من يتأمل في الشعراء منذ امرئ القيس بل ربما قبله كحذام مثلاً ؛ نجدهم كسالى , فترى الواحد منهم لا يحدِّث نفسه بمهنة شريفة يقتات منها , وإنما إذا جاع فتح فمه وأخرج لسانًا كما لسان الحية !
لذلك ؛ فهم لا يتورعون عن الكذب في الشعر , وإلى المبالغات الممقوتة , وإن حاججت أحدهم قال لك بخبث : إنه الكذب الفني . وما أدري كيف يخدم المجتمع كذب يقال إنه فنيٌّ ؟ !
إن العلوم كلها لم تكتشف إلا من أجل خدمة الإنسان في مجتمعه , فإن انتفت المنفعة فلا طائل من التملق والزيف , فما ينفع الناس يبقى في الأرض بلا جدال .
كان حسان بن ثابت يقول عن سبب توقفه عن قول الشعر : الشعر يجمله الكذب , والإسلام يحرم الكذب !
الشاعر تصاحبه شخصية مهزوزة , وشخصية طالما راق لها أن تصطاد في المياه العكرة , فإن كان المقام يقتضي مدحًا راح يمدح السلطان أو صاحب اليد الطولى , وإن كان المقام يقتضي رثاء طفق يرثي كأن العالم سوف ينتهي بموت الراحل قدّس الله سرّه !
تأملوا في حياة الشعراء السابقين , كالحطيئة وجرير والفرزدق وأبي تمام والمتنبي وغيرهم , تجد أنهم عاطلون عن العمل , وليس لأحد منهم حرفة سوى لسانه حين يلقلق بين ثناياه !
إن أعجب ؛ فإن عجبي من أولئك الشعراء الذين رضوا بالهوان , بل تعجب أكثر حين تراهم يتأففون من أصحاب الحرف الشريفة , إنهم كما المؤلفين في قديم الزمان وفي عصرنا هذا , حيث يؤلف أحدهم كتابًا في مدح زيد أو عمرو من المسئولين بغية مالا يخفى عليكم !
على أن كسلهم يكون واضحًا كما الشمس في رابعة النهار حين نتأمل في شعراء الغزل مثلاً , فهم لم يعشقوا إلا حين كانت قلوبهم خالية من عمل يشغلهم , فهذا أحدهم يقول عن سبب عشقه ( صادف قلبًا خاليًا فتمكنا ) , فالعشق لم يتمكن من قلبه إلا حين كان خاليًا من شغل يشغله عن عشقه المأفون , فتأمل ! !.