[ 19 ]
ثورة على المعتاد في الشقة !
سقى الله أيامًا كنت آنس فيها برؤية أحبة باعدت الدنيا بيننا لظروف العمل أو الدراسة.. أو الزواج. كم أشتاق كثيرًا لأيام الأنس، وليال الأتراح، مع عائلتي في السنة الأولى.. (تركي) أمير شقتنا الذي كان حليمًا معنا، قدوة في تعامله مع أمور الشقة، إضافة إلى (عاصم) و (فرحان) و (مطر) و (عيادة). الأيام تمضي بطيئة في شقتنا، ولا شيء جديد يدخل في خط حياتنا الجامعية، ما عدا المواقف المضحكة، و "القفشات" الباسمة التي تحصل بيننا، شقة رائعة جدا، توازن بين قصص (عاصم) الذي يستقيها من روايات أجاثا كريستي، حيث كنا نجلس سويًّا في المجلس؛ فيبدأ (عاصم) بسرد القصة بأسلوبه الرائع، أو نتحدث عن مجال الحاسب الآلي.. وهو تخصّصه، أو عن روائع المنشد (أبو عبدالملك)؛ حيث نتفق أنا و (عاصمًا) على أن هذا المنشد هو الأفضل في صوته واختياره لأناشيده، وقد ذكرت لكم أن (عاصمًا) أوتي صوتا رائعًا مشابها لصوت (أبي عبدالملك)، لكنه يتميز عنه بنبرة خاصة، وقد وعدتكم بأن أنزل له مقطعا إنشاديا قد أنشده في إحدى احتفالات النادي الصيفي في مدينتنا، لكنني سأنزل مقطعًا أفضل من ذلك بكثير، سمعته قبل أيام في (تسجيلات صدى الفردوس الإسلامية) برفحاء، التي تصدر الشريط الشهير (مباشر)، والذي سينزل للأسواق قريبًا وفيه نشيد رائع (بل أكثر من رائع) لصاحبنا (عاصمًا)، وحين يصدر الشريط سأضع لكم القصيدة الأدبية التي أنشدها في قسم الصوتيات –بإذن الله تعالى-.
أقول: كنت في الشقة بين سرد (عاصم) للقصص وإنشاد القصائد، وبين وقار (تركي) أمير شقتنا، وصمت (عيادة) والذي قد ينفجر أحيانا بالحديث المضحك، وطرافة (مطر).. إضافة إلى (فرحان) بحديثه الرائع جدا. لم يكن لنا مجال في الترفيه إلا أحاديث المجلس، وبعض المزاح الذي يحدث بين الشباب، إضافة إلى (تنس الطاولة) التي لم.. ويبدو أنني لن أتقنها أبدًا، لذلك اقترحت في يوم من الأيام أن نشترك في قنوات المجد الفضائية، كان الاقتراح غريبًا بعض الشيء على الشباب، لكنهم أعجبوا به كثيرًا، لولا هيبة الجديد –كما تعلمون- على الجميع. كان التفكير بهذا الاقتراح بين الشباب يثير الخوف من أمور عدّة، أهمها الخوف من (كلام الناس).. أصحابنا في القصيم، أو في مدينتنا، ربما كنا نبالغ كثيرًا في إثارة الخوف من هذه المسألة، لكن يبقى أن هذا الخوف له ما يدعمه؛ فبعض الناس –مع الأسف الشديد- لا يُؤمَن جانبه أبدًا، فلا يستحضر أنّ "
من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه" و لا يعمل بآداب النصيحة، إضافة إلى أنه يفتقد إلى الحكمة؛ فلا يضع الشيء في موضعه. لذا كنا نتوقع أن يُصدر في حقنا حكمًا بالانتكاس على الأكثر.. وعلى الفور، وإذا رحمنا البعض؛ فعلى الأقل يحكمون علينا بأننا هزليون وغير جديين في حياتنا، وسيأتي من ينصحنا –وهذا كثر الله من أمثاله-، وسنجد من يغتابنا وينهش ظهورنا في المجالس بحجة الاستنكار، وسندخل في زوبعة كانت قناة المجد –بذاتها- قد عانت منها في ذلك الوقت.. .
