مشاهدة لمشاركة منفردة
قديم(ـة) 31-03-2008, 03:09 AM   #3
واحد من المسلمين
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Jul 2007
البلد: في بيتنا
المشاركات: 657

وأستأنف سباحتي الشاقة والطفل ينام على كتفي الأيمن تارة وعلى الأيسر تارة أخرى.. ويدور أمامي شريط حياتي.. وأتذكر كم من ذنوب خلت.. وغفلات ألهت.. وإعراض صدّ.. لقد أدركت في ذلك الموقف الخطأ الفادح في موازين اهتماماتنا، وفي جهل نظرتنا لواجبات الدنيا وأعمال الآخرة.. لقد تحقق لي حينها بأننا مشدودون لهذه الدنيا، مرتهنون بجاذبيتها ومحسوساتها، بها نفكر.. وفيها نوالي ونعادي.. ولها نبني ونخطط.. مشدوهين عن الآخرة بحقائقها العظيمة ومنازلها الخالدة الأبديّة.. كم هي هذه الدنيا في الآخرة وزناً وزمناً ومنازلاً ؟!! ما مقدار مكثنا في كلٍ منهما؟!! هل تفكرنا في ميزان الله البيّن: ( وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ) ؟!!!
وتطوف بي أهم ذكرياتي ومراحل حياتي وحفظ الله لي.. وكان من بين ما برز أمام فكري قصة تعلّقي وأنا صغير على أحد الأسياخ الحديديّة لسور السطح المُشرف على الشارع من ارتفاع شاهق.. وقد بقيت معلّقا بطرف ثوبي موشكاً على السقوط الحُرّ المميت لفترة من الزمن لولا أن وفقني الله بعد معاناة للتخلص دون مساعدة أحد.. إنها أسهم القضاء التي يقدرها الله فتخطيء الشخص بأمر الله حتى يأتيه السهم المسوّم من عند ربّك.. ( فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستئخرون)..
عدت للأذكار والدعاء.. وانصهر قلبي بين يدي الله في هذا الموقف الحالك الذي ذكره القرآن مثالاً على الاضطرار وصدق اللجوء لله حتى من الكفار المشركين أولي القلوب المتحجّرة.. حينما تذيبها نار الكرب فتلين لله وتعترف بربوبيته فترجو فرجه.. لقد دعوت الله بكل قلبي دعاء المضطر إلى رحمته الراجي لاستجابته ( أمّن يجيب المضطر إذا دعاه )
بذلت أقصى الجهد في سباحتي باتجاه المعلم الذي كنت أراه من بعيد، ثم اكتشفت بعد ساعتين من الجهد والتعب أنني لم أحقق أي تقدم فالمسافة بيني وبين ذلك المعلم تبدو لي ثابتة كأنها لا تتغير.. وشعرت بأن الموج المعاكس – رغم ضعفه- قد كان يؤخر تقدمي نحو المعلم ..
أحسست بالهمّ وضيق الحيلة.. فبدأت أناجي ربي بصوت مرتفع .. بدأت أراجع نفسي متسائلا: هل ربي راضٍ عني أم غاضب ؟؟!!
وعدت للسباحة الجادة بعد أن تجدّد عزمي، وكنت أنظر إلى السماء فأرى النجوم على غير ما رأيتها من قبل فكأنها تشجعني بوميضها، وتسليني بثباتها.. فسبحان من سخرها.. وأنظر يميناً وشمالاً لعلي أرى أحداً، أتساءل هل سيتحرك خفر حرس الحدود للبحث عنا ؟؟ وأجيب على نفسي بأن ذلك مستحيلا لأني لم أترك اسمي لديهم ولم أركب البحر من بوابتهم!! ولقد يخيل إلي أحيانا – في غمرة الأفكار- رؤية بعض القوارب تمر أمام عيني، ثم ما تلبث في ثوان معدود أن تضمحل كالسراب العابر والطيف الوامض.. لأبقى في واقع يفيض بالخطر !!
