بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » الإغراق فى الجزئيات

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

 
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 23-07-2006, 03:11 PM   #1
بريماكس
عـضـو
 
صورة بريماكس الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Aug 2002
البلد: buraydah city
المشاركات: 6,344
الإغراق فى الجزئيات

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..
حضرت جلسة الشيخ سلمان العودة يوم الخميس الماضي ، و تطرق إلى نقطة مهمه و هي عنوان هذا الموضوع : الإغراق فى الجزئيات ، فأستثارني هذا المصطلح و بحث عنه المزيد .. فوجد مواد مكتوبة و مسموعة للشيخ عن هذا الموضوع ، و قبل الإنهماك في قراءتها و الإستماع إليها آثرت أن تشاركوني هذه المادة .


الإغراق فى الجزئيات


[align=justify]إن الحمد لله , نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أيها الأحبة ......

لا أشبه نفسي بين أيديكم فى هذه الأمسية المباركة في ليلة الخميس السابع عشر من شهر ربيع الثاني لسنة 1412 للهجرة , إلا كما يكون الطالب إذا وقف فى صالة الامتحان , وأراد أن يكتب ما في ذهنه من الجواب , فرأى أن أمامه سؤالا طويلا عريضا يستغرق الجواب عنه ساعات وساعات . فقد تجشمت على إعلان هذا الموضوع أو الموافقة عليه , ألا وهو الإغراق في الجزئيات , وكنت أحسبه موضوعا محدودا يمكن أن يمر به الإنسان فى ساعة أو بعض ساعة , فلما فكرت في هذا الموضوع وتأملت وقلبت وجوهه , وناقشته مع جمع من الدعاة والعلماء والمفكرين , وراجعت فيه ما راجعت , تبين لي أن هذا الموضوع أكبر من أن تحيط به جلسة أو يحده حديث عابر , إذ إن الإغراق في الجزئيات كظاهرة سلبية فى حياة المسلمين اليوم بل ومنذ عشرات السنين ليست ظاهرة محصورة في جانب فحسب , ليست خطأ يعيشه الدعاة مثلا فقط , وإنما هي خطأ يعيشه المسلمون فىكل مجالات حياتهم بدون استثناء , فهم مغرقون في الجزئيات في أدق أمورهم وفي أعظمها , واشتغالهم بالجزئيات شغلهم عن العناية بالكليات و الاهتمام بمعالي الأمور .

أيها الأحبة .....

و من ذلك قضية الدعوة إلى الله تعالى , فإن الدعوة إلى الله و التعليم ونشر العلم لا تزال جهودا مبعثرة يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله تعالى , يتحرك كل منهم بحسب اهتماماته وبحسب طاقته وبحسب مستواه ومداركه العقلية , ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء , أو على أقل تقدير أن يوجد خطوط عريضة , تستطيع أن توجه المسلمين إلى الاهتمام بالأمور بحسب أهميتها , فيعطى كل ذي حق حقه ولا يجار على شيء على حساب شيء آخر . إننا فى أمس الحاجة إلى من يقول لنا هذا أمر كبير وهذا أمر صغير وهذا أصل وهذا فرع وهذا مهم وهذا أهم وهذا يبدء به اليوم وهذا يؤخر إلى الغد , ولكن هذه الكلمة نستطيع أن نقول إننا لا نكاد نسمعها الآن على أى مستوى فكل واحد منا لديه اهتمامات , اهتمام بقضايا سواء من أمور الفقه أو من أمور الأحكام العملية التفصيلية الأخرى أو من أمور بعض القضايا العلمية أو من أمور الاقتصاد أو من أمور السياسة أو من أمور الإدارة , وتجد أنه يدور حول هذه القضايا التى تشغله دون أن يفكر : هل اهتمامه بهذا الأمر صحيح أم أنه يجب أن يصرف الاهتمام إلى ما هو أجدى و أهم ؟؟

لقد بُلينا بطائفة من المسلمين بل وأحيانا من الدعاة إلى الله تعالى الذين هم على الافتراض من خيار المسلمين , همهم تحول إلى العناية بفروع المسائل و جزيئاتها , فأسهروا ليلهم و أضنوا نهارهم في قتل هذه المسائل والجدال حولها , حتى لكأنها الدين كله , أو أنها من أهم مسائل الدين , مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن حتى من تركها متعمدا لن يكون عليه في ذلك حرج و لا تثريب و إن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه و سلم في دقيق الأمور وجليلها .

و في مقابل ذلك بُلينا بطائفة أخرى أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات , واعتبار أن هذه الجزئيات عبارة عن قشور أو كما يقول بعضهم عبارة عن توافه لا قيمة لها و لا ينبغي الاشتغال بها , بل أصبحت موضعا للسخرية والنقد والتندر من طائفة مع الأسف من الدعاة والوعاظ والعلماء والمفكرين .

مع أننا نقول فى حقيقة الأمر هذا كله دين , الكبير والصغير والأصل و الفرع و الجزء و الكل مما يتعلق بقضية الإسلام فهو دين , وفى الحديث المعروف حديث عمر وأبي هريرة لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإحسان والإيمان والإسلام كان من ضمن ما سأله , سأله فى بعض الروايات عن قضايا تفصيلية عديدة مثل قضايا الغسل من الجانبة وغيرها و مع ذلك لما انتهى قال : هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم . فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو دين ينبغي الاهتمام به والعناية به وألا يكون محط سخرية أو استهزاء أو نقد من أحد , لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه , ويوضع كل شي فى نصابه .

إن من العجيب أيها الأحبة أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتدقون أنهم يحاولون الإصلاح والتغيـيـر , هم الذين يتسببون في كثيـر من الأحيان في الإثارة في الجزئيات , وإشغال الناس بها , وصرفهم عن معالي الأمور وعما عداه , هم الذين يتسببون فى ذلك لأنهم يطرحون وجهات نظرهم بطريقة غريبة , طريقة استفزازية , طريقة غير موضوعية وغير صحيحة أيضا , ولعل أقرب مثال أن أحد كبار المفكرين كتب قبل يومين فى جريدة سيارة فى هذه البلاد وكُتب بخط عريض : لا يوجد دليل من القرآن والسنة أو كلمة نحو هذه على تغطية المرأة وجهها !! فإذا أثار هذه القضية فمن الطبيعي أن يكون هناك نقد و رد وأخذ و عطاء هذه المسألة , و ليس صحيحا أن يطرح إنسان وجهة نظره فى قضية معينة ثم إذا طرحت وجهة نظر معارضة قال : يا أخي هذه جزئيات هذا قصور هذه توافه . إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشتغل بها أنت و لماذا تتحدث عنها و لماذا لا تنصرف إلى ما تعتقد أنه أهم منها و أجدى و أنفع للمسلمين فى دينهم وديناهم ؟؟

إذن البحث والدليل رائد الجميع ونحن لا ننتقد أحدا أن يتكلم فى قضية من قضايا الدين , لكن ينبغي أن يتكلم بتعقل وموضوعية واتباع للدليل من كتاب الله تعالى و سنة رسول الله عليه السلام أو إجماع الأمة . وكذلك ينبغي أن يكون الحديث عن الموضوعات بحسب أهميتها وثقلها في ميزان الإسلام . و إزاء هذين الطرفين المتقابلين : طرف المهتمين بالجزئيات وطرف الذين يهونون من شأنها , كان لابد من طرح هذا الموضوع وكذلك أحببت طرحه مع أنني أقول أن هذه القضية ليست قضية الدعاة فحسب بل هي قضية المسلمين . لو أتيت إلى الرجل في بيته وجدته يهتم بالجزئيات وينسى الكليات , ولو أتيت إلى المسئول فى إدارته لوجدت أنه يهتم بالجزئيات وينسى الكليات , ولو أتيت إلى المدرس لوجدته كذلك ولو أتيت إلى الداعية لوجدته كذلك ولو أتيت إلى الخبيـر الاقتصادي أو السياسي لوجدته كذلك .

