حياك أخي رجل الثلج ..
وشكراً لإهتمامك .. وعذري عن الإنقطاع ..
فعلاًالروابط لا تعمل .. أعتقد هنالك خلل في تقبل الرابط .. على كل هذا نص المقالة :
___
التلازم بين التقنية وثقافتها (1/2)
محمد بن حامد الأحمري 14/11/1423
28/01/2002
طلب مدير شركة (إتش بي ) لصناعة (الكمبيوتر) أن يزور الجامعة القريبة منه، في لقاء عمل متواضع دون ضجة ولا ديكور ولا افتعال رسمي، وطلب أن يقابل عدداً من المدرسين والطلاب الأذكياء على غداء وبحضور بضعة عشر تلميذاً ، وعلى الغداء قال مدير الشركة: إني أحب أن أسمع منكم مشاركة هامة لمستقبل الشركة ويتلخص في الجواب على سؤال واحد:
ما هو (الكمبيوتر) الذي تريدونه ؟ وما الذي تحبون أن يقوم به هذا الجهاز لكم؟ انهالت عليه الاقتراحات كالسيل، فكان منها أن قال أحدهم : إنه يود أن يتحدث مع الجهاز فينفذ مايريد دون أن يلمسه، وطلب أحدهم أن يقوم بالترجمة والآخر طلب نقل الصور ، كل ذلك كان قبل عشرين عاماً خيالاً مضحكاً، ولكن مدير الشركة قال في نهاية الجلسة إننا نجمع هذه الاقتراحات، ونطلب من أساتذة الجامعات دراسة إمكانية تنفيذها، ونزود الأقسام العاملة بالمال والمساعدة كما نفعل مع جامعتكم هذه، وما وصلنا له اليوم مدين للقاءات سابقة كهذا اللقاء البسيط الذي يتلوه عرق كثير، والغريب أن الحاضرين كانوا يؤمنون بأن الشركة سوف تصنع في يوم ما -قد يكون قريباً- جهازاً بهذه المواصفات.
إن الجامعة في تقدير مدير شركة (إتش بي) مكان للتفكير وللاختراع ورسم المستقبل تقنياً وتجارياً وسياسياً، وهذا هو الوضع الصحيح للجامعة لدى الأمم القوية تناقش وتمتحن وترجح بين معلومات وآراء واحتمالات . أم الميادين السياسية والإنسانية ففيها حيوية أعجب، وما حلقات البحث المستقبلي السياسي والثقافي كما في "حلقات هارفرد السياسية" التي من أبرز شخصياتها الزميلان (كيسنجر) و(هتنجتون). بأقل من الميادين التطبيقية ، وكلها تطبيقية.
بينما تكرر في العالم الثالث قطعيات ومسلمات سواء أكانت علمية أم غيرها !!
إن صناعة الرأي والمشاورة في نمطيها الاختياري والملزم كلاهما ضروري للبقاء والتقدم "كما في حادثة مدير شركة الكومبيوتر" مبادرة شورية عامة غير ملزمة، وفي داخل الشركة تدار الأمور بطريقة أخرى ملزمة ليربح الأفراد المساهمون وربما غيرهم تبعاً لذلك ، ويخسر مواطنون منافسون أيضاً وتلك التجارة.
إن مناقشات "حلقات هارفرد السياسية" ، ما هي إلا قدح للفكرة وضدها أو قريباً منها ، وخسارة بعض الآراء ، ففي كل منهما مشاورة ملزمة، ولكن ما يلزم الأمم يختلف عما يلزم الشركات الناجحة. والقرار الملزم للحكومة وللشعب بعد الاتفاق هو محصلة المنهج المتفق عليه في البرلمان من قبل الأمة فقط، صاحبة الحق في اختيار من يعبر عن مصلحتها، وذلك هو الفرق ما بين مصلحة شركة (الكمبيوتر) قد تهدم مصالح منافسين طيبين، والتي قد توافق أو تخالف مصلحة الأمة، وبين مصير أمة يؤخذ في قراره المصلحة الكبرى للأمم، وهو ما لا يتصور أن يقدر عليه رئيس شركة.
