البقية
[c]
خامساً: الإغراء بإتلاف الأموال عدواناً:
يـتـعـمـد بـعـض المـؤمـن لهم إتلاف ماله المؤمن عليه بحــريق، أو غيره ليحصل على مبلغ التأمين، وخاصة إذا كانت البضاعة المؤمن عليها كاســـدة في الأسـواق، أو فات وقتها، أو اكتشف فيها عيباً. وقد لا يتلفها فعلاً، ولكنه يصرِّفها، ويصطنع تلفها بحريق أو نحوه بما يوافق شروط استحقاق مبلغ التأمين، ويتم ذلك بإغراء الاستفادة من مبلغ التأمين، وخاصة إذا كان الشخص قـد دفـع مـبـالغ كبيرة لشركة التأمين دون أن يستفـيد منها شيئاً، فيقدم على هذا العدوان بدافع التشفي. وهذه الحوادث مشهورة ومنتشرة في بـلاد التأمين أجمع، وهـي أشد ما تخشاه شركات الـتـأمـيـن، وتشدد في التحقيق منه عند وقـوع الحادث ومثل هذا التصرف خسارة على اقتصاد الأمة، وعدوان بغير حق، وهي إحدى سلبيات التأمين.
سادساً: تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس:
عـرف الإنـسـان مـنــذ قديم الزمان أن تكدس الأموال وتجمعها في أيدي قلة من الناس أمر خطير ينتج عنه كـثـيـر مــن الشرور والتسلطات والآثار السيئة، ويعبَّر عن ذلك في العصور المـتأخرة بنظام الطبقات في المـجـتـمـع. وقـد أجـمع علماء الإصلاح الاجتماعي على أنه لا شــيء أســـوأ على الأمم من انقسام مجتمعها إلى طـبـقـات الأغنياء والفقراء. وأن من الآثار الـسـيـئـة لـتـكـــدس الأمــوال في أيدي قلة من الناس تسلطهم وتحكمهم في مصير الكثرة، وتسخيرهم لخدمتهم بغير حق، وتوجيه أمور الأمة في جميع جوانبها وفقاً لمصالحهم. وقد نهى الإسلام عن تـكـدس المــال فـي أيدي فئة قليلة تفسد في الأرض وتتعالى على الناس؛ والتأمين بجميع أنواعه هو الركن الركين لمثل هذا التكدس المشين.
سابعاً: التسبب في كثير من الجرائم:
بسبب إغــراء المال والطمــع في الحصــول علـى مبالغ التأمين يُقْدِمُ عــدد مـن المؤمن لهم بهذه المبالغ، أو المستحقين لها بعد أصحابها على ارتكاب جرائم شنيعة مروعة من القتل والبتر والتصرفات المنكرة النابية عن أدنى شعور بالرحمة والشفقة واعتبار الآخرين: فهذا يفجر الطائرة بمن فيها في الجو، لـيـقـتل أمه لكي يحصل على تأمينها، وهذا يخنق أباه، وهذا يغرق الباخرة بمن فيها ليحصل عـلـى الـتـأميـن الكبير لبضاعته، وهذه تسقي زوجها السم ثم ولدها لتستأثر بمبلغ التأمين؛ وهذا يقتل زوجــتـه للـغــرض نفسه، وهكذا سلاسل الجرائم المنكرة التي لا يعرفها عصر غير عصر التأمين.
هـــذا وإن جرائم التأمين من أفظع الجرائم التي عرفتها البشرية وأشدها وحشية منذ فجر الـتـــاريخ؛ ذلك أن هذه الجرائم تستهدف أكثر ما تستهدف الأقرباء؛ فقد أخرج الباحث (شيفر ماكس) بحثاً علمياً دقيقاً رتب فيه جرائم التأمين حسب ما رصدته ملفات مخابرات الشرطة الدولية ودراساتها، ودفاتر الضبط في محاكم العالم فوجد أنه يأتي في المرتبة الأولى من جــــرائم القتل بسبب إغراء التأمين قتل الزوجة لزوجها، ويأتي في المرتبة الثانية قتل الزوج لزوجته، وفي المرتبة الثالثة يأتي قتل سائر الأقرباء مـن أم وأب وغيرهم، وفي المرتبة الرابعة قتل الأولاد مـن قِبَل والديهم، ولا يأتي قتل الأجـانب إلا في المرتبة الخامسة. وإنه لمنتهى العجب أن يكون التأمين ـ الذي يقصد به اتقاء الأخطار ورفعها ـ أعظم سبب لأفظع الأخطار وأشنعها!