إذن العناية بالجزئيات وإهمال الأصول والكليات هو داء مستحكم في حياة المسلمين وقبل أن يكون مستحكما في حياتهم هو داء مستحكم فى عقولهم .

القضية الثانية : الأصول و الفروع

لا شك أن هذا مما يُحتاج إليه في تقسيم مسائل الدين , أن يُقال أن مسائل الدين تـنقسم إلى أصول و فروع , و إن شئت فقل إلى كليات و جزئيات أو أي تعبيـر آخر , و ليس المقصود بالأصول و الفروع أن نـقول : الأصول مثلا هي أبواب العقائد و الأمور النظرية العلمية و الفروع هي الأشياء العملية , كلا ولكننا نـقول المسائل الجليـلة الكبيرة - سواء كانت علمية عقائدية أو كانت عملية – فهي من الأصول . و المسائل الدقيقة سواء كانت مسائل في الأمور العملية , أو كانت في الأمور العلمية , فإنها تعتبـر فروعا كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في الفتاوى ( الجزء السادس صفحة 56 ) . فمثلا العلم بوجوب الواجبات كأركان الإسلام الخمسة , هو من قضايا الأصول الظاهرة مع أنه أمر عملي : الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و قبلها أيضا الشهادتان , و بالذات الأركان الأربعة الأخرى فإنها ظاهرٌ جدا أنها أمور عملية , و مع ذلك فالعلم بوجوبها هو من قضايا الأصول الظاهرة , ولذلك كان من جحدها كفر , مثله في ذلك مثل من جحد مسائل الاعتقاد الثابتة المشهورة المتواترة التى لا تـخفى أدلتها , كمن جحد مثلا قدرة الله تعالى أو علمه ( أنه بكل شي عليم ) أو أنه سميع أو أنه بصيـر أو سائر أركان الإيمان الستة التى ذكرها النبي صلى الله عليه و آله وسلم .

كما أننا نجد في المسائل العملية فروعا و جزئيات . فمثلا قضية الصلاة , الصلاة أصل لكن تفاصيل سنن الصلاة و ما يستحب أن يقال فيها هذا ليس أصلا , بل هو من الأمور الدقيقة , فهو يصح أن يسمى فرعا أو أن يسمى أمرا جزئيا . فهل ترى يا أخي مثلا أن من العدل أن نستغرق وقتا في الحديث عن جزئية من هذه السنن الواردة في الصلاة كالحديث عن جلسة الاستراحة , أو الحديث عن التورك , أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود : هل يسجد على يديه أولا أو على ركبتـيه أولا ؟ هل ترى من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة و نقتـلها بحثا و نؤلف فيها عددا من الكتب , وتكون هي حديثـنا في مجالسنا , وهي مجال للمنافرة و المنافسة بين الأقران وبين الطلاب , و يتلقاها صغار طلاب العلم قبل كبارهم , على حين أنك لا تكاد تـجد من يتكلم مع الناس في قضية الصلاة و أهميـتها ومنـزلـتها من الدين , كلاما يصل إلى قلوبهم , و يخاطبهم , و يخالط شغافهم , و يدعوهم إلى ارتياد المسجد في كل وقت . و لا تـجد مثلا من يتكلم عن قضية الخشوع في الصلاة , الذي هو روحها و لبها , بل إنك تجد من الفقهاء من يقول أن الخشوع في الصلاة مستحب و ليس واجبا !!! مع أن الصلاة التي لا يكون فيها خشوع و حضور قلب و إقبال لا تؤثر في صاحبها تقوىً لله عز وجل و لا خوفًا منه و لا إقبالا على الطاعة و العبادة , و إن كانت بكل حال هي صلاة شرعية مالم يرتكب فيها ما يبطلها .

إذا في المسائل العملية فروع و أصول , وكذلك في المسائل العلمية الاعتقادية كليات و جزئيات ( أو فروع و أصول ) , فمثلا : أركان الإيمان الستة التى يقرأها صغار الطلاب في المدارس : أن تؤمن بالله و ملائكته وكتبه و رسله و اليوم الآخر و القدر خيره و شره , هذه أصول وكليات و قضايا عامة لا شك فيها فإنكارها كفر , والحديث عنها من أَوْلى الأولويات و أهم الضرورات , و لكنك تـجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية و الاعتقادية جزئيات من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبـره , و ليست من شروط دخول الجنة , فمثلا سؤال : هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره ؟؟ مثلا : قضية النـزاع في معاني بعض الآيات القرآنية أو بعض الأحاديث النبوية , بل حتى النـزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها . قضية الكلام , ما يتكلم به أهل المنطق فيما يسمى الجوهر الفرد , أو بقاء الأعراض , قضية فناء النار هل تفنى النار أو لا تفنى ؟؟

هذه من القضايا التي ليست من القضايا الكلية التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بـبـيانها بـيانا واضحا لا إشكال فيه , بحيث أن يكون المخالف فيها كافرا أو فاسقا أو مبتدعا , بل هي من القضايا التي يمكن أن تعـتبـر من أمور الفروع و الجزئيات في المسائل العلمية . و ليست هذه كتلك , فالمؤكد أيضا أن العبد لن يُسأل في القبـر : هل تؤمن بفناء النار أم لا تؤمن بها ؟ و ليس هذا من شروط دخول الجنة مثلا أن يقول هذا أو ذاك . و لكنه ينـبـغي للعبد أن يؤمن بأركان الإيمان الستة و التي منها الإيمان باليوم الآخر و ما فيه , مثل الإيمان بالجنة و الإيمان بالنار , و ليس مجرد الإيمان اللفظي و إنما الإيمان الذي يتحول إلى عقيدة في القلب و يتحول إلى سلوك و يتحول إلى عمل و يتحول إلى تحريض للمؤمن على مواجهة متاعب الطريق , و الصبـر في سبيـل الله و الجهاد , و إيثار ما يـبقى على ما يفنى و إيـثار الآخرة على الأولى .

فهذه أمور كلية في باب الاعتقاد , و تلك أمور جزئية و الأمر في ذلك إن شاء الله تعالى واضح لا إشكال فيه . كلنا ندرك في بَدِيهةِ عقولنا أن هناك أمورا كلية و جزئية و هناك أصول و هناك فروع , و أن هناك مهم و هناك أهم , و هذا أمر ليس مخصوصا فقط بما ذَكَرتُ بل حتى في أمور الحياة الدنيا , فمثلا لو نظرنا إلى جسم الإنسان : جسم الإنسان فيه القلب , و فيه المخ , و فيه الأجهزة الرئيسية في الجسم كالجهاز الهضمي و الجهاز التنفسي , هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم لا غنى له عنها في حال من الأحوال . لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثلا , أصابع اليدين و أصابع الرجلين , قد يُـقطع من الإنسان أصبع أو أصابع و يـبقي الإنسان حيا سليما معافى, فليس الاهتمام بالقلب و المخ و الجهاز الهضمي و الجهاز العصبي و الجهاز التنفسي مثلا , كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع , أو الاهتمام بالبنان و طرف الأصبع , هذا أمر يدركه الجميع وكما أنه معروف من الناحية العقلية و الطبـية و الواقعية فكذلك هو من الناحية الشرعية . فلو أن إنسانا اعتدى على آخر بقطع أصبعه أو أنملة من أنامله , لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان , أو اعتدى على جهاز حسَّاس أو تسبب في تعطيل بعض حواسه التي يحتاج إليها في حياته . و هذا أيضا لا يعني التفريط في شيء , لا يعني أن الأصبع صار ليس له قيمة أو ليس له أهمية , و لكن لا يعني أن تضع الأصبع مكان القلب أو مكان المخ أو مكان الجهاز العصبـي أو الجهاز الهضمي أو الجهاز التـنفسي . تعطي كل شيء بحسبه و لا تفرط في شيء أو تهمل شيئا , و لكن هذا كبيـر و هذا صغير و هذا مهم و هذا أهم , و هذا أصل و هذا فرع , و هذا كل و هذا جزء .