قررت التركيز على السباحة الجادّة والذكر والدعاء.. وكان يقيني بالله يزداد في النجاة لأني أدركتُ أنّي بدأت أحرز تقدماً نحو هدفي.. وشعرت بالحماس.. وبدأت أشمُّ رائحة النجاة.. وذرات جسمي تتلهف في أعظم درجات الشوق لملامسة تراب الأرض.. والاستلقاء على أديمها في أمن وسلامة.. تماماً مثلما يرتمي الابن على صدر أمّه الرؤوم.. يستنشق عبيرها.. ويتدثر بحضنها.. ويتدفأ بحنانها..
ولا تجزع إذا أعسـرت يومـاً *** فقد أيسرت في الزمن الطويل
ولا تظنن بربـك ظـن سـوءٍ *** فإن الله أولى بـالـجـمـيل
وإن العسر يتـبـعـه يسـارٌ *** وقول الله أصدق كـل قـيل
فلو أن العقول تسـوق رزقـاً *** لكان المال عند ذوي العقـول
وأثناء هذه المرحلة المستبشرة يستيقظ أنس – ونحن ربما بعد منتصف الليل - ليصرخ وهو يؤشر للخلف ويبكي ويصيح: سمكة ... سمكة .. سمكة..
توقفت عن السباحة ، سألته : أي سمكة ؟؟؟
فقال : هنا سمكة كبيرة يا عمو خلفك ..
فلا تسألني ما الذي حدث في كياني من خوف ورهبة عندما أدركت أن ما يقوله الطفل قد يكون حقّا.. ولقد كنت أخشى ما أخشاه حينها هو اقتراب سمك القرش المتواجد في الخليج.. والذي ستكون به نهايتنا حتمية في أقسى صورها .. وأعنف أحداثها..
لم يكن مني إلا أن همست للطفل أنس أن يسكت ... وبدأ الوسواس يراودني.. وبدأت أفقد قواي.. ليذبل أملي في النجاة بعد أن بدأت أرى الفرج، لقد كنت حينها انتظر متى يشرع ذلك الشبح البحري الجامح في تمزيق أجسادنا الضعيفة دون هوادة.. لقد كنتُ أشعر بدنوّ أنيابه عند أقدامي.. وتلاحقني خيالات مرعبة.. فو الله لقد بلغ بي الخوف مبلغه، ولم أجد من حيلة إلا أن أدعو الله بصوت خافت وأردد " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم .. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ، أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أجد وأحاذر .. إلهي .... لا أريد أن أموت هذه الميتة، لا أريد أن يتمزق جسمي، وبدأت أبكي وأردد ( لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) ..
يا مـن تـحـل بـذكـره عقد النـوائب والـشـدائد
يا من إليه المـشـتـكـى وإليه أمر الخلـق عـائد
يا حـــي يا قـــيوم يا صمد تنزه عن مـضـادد
أنت الرقيب على الـعـباد وأنت في الملكوت واحد
أنت المعـز لـمـن أطـاعك والمذل لكل جـاحـد
إني دعوتـك والـهـمـوم جيوشها نحوي تطـارد
فافرج بحولك كـربـتـي يا من له حسن الـعـوائد
فخفي لطفـك يسـتـعـان به على الزمن المعانـد
أنت الميسر والـمـسـبب والمسهل والمسـاعـد
يسر لنـا فـرجـاً قـريباً يا إلهـي لا تـبـاعـد
كن راحمي فـلـقـد يئست من الأقارب والأباعـد