وليس أدل على ذلك من أن (جاك جراهام) وهو أحد مجرمي التأمين وضع في طرد الهدايا الذي حملته أمه معها في الطائرة لـغـمــاً هائلاً مزق أمه أشلاءاً، ودمر الطائرة بمن فيها في الجو. وأن (ألفريدي تلتمان) قتلت زوجــهــــا بالسم، ثم ابنها تخلصاً منهما لتنفرد بمبلغ التأمين من بعدهما. وأن (جوفياني فينا رولي) قتل زوجته بالخدعة شر قتلة. وأن (جوليان هرفي) قتل بالرصاص جميع من كان على ظهر إحدى البواخر بمن فيهم زوجته، ثم أغرق الباخرة لكي يحصل على تأمين زوجته الضـخــم. قصص وقصص تكاد ألاَّ يصدقها العقل. هذه حقيقة التأمين.
ثامناً: إبطال حقوق الآخرين:
تستخدم شركات التأمين أعداداً كبيرة من أشهر المحامين في العالم ليتولوا الدفاع بالحق أو الباطل لإبطال حجج خـصـومـهـــا من المؤمَّن لهم، وهي لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تـسـتـمـيل بـالمـال الأطـبــاء المقرريــن، وقضاة المحاكم القانونيين وكل من له أثر في تقرير الحوادث. إنها تفعل ذلك لإيـجـــاد أي ثغرة تخرج معها من المسؤولية، فتتحلل من دفع مبالغ التأمين المستحقة بوقوع الحادث المؤمن ضده. وما أيسر إيجاد الثغرات، وخاصة مع شروطها المعقدة الخفية التي يصعب الإلمام بها على كثير من الناس، فضلاً عن الإتيان بها على الوجه المطلوب.
تاسعا: إفساد الذمم:
من شروط شركات التأمين شرط يقول: «إنه لا يحـق للـمــؤمن له الذي يقع له الحادث مع غيره أن يعترف بخطئه للآخر مهما كان الخطأ، وإلا فــإن الـشـركــة بريئة من التزاماتها بدفع أي مستحقات تترتب على الحادث. ليس هذا فقط بل عليه أن ينكر خطأه، ولو أمام المحكمة، وحتى لو كان خطؤه لا يحتمل الإنكار.
وبهذا الـشـرط يدفع نظام التأمين المتعاملين معه إلى الكذب وإفساد الذمم، ويــمـلأ المحاكم بالقضايا التي تشغلها الدهـر، ولا تنتهي إلا إلى حلول مجحفة تحصل بها شركات التأمين على أموال المؤمن لهم بالباطل دون أن تدفع لهم ما يقابلها من تعويضات عندالأحداث»(1).
عاشراً: ضياع المحافظة الفردية على الممتلكات:
يـتـسـبب التأمـين في وقوع كثير من الإهمال لدى المؤمن لهم الذين لا يعتنون ولا يحافظون على أمـوالـهـم وممتلكاتهم كمحافظتهم على أموالهم غير المؤمن عليها، بل قد يصل الأمر بهم إلى حد الرغبة في تلف بعض الأعيان المؤمن عليها طمعاً في مبلغ تأمينها الذي قد يفوق قيمتها. وإن عـدم العناية وترك المحافظة على الممتلكات والأموال ضد الأخطار من أفـراد المجتمع خسارة عظيمة على الأمة؛ لأن قوة المحافظة الفردية لا تعوضها أي قوة محافظة أخرى مهما بلغت. والخسارة الناتجة عن الإهمال لا تضر بالفرد وحده، ولا بالجـمـاعـة، ولا بالشركة المعوضة وحدها، وإنما يمتد ضررها ليشمل أبعد من ذلك؛ حيث يضر بـكامل اقتصاد الأمة؛ لأن اقتصاد الأمة هو مجموع اقتصاد أفرادها. وعليه، فعدم المبالاة وتـــرك الحراسة الفردية المشددة على الأموال والممتلكات بسبب التأمين إهدار لأعظم أسباب الأمن والـسـلامــــة، وإغراء بارتكاب الجرائم والنهب والاختلاس، وتعطيل لغريزة الوقاية التي خلقها الله في الإنسان.