مثال آخر : لو تصورت مدينة من المدن كالرياض مثلا أو غيـرها , هذه المديـنة لسكانها حاجات ضرورية , فمن الحاجات الضرورية مثلا : الماء , حاجتهم إلى ان يتوفر الماء للشرب و إلى أن يكون ماء نقيا صافيا صحيا , قضية الهواء الذي يتـنفسونه , أن يكون هواء نقيا بعيدا عن التلوث , قضية الطعام و توفير السلع و المواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم و ليلتهم . هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو بدون ماء أو بدون طعام فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها و لا بد للإنسان منها . و هناك في مقابل هذا أمور ثانوية كالأمور الجمالية مثلا و الحدائق و المنـتـزهات و غيرها , و هذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها , لكن ليس صحيحا أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية و القضايا الشكلية و القضايا التحسينـية على حساب القضايا الكلية , فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا و ذاك فيُـوَفر للإنسان الهواء الملائم , و المناخ الملائم , و الماء الملائم , و الطعام الملائم , و قبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية : حاجات الدين , حاجات الخُلق , حاجات التقوى , حاجات الحماية , و مع ذلك استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية و التحسيـنية و نظافة الشوارع و تحسين الحدائق , هذا أمر جيد و نور على نور . لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور , فيـنبغي أن يـبدأ بالأهم : توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها و تلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبـها و إذا لم تـتيسر اليوم فقد تـتيسر غدا أو بعد غد , و إذا كان هذا على مستوى مدينة , فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها فإن المدن الكبـرى في أي دولة بما في ذلك العواصم و القصبات الرئيسية , هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول , و لذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نـهاية التحدي لدولة فإنه يحاول أن يتعدى على عاصمتها لأنه يعتبـر هذا ضربا في الصميم كأنك أصبت إنسانا أو حاولت أن تصيـبه في قلبه و في صميم فؤاده , على أن هناك في مقابل هذا أطراف , قرى صغيـرة في الأطراف , و بوادي و هجر و مدن صغيـرة و أشياء لا شك أن العناية بها ضرورية و فواتها يعتبـر خطرا مهددا لأنه قد يتطور إلى ما بعده , لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال بضياع المدن و القصبات الرئيسيـة . و لذلك كان الفرسان و القواد على مدار التاريخ يعتـنون بـتحصين المدن الكبرى و العواصم عناية خاصة و يولونها اهتماما من نوع خاص , لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض و إذا توقف القلب عن دفع الدم - توقف عن النـبض - معناه الحكم على الجسم كله بالزوال و الفناء .


إذن هذه القضية معروفة عند الإنسان في أموره الدينية و الدنيوية و المدنية و سائر أموره على حد سواء , و لا يعني تـقسيم هذه الأشياء إلى أن هناك أشياء مهمة و أشياء أهم منها و أشياء كلية و أشياء جزيئة و أشياء أصلية و أشياء فرعية أن أقول لك أن تفرط في الأشياء الفرعية !! أرجوك يا أخى لا تفهم مني هذا , وإياك إياك أن تحمل كلامي ما لم أقل , فإن الله تعالى يحب العدل و أنت تفهم الكلام على ما قيل دون أن تشتط بالكلام إلى كلام لم يقل . دعني لا تحكم على ما فى قلبي و لكن احكم على الذي تسمعه مني !! نحن نقول هناك أصول و فروع , هذه الأصول ينبغي أن تُعطى من العناية حقها و قدرها وكذلك الفروع تعطى من العناية حقها و قدرها , لكن من المؤكد أنه ليس حق الأصول كالفروع , و لا حق الكليات كالجزئيات , و لا حق الضروريات كالمسائل التحسيـنية أو التكميلية أو الحاجية . و نحن نتفق جميعا لو أن إنسانا كان يهتم بعلاج شيء في أصبعه , أو علاج ظفر له وهو يعاني من مرض مزمن في قلبه , أو يعاني من جلطة في المخ مثلا أو أنه يهتم بعلاج زكام على حين أن عنده مشكلة قد تؤدي به إلى الوفاة , أننا نعتبر هذا نوعا مما يخالف العقل و الحكمة , فليس من العقل و الحكمة أن تهتم بهذه القضية الجزئية و تهمل الأصل , ليس العقل و الحكمة فقط , بل حتى يخالف الشرع , فالشرع لا يأذن للإنسان مثلا أن يشتـغل بعلاج قضية جزئية في جسمه مما يترتب عليه فوات الأصل , و إذا كان لا بد فالمحافظة على الأصل أولى , و إذا كان من الممكن أن تجمع بينهما فهذا أمر جيد . و لو أن إنسانا اهتم بتسمية المدن أو ترقيم شوارعها أو تـنظيفها أو وضع الحدائق , و لكنه غفل عن توفير الحاجات الضرورية , لم يكن هذا الأمر محمودا بحال من الأحوال فلا بد من تأمين ضرورات الدين و الدنيا قبل أي شيء آخر . إذن هناك ضرورات و هناك كماليات و هناك تحسيـنات و هي درجات بعضها فوق بعض .

نحن لا ندعو إلى إهمال شيء منها , لكننا ندعو إلى أمرين . الأول العناية بالجميع لأنه من الدين فالأصل من الدين و الفرع من الدين و الكل من الدين و الجزء من الدين , نحن ندعو إلى الاهتمام بالجميع لأنه من الدين , و لكننا ندعو ثانيا إلى أن يعطى كل شيء ما يستحقه فلا يوضع الأصل مكان الفرع ولا يوضع الفرع مكان الأصل . و الغريب أيها الأحبة أن هذا الأمر ظاهر من وجوه عديدة , فأولا من ناحية الأدلة الشرعية فأنت حين تقرأ القرآن الكريم , أنا أتعجب و نحن نسمع جميعا قراءة إمامنا جزاه الله خيرا لهذه الآيات المزلزلة التي تهز القلوب و تجر الدموع حتى من الغلاظ القساة , هذه المعاني الكبيرة العظيمة التي تردد في آيات القرآن الكريم , لا تكاد تجد وجها من القرآن الكريم إلا و فيه الحديث عن الدار الآخرة و عن البعث و عن الحساب , كم أخذت من اهتمام الدعاة و العلماء و المصلحين و الخطباء و المربين ؟ أقول بدون تحفظ إنها لم تأخذ مقدار ما أخذته قضية جزئية فرعية من أحوال كثير من الدعاة , و لا أبالغ إذا قلت إن من الدعاة من قد يهتم بقضية التسبيح باليد اليمنى أو باليدين كلتيهما , و ربما يهتم بهذه القضية أكثر مما يهتم بتلك القضايا الكبرى التي أبدأ القرآن فيها و أعاد , و التي هي موضوع القرآن الكريم في معظمه , قضايا الاعتقاد الكبرى التي تُسَيِّر دفة الحياة و تحكم العقول و تصلح القلوب و تبني الأمة و تحدد الاتجاه , أصبحت قضايا لا نحتاج إليها إلا في حالة واحدة ( و انظر كيف انتكست المسألة مع الأسف الشديد ) , إذا أردنا أن نؤكد للناس أهمية قضية جزئية , حاولنا أن نـتحايل بربطها بالأصل حتى تصبح قضية مهمة بدليل أنها قضية ترتبط بالعقيدة , و قد يكون ربطها بالعقيدة صحيحا فتكون مهمة فعلا , ولكن أحيانا قد يتكلف ربطها بالعقيدة لنؤكد للناس أن هذه قضية مهمة , مع أننا نسينا العقيدة نفسها في بعض الأحيان التي نستخدمها أو نحاول أن نستفيد منها في ذكر بعض القضايا الجزئية و تضخيمها و تكبيرها .

