أيها القارئ الكريم :
ويا أخي المتزن :
سأقف في هذا التعقيب لأورد نبذة أعدكم أن تكون موجزة مفيدة في باب المؤاخذة بحديث النفس
ثم أثني بحديث آخر موجزعن كون الصغيرة تنقلب كبيرة
وفي تعقيب آخر سأثلّث - إن شاء الله - بأسئلة أطرحها على الأخ المتزن لتفقه على حقيقة ضلال الأخ خلف عقله الذي لا نقدح فيه لكننا نقول إنه وظفه دون تحصيل الوسيلة اللازمة وهي العلم المحيط بالمسألة التي يبحثها , ضوابطها وقواعدها ونصوصها بثابتها وضعيفها وناسخها ومنسوخها ... الخ
المسألة الأولى
المؤاخذة بحديث النفس
أنزل الله قوله تعالى :
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }فشقّ ذلك على المؤمنين , ووجدوا في أنفسهم هلعا من هذا وخوفا من غضب الله ورأوا أنهم هلكوا ولن يطيقوا منع أي هاجس من إثم أن يرد على نفوسهم !
شكوا الحال لرسول الرحمة صلى الله عليه وسلم , جاؤوه فجثوا على ركبهم رضي الله عنهم , وذكروا ألا طاقة لهم بذلك , فأمرهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن يسمعوا لربهم ويطيعوا ويقولوا ( سمعنا وأطعنا ) فقالوا ذلك , فأكرمهم الله وأنزل مدحهم بقوله :
{ آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) }وبعد أن ابتلى العليم الخبير إيمانهم وصدقوا الله وسلّموا له , خفف عنهم فأنزل ما ينسخ مطلق تحريم كل حديث نفس .
وبيّن لهم سبحانه أنّ الخواطر التي ترد على النفس جبرا لا يلبث أن ينزع عنها المرء لله فلا مؤاخذة
وأن المؤاخذة إنما هي بما يخفون مما تستمرئ النفس وتتقبّل وتقيم عليه .
أنزل الله قوله :
{ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) }ومعلوم أن ليس بوسع الإنسان دفع الخاطر أن يقع من أوّل وهلته .
ومعلوم أن من وسع الإنسان عدم الإقامة على الهاجس وتصديقه والعمل على تحقيقه .
فالله برحمته لا يؤاخذ بالأول ويؤاخذ بالثاني .
هذا شرع الله ناصع الدليل تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك .
ومن خالف هذا , وزعم ألا مؤاخذة بحديث النفس كلّه , لزمه أن يقول بأن لامؤاخذة بما من أمثلته ما يلي :
التكذيب القلبي بوجود الله .
سوء الظن
كره رسول الله صلى الله عليه وسلم
من تقاتل مع مسلم آخر يريد قتله فقتله صاحبه , فقد ورد أن كليهما في النار , وأن المقتول دخل النار بسبب حديث نفسه بقتل صاحبه , وهذا في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فإن أقر مُعارِضٌ بهذه المؤاخذات ونحوها لزمه أن يقرّ بالمؤاخذة على كل حديث نفس استقرّ وصار عزيمة لا ينزع عنه بل يسعى لحصوله غير مراع ٍربّه بأدنى نظر .
ولعل في هذا جوابا فيه كفاية للسؤال الذي وجهه لي الأخ المتزن عن الحديث الذي يغفر والذي لا يغفر في تعقيب ( 216 )
والله أعلم .
المسألة الثانية :
مغفرة الصغائر , وتحوّل الصغائر كبائر مع الإصرار
بشّرنا الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعمال يغفر الله بها الذنوب , منها :
قـوله صلى الله عليه وسلم :
( من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه )
وقوله صلى الله عليه وسلم :
(الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر )
وقوله صلى الله عليه وسلم :
(ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارات لما بينها )
وقوله صلى الله عليه وسلم :
(من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثم خرج حتى يأتى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع ثم أنصت إذا خرج الإمام فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأخرى )
وهذه المغفرة مشروطة وفق نصوص الشرع الحنيف وكما قرّره المحققون من العلماء بشروط هي :
1- أن المغفرة وفق مشيئة الله لا لزاما عليه فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا معقب لحكمه سبحانه , يقضي بالحق لا يظلم مثقال ذرة .
2- اجتناب الكبائر , فبجمع النصوص إلى بعضها يتبيّن هذا الشرط
3- عدم الإصرار , بل استشعار المذنب مقام الله خوفا ورجاء يخاف عقابه ويرجو مغفرته , لا يقيم عليها غير مبال بربّه .
لحديث ( لا صغيرة مع الإصرار ) .
ولِما قرره العلماء المستقرئين نصوص الشريعة بدراية في كل أحوالها ومقاصدها .
ولما يجد كل عاقل من أن من يعمل معصية يقيم عليها مصرا غير مبال بعظمة الله ولا مستحييا منه ولا راجيا لتجاوزه , ثم يغدوا بعدها لاهيا مسرورا لا يقيم لله في معصيته تلك وزنا , وإن كررها كررها على حال نفسه المصرّة ! فهذا الشخص مؤاخذ بها لا يرجى غفرانها بالمكفرات , بل إنها صارت كبيرة لما اقترن بها من تهاون بها وبجنب الله العلي الكبير .
وهو ما قرره كل العلماء الذين بحثوا المسألة وأطبقوا عليه
ومن عارض فلا حجة معه , وقد يكون خفي عليه الدليل كما يظهر من كلام الشوكاني رحمه الله تعالى .