[زهير العمري]

الإنسان المعاصر : مادة , وطعام , وأغنية , وخبر

عندما تتأمل وتتخيل حال الإنسان في هذا العصر تجده اختلف كثيراً عن ذلك الإنسان الذي عاش قبل نصف قرن من الآن , لقد تطور وتغير كثيراً.
إن إنسان اليوم أستطيع أن أصفه بالإنسان اللاهث وراء كل شيء ,إنسان اختصره في (المادة , الطعام , الأغنية , الخبر ,...) , فإنسان هذا العصر (مشغول مشغول مشغول ) ... لا تجد إنساناً إلا راكضاً ساعياً لاهثاً كـ ( أم العروس ) . وإذا استوقفته فإنه يشكو إليك ضيق وقته وكثرة مشاغله ... وإذا عاتبته فسرعان ما يجد العذر , ثم يدعوك إلى تقديم عذرك , ومن ثم لا تجده بعد ذلك ..
(الكل يركض الكل يلهث) ؛ فالجميع يسعى إلى اقتناء أحدث مبتكرات المصانع الإعلامية أو الغذائية , والكل يتسابق لشراء الجديد في مجال التكنولوجيا والاتصالات , والكل حريص للإطلاع على أحدث الموضات في عالم الملابس والسيارات والفضائيات . وإذا ما تخلف أحدهم عن المتابعة فإنه سرعان ما يشعر أن الآخرين قد سبقوه, فيهرول مسرعاً محاولاً اللحاق بالركب, ويكون اللهاث الذي لا حدود له ففي عالم اليوم تلاشى الصبر, وغابت القدرة على الاستماع الطويل , وانعدمت ملكة التأمل والتحليل واستنباط المعاني والقيم .
إن إنسان اليوم كثير اللهو والترفيه , ومع ذلك يشكو الضيق والهم , لقد نسي لماذا خُلق ؟! ومالغاية من وجوده ؟! بعُد عن خالقه فبعُد خالقه عنه , لذا تجده دائماً ما يشعر بالغربة عن أهله وأقاربه وأصدقائه رغم وجوده مكانياً بينهم أو على مقربة منهم .
إن الإنسان أصبح قليل الحركة وإن كثرت أسفاره وتنقلاته بين دول العالم المتباعدة , والأكيد إن كل شي في حياتنا أضحى آلياً ؛فالإنسان لا يتحرك إلى مكان وجود التلفزيون لفتحه , وتغيير قنواته فهناك الريموت .... ولا يذهب للرد على الهاتف حينما يرن فهناك الهاتف اللاسلكي , ولا يتجشم أي عناء في الاتصال والتحدث مع من يريد فهناك جهاز الجوال المخبأ في جيبه.
إن الإنسان المعاصر أصبح غير ملزم بالسفر بدابته لكي يتعلم ويغترب بعيداً عن وطنه,فلقد أصبحت دور العلم بجوار كل منزل , وحتى لا يتعب نفسه كثيراً بقراءة الكتب والبحث عنها فلقد انتشرت الأقراص المدمجة " الدسكات " , وكذلك خدمة الانترنت التي تربط الباحث بكافة ثقافات المعمورة في ثوانٍ معدودة .
إن إنسان اليوم لم يعد يكتب رسالة بخط يده , يعصر فيها عقله , ويسرح فيها بخياله ,فلقد أوجدت لنا الوسائل الحديثة رسائل مبسترة معلبة( مثلاً : رسائل الجوال ) وهو مع ذلك تجده لا يحترم ما تحتويه من كلمات معبرة إذ يجزم بعدم جودتها , أو لا يبدي لها انفعالاً ! ,وإذا سألته عن السر؟! قال : إنها قديمة. عجباً هل الكلمة تبلى ؟! أم إحساس متذوقها الذي بلي؟! وهو كذلك لم يعد يكلف على نفسه العناء بالذهاب إلى البريد لإرسال الرسائل ؛ فأوجدت لنا التكنولوجيا الرسائل الإلكترونية التي تغنينا عن البريد وساعيه.
أما عن ليل اليوم والأمس فحدث ولا حرج , فلقد حل بدلاً عن جلسات السمر التي كانت تعمر بالشعر والطرائف والمساجلات الفكرية التي كانت تتسم بالعمق والفائدة , ليل مليء بالحفلات , والأفلام والسهرات , والمباريات الرياضية , وأنباء المال والأعمال .أما في مجال الطعام فقد قلت أو تلاشت الوجبات التي كانت تصنعها أمهاتنا وجداتنا , وحلت مكانها الوجبات السريعة ذات الأسماء الأجنبية الغربية .
إن الإنسان جزء من العالم , والعالم يعيش في أزمة الحضارة , والإنسان أصبح كائناً مخنوقاً , حتى لو ملأ غرفة نومه بهواء المكيفات , وأصبح متعباً رغم وسائل الراحة ... وهو عطشان رغم المياه الغازية والمعدنية , وهو جائع رغم أصناف الطعام الكثيرة ووسائل صنعها التي تتبارى وتتباهى في عرضها قنوات الإعلام المختلفة ...
وفي الختام لا أملك إلا الاعتذار لك يا إنسان اليوم لقد قسوت عليك كثيراً , وأعرف أنه لا يجدي الاعتذار , فكيف أعتذر وأنا أنت أيها الإنسان ؟! .

بقلم : زهير حسن العَمري