أضرب لك مثالا ... قضية اليهود و النصارى أو مسألة الولاء و البراء شكل عام , بغض أعداء الإسلام , اتخاذ طريق آخر مناوئ لهم , إعلان الحرب عليهم بكل صوره و أشكاله , البراءة منهم , و الكفر بهم و بما يعبدون من دون الله و اعتقاد عداوتهم للمسلمين و أنهم لا يريدون للأمة خيرا في حاضرها و لا مستقبلها في دينها و لا في دنياها {{ لا يألونكم خبالا ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر }} {{ ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء بعضهم أولياء بعض و من يتولهم منكم فإنه منهم }} {{ و لن ترضى عنك اليهود و لا النصارى حتى تتبع ملتهم}} {{ ودوا لو تدهن فيدهنون }} إلى آخر حشد هائل جدا من القرآن الكريم و الأحاديث النبوية الشريفة , يبدأ و يعيد في قضية البراءة من المشركين و إعلان هذه البراءة و البعد عنهم و مجافاة طريقهم و مجانبة خطهم و منهجهم {{ كفرنا بكم و بما تعبدون من دون الله وبدا بيننا و بينكم العداوة و البغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده }} هذا المعنى الكبير ما نصيبه من عقولنا ؟ ما نصيبه من قلوبنا ؟ ما نصيبه من مجالسنا ؟ ما نصيبه من صحافتنا ؟ ما نصيبه من إعلامنا ؟ ما نصيبه من مجتمعاتنا ؟ ما نصيبه من مؤسساتنا سواء كانت مؤسسات رسمية أو كانت مؤسسات غير رسمية ؟ ما نصيب هذا الموضوع و إبرازه و تربية الناس عليه , بحيث يصبح جزءً من حياتهم لا يتجزأ و يأخذ حجمه الطبيعي و هو حجم كبير ؟ قليل !! لكننا في الوقت الذي نتناسى فيه خطر النصارى و خطر اليهود و نتناسى تحالفهم الخطير اليوم على أمة الإسلام , وتناديهم للقضاء على هذه الأمة و صراخهم المسلمون قادمون, ونسي هذا الحلف الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية بالذات و إسرائيل , و إصرار أمريكا على حماية إسرائيل و حفظ أمنها , و توفير كافة الضمانات الممكنة لها , وتحقيق كل مطالبها بل ومساهمتها أصلا في وجود هذه الدولة ثم في بقائها ثم في حمايتها ثم في توسعها , ننسى خطر اليهود , و ننسى خطر النصارى لكننا قد نستخدم هذه القضية حينما نريد أن نلفت نظر الناس إلى أمر مهم . تقول كيف ؟! أنا أوضح لك , يقع بيني وبينك خلاف في مسألة من المسائل الفرعية , وهو خلاف جائز لأن المسألة ما فيها نص من الكتاب والسنة , والمؤكد أنك لن تسأل عنها فى القبر و أنك لا يشترط لكي تدخل الجنة أن تقول فيها لأن المسألة ما بينها القرآن بيانا لا يلتبس على أحد و قد لا تكون وردت في القرآن أصلا أو لا تكون وردت في السنة , لكني اختلفت و إياك في هذه المسألة مثلا فأنت قد تجد فى هذا الأمر فرصة لأن تقول بأن هذا الكلام خطير , و هذا الكلام لا يجوز , و هذا فيه و فيه و فيه , و لكي تقنع الناس بأن هذا الكام فعلا خطير و ضار و ينبغي بأن لا يصدق فإنك تلجأ إلى أن تقول القول بهذا القول أو الفئة و الطائفة التي تقول بهذا القول هي أخطر على الإسلام مِنْ مَنْ ؟ مِنَ اليهود والنصارى !!! الآن احتجنا إلى قضية الكلام عن خطورة اليهود و النصارى حتى نؤكد للناس أن المسألة هذه خطيرة , وقد لا تكون كذلك وقد تكون كذلك الله أعلم , المسائل تـتفاوت , لكن العناية بالقضية الأصلية ابتداء و تربية الناس عليها و بناء النفوس بها و شحن القلوب هذا غير موجود , غير موجود و لماذا نضحك على أنفسنا ؟ لماذا لا نتقى الله سبحانه و تعالى و ننظر إلى واقعنا و إلى أحوالنا نظرة فاحصة , نظرة الذي يبحث عن الخطأ ليتجنبه و يبحث عما يرضي الله سبحانه و تعالى ليفعله ؟ لأن العبد يتعامل مع ربه عز و جل خاصة إذا كان في مجال الدعوة و في مجال التعليم و في مجال طلب العلم . مَثَل آخر ليس ببعيد عن السابق , قضية العقيدة كل إنسان يدرك أهمية العقيدة , و أن هذه العقيدة هي المحرك الذي يدعو الإنسان إلى فعل أي شيء , فالإنسان أصلا لا يمكن أن يتحرك إلى فعل شيء إلا بناء على معتقد راسخ لديه , أنه ينبغي أن يفعل كذا و أن يترك كذا , و هذه قضية مسلمة حتى عند الكفار , يدركون أنهم لا بد أن تكون لديهم فكر أو تفكير في هذه المسألة قبل أن يقدم عليها . إذن يسبق الفعل دائما فكرة أو عقيدة مستقرة في قلب هذا الإنسان , تدعوه إلى فعل هذا الشيء أو ترك ذلك الشيء , و إذا كانت العقيدة عقيدة صحيحة صافية دعت الإنسان إلى فعل صحيح صافٍ , و إذا كانت العقيدة عقيدة منحرفة فقد تدعو الإنسان إلى فعلٍ منحرف . فالعقيدة أولا وهي الأساس و كلنا نتكلم عن هذا وقد نقوله في بعض مجالسنا .

لكن يأتي السؤال : هل نحن نتكلم عن العقيدة بشكل صحيح ؟ هل نحن نربي الناس عليها بشكل جيد ؟ هل نحن نربطها و نربط الأحداث بها ربطا صحيحا ؟ أم إننا نستخدمها أحيانا للإعراب عن خطورة أمر كما ذكرت قبل قليل . فإذا أردنا أن نتكلم عن هذا الموضوع بأنه لا يصلح , قلنا أن هذا خطير وكذا وكذا , و حاولنا أن نربطه بالعقيدة , و قد يكون ربطنا به بالعقيدة أمرا صحيحا و قد يكون أمرا خاطئا , لكننا تكلفنا ذلك حتى نحذر الناس من القول بهذا القول أو من فعل هذا الفعل , لأنه أمر يخل بالعقيدة . و الإنسان إذا شعر أن هناك شيء يتعلق بالعقيدة يحجم عنه . إذن الأصل أن يهتم الإنسان بعقيدته بتربية الناس على العقيدة , ببنائها في النفوس , بشحن القلوب بها , دعوة الناس إلى تصحيح عقائدهم , تصحيح التوحيد , تصحيح العبادة , الإيمان الحق بالله عز و جل و ملائكته و كتبه و رسله , و الإيمان الحق باليوم الآخر . لكن كم هو مؤسف أن أقول أيها الأحبة إننا في الوقت الذي نتكلم فيه عن قضية العقيدة , كثيرا ما نجور على هذه العقيدة من حيث لا نشعر , كيف ندرس العقيدة ؟ لأن الذي نعرف أن السلف الصالح رضي الله عنهم حين تقرأ كتبهم فإنك تجد أنهم كانت طريقتهم في تقرير العقيدة كما في كتب الإيمان لجماعة من أهل العلم , الإيمان , التوحيد و غيرها من كتب السنة , آية محكمة من كتاب الله , و حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه و آله سلم , و دور العالم ينحصر غالبا فى وضع العنوانات مناسبة لهذا الحشد من الآيات و الأحاديث التي ساقها . فكان الناس يأخذون العقيدة واضحة سهلة قريبة من النفوس بدون تكلف و لا تعقيد و لا أخذ و لا رد , العقيدة من كتاب الله تعالى و من سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم , واضحة صافية نقية كما أخذها أبو بكر و عمر و عثمان و علي , بل كما كان يأخذها الأعرابي الذي يأتي من أطراف البادية و يجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة أو ساعتين , فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان و أصول الاعتقاد و أصول الأشياء العملية ثم ينصرف إلى قومه مؤمنا مسلما بل ينصرف إلى قومه داعيا إلى الله عز و جل .

