أيّهَا المَنْكوبُ !
أمَا حَدّثتْكَ نَفْسكَ لمَ خَصّكَ الله بهذهِ الخصيّة دونَ غيركَ ، فَعَجزَ عَنْ تَحمّلِ آلامِهَا بِلالاً وَسُمَيّة –كَمَا زَعَمْتَ. إنيّ عَلى علمٍ أنّ المَصائِبَ وَالمِحَن لا يُدركهَا إلا مَنْ عَايشَهَا ، وَسَبح فِي أمْوَاجهَا المُتَلاطِمَة ، وَغاصَ فِي جوفِ أرْزائهَا ، مَا بَينَ كَدر العَيْش ، وَحَزَن النّفس ، وَضِيق المَلاجِئ . . ، فَأنْتَ أدْرَى منّي بِنفسِكَ ، وأعْلمُ مِني بَما يَختِلج قلبكَ.
اعلَمْ أنّي لمّا انْتَهيتُ مِن قِراءَةِ رسَالتِكَ لمْ أنَمْ تِلكَ اللّيلَة ، فلمْ أظنّ أنّ فِي الوُجودِ عَظيمٌ مِثلكَ ، يَصبرُ عَلى المُصابِ الجَلَل ، وَيُصيّرهَا فَواتِح لرَحمَةِ الله . تَخيّلتُ أنّك مُنتَحِراً ، تَاركَاً وَراءكَ لَذّة الصّبر وَالمُصَابَرة ، وَضمَمْتَ -بانتحاركَ- إلى خَسَارةِ الدّنيَا ، خَسَارة الآخِرَة. إنّ الانتحَار لَيسَ إلاّ نَزغَة شَيطَانِيّة ، تَصَل بنفْسكَ إلى مُنتَهَى الخَوَر وَالجبْن ، وَبعَقلِكَ إلى الجُنونِ وَالخَبَل ، فمَا أظنّ عَاقلاً يُقدِمُ عَليهِ وَفي رَأسِهِ ذرّة شُعورٍ بالعَقلِ ! ، إنّ مَا أقدمتَ عَليهِ أشدّ ممّا فَررتَ مِنهُ ، فَتُصبح الخَسَارة فِي ذلكَ مُضَاعَفَة .
ُ
لا عُذرَ لكَ فِي الانْتحَارِ –لوْ فعلتَ- مَهْمَا ألمّت بكَ المَصَائِب وَالهُمُوم ، وَترَاكَمت عَليكَ الكَوَارث ، فَمَا سُمّي القَاتِلُ مُجرمَاً إلاّ لقَسوَةِ قَلبهِ ، وَتحَجّر فُؤادهِ ، وَزوَال عَقلهِ ، فكيفَ بَقاتِل نَفْسه بنَفْسهِ ، وَلوْ ادّعى فضلُ المَوت عَلى الحَيَاةِ ، فإنّ دَعواهُ مَردُودَة ، فَلا مَوت بَعْدَ المَوت ، وَلاَ حَيَاة بَعدَ الفَوْت . وَاعْرض فِي مُخيّلتِكَ ألوَان العَذَاب وَأنوَاع العِقَاب التي أعَدّهَا الله لكَ ولأمثالكَ فِي الآخِرَة ، حِينَهَا لاَ مُجيبَ لكَ ، تَقولُ : (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّيْ أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) ، (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) إلاّ قَول الله لكَ : (اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) .
وَبعْدَ انْتحاركَ . . مَاذَا سَيَكون حَدَيْث النّاس عَنكَ ؟ ، فَهلْ يَظهَر بَينَهم شَفِيقٌ عَليْكَ أوْ رَحيْم ؟! ، أم السّخريَة مَسْلَكاً سَهْلاً ومُبَرّراً للتّلفُظ باسْمكَ وفعْلتكَ الشّنِيعَة ؟ ، أمَا قلتَ إنّ همّتكَ أصْبَحت هِيَ مَدحُ النّاس ، وَأوْكلتَ السّبَب إلى مَنْ آذَوكَ ؟! ، فَإنْ قَتلتَ نَفسكَ فَلنْ يُلام إلاّ أنْتَ.
وَاعلَمْ أنّ الصّالحيْنَ الصّادِقيْنَ لا تَضيرهُم كَوَارث الدّهر ، وَأزمَات العَيْش ، وَالإغْرَاق فِي المَدحِ وَالذّم ، فَقدْ أعَدّ الله لهُمْ مَواقِف يَمتَحِنهُم فيهَا ، ليَعلَمَ الذينَ صَدَقُوا ، وَيَعلمَ الكَاذِبيْنَ ، فَالمُؤمِن لاَيَشوب إيْمَانُهُ ريَاء وَلا دهَان ، وَلا يُخالِط يَقينهُ شَكّ وَلا رَيْب بقَدَرِ الله والرّضَا بهِ ، (أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ، فَتَراهُ يُغَالِب شَهَوات نَفسه ، ويُقَاوم نَزوَاتِهَا ، فَاسْتَعن باللهِ عَلى نَفسكَ وَلا تَعْجَز . .
الداعي لكَ بالخَيْرِ وَالصّلاحِ : القِمَطرُ