فأرسل لي:
أهلاً بك أخي الفاضلَ ملكَ الصقورِ [ والطيورِ عامّةً ] مرةً ثانيةً :
1- نعم ؛ المدارسٌ الأدبيةُ ناشئةٌ عن معتقداتٍ ومذاهبَ فلسفيةٍ للوجودِ – كما بينتَ - .
2- أنا أميلُ إلى المدرسةِ الواقعيةِ في ما أكتبُ من شعرٍ ، وأرى أن يكونَ الشعرُ صورةً لنفسِ المرءِ ومجتمعِه ، وألا ينفكَّ عن ذلكَ . فلذلك لا أكتبُ – ولا سيّما في السنينَ الأخيرةِ – إلا ما توحي بهِ إليَّ عاطفتي ، وما ينبجِس به قلبي ؛ ولذلك تجدُ أكثرَ شعري في الذكرى ، والإخوانياتِ ، والوجدانياتِ . ولعلي من بعدُ أنشرُ بعضَ القصائدِ في ذلكَ ، كقصيدةٍ منها :
فاذكرْ خليلَك يا أبا سهلِ ** وأعِد إليهِ بشاشةَ البذلِ
واذكرْ لنا – إن كنتَ تذكرُه - ** يومًا بخيبرَ ، قريةِ النخلِ
أيامَ مركبُنا على ( هدَدٍ ) ** ينسابُ من جبلٍ إلى سهلِ
سهلِ الخليقةِ ، ثابتٍ ، أُجُدٍ ** صُلبِ الصفائحِ ، مؤنقِ الشكلِ
ومن ذلك ما بعثتُ بهِ إلى صديقٍ لي انقطعَ عني [ كنيتُ عن اسمِه هنا بـ ( فعللٍ ) ؛ وإلا فهو مذكورٌ باسمِه ] :
ألوكةَ ( جوّالي ) سألتُكِ ، بلّغي ** أبا ( فعللٍ ) أني مقيمٍ على جمرِ
وقولي له إمّا وقعتِ بكفِّه ** سلمتِ ، وقومي قبِّليها إلى عشرِ
وقولي له إمّا بصُرتِ بوجهِه ** سلامٌ على الوجهِ المضمّخِ بالطهرِ
لكَ الله من وجهٍ حييتُ بنورِه ** زمانًا ، فصرتُ الآنَ كالميتِ في القبرِ !
3- من عللِ حبي الشعرَ القديمَ صدقُه ، وأن كلامَهم بالعربيةِ فيهِ عن طبعٍ راسخٍ ؛ ألا ترى الرجلَ منهم يصفُ دابتَه وصفًا دقيقًا كما في معلقةِ طرفةَ عنترةَ وغيرِهما في مقدمات القصائدِ ، ويصفُ زوجَه وأبناءَه ، وطريقَ سفرِه ، ويصفُ نوائبَ دهرِه ، وفقرَه ، وضنكَ عيشِه وغيرَ ذلك ؛ انظر ما يقولُ أسماء بن خارجة الفَزاريُّ في الطريقِ – أفرأيتَ معاصرًا يتكلمُ في مثل هذا ؟! - :
بل ربّ خَرقٍ لا أنيسَ به ** نابي الصوى ، متماحلٍ ، سهبِ
ينسى الدليلُ به هدايتَه ** من هولِ ما يلقى من الرّعبِ
ويكادُ يهلِك في تنائفِه ** شأوُ الفريغِ ، وعَقْبُ ذي عَقْبِ
وبه الصدى والعزْفُ تحسِبُه ** صدحَ القيانِ عزفنَ للشَّربِ
كابدتّه بالليلِ أعسِفُه ** في ظلمةٍ بسواهمٍ حُدْبِ
أما العصورُ المتأخرة ، وخاصةً الحديثةَ ، فقلّ أن تجدَ فيها ذلك ، لأنهم يفصلون بين الشعرِ والحياةِ ، أو يركبونَ به مركبًا ناشئًا عن فلسفةٍ رأوها ، وليس عن سليقةٍ ، ولا طبعٍ .
