السلام عليكم
الدُره الخامسة عشر
من المواعظ والحكم
يا أيها الأعزل احذر فراسة المتقى, فانه يرى عورة عملك من وراء ستر "اتقوا فراسة المؤمن" أخرجه الترمذي في التفسير 5\278(3127).
سبحان الله:
في النفس كبر ابليس, وحسد قابيل, وعتو عاد, وطغيان ثمود, وجرأة نمرود, واستطالة فرعون, وبغى قارون, وقحّة هامان (أي لؤم), وهوى بلعام (عرّاف أرسله ملك ليلعن بني اسرائيل فبارك ولم يلعن), وحيل أصحاب السبت, وتمرّد الوليد, وجهل أبي جهل.
وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب, وشره الكلب, ورعونة الطاووس, ودناءة الجعل, وعقوق الضب, وحقد الجمل, ووثوب الفهد, وصولة الأسد, وفسق الفأرة, وخبث الحية, وعبث القرد, وجمع النملة, ومكر الثعلب, وخفة الفراش, ونوم الضبع.
غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك. فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند, ولا تصلح سلعته لعقد: {ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم} التوبة 111, فما اشترى الا سلعة هذبها الايمان, فخرجت من طبعها الى بلد سكانه التائبون العابدون.
سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري, قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها, فسلمها لك والأمان من الرد.
قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها, والثمن المبذول فيها, والمنادي عليها, فاذا كان المشترى عظيما, والثمن خطيرا, والمنادي جليلا, كانت السلعة نفيسة.
يا من هو من أرباب الخبرة, هل عرفت قيمة نفسك؟ انما خلقت الأكوان كلها لك.
يا من غذى بلبان البر, وقلب بأيدي الألطاف, كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة, وصورة وأنت المعنى, وصدف وأنت الدر, ومخيض وأنت الزبد.
منشور اختيارنا لك واضح الخط, ولكن استخراجك ضعيف.
متى رمت طلبي فاطلبني عندك, اطلبني منك تجدني قريبا, ولا تطلبني من غيرك فأنا أقرب اليك منه.
لو عرفت قدر نفسك عندنا ما أهنتها بالمعاصي, انما أبعدنا ابليس اذ لم يسجد لك, وأنت في صلب أبيك, فواعجبا كيف صالحته وتركتنا! لو كان في قلبك محبة لبان أثرها على جسدك.
ولما ادعيت الحب قالت كذبتني ألست أرى الأعضاء منك كواسيا
لو تغذى القلب بالمحبة لذهبت عنه بطنة الشهوات.
ولو كنت عذري الصبابة لم تكن بطينا وأنساك الهوى كثرة الأكل
لو صحّت محبتك لاستوحشت ممن لا يذكرك بالحبيب. واعجبا لمن يدعي المحبة, ويحتاج الى من يذكره بمحبوبه, فلا يذكره الا بمذكر. أقل ما في المحبة أنها لا تنسيك تذكر المحبوب.
ذكرتك لا أني نسيتك ساعة وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
اذا سافر المحب للقاء محبوبه, ركبت جنوده معه, فكان الحب في مقدمة العسكر, والرجاء يحدو بالمطى, والشوق يسوقها, والخوف يجمعها على الطريق, فاذا شارف قدوم بلد الوصل, خرجت تقادم الحبيب باللقاء.
فداو سقما بجسم أنت متلفه وأبرد غراما بقلب أنت مضرمه
ولا تكلني على بعد الديار الى صبري الضعيف فصبري أنت تعلمه
تلق قلبي فقد أرسلته عجلا الى لقائك والأشواق تقدمه
فاذا دخل على الحبيب أفيضت عليه الخلع من كل ناحية, ليمتحن أيسكن اليها فتكون حظه, أم يكون التفاته الى من ألبسه اياها.
ملأوا مراكب القلوب متاعا لا تنفق الا على الملك, فلما هبت رياح السحر أقلعت تلك المراكب, فما طلع الفجر الا وهي بالميناء.
قطعوا بادية الهوى بأقدام الجد, فما كان الا القليل حتى قدموا من السفر, فأعقبهم الراحة في طريق التلقي, فدخلوا بلد الوصل وقد حازوا ربح الأبد.
فرّغ القوم قلوبهم من الشواغل فضربت فيها سرادقات المحبة, فأقاموا العيون تحرس تارّة وترش أخرى.
سرداق المحبة لا يضرب الا في قاع نزه فارغ.
نزّه فؤادك من سوانا وألقنا فجنابنا حل لكل منزّه
والصبر طلسم لكنز وصالنا من حل ذا الطلسم, فاز بكنزه
اعرف قدر ما ضاع منك وابك بكاء من يدري مقدار الفائت.
لو تخيلت قرب الأحباب لأقمت المأتم على بعدك.
لو استنشقت ريح الأسحار لأفاق منك قلبك المخمور.
من استطال الطريق ضعف مشيه.
وما أنت بالمشتاق, ان قلت بيننا طوال الليالي, أو بعيد المفاوز
أما علمت أن الصادق: اذا هم ألقى بين عينيه عزمه.
اذا نزل آب في القلب حل آذار في العين.
هان سهر الحرّاس لما علموا أن أصواتهم بسمع الملك.
من لاح له حال الآخرة هان عليه فراق الدنيا. اذا لاح للباشق الصيد نسي مألوف الكف.
يا أقدام الصبر احملي بقي القليل. تذكر حلاوة الوصال يهن عليك مر المجاهدة.
قد علمت أين المنزل فاحد لها تسر. أعلى الهمم همة من استعد صاحبها للقاء الحبيب, وقدم القادم بين يدي الملتقى, فاستبشر بالرضا عند قدوم:{ وقدموا لأنفسكم}. الجنة ترضى منك بأداء الفرائض, والنار تندفع عنك بترك المعاصي, والمحبة لا تقنع منك الا ببذل الروح.
لله!! ما أحلى زمان تسعى فيه أقدام الطاعة على أرض الاشتياق.
لما سلم القوم النفوس الى رائض الشرع, علمها الوفاق على خلاف الطبع فاستقامت مع الطاعة, كيف دارت معها.
واني اذا اصطكت رقاب مطيهم وثوب حاد بالرفاق عجول
أخالف بين الراحتين على الحشا وأنظر أني ملثم فأميل