الحادي عشر: تخويف الناس والتغرير بهم:
إذا كـان الـسـبـب والأصـل الـذي دفـع الناس إلى الأخذ بالتأمين هو الخوف من المستقبل المجهول، وعدم ثقتهم في مواجهة الأحـداث بأنـفـسـهم؛ فإن شركات التأمين قد استغلت هــذا الـدافــع أســوأ اسـتـغلال، فجسمت أمامهم المخاطر، وعظَّمت في أعينهم الأحداث، وحفَّت الحياة بألوان من المـفـاجــآت والتوقعات غير السارة، وربت الناس على عدم قدرة الفرد أو الجماعة على مواجهة هذا المستقبل المكفهر بأنفسهم، بل إن الأمر قد بلغ بها أن أخافت الدول نفسها، وزينت لها وللناس اللجوء إلى شركات التأمين التي جعلتها أمامهم هي وحدها القادرة على مواجهة هذه الأمور العظام، وعلى التصدي لتجنيب الناس أضرار الكوارث ومساوئ الأحداث؛ فهي وإن كانت تسمى شركات التأمين إلا أنها تخيف الناس وترعبهم وتدمــــر ثقتهم بأنفسهم أولاً، ثم تدعوهم ثانياً إلى تأمين أنفسهم ضد ما أخافتهم منه؛ وهذا هو الـمـرتكز والمبدأ الأول في سياستها الدعائية، وهو مبدأ تغرير وخداع لا يقره دين، ولا عقل ولا خلق (كرشنر، هنز ملر، كابل).
الثاني عشر: سلب الناس القدرة على مواجهة الحياة:
يـؤدي ارتـمـاء الناس في أحضان التأمين، وهروبهم من تحمل مسؤوليات الحياة إلى سلبهم القدرة على مجـابـهة أدنى المخاطر وتحمل أقل المفاجآت، والحياة كلها مسؤوليات وكلها مفاجآت. ومن الــذي يستطيع أن يؤمن نفسه ضد جميع أخطارها وتقلباتها؟ ثم ما هو طعم الحياة وأين لذتها لمـن لا يـصـادمها ويكابدها، ويخوض غمارها بنفسه؟ وأين إشباع غريزة حب التغلب والانـتـصــــار التي خلقها الله في الإنسان؟ ولكن ليس الأمر مجرد حرمان من إشباع الغرائز وتحقيق الملذات، وإنما هو الخطر من فقدان تحمل الحياة أصلاً؛ وخاصة في هذا العصر الذي تمدين أهله وتعقدت حياتهم، وطغى الشر فيه على الخير.
الثالث عشر: ضياع الروابط وتفكك المجتمع:
يحتاج الإنسان في حياته إلى الآخرين، وخاصة إلى أقاربه وذويه. وتشتد هذه الحاجة كلما حـل الـعـوز، أو وقعت كـارثة، أو خوف. لذا فقد ساد الناس منذ العصور الأولى الالتفاف والائتلاف، وقـام بـيـنـهـم التعاون والتناصر وإغاثة المعوزين والمحتاجين، وتكونت بذلك الروابط الأسرية، وتكافل المجـتـمـع، وقامت الألفة والمحبة بين الجميع، فكانت الأسرة التي هي وحدة العائلة ونواة المجـتـمع قوية متماسكة لا تهتز، وكذلك المجتمع. ولما حل الخراب بالأسر وبدأ التفكك في المجتمع جاؤوا بالتأمين ليحل محل الأسرة ويعوض الناس عما فقدوه، ويغني الفرد ـ بزعمـهـم ـ عن الآخرين، ولجؤوا إليه في كل أمر كانوا يرجونه من الأسرة، فضاعت بذلك الأسـرة، وتهدم بناء المجتمع، ولم يعوض التأمين الناس عـمـا فقدوه، وإنما زاد الطين بلة، فقطع ما تبقى من روابط، وباعد بين الناس وأسرهم، فـوقـف كل فرد وحيداً بعيداً منقطعاً، لا مغيث له ولا معين(1).