4- نصحتَ لي أن أُعنى بالنقدِ ، وأن أقللّ من انكبابي على علومِ العربيةِ ، وأنا أرى خلافَ ذلك ؛ قالَ الفراءُ : ( قلَّ رجلٌ أنعمَ النظرَ في بابٍ من العلمِ ، فأراد غيرَه إلا سهُلَ عليهِ ) [ إنباه الرواة ] ، وقالَ أرسطاطاليسُ : ( كما أنه ليس من المروءةِ أن تقتصرَ من الأموالِ والعُقَدِ على ما فيهِ الحاجةُ فكذلك العلومُ ) [ منثور الآداب ] . وأنا أرى ذلك من نفسي ؛ فإني بعد إذ أطلتُ النظرَ في أصولِ النحو والصرفِ وعللِهما سهُل عليَّ كلُّ علمٍ من بعدهما ؛ إذ تلك العلومُ مدارها العقلُ ، وأصولُ عللِها تكاد تكونُ واحدةً ؛ بل إني أرى لك ما رأيتُ لنفسي . ولذلك لما نظرتُ في النقدِ وعيتُه أولَ قراءةٍ . أما المبتدئ في النقدِ والفكرِ والكلامِ غيرِ المقعَّدِ ، فإنه إذا أراد التحول منها إلى العلومِ المقعّدةِ كالنحو والصرف صعُبا عليهِ وعسُرا . وقد حدثني بعضُ أهلِ العلمِ أنه لما قضَى دراسةَ الجامعةِ ، وأراد التخصص ، تحير ؛ أيختارُ النحو والصرف ، أم يختار الأدبَ والنقدَ ؛ فأشارَ عليهِ بعضُهم أن يتخصص في النحو والصرف ، لأنه إذا حذِقهما وأحاطَ بهما علمًا ، سهُل عليه الأدبُ والنقدُ من بعدُ ، فنالَ العلمينِ . أما إذا تخصص في الأدبِ فإنه لا يستطيعُ إلى البصرِ بالنحو والصرفِ سبيلاً . فعملَ بهذه المشورةِ ، وهو يحمدُها الآنَ .
5- هؤلاءِ الغربُ لما ثاروا ثورتَهم تلك على الدينِ والتقاليدِ ، وهُيّئ لهم ما هُيئَ من النهضةِ العظيمةِ في العلومِ التجريبيةِ ، خُيِّلَ إليهم أنه قادرونَ على كلِّ شيءٍ ، وأن السبيلَ القويمَ إلى التقدّمِ هو التمردُ على كلّ مألوفٍ ، ونقضُ كلِّ مبرَمٍ ، فأتَوا بالمضحكاتِ ، وجاءوا بالعجائبِ التي تصادمُ الفطرَ الصحيحةَ ، والعقولَ السليمةَ . ولا ينكرُ أحدٌ أن مذاهبَهم تلك صادرةٌ عن تصوراتٍ فلسفيةٍ ، أو عقائدَ دينيةٍ ، أو مذاهبِ فكريةٍ ؛ فمنهم الملحد ، ومنهم اليهوديّ ، ومنهم غيرُ ذلك . وأنت إذا نظرتَ في مذاهبِهم رأيتَ فيها التناقضَ الظاهرَ ؛ فالتفكيكيةُ ضدّ البِنيويةِ ، والشيوعية ضد الرأسِمالية . وكذلك عامة مذاهبِهم ؛ فأيّ علةٍ جعلتهم بهذا التناقضِ ، وأينَ التوسّطُ في ذلك ؟ إنما بعثهم على هذا التناقضِ رغبتهم في التجديدِ وحسبُ ؛ فهم يريدونَ أن يأتوا بجديدٍ ؛ ولو كانَ عامةُ الناسِ فضلاً عن خاصتهم يعلمونَ أنه غيرُ معقولٍ ، ولا موافقٍ لطبائعِ الأشياءِ . ومما يبيّن لك طرفًا من ضلالِ مسالكِهم أن كثيرًا منهم ينهونَ عما هم واقعونَ فيهِ كصاحبِ كتابِ ( دع القلقَ ، وابدأ الحياةَ ) دايل كارنيجي ؛ إذ ماتَ منتحرًا ؛ فأين ( دعِ القلقَ ) . وقد رأيتُ كتابًا في العلماء الذي ماتوا بالانتحار . وكذلك نيتشه الذي جُنَّ في آخرِ حياته ، والذي كانَ ألفَ كتابًا في ( موتِ الإلهِ ) كبُرت كلمةً من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا . والمحزنُ أن بعضَ بني جلدتنا اتبعوه في ذلك ، كما ترى في شعرِ نزارٍ ، وكتابِ أدونيس ( الثابت والمتحول ) .