يعني تسهيل أمر الدين {{ و لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }} , أحيانا تجد الطالب الذي يتخصص في العقيدة و قد يقضي سنوات طويلة في دراسة العقيدة , يدرس قضايا منطقية و قضايا فلسفية , و قضايا الجوهر و قضايا العرض و قضايا و أمور ربما يحتاج وقتا طويلا لكي يفهمها , ثم يحتاج وقتا طويلا لكي يناقشها , ثم يحتاج وقتا طويلا لكي يفهم الرد , ثم يحتاج وقتا أطول لكي يفهم أو يقتنع بأن هذا الرد صحيح , و قد يبقى في قلبه شبهة . و مما يروى أن شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله جاءه الإمام ابن القيم , فكان يسأله عن مسائل , و يسأله عن مسائل فقال له ابن تيمة رحمه الله : لا تجعل قلبك مثل الإسفنجة يتلقى هذه الاشياء و يتشربها , فإنه حينئذ قد لا تخرج منه , و إن خرجت يبقى أثرها , بمعنى أنه ليس الأصل أن يفترض الإنسان شبهات و يفترض انحرافات و يفترض مذاهب باطلة , و يجلس يرد عليها , و نعلم الطالب الصغير و المسلم الجديد منذ أن يدخل في الإسلام أن هذا ضال , و هذا منحرف , و هذا خطأ و هذا باطل !!! يا أخي علمه الحق أولا و علمه الحق نقيا صافيا من كتاب الله تعالى و من سنة رسوله محمد صلى الله عليه و آله و سلم , فإذا حدث و أن واجهه أو خشيت أن يواجهه مثل هذه الأشياء بحكم واقعه العملي , فتعطيه إياه بطريقة سليمة مناسبة . لأنه من المؤكد أن الإنسان لو عرف العقيدة الصحيحة , عرف العقيدة من كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم نقية صافية لا غموض فيها و لا غبش , كما تلقاها الجيل الأول و الصدر الأول , و أشرب قلبه بها و أحبها , هذا الإنسان مات على ذلك , و هو لم يدر أن هناك طائفة من الطوائف اسمها الأشاعرة , و ما درى أن هناك طائفة اسمها المعتزلة , و لا علم أن هناك طائفة اسمها الجبرية , القدرية , الجهمية , المعطلة , كل هؤلاء ما عرفهم و لا يدري من أي شاربة يشربون و لا أي واردة يردون , لكنه عرف العقيدة من كتاب الله و سنة رسول الله صلى عليه و سلم . ألن تتحقق له النجاة بإذن الله تعالى ؟ بلى , و من المؤكد أن أبا بكر و عمر و سائر الصحابة ما عرفوا هذه المذاهب الباطلة لأنها لم تكن موجودة في وقتهم .


مثال آخر : العقيدة من كتاب الله وسنة رسوله ليست مربوطة بشخص وإنما الأشخاص إنما هم دعاة يفتخرون بالانتساب إليها , فأنت حين تجد علما من الأعلام , خذ مثلا شيخ الإسلام ابن تيمة رحمه الله الذي اشتهر وذاع صيته وصار له القِدْح المُعَلَّى وصارت له المكانة لأنه لم يدع الناس إلى مذهب خاص , ولا إلى رأي شخصي , ولا إلى اجتهادات ذاتية , وإنما دعا الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , هذه كل بضاعته فهو لا يأتي بشيء من كيسه أو من عنده إنما يحيل الناس إلى الكتاب والسنة ولذلك صار شيخ الإسلام . إذن ليست القضية عندنا قضية شيخ الإسلام ابن تيمية , القضية عندنا قضية العقيدة الصحيحة , وشيخ الإسلام ابن تيمية كل من عرفه أحبه وكل من قرأ كتابه عظمه , ولكن لماذا أجعل المشكلة بيني وبينك هي قضية شيخ الإسلام ؟ شيخ الإسلام إمام فحل وقد اعترف بفضله العدو قبل الصديق , لكن دعني من هذه المسالة أنا أناقشك في أصل قضية المعتقد .

خذ مثالا آخر : قضية الدعوة الوهابية . أفلح الاستعمار في إعطاء صورة قاتمة عن الدعوة الوهابية في العالم الإسلامي و في كل مكان , وأنه مذهب خامس وأنه وأنه … حتى إنى قرأت في كتاب لأحد العلماء أحد البلاد , يقول أن محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة والعياذ بالله , أو قال إنه أراد أن يدعي النبوة و لكنه لم يتجرأ على ذلك , فبدأ يوري ويلبس على الناس !! ما نحتاج لأن نرد على هذا الهراء , نحتاج أن نقول لهذا الإنسان كتاب التوحيد . اقرأ كتاب التوحيد والمسألة ليست مسألة مهاترات , الحق أبلج والباطل لجلج , ما فيه دعوى نبوة أو دعوى ولاية أو دعوى اجتهاد . فيه أن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب يقول : باب ( يذكر الترجمة ) , ثم يقول قال الله تعالى ( يذكر آية ) , يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يذكر حديث رواه البخاري ) , فيه مسائل , والحمد لله وعلى هذه المنوال . ما جاء بشيء من عنده إنما أتى بشيء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , ولذلك صار مجددا فى عصره وصار له تأثير في حياة المسلمين في هذه البلاد خاصة وفي بلاد أخرى تأثير كبير . فالمقصود أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما دعى إلى نفسه , ولا دعى إلى مذهب , وإنما دعى إلى الكتاب والسنة . إذا فالقضية والخصومة بيني وبين أي إنسان في الدنيا ليست الخصومة في قضية أنت وهابي أو لست وهابي . في إحدى المرات لقينا رجل من الشباب المتدين في مظهره - أحسبه كذلك والله حسيبه - في بلد إسلامي , فحادثناه وسألناه , ومن ضمن ماسألناه قلنا له هل أنت تنتسب إلى شيء من الطرق الصوفية ؟ فقال نعم أنا أنتسب إلى الطريقة النقشبندية , فتحدثنا معه في قضية الطريقة وأنه ما حاجتك إلى الطريقة النقشبندية ؟ قال إنه الشيخ يوصل إلي علم الرسول صلى الله عليه وسلم , فاقترحنا عليه أنه لماذا لا يختصر الشيخ النقشبندي ويرجع مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون أفضل له بدلا من تطويل السلسلة والسند , يذهب إلى المصدر والنبع مباشرة بدون واسطة هل يعتقد أن هذا فيه مانع ؟؟ ففاجأنا بسؤال , قال أنتم من أي طريقة ؟ قلنا نحن من الطريقة المحمدية من طريقة محمد صلى الله عليه وسلم , قال لا أنتم من الطريقة الوهابية . إذن ليست القضية بيني وبينك نحن وهابية أو لسنا بوهابية , نحن لا نسمي أنفسنا بهذا الإسم وإذا أنت عيرتنا بها فنحن نقول كما قال الشاعر:
وعيرني الواشون أني أحبها ***** وتلك شكاة ظاهرة عنك عارها
لكننا نقول مثلا حين تقوم بالدعوة إلى الله بالدعوة إلى الدين الصحيح في أي بلد ليس شرطا أن ترفع راية الوهابية , ارفع راية الكتاب والسنة , وليس شرطا أن أبدأ بتصحيح مفهوم الناس عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب , هذا يأتي تبعا يأتي بعد هذا إذا عرف التوحيد الصحيح افترض أنه مات وهو لا يزال سيء الظن بالشيخ محمد بن عبد الوهاب , بحسب الكلام الباطل الذي وصل إليه , هنا إذا كان توحيده صحيحا وإذا كان عرف التوحيد الصحيح فهو إن شاء الله ناجٍ وإن أخطأ في هذه المسألة , لكن المصيبة لو مات وهو على عقيدة منحرفة أو على ضلال بحيث يخشى عليه من الهلاك , وقد يكون على عقيدة كفرية في بعض الأحيان فهذه هي الخطورة .