تناقشنا كثيرًا، ثم عزمنا في النهاية على الاشتراك في القناة، لولا أن أحدنا طرح إشكالا أثار الهيبة في نفوسنا؛ وهو أن الشقة –حين نستقبل قنوات المجد- ستصبح قبلة لكل الشباب في القصيم، وكل واحد منهم له برنامج يتابعه، لذا أُصدر القرار الأميري بإلغاء الفكرة نهائيًّا، وقد فعلنا.. لكنها لم تلغ من رأسي، وبقيت حتى الفصل الثاني من السنة الثانية؛ حين رشحني بعض الأخوة لأكون أميرًا على شقتهم؛ فوافقت.. واقترحت عليهم استقبال قنوات المجد في شقتنا، ووجدت من الشباب ترحيبًا لهذه الفكرة، وفعلا.. اشترينا رسيفر قنوات المجد (من خلال فك التشفير) مع التلفاز، واستمتعت طوال ثلاثة سنوات باستقبال قنوات المجد وإلى لحظة كتابة هذه الحلقة.
لما لم ير اقتراح قناة المجد النور في الشقة؛ ولأنني من النوع "النشبة" –والحمدلله أن أميرنا (تركي) كان يتميز بالحلم وسعة الصدر بعكس مساعده (عاصمًا) والذي كان يثير النقاش الحار ضد ثوراتي- قلّبت بصري أتصيّد المعتاد في شقتنا فانتهيت إلى وجبة العشاء.. . كانت جميع الشقق متفقة على (المعكرونة) كوجبة رئيسية في وقت العشاء، وأحمد الله تعالى على نعمه لكن النفس تمل، ولا تملك أن تدفع ملل النفس إلا بالتنوع؛ فاقترحت على صحبي أن نغير وجبة العشاء إلى وجبة (الأطباق)، لكن قوبل الاقتراح بالرفض من قبل الجميع، فغضبت قهرًا وذهبت إلى بندة واشتريت أنواعًا طازجة من وجبات الأطباق، كالزيتون، ولانشون الدجاج، واللبنة، والجبن.. ونحوها، وأتيت بها إلى الشقة، وكنت حين يأتي وقت العشاء أضع الأطباق والخبز حول طبق (المعكرونة) لعل الشباب حين يتذوقونها يقتنعون باقتراحي، لكن هذا لم يحدث بل كانوا يثنون علي بسخرية؛ لأنني جلبت هذه الوجبات على حسابي، ويطلبون مني المزيد، فأحسست بالغيظ يتملكني واستسلمت أمامهم؛ فلم أعد طرح الاقتراح مجددا، إلا حينما غادرت الشقة مع صحب آخرين اقتنعوا باقتراحي وعملنا به.. إلى اليوم.
وقلبت بصري أيضا –ولا حول ولا قوة إلا بالله- فاقترحت أن نبدل العامل الذي يطبخ لنا؛ لأنني –برأيي- أنه لا يُؤمن جانبه، ضغطت على (تركي) كثيرًا لكي يطرد ذلك العامل، ولا يوجد سبب محدّد لطلبي هذا؛ إلا أن هذا العامل لم أحبه كثيرًا.. كذا.. مزاج! والأرواح جندٌ مجندة، وقد أثرت بعض الإزعاج لكثرة تكراري هذا الطلب، لكن (تركي) كعادته كان حليمًا معي، أما (عاصمًا) فكان يغتاظ كثيرًا إذا تحدثت عن العامل، ويناقشني بانزعاج عن هذه المسألة، ومعه الحق في ذلك.. إذ أن طلبي المتكرّر بأن يُطرد العامل بلا سبب حقيقي يثير الغيظ حقا، وأظن أن الله –تعالى- قد اقتص لصاحبي (عاصمًا) ولأميرنا (تركي) مني؛ فقد وجدت في السنوات التالية –حين صرت أميرا- من يناقشني دومًا عن كل شيء، وكلما آتي بعامل إلى شقتي؛ أجد من يطالب بطرد العامل.. كذا.. مزاج! فكنت إذا قابلت (عاصمًا) أو (تركي) –نسيت بالضبط- أقول له ما معناه: أن الله قد اقتص لك مني؛ فقد عايشت معاناتكم.
كثيرًا ما يكون الصمت حكمة، وفي عالم الشقق عليك أن تستسلم لما يحب صحبك؛ فتصمت عما تحب، لينطق صديقك بما يحب؛ فتتجاوز بصمتك عناء نقاشات قد تتطور إلى الأسوأ، واعلم يا صاحبي أن الصمت عمّا تحب لأجل صديقك، ليس صمتًا عن حق لك دون غيرك، وليس هدرًا لكرامتك؛ بل هو حكمة أخلاقية، وإيثار جميل من قِبلك، وحق لصاحبك.. عليك.