مرت أكثر من عشر دقائق ونحن في سكون وهدوء.. لا نكاد نتحرك ولا نتحدّث لئلا يسمعنا هذا القرش الفاتك، وبعد تردد قررت أن أواصل مسيري وأنه ليس لنا إلا ما كتبه الله ، ولكن القوى خارت والعزائم هانت والحماس ضعُف، وأثناء سباحتي المتوجّسة يصيح أنس مرة أخرى مثل السابق ويقول : السمكة السمكة!! .. توقفت فوراً وقلت له : أين هي ؟؟ فقال : هنا يا عمو عند أقدامك! ، هنا .. عاودني الخوف، وتملكني الفزع مرة أخرى.. فتوقفتُ وشرعت أردد الأدعية، وبدأت السكينة تعلوني وأنا أتأمّل.. فلو كانت سمكة قرش لما منحتنا كل هذه الفرص.. وعاودت السباحة.. فصرخ الطفل أنس مرددا: ( السمكة ... السمكة ) وهو يبكي ، هنا أدركت أن الأمر متعلق بسباحتي.. فسألته أثناء توقفنا هل يراها، فأجاب: لا!!.. ثم سبحت قليلا فصرخ: السمكة السمكة.. عندئذٍ أدركت أن أنس كان يرى قدمي وهي تتحرك أثناء السباحة فيحسبهما زعانف سمكة القرش التي توشك أن تلتقمنا.. فتملكتني ضحكة مكظومة يلجمها ماء البحر، ويحاصرها الكرب من كل مكان.. ولكن عادت إليَّ السكينة بفضل الله.. وهوّن الله عليّ الموقف.. فواصلت السباحة في نشاط وقوّة وإصرار.. واستعصمت بالله.. واجتهدت في المناجاة.. ومع مرور كل هذه الساعات من الليل شعرت بأني أحرزت تقدماً جيداً في الاقتراب من ذلك المعلم ، وأما صاحبي أنس فهو يصحو وينام وقد بلغ به التعب مبلغه .. والله يعلم في تلك الساعة ما كنتُ أعاني من الإرهاق المبرّح والعطش الشديد، ولكني لم أكن أفكر بالاستسلام ما دمت قادراً على العطاء.. وما دام لي عين تطرف وقلبٌ يخفق..
يا من يرى ما في الضمير ويسمع **** أنت المعد لكـل مـا يتـوقـع
يا من يرجى للشـدائد كـلـهـا **** يا من إليه المشتكى والمـفـزع
يا من خزائن رزقه في قول كن **** أمنن فإن الخير عندك أجـمـع
مالي سوى فقري إلـيك وسـيلة **** فبالافتقار إليك فـقـري أدفـع
مالي سوى قرعي لبابـك حـيلة **** فلئن رددت فـأي بـاب أقـرع
ومن الذي أدعو وأهتف باسـمـه **** إن كان فضلك عن فقيرك يمنع
حاشا لجودك أن تقنط عـاصـياً **** الفضل أجزل والمواهب أوسـع
إن الأسباب لا تفعلُ شيئا بذاتها وإن اجتمعت.. وإنما يتحقق نفعها إذا أراد الله الحيُّ القيّوم سبحانه وتعالى.. فلا يُغني حذرٌ من قدر.. ولكن الأخذ بالأسباب والتوكل على رب الأسباب هما ركنا النجاة بإذن الله.. فكم من سبّاح خبير غرق في شبر ماء.. وكم من رحّال مجرّب تاه في الصحراء ومات من العطش.. وأعرف شخصاً سباحاً وصياداً ماهراً ذهب في أحد الليالي بقاربه داخل البحر من أجل الصيد وقد ابتعد بعيداً كعادته عن الشاطئ ، وحيث أنه كان لا يغيب عن بيته أكثر من يوم وليلة فقد افتقده أهله بعد أن غاب ثلاث أيام بلياليهن وقاموا بإبلاغ حرس الحدود، والذي اجتهد في البحث عنه لكنهم لم يعثروا عليه إلا بعد أسبوع من فقدانه، بعد أن استدلوا بقاربه الذي وجدوه على وضعه الطبيعي وكان مثبت بمرسى داخل البحر ولم يعثروا على صاحبه إلا بعد بحث مضن، وقد وجدوه ميتاً في ظرف غامض لم يُعرف، فلم يكن القارب منقلب ولم يتعطل.. وقد هلك أحد السباحين في مسبح إحدى جامعاتنا بسبب شدّ عضلي في فخذه أعجزه عن الحركة فوجدوا جثته طافية على سطح الماء.. فسبحان الله مسبب الأسباب ومقدّر الأقدار الفعال لما يريد..


تاااااااااااااااااااااااابع
__________________
Iقال تعالى( فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنهارا)ً
واحد من المسلمين غير متصل