع هكذا إلهام أو وحي وإنما اقتنع بحجة فهنا مسألة أخرى ، وأما من لم يقتنع بهذا القول لأنه يخالف هواه فهذا ليس بحجة فالتفريق بين النقطتين مفيد .
وأما مسألتك الأخيرة ، فترجع إلى رأس المسألة فما حجته باتباع هذه الأقوال ؟ فإن كان من أهل الترجيح فإنه قد رجح بين الأقوال فهذا لا إشكال فيه ، وأما إن كان عامياً فالضابط في ذلك هو تتبع الرخص فلو شاهدناه يأخذ بالأقوال المبيحة والأقوال الشاذة بحجة اتباع العلماء فهذه ليست بحجة وأما أخذه بهذه الأقوال بحكم أنه سأل فلاناً بكذا فأفتاه بها وسأل الآخر بكذا فأفتاه وسأل الرابع بكذا فأفتاه فهذا قد عمل بالحجة وهي : ( فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) والله أعلم
__________________
قال صلى الله عليه و سلم:(( مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ : لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ العلى العظيم ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاتُهُ )) رواه البخاري .تعارَّ من الليل : أي هبَّ من نومه واستيقظ . النهاية .
|