6- وهبنا سلمنا لهم بذلك ، فكيفَ لعمري نُسلّم لهم أن يخوضوا في البلاغةِ ، ويتكلموا فيها ، ونحنُ أحقُّ بها وأهلُها . وعلامَ نغمطَ أنفسنا حقّها ، ونحقّر من عقولنا ، ونظلّ عالةً على ما تجودُ بهم عقولُهم ، وما يتفضلون بهِ علينا ؟!
وقد حدثني مَن أثقُ بهِ أنه درسَ معه رجلٌ أفريقيٌ كان يعرف الإنكليزيةَ والفرنسيةَ ، فتعلَّم العربيةَ ، ومرةً رأى لوحةً مكتوبًا عليها كلامٌ بالعربيةِ ، فقالَ : هذا الكلامُ ليسَ بليغًا ، وفيهِ طولٌ ، وتَرجمتُه بالإنكليزيةِ أبلغُ ، فنازعَه محدّثي في ذلك ، وبيّن له خطأ رأيِه ، فأصرّ عليه ، فقالَ محدّثي : ستعلمُ إذا ازددتَ بالعربيةِ علمًا أنك كنتَ مخطئًا . ثم إن هذا الرجلَ الأفريقيَّ سافرَ إلى دولةٍ غربيةٍ ، وأخذ الماجستيرَ فيها والدكتوراه ، ومهرَ في الإنكليزيةِ ؛ فلما رجعَ ذكّره محدّثي بهذا الموقفِ ، فقالَ : نعم ؛ لقد كنتُ مخطئًا ؛ فالعربيةُ ليس في الكونِ لغةٌ تضارعُها .
7- ما تراه غريبًا من ألفاظِ الشعرِ الجاهليّ ليس غريبًا عند الجاهليين ، وإنما استغربتَه أنتَ لدروسِ تلك الألفاظِ ، وزوالِها من كلامِ الناسِ . ولستُ أريدُ بتفضيلِ الشعر الجاهلي ردّ ذلك إلى ألفاظِه ؛ إنما أريدُ أسلوبَه ، ومتانةَ نظمِه ، وصدقَه .
8- أنتظرُ ورودَ رسالتِك في ( نزارٍ ) ؛ وها أنت ذا قد قاربتَ بلوغِ الخمسينَ مشاركةً ، مع بالغِ شكري ووُدّي لك .
أبوس
__________________
إلى صدام: يحويك ذكر من الآفاق قاطبة...واليوم يحويك قبر ماله سمر قد كنت تأكل أنسا ماتفارقه...واليوم تأكل منك الدود والحفر صدام ياضجة الأرجاء يارجلا...هز البرايا بسفك بات يستعر من يفعل الشر لايعدم جوازيه...تلك البذور وهذا الجني والثمر شعر: العائد الأول
|