موازنة بين الإيجابيات والسلبيات من واقع الحياة:
بـالمـوازنــة بيـن السلـبـيات والإيجابيات في جوانب ثلاثة هامة، وهي: الجانب الديني، والاجتماعي، والاقتصادي يتبين لنا الفرق الهائل بين خير التأمين وشره:
أ - الجانب الديني:
لم أرَ من أهل العلم من قال: إن للتأمين إيجابيات في الدِّين. وأما سلبياته في هــذا الجانب فقد قال أهل العلم المعتد بقولهم في بلاد المسلمين: إن التأمين محرم بجميع أنواعه؛ وذلك لأنه لا يقوم إلا على الربا، والقمار، والغرر، وغير ذلك، كما هو موضح في موضعه. وإذا لم تكن للتأمين إيجابيات في الدين، وقد قال أهل العلم بتحريمه، فلا مجال للموازنة بين الإيجابيات والسلبيات في هذا الجانب.
ب - الجانب الاجتماعي:
إن كان بعض أصحاب التأمين يعدون من إيجابياته تحقـيق الأمن والاطمئنان في المجتمع، كــمــا ســبــق ذكــره؛ فلو سلمنا لهم بذلك فرضاً فإن تسلُّط فئة قليلة من أثرياء التأمين في الـمـجـتـمـع وتحكُّمهم، وانتشار الجرائم بالتأمين، وإفساد ذمم الناس، وأكل أموال الناس بـالـبـاطــل، وإشــاعــة الخــوف مـن المستقبل، وسلب الناس القدرة على مواجهة الحياة بأنفسهم، وقتل الروابط الأسرية، وتفكُّك المجتمع بالـتـعــاملات التأمينية تقضي على هذه الدعوى غير المحققة.
ج - الجانب الاقتصادي:
يقولون: إن من إيجابيات التأمين أنه يساعد على تكوين رؤوس الأموال، والمحافظة على عناصر الإنتاج، والتحكم في التوازن الاقتصادي، ويعدون من سلبياته أنه خسارة اقتصادية وقعت في شعوب العصور المتأخرة، وإنهاك للاقتصاد الـوطــنـي بـنـزيـف ثروات البلاد إلى الخارج، ويحول دون قيام الصناعات الخاصة والمشاريع، وهــو مغرٍ بــإتــلاف الأمــــوال عدواناً، وتكديس لأموال الفقراء بأيدي قلة من الأغنياء، وضــيــاع للمحافظة الفردية على الممتلكات. وبهذا يتبين طغيان السلبيات على الإيجابيات، وتهافت دعوى المحافظة على عناصر الإنتاج وهي جوانب اسمها وسمعتها أكبر من حقيقتها، ويمكن أن يسـتـعاض عنها بالتأمين الذاتي، وهو أن يخصص صاحب المشروع أو نحوه مبلغاً من المال، وهــو ما يسمى احتياطي الحوادث، ويستثمر هذا الاحتياطي، وقد عُمِلَ بهذا في بعض المصانع الأمريكية والأوروبية فنجحوا نجاحاً كبيراً، ووفروا أموالاً طائلة كانت تذهب عليهم هباء في صناديق التأمين.
وفي ختام هذا المقال أسجل هذا الاستطلاع في الرأي العام الذي قمت به في مصر، وألمانيا، وأوروبا، وأمريكا، وكانت نتيجته ما يلي:
55% تقريباً ـ بعد التوعية والتثقيف لبعض الفئات منهم ـ يقولون: إن شـــر التأمين يغلب خيره.
و25% يقـولـون: إنـه شر لا خيـر فيــه.
و15% يقولون: إن خيره يساوي شره.
و5% فقط هم الذين يُغَلِّبون خيره على شره.
--------------------------------------------------------------------------------
الهوامش:
(1) يـنـشـر هــــذا المقال في الوقت نفسه في مجلة (الجمعة) باللغة الإنجليزية الصادرة عن المنتدى الإسلامي.
(2) عضو هيئة الـتـدريـس فـي فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم، وهو أستاذ متخصص في التأمين.
مع تحيات أخوكم : الجنرال
[/c]
آخر من قام بالتعديل الجنرال; بتاريخ 29-10-2002 الساعة 02:43 AM.
|