إذن ليست البداية بأن تبدأ بمسألة أو قضية شكلية , إنما المهم أن نبدأ بقضية تصحيح عقائد الناس من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم , بهذه الطريقة يمكن أن تتحول العقيدة إلى هم كبير مؤثر في حياة الناس , وإلى روح تسيطر على قلوب الناس وتسير حياتهم وتضبط أمورهم صغيرها وكبيرها , بحيث ترجع إلى هذا الأصل الكبير , لكن ما دام الأصل فيه نقص , أو فيه ضلال , فلا غرابة أن يترتب على ذلك آلاف الآثار السلبية فيما يتعلق بالفروع فإذا فسدت العقائد فلا تستغرب أن تجد من يطوف حول القبور مثلا , ولا تستغرب أن تجد من يدعو الأولياء ويناديهم , ولا تستغرب أن تجد من يوالي الكفار والمشركين ويعطيهم الطاعة ويسير في ركابهم , ويسارع في ذلك كما قال الله تعالى {{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين }} . ( نخشى أن تصيبنا دائرة ) هذا بالضبط هو الكلام الذي يردده الصحفيون اليوم عما يسمى بالنظام الدولي الجديد , عندنا الآن نظام دولي جديد ! الغرب يحكم قبضته على العالم - خاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي - ولذلك كأنهم يريدوا أن يقولوا أو أنهم يقولون فعلا ما أمام المسلمين إلا أن يسايروا هذا الركب ويسيروا في ظله ويسلموا أمرهم كما سلم غيرهم أمره , ليكونوا جزء من هذا النظام الدولي الجديد . هذا هو ما قاله الله تعالى عن المنافقين {{ فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم }} يعني في طاعة المنافقين وموالاتهم {{ يقولون }} هذا العذر {{ نخشى أن تصيبنا دائرة }} نخشى من مصيبة , نخشى مشكلة , نخشى أن يلتفت علينا الشرق والغرب , أو يتبرأ منا , أو يخطط ضدنا, أو يتآمر علينا , أو يحاربنا , وهذه مع الأسف مشاعر كثير من المسلمين في طول العالم الاسلامي وعرضه , في مشارق البلاد ومغاربها .

لا غرابة إذا فسدت العقيدة أو ضاعت أو انحرفت , أن ينتشر بين المسلمين شرك الطاعة أو كما يسمي بعض المعاصرين الشرك السياسي الذي يعطي حق التشريع لغير الله سبحانه وتعالى ويمنح بشرا من البشر أن يحلل ويحرم ويأمر وينهى ويحق ويبطل وغير ذلك من الأشياء التي استأثر الله سبحانه وتعالى بها , واختص نفسه بها فهي من خصائص الالوهية {{ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله }} وقال سبحانه {{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون }} وقال سبحانه {{ واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا }} إلى قوله {{ ولا يشرك فى حكمة أحدا }} وفى قراءة {{ ولا تشرك في حكمه أحدا }} , {{ إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه }} , فالله تعالى هو الحكم وهو الحاكم وهو الحكيم والحكم إليه , هو الذى يحلل ويحرم فكلمة هذا حرام وهذ حلال وهذا مستحب و هذا مكروه وهذا جائز وهذا غير جائز وهذا حق وهذا باطل وهذا خطأ وهذا صواب , هذه لله سبحانه وتعالى وليس من حق أي إنسان حاكما كان أو قانونيا أو سياسيا أو أستاذا جامعيا أو كبيرا أو صغيرا أو خبيرا , أن يدعي أنه يمكن أن يتصرف في مسألة واحدة من ذلك , ولو ادعى لكان معنى ذلك أنه ادعى مشاركة الله سبحانه وتعالى في ألوهيته . قال الإمام الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية : (( فمن حكم بغير ما أنزل الله من الشرائع الإلهية المنسوخة كاليهودية وغيرها فقد كفر فكيف بمن حكم بغير ذلك مما صنعه البشر ؟ لا شك أن هذا كافر بإجماع المسلمين )) .

أمثلة ونماذج :

سوف أضرب لك أمثلة وهذه الأمثلة بصراحة ليست على سبيل الاستقصاء ولا على سبيل الدقة , وربما إن الوقت باغتني ولم أستطيع أن أستوفي كثيرا منها , ولكني سوف أتحدث عما سجلته من هذه الأمثلة مما يدل على أننا فعلا نشتغل كثيرا بالجزئيات عن الكليات ونحن بحاجة إلى مراجعة ذلك .

مثلا قضية الاشتغال بالوسائل والغايات . الاشتغال بالوسائل أحيانا على حساب الغايات أو الغفلة عن الغايات اشتغالا بالوسائل , خذ على سبيل المثال فى المجال العلمي تجد أن طالب علم الحديث يهتم بالمصطلح وقراءة المصطلح ودراسته وحفظ المتون فيه ويتكلم عن دقائقه ويتكلم عن الرجال وحفظ الرجال والكلام فيهم : هذا ثقة وهذا ضعيف , وربما يحفظ ذلك ويعتني به أشد العناية ويسرف في ذلك , حتى أنك لو جئت لهذا الإنسان تسأله عن حديث أصحيح أم ضعيف قال : والله ما أدري أراجع لك أو أسأل أهل العلم , مع أنه قضى ليله ونهاره في معرفة أمور المصطلح , وهي أمور فيها قضايا لا بد من معرفتها بكل تأكيد , و هي ضرورية وأسياسية لمن يدرس علم الحديث , لكن هناك قضايا ثانوية , فمثلا مسألة رواية الآباء عن الأبناء , أو رواية الأصاغر عن الأكابر , وقضايا المسلسلات , أو بعض تفاصيل علم الإسناد , كلها أمور ليست من القضايا التي لا بد منها , هي قضايا أقرب أحيانا إلى أن الاشتغال بها لا يكون مفيدا لطالب العلم , أو تكون فائدتها قليلة ويكون من اشتغل به عن غيره مغبونا .

مسألة أخرى : الاشتغال بأصول الفقه عن الفقه . تجد إنسانا مشغولا بعلم أصول الفقه وبالمقدمات المنطقية والأحكام الوضعية والأحكام التكليفية وقضايا الكلام واللغة وماشابه ذلك , وعنده فيها جودة وبراعة ومعرفة بالمخطوط والموضوع , و هذا جيد , لكن تجد كثيرا من هؤلاء لو سألته مثلا عن مسألة فقهية ما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في مسألة كذا أو كذا , هز رأسه وقال الله أعلم , اسأل أهل العلم , اسأل المفتين . ما قيمة عنايتك بأصول الفقه باعتباره وسيلة إلى تحصيل الفقه واستخراج الأحكام من الأدلة , وأنت لم تستخدم هذه الأصول .