وهذا تحسمه الانتخابات العامة والدوائر المنتخبة الصغيرة، فإنه وإن أساء فإساءته بالمشورة مقبولة، والصواب بالاستبداد مكروه. وهذا التشاور وثقافته من أسباب القوة والمنعة. وإلا تحولت الأمة إلى شركات كل منها يهدم منافسه، ثم ينهار المجتمع في حال غياب نمط أعلى وغالب من المصلحة والتفكير في تقدير التوازنات. وبهذا ذابت مكونات المهاجرين والأنصار القبلية في المصلحة العامة، وبقيت كل قبيلة تحرص على مصلحتها ولا تهدم بتميزها الكيان الأعظم. تلك كانت القيم والثقافة الراشدة قبل الهدم.
ونحن كثيراً ما نجد متحدثين من المسلمين يدعون إلى تقنية غربية، وروح إسلامية، وثقافة ومجتمع يؤمن بالإسلام وقداسته وشموله، ويتوقع أن المدنيات والتقنيات تنتقل بسهولة دون نقل قيمها، ويرون أن عملية فصل التقنية الغربية ممكنة وسهلة عن ثقافات مجتمعها. ويتخيل نجاحاً للتقنية والرفاهية في جو من الجهل وعصمة الفرد وقتل الرأي ومطاردة العقول، وتلك أحلام وخواطر ذاهل ، فليس كل ثقافتهم مقبولة، ولكن بعضها ممسك بزمام النجاح التقني، إما أن تنقله محباً راغباً مستميتاً في سبيله، أو تأتي بخير منه، وعندنا ما هو خير ولكنه مغيب.
إن من المهم الإشارة إلى أن التقنية الغربية في كثير من جوانبها كانت وليدة للفكر الغربي والثقافة الغربية ، وليس العكس، فهناك مراحل مر بها الفكر الغربي أثناء تطوره أدت إلى نضوج وقوة للمصانع ، وللسلاح ولوسائل الاتصال والراحة والرفاهية. وهذه الوسائل التي أنتجها الفكر الغربي عادت عليه بالقوة والثقة، ومن هنا جاءت الخطب والكتب التي تروج للمقدسات الفكرية الغربية، فأصبح هناك تماسك مع الزمن بين الوسيلة والغاية والآلة والفكرة.
إن قصة ذكرها مؤلف كتاب "اليابان التي تستطيع أن تقول لا" تستحق الذكر والملاحظة، وهي تبين الصلة بين الفكر أو المبدأ والتقنية، وكيف أصبح كل منهما يعطي بكرم لصاحبه، ما يؤيده ويقويه، يقول المؤلف: "إليكم هذه الواقعة المثيرة، علها تبين أسباب تفوق الأداء الياباني على نظيره الأمريكي، الواقعة تتعلق بإحدى العاملات، شابة في مصنع (كوماسوتو) لأشباه الموصلات التابع لشركة (نيبون) للمعدات الكهربائية. لسبب ما كان معدل الرقائق المرتجعة "غير صالحة" أعلى منه في مصانع المؤسسة الأخرى، وبذل مدير المصنع في اجتماعاته اليومية جهوداً مضنية محاولاً علاج المشكلة، وفشلت كافة الحلول والإجراءات التصحيحية في تخفيض معدل العيوب عن حد معين، وتحير الجميع في سبب عدم تمكن هذا المصنع بالذات من مجاراة نماذج الشركة.
وذات يوم كانت بطلة قصتنا تسير في طريقها إلى المصنع.. وتوقفت لبرهة عند مفترق لخط سكك الحديد أمام المصنع، لحين مرور قطار بضائع ضخم. وشعرت الفتاة بالأرض ترتج تحت قدميها، بينما تهدر عجلات القطار أمامها.. وفجأة قفز إلى ذهنها.. لعل هذه الاهتزازات- هي – السبب الرئيس للمشكلة!!
وبالرغم من عدم شعورها بالاهتزازات المواكبة لمرور القطار حين أخذت تؤدي عملها المعتاد في المصنع، فإنها ظلت تتساءل عن إمكانية تأثر الآلات الدقيقة بهذه الإهتزازات. وأسرعت بنقل ما يدور برأسها من المخاوف إلى رئيسها في العمل ، وسرعان ما أمر مدير المصنع بحفر خندق يفصل المصنع عن خط السكك الحديدية، ثم ملأه بالماء، وبالفعل فقد امتص الحاجز المائي الاهتزازات وانخفض معدل المرتجع بشكل حاد. كانت العاملة آنذاك في الثامنة عشرة من العمر، ولكنها لا شك تمتلئ زهواً بعملها في مؤسسة (نيبون) للمعدات الكهربائية، مما جعل مشاكل العمل تستحوذ على رأسها الصغير حتى في غير أوقات العمل.. ذلك النوع من القيم يعكس بدوره تفوق نظام التعليم في اليابان"(1).
عقب المؤلف برأيه لأنه كان في مساجلة بين الطريقة اليابانية والطريقة الأمريكية مفتخراً بطريقة التعليم في بلده. ولكننا في عالم آخر قد لا يشدنا هذا التفسير ويليق بنا أن نلقي الضوء على فارق آخر بين بيئتنا وبيئة المؤلف ، أو بالتحديد فارق الأفكار والتربية بين البلاد التي لا تتحرك فيها الأفكار بسهولة بين عامل جديد وبين إدارة المصنع الكبير. مما يجعل أحدنا لا يفكر في الإصلاح، لأن الطريقة التي عندنا أن مدير المصنع معصوم، ولا يحتاج عقله لعقل صغير متدرب أو ملتحق بالعمل في فترة قريبة!!
تلك هي قاعدة عمر رضي الله عنه في التماس حدة الذهن في الصغير، "لا يبدو أن مدير المصنع يحفظها" وهي لا تصطدم أبداً مع عقل المجرب وخبرات الخبير. ثم إن الذهن الذي يلاحظ قادر على النمو والاستمرار في قوته وعملاقيته لأنه لا يقمع، ولا يحجر عليه. وواثق أنه سيقدر ولو أخطأ. وفي كثير من بلاد المسلمين يقهر العقل مبكراً، ويمنع من النمو. وفي دراسة أجراها هشام شرابي تبين له تفوق أطفال العرب على غيرهم صغاراً، ثم اندثار قدرتهم مباشرة بعد دخول دروب الحياة ومجتمع طبقات القمع المتتالية، كل طبقة تقمع الأخرى حتى نخرج بمجتمع لا يحترم فيه أحد الآخر إلا في كلمات رنانة وألقاب ميتة لا صدق ولا روح فيها.
والسبب الذي سيقت له القصتان هي مسألة العلاقة بين الأفكار والتقنية ، والثقافة والصناعة. فقد أصبح كل منهما يطل على صاحبه تأييداً أو تدميراً. وهذا ما نحتاج لوعيه ؛ فكلمة (إسلام) ليست نصاً سحرياً يحل جميع الإشكالات، و المطلوب التفكير فيه بإحياء ما اندثر من قيم الحق بالشجاعة، والحرية، والشورى، فلا نقمع صغيراً لحداثته، ولا كبيراً لأنه يفهم خيراً منا، ولأنه سيكشف ضعفنا، فتصبح السياسة والصناعة ضرباً من الكهانة الخاسرة. لذا علينا أن نتجنب ما ورثناه باسم الدين من قيم ليست صحيحة شرعاً، ولا قادرة على الإصلاح واقعاً.
والذي قد يستنتجه القارئ أن هذه التقنية هي في نهايتها قيم، وأخلاق وليست فقط أدوات تلبي حاجات الناس بطريقة مريحة. لأن الفارق بين القيم والأشياء ليس كبيراً، وأن كلا منهما يتلبس الآخر عاجلاً أم آجلا. ولكن هذا في مداه البعيد ... للحديث بقية بإذن الله
(1) شنتاروا ايشيهارا، "اليابان التي تستطيع أن تقول لا" وقد ترجم بعنوان اليابان لم تقل لا. ترجمة هالة العوري. يافا للدراسات والنشر، القاهرة 1991م، ص 44-45.