نجيب الزامل
من أضاعَ قدمك يا مهند؟
نجيب الزامل
.. آخ.. يا ظهري، آخ يا رأسي، وآخ يا كلي..
طيلة ليلة الجمعة الفائتة وأنا أشكو من آلام مبرحةٍ لأني وقعت، حاولت أن أقرأ أو أشاهد أو أكتب حتى أنسى هذه الآلامَ التي وضعتني في مطحنة عظام، ولم يدر بخلدي أن خبرا سيأتيني وينسيني كلّ آلامي، وأنسى نفسي، وأضيّعُ مكاني، ومشاهداتي وأغرقُ في نحيبٍ شديد، كرهت أن أفعل ذلك، ولكني هزلتُ وخـُرتُ وانكشفت عوراتي النفسية التي لا يسترها بيتُ عنكبوت..
جاءتني رسالة من أخي يوسف أحمد السحار المخترع السعودي والمؤسس المشارك في جمعية المخترعين، الخبرُ جاء مقصلة فصلت وجودي عن وجودي، كياني عن كياني، ولم أستطع مكالمة يوسف، واستنكر، فهاتفني وأنا في حالة لا تسرّ العدو قبل الصديق..
يوسف كان حزينا جدا، غاضبا جدا.. ولم ينتبه لآلامي، فالذي يشغله أكبر.. لقد رأي بعينيه كيف نتجرع الحزنَ كأسا وراء كأس للإهمال، لعدم المبالاة.. حسبي الله ، حسبي الله ..
ويوسف لم يكتفِ.. أرسل لي رسالة بكل ما حصل، وأمله، كل أمله أن يصل هذا النداءُ إلى أكبر مكان في البلاد، وأكبر ضمير.. إن الذي حصل يقول السيد السحار لا يجب أن يُسكت عنه، وحملني مسئولية ذلك، وأنا بحزني .. قبلت.
من قرأ مقالتي قبل أسبوعين بعنوان (هشام: أوصيك بمن تحب)، يتذكر أني تكلمتُ بإكبارٍ وعز وإعجابٍ وحبٍّ عن «مهند جبريل أبو دية» الشاب الصغير، الطالب بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، والمخترع السعودي العبقري الذي أذهل منظمي المسابقات العالمية بذكائه، مخترع ومصمم الغواصة السعودية (الصقر السعودي) التي هنّأهُ عليها السعودي الأول عبدالله بن عبدالعزيز شخصيا، «مهند» الذي عانق أول سنة بعد عقده الثاني، لم يترك مناسبة لا يتصل بي فيها، وكان يحب أن يقول لي عن مشاريعه وأحلامه وآماله، وكاد يطير فرحا حين تبنى الأخ هشام الزامل مشروعا متكاملا للمخترعين الصغار، وكان ليلتها سيذهب لجازان للزواج وقال لي وهو يودّعني لا تسعه الدنيا: لقد غمرني ربي بكرمه فلا أدري كيف أفرح هذه الليلة.. ومهند يتكلم بسرعة، لأن أفكاره تزاحم مفرداته، فتأتي عذبة صادقة، وتحرك أوتارا بقلبي وتنفض عنها ما علق من غبار.. هذا الصغيرُ الذي عرفتكم عليه، هذا العبقري النادر، هذا المعجزة الربانية المصوَّرة بشرا، يوم الخميس الفائت بُترَتْ قدمُهُ اليمنى. مهند، قبل خمسة أيام، تعرض لحادث سير وهو يسير فتهشمت قدمه وارتج رأسه .. ويقول يوسف إن سوء المناولة، والطمع المادي، وقلة الاكتراث، وتيبس الإحساس، دفع نتيجتها الصغيرُ مهند ثمنا لا تعويض له: قدمه اليمنى، بعد أن فسدت بها الدماءُ وازرقّ اللحمُ جوعا للأكسجين بعد أن تركت بعد العملية ( والتي لم تجر إلا بعد وصوله بست ساعات !) بدون تشجيع الدماء للتدفق في الشرايين، لمدة ستين ساعة.. ستون ساعة افترست أنسجة الصغير حتى عفنت..
مهند لم يسعف في الحال لإجراءاتٍ روتينيةٍ، وشكليةٍ، وماديةٍ، و(غبية) والصفة الأخيرة من عندي بعد اطلاعي على تقرير يوسف السحار، ويوسف السحار أشجع مني وذكر أسماء المستشفيات، وأنا أحتفظ بها حين يسأل عنها مسئول.. ويقول يوسف المذبوح الحزن إنه لم يتيسر له نقل مهند من مستشفى إلى مستشفى أرقى تجهيزا إلا بعد ست وثلاثين ساعة وبواسطةٍ كبرى، فلا الواسطة، ولا الحالة، نفعت في تقليل الوقت .. ولم يكن يوسف السحار بحاجة لأن يسمع طبيب المستشفى الآخر يقول إنه كان بسهولة إنقاذ قدم الشاب الصغير مهند بمجرد إجراء قسطرة في الساعات الست الأولى من العملية.. وهنا انهدّ بنيانُ يوسف السحار وسقطت منه آخر نقطة تحمل.
ولا ندري حتى الآن ما حصل لرأس مهند، لأنه وُضعَ في غيبوبةٍ، كما فهمتُ من الأخ يوسف، ولعل الوقت لم يفت لتدخل سريع لنقله لمركز خارجي مختص خصوصا لو أن أمرا مسّ الرأسَ أو الدماغ..
أعرف أن ولاة أمرنا لن يتركوا ابنهم الذي رفع رأس الأمة في أشرف المناسبات، مناسبات السباق العقلي، ولن يضنوا بأي وسيلة دون أن يكرسوها من أجله، فيا ربي يسّر لهم أن يقرأوا هذا، أو تصل إليهم أخبارُ ابنهم الغالي عن أي طريق..
إن الحزنَ ثقيلٌ، ويستقر في قاع القلب مثل طبقة القار الغليظة يسد الضوءَ والأنفاس، إلا أن في الحلكة ترى الشهابَ البعيدَ المضيء، والشهابُ هو الدكتور خالد السلطان مدير الجامعة الذي يعرف تلميذه حق المعرفة، معرفة المحب والفخور والعطوف فأرسل مندوبين للرياض، كما يخبرني السيد السحار لمتابعة حال ابن الجامعة الغالي «مهند جبريل أبودية».. يا دكتور خالد ما أشد إضاءتك !
كلما أرى الآن وجه مهند المليح ببسمته التي لا تغرب، واللحية الخفيفة بشعرها الناعم يلتف مؤطرا رأسا، يحمل عقلا صافيا هادر الذكاء، وهو يبتسم لي مودعا..
آخر ما رأيت يا مهند بسمتك.. اللهم يسّر لي أن تكون البسمة ُ أول ما أراه حين ألقاك !