15-03-2008, 02:06 PM
|
#13
|
عـضـو
تاريخ التسجيل: Oct 2006
المشاركات: 59
|
_ 2 _
كان كتلة من الغموض تمشي على الأرض
رجل يكاد يصافح الخمسين من العمر ، تميل بشرته إلى السمرة ، نحيل الجسم ، دقيق الملامح ، ذو عينين واسعتين ، يحمل بقايا شاب كان يجذب الأنظار ، ليس بالطويل ولكنه إلى الطول أقرب .
منذ ما يقارب الخمس سنوات في شهر رجب من عام 1421 حينما وفد هذا الغريب وقطن حي المحمدية في الدمام في بيت مستقل صغير ، مسلح ولكنه قديم ، وأسئلة الفضول تكاد تقفز من رؤوس أصحابها عن سر هذا الكائن ، بعضهم قال أنه خارج من السجن ، والبعض الآخر قال أنه هارب من الديانة ، والبعض قالوا أنه مسحور ، وتبقى أبواب التخمينات مشرعة ، لكن ليس ثمة ما يرجح أحدها على أخيه ، حتى أبو مروان كبير مثقفي الحي ، والفيلسوف الذي لا يشق له غبار ، والذي يدعي بأنه لا تخفى عليه خافية فيه ، ظل صامتا طوال تلك المدة ، ولا يزيد عن قوله :
ـ إن ورائه سرا عظيما وستظهره لنا الأيام
فيهز الجميع رؤوسهم تأييدا
كنت الوحيد من بينهم الذي استطاع أن يكشف عشر ما يخبأه أو أقل ، في مدة استغرقت ستة أشهر ، كان يخرج قبل صلاة الفجر بسيارته ، ولا يعود إلا حين يحين موعد النوم ، في الأيام التي سبقت ركوبه معي في السيارة لاحظته يخرج من بيته حاملا معه كيسا متوسط الحجم ، ثم يمشي في شوارع الحي بهدوء ، حتى يصل إلى الشارع العام ، فيستقل سيارة أجرة ويمضي إلى حيث لا يدري أحد
وصوت آذان الفجر يعلو في أحد أيام الصيف توقفت عنده على ناصية الشارع العام قبل أن تسبقني إليه أية أجرة ، فتحت نافذة الراكب وسلمت عليه وطلبت منه الركوب ، رد التحية وقبل أن يركب قال :
ـ أريد أن تقلني جهة البحر حيث مكان الصيد والصيادين
ـ اركب
ـ لم تقل لي بكم ؟
ـ اركب ، ولن نختلف
ـ أنت كداد ؟
ـ نعم ، اركب
أغلق الباب ، ووضع مايحمله في حجره ، وشرد بعينيه في الفضاء الحالك أمامه ، ومرت فترة صمت ، قلبت فيها الجمل المناسبة التي أستطيع من خلالها أن أستجره في الكلام ، لأول مرة أقف حائرا أمام شخص غريب علي ، فأنا كما ينعتني كثير من أصحابي وزملائي في العمل خبير الحلب ، أستطيع أن أحلب كل ما يسره الآخرون في فترة وجيزة ،
ـ يبدو أنك لست من المنطقة !
ـ نعم .
انتظرت زيادة في الكلام ، لكنه صمت ! ألا يستطيع القول ، نعم .. لست من المنطقة ، على أقل تقدير !
إجابة مقتضبة وثقيلة في نفس الوقت ، عندما يسألني أحد ما مثل هذا السؤال فإنني أفهمه بشكل آخر ليس من منطوقة وحسب فالمعنى : من أي البلدان أنت ؟
وألمح من خلال تقاسيم وجهه أنه ليس بذاك الغباء بحيث لا يفهم ما أريده وبدا لي أنه يرسل إشارته بأن أصمت ، لكن ! لا . لن أصمت ! ولن يقهرني هذا الغريب !
نظرت إليه وأنا أتجاوز الإشارة بعد أن أضاءت باللون الأخضر وقلت له ممازحا :
ـ لازم أصير كداد ، من أجل أن تركب معي وأتعرف عليك .
ابتسم ابتسامة لا معنى لها
ـ لا أبدا ، لكنني لا أنتظر الإحسان من أحد .
ـ ولا من جيرانك ؟
نظر إلي بضع ثوان فصرف نظره ، فأردفت بسرعة حتى لا تطول حيرته
ـ نعم أنا من جيرانك في نفس الحي الذي سكنت فيه قبل بضعة أشهر
وأردت أن أخرجه من هذا الموقف فقلت :
ـ عسى ما هنا شر!! أين سيارتك ؟ فلقد كنت أرى معك سيارة قبل أيام .
ـ فيها عطل بسيط وأدخلتها ورشة لإصلاحها .
أنزلته حيث أراد ومضى بعد أن عرفت اسمه ومن أي البلاد هو، وفهمت منه أنه منذ قدومه وهو يزاول مهنة الصيد ، يتكسب منها يوميا ما يسد رمقه ويقضي على حاجته . ويغنيه عن الآخرين . وإن كان غير راض عنها تمام الرضا إلا أنها شغلة مؤقتة حتى يرى ما الله صانع فيه
وهو يهم بالنزول عرضت عليه المجيء لأخذه مساءا ، لم يبد موافقة أو اعتراضا ، وأعطاني قفاه وانصرف .
تمتمت في سري
وأغرب منك لم تر قط عيني
ـ جئتكم من الغريب بنبأ يقين
قلت هذا وأنا أحدث الجيران بما حصل صبيحة ومساء الأمس القريب
كانت أنفسهم متشوقة للسماع فالعيون متسمرة والأفواه فاغرة ، بما فيهم أبو مروان الذي كان يتشاغل بورقة أمامه ، وأذنه تكاد تقفز إلى فمي وإلى التقاط كل كلمة أتفوه بها ، لما انتهيت من كلامي ، ابتدر أبو مروان الجالسين بالكلام ، وقال بسخرية لاذعة
ـ أي جديد في هذا ، هو من الرياض ، ويشتغل في الصيد ، وليس متزوجا ، وسيتزوج قريبا ، وعمره خمسون .كل هذه أخبار آنية ، أما لم هو بيننا ، لم يتهرب منا ، هل له أولاد ؟ فلم تجبنا على شيء من هذا ، وهو الذي كان من الأجدر أن تجيبنا عليه .
هز الجميع رؤوسهم بالموافقة كالعادة .
أيقنت بعد طول تأمل في حال الجيران مع أبي مروان ، أن القادة ... أي قادة ! ليسوا أكثر من شخوص تحمل رونقا وكاريزما ونكهة لها خاصية ما ، تجعل الآخرين يسنمونهم المناصب ، وتشرئب إليهم الأعناق وتهفوا لمنطقهم الأسماع ، وإلا فأفكارهم وآرائهم ليست بأفضل من غيرهم ، بل قد يتفوق الآخرون عليهم من هذه النواحي .
انصرفت من المكان وقد أشعلت سخرية أبي مروان التحدي في نفسي .
****
***
**
*
|
|
|