مثال آخر : قضية التجويد . كثير من الشباب ومن الطلاب ومن المحبين يهتمون بالتجويد وإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية وربما أحيانا يتقعر فى ذلك حتى أني سمعت بعضهم يقول يا أخي إن مخرج الضاد مخرج دقيق عسير وكذا وكذا , حتى إنه لا يكاد يتقنه إلا أفراد من الناس , وبعد ذلك يبدؤون يذكرون لك أنه على مدار التاريخ أن عمر بن الخطاب كان يخرج الضاد من مخرجها الطبيعي أو فلان أو فلان , يذكر لك ثلاثة أو أربعة , سبحان الله !! حرف من حروف الهجاء موجود فى سورة الفاتحة التى يقرؤها المسلم فى الصلاة فى كل ركعة {{ غير المغضوب عليهم ولا الضالين }} وتأتي تقول ما يتقنه إلا عمر بن الخطاب أو ثلاثة أو أربعة !! كيف يكون هذا ؟؟ دين الله يسر ما فيه تكلف ولا فيه تنطع ولا فيه داعي للتشقيق والتعميق والمبالغة وتعسير الأمور بما يحول بين الناس وبين علم قراءة القرآن الكريم . أحيانا تجد المبالغة فى بعض صفات الحروف حتى تخرج عن حدها المعتاد , وتصل إلى درجة قد تكون على حساب فهم معاني القرآن , على حساب التفسير , على حساب العمل بالقرآن على حساب الدعوة إلى القرآن على حساب الصبر على مايلقاه الإنسان فى سبيل القرآن , حتى أنك تجد أحيانا بعض الأخوات من النساء وهي تهتم بالتجويد طيب أنت لا تكن إماما بالمسجد , فالمساجد والحمد لله ملأى والحرم مكتفٍ , فلماذا أنت تقرئين هذه الأشياء وتبالغين فى مخارج الحروف , فى أمور لا تحتاجين إليها ؟؟ لن تقرئي أمام الناس , لن تسجلي قراءتك فى شريط مثلا , لا بأس أن تقرأ ما يجود قراءتك , يضبط إخراج الحرف من مخرجه بحيث لا يتحول إلى مخرج آخر , تتحول الصاد إلى سين مثلا أو العكس , أو يكون فيه تغيير لكلام الله عز وجل . هذا كله صحيح والقدر المعقول من ذلك مطلوب و قد تستطيع أن تأخذه من خلال كتاب فى عشرين ورقة لكن المبالغة والتطويل والتهويل هذا تعقيد فى الواقع . ما بالك فى المسلم الجديد الذى أسلم أمس , ما عنده وقت يقرأ التجويد , ثم القرآن , ثم الأصول , ثم الفروع , ثم المصطلح , إلى غير ذلك , بل إن حتى إغراق الشباب فى مثل هذه المسائل هو على حساب مسائل أهم منها فى الأعم الأغلب .

من الاشتغال بالوسائل عن الغايات : الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة عن هدف النظام وفحواه ومقصده الأساسي , فمثلا على مستوى الأنظمة البشرية , المقصود مصلحة الناس , فالنظام وضع حتى يحقق مصلحة الناس , مصلحة المواطن فى كل مكان , مصلحة المسلم فى بلده , وهذا هو الهدف الذي من أجله وضعت الأمور ورتبت وسيرت بشكل جيد . إذن القضية الأساسية هى قضية المصلحة , لكنك قد تجد إنسانا حرفيا أو رديء الفهم أو مشغولا بالجزئيات والفرعيات عن الكليات , يأتيك ويقوم بهدم أصل هذا النظام - الذي وضع فى الأصل لمصلحة المسلم - اعتمادا على تعميم معين أو على ورقة خاصة أو على أمر عنده , يتمسك بحرفيته ويضعه نصب عينه وكأنه ليس عنده نظام إلا هذا الشيء , ويهمل الأصل المقصود الذي هو فحوى النظام , وسره , وهدفه الذى هو تحقيق المصلحة للإنسان , أعني أن هذه الورقة جزء من النظام الكلي الذي يستهدف مصلحة المسلم فى دينه ودنياه , فلماذا تهتم بفرع وجزئية وتنسى وتغفل عن الأصل الكلي والهدف الاساسي الذي هو تحقيق المصلحة ؟؟

مثال آخر الاشتغال بوسائل الدعوة إلى الله تعالى والكلام حولها , عن حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى . كم من الخصومة ثارت حول مسألة التمثيل !! وقع فى يدي سبعة كتب تقريبا حول التمثيل , و ربما أن هناك أشياء كثيرة لم أطلع عليها . خصومة حامية الوطيس بين حكم التمثيل , أحلال هو أم حرام ؟ أو تأتي مثل ذلك خصومة حامية الوطيس حول الأناشيد , وتجد أننا اشتغلنا ببعض الرسوم الدعوية عن حقيقة الدعوة , نجد أن المسألة عندنا ليست إخراج ممثلين أو منشدين , المسألة عندنا مسألة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى , و الاشتغال بهذه الرسوم و القضايا تأييدا أو سلبا أو إيجابا أو سلبا والمبالغة والإغراق فيها غالبا ما يعود على الأصل بالضرر . فالمقصود هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأي أسلوب تتحقق فيه الدعوة إلى الله , وليس فيه معارضة صريحة واضحة لكتاب الله أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم , فالأصل جوازه وعلى هذا الأصل يمشي الإنسان , إلا إذا تبين له أن هناك ما يعكر على هذا الأصل أو يشكل عليه فالمهم أني لا أشتغل بالفرع أو بالوسيلة عن الهدف والغاية التي أعمل من أجلها .

مثال آخر يدل على اشتغال البعض بالجزئيات قضية الاشتغال بالماضي عن الحاضر . ربما كثر الجدل حول ثبوت واقعة تاريخية , أى واقعة أو قصة أو معركة أو حادثة معينة , خذ على سبيل المثال حادثة التحكيم بين على ومعاوية رضي الله عنهما وما جرى فيها , ربما يكثر الجدل حول هذه القضية وتؤلف فيها الكتب وتكون فيها محاورات ومناورات وأخذ ورد مع أنها قضية تاريخية انتهت , وأطراف هذه القضية قدموا إلى ما عملوا وأفضوا إلى رب يعلم السر و أخفى , ولا يظلم عنده أحد . فانتهت هذه المسألة و لكنك تجد أننا لا زلنا نتشبث بها ونبحثها يوما بعد يوم , ليست القضية قضية مجرد التحقيق العلمي فى حدود معقولة , لا بل قد تتحول إلى قضية مهمة , ويدور حولها صراع ربما لا يكاد يهدأ , و هناك مبالغة فى التحقيق العلمي في بعض المسائل وفي مقابل ذلك قد تجد عندنا جهلا بواقعنا القريب الذى نعيشه , و جهلا بما يعانيه المسلمون اليوم فى مشارق الأرض ومغاربها من ألوان البطش والتنكيل , والتجهيل , والتضليل , والتكفير , والتفسيق , و التبديع , وتحويلهم عن دينهم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم إلى أديان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان , فتجد جهلا مطبقا بهذا الواقع . ربما إنسان قد يبدي عناية فائقة بإحدى الأحداث التاريخية والتحقيق حولها ومعرفة ما إذا كانت واقعة أم ليست واقعة , بل ربما ننقل بعض الخصومات التاريخية إلى واقعنا الذى نعيشه وتصبح تؤثر فينا وتحدد مواقفنا وتسيرنا وتبسط رواقها علينا , مع أنها قضايا ليست قضايا اعتقادية كقضايا الاعتقاد , ولا يمكن أن نقول عنها مثلا أنها قضايا تاريخية وخلاف حول قضايا الاعتقاد ليس خلافا تاريخيا , هو خلاف أصولي اعتقادي , لكن هناك قضايا تاريخية ليس لها أى امتداد عقائدي ومع ذلك تظل تعيش معنا وربما سببت فيما بيننا من الخصومات الشيء الكثير .

و أيضا من الاشتغال بالجزئيات كذلك الاشتغال بقضايا لا وجود لها , فكم من إنسان يأتي يتكلم عن قضية الرق , وأحكام الرق والرقيق , وما يتعلق به , ومسائل الأَمة وعورة الأَمة مثلا , ويطول ويعرض الكلام فيها ! أين الأمة يا أخي , وأين الرق ,وأين الرقيق ؟ هذه قضايا أصبحت فى حكم المعدوم وإن وجدت فعلى نطاق ضيق جدا لا يكاد أن يكون له اعتبار حقيقي , فلا معنى للإشتغال بذلك .

مثه أيضا الاشتغال بقضايا فرضيه , بقضايا خيالية !! مرة اطلعت على كتاب ضخم لأحد الكتاب , فكان يتكلم عن مسائل فقهية , ومن ضمن المسائل التى تكلم فيها وأطال النفس مسألة احتمال وجود إنسان على كواكب أخرى غير كوكب الأرض , وقال احتمال وجود إنسان وبدأ يبحث أحكام هذا الإنسان , حكمه من حيث التيمم , حكمه من حيث الصلاة , حكمه من حيث استقبال القبلة , كيف يصلي ؟ , حكمه مثلا من حيث الحمل إذا افترضنا أن الحمل على ذلك الكوكب فى يوم فحملت المرأة وأنجبت ( لأن يمكن الوقت عندهم طويل ) فماذا يكون حكمها ؟ ومثلا قضية النفاس , وقضية الحيض , وصارت مضحكة يا أحباب . هل نريد أن نظل مضحكة للأمم والشعوب إلى يوم يبعثون ؟ نشغل أنفسنا بهذه الجزئيات وبهذه الأمور وبهذه القضايا الخيالية كأننا عجزنا عن مواجهة الواقع , وعجزنا عن معالجة الواقع وعجزنا عن صياغة الواقع وعجزنا عن النزول إلى الواقع فرضينا من الغنيمة بالإياب وصار همنا أن ندندن حول القضايا التى نتشاطر فيها على الآخرين ونستعرض فيها عضلاتنا الفكرية , و لكننا كمن يطحن فى الهواء أو كمن يحرث في البحر .

أيضا قضية الاشتغال عن قضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها . فمثلا إذا كان عندك خمس قضايا متماثلة فلا بد أن تعطي كل قضيه قدر مماثل من الاهتمام أو مقارب للأخرى وإذا كان شيء أهم تعطيه أكثر ( مثل ما ذكرنا ) . أحيانا تجد الإنسان قد يشتغل بقضية ويغفل عن قضايا أخرى لا تقل عنها أهمية , قد تكون مثلها أو قد تكون أهم منها . فمثلا تجد جزئيات أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم , هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم أو لا يجوز ؟ ونجلس فى جدل طويل كبير : هل يجوز أخذ الأجرة أو لا يجوز أخذ الأجرة ؟ كان بدلا من هذا الجدل من الممكن مثلا أن يكون هناك مؤسسات و دور وجمعيات وجهود كبيرة لإيجاد حلقات تحفيظ القرآن الكريم , وإيجاد دورات لطلاب القرآن وإيجاد دورات للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ولو مقابل رسوم مادية , وهذا على قول من يقول بالجواز , والذي يرى أن هذا العمل لا يجوز يسعه ألا يشارك فيه . فلماذا نظل ندور فى هذه القضية الجزئية ونترك القضايا الأخرى التى هى أمور عملية ونتائج إيجابية أهم ؟

مثل ذلك أو قريب منه قضية إعانة المسلم , قد تجد المسلمين فى بعض البلاد يكادون أن يموتوا جوعا وربما لا يجدون مسجدا يصلون فيه أو لا يجدون مدرسة يعلمون فيها أولادهم , فتأتي إعانة أو هبة من جهة معينه من الجهات الرسمية عندهم - وهي جهة كافرة - فتجد أنه جدل : هل يجوز قبول الإعانة والهدية من مشرك أو أنه لا يجوز ؟ وبالتالي نرد هذا لا نقبله باعتبار الأخذ بالأحوط وتغليب جانب الخطر , وبالتالي نفوت على المسلمين مصالح عظيمة فى مثل ذلك .


أيضا من الاشتغال بقضية مع وجود ما هو أهم منها , مصارف الزكاة مثلا . الله عز وجل ذكر الزكاة لثمانية أصناف من الناس , فقد تجد كثيرا من المسلمين فى وقت من الأوقات انصرف همهم إلى صنف واحد , ( وفى سبيل الله ) مثلا , و صارت الزكاة لهذا النوع فقط , وتجد المسلم قد عطل كثيرا من مصارف الزكاة الأخرى وحجب الزكاة عن مستحقيها وربما أعطى أحدا وغيره أولى بالعطاء منه , وربما حرم أحدا من أمر يستحقه وأحق بها غيره بسبب أنه سيطر على ذهنه وهمه جانب من الجوانب أو أمر من الأمور ونسي غيره .

قضية الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة أو التى هي غير سائغة أصلا , فمثلا فى مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحفظ الأمة وحفظ أخلاقيات الأمة وحفظ أمن الأمة وحفظ دين الأمة واستقرار الامة , هذا مطلب جاء الدين بتحقيقه بالوسائل المشروعه , فلماذا تلجأ يا أخي إلى استخدام التنصت الهاتفي , أو موجات الراديو أحيانا للتنصت على فلان وعلان من الناس ؟ وتطلع على أسرارهم , وخصوصايتهم , ودخائل بيوتهم , وعلاقاتهم . افترض أن عنده خطأ , ما أمرك الله سبحانه وتعالى تطلع عليه , البيوت مغلقة على ما فيها , وما فى الإسلام مثل هذه الأشياء , بل هذه نوع من إهدار كرامة الإنسان , وإهدار حقه , وإهدار منزلته , إنسانيته . ما أذن لك الشرع بهذا , وما على هذا ولاك المسلمون القيام بأمورهم من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر , وإصلاح وحماية أعراضهم وأموالهم وأبدانهم , فإذا أردت مثلا أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر , ظهر لك أمر خذ به , وجدت خطأ فعالجه , أما ما استتر و لم يتبين لك و تحتاج فيه إلى تنصت وتحتاج فيه إلى بحث وتحتاج فيه إلى اطلاع وتحتاج فيه إلى تسجيل وتحتاج أسرار وخصوصيات فلست بملزم بذلك بل لست بمأذون شرعا بمثل هذا .

من القضايا الممنوعة التى لا ينبغي الاشتغال بها وكثيرا ما نشتغل بها قضية الحرص على نقد الناس . وهذا داء خطير فى الإنسان لأن الواحد حين ينتقد الناس ويكون هذا هو دأبه وديدنه , هو يريد أن يحتجز لنفسه الكمال , فهو إذا قال أن هذا فيه كذا وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا , فمعنى هذا ضمنا أن الكمال الذى تفرد به هو محدثكم !! هذا هو المقصود من حيث لا يقول هذا الكلام لكن هذا المضمون , فتجد من الناس من إذا قيل له فلان ما شاء الله رجل طيب وإنسان صالح وطالب علم , قال ( إيه بس المهم العمل ) , يعني حاول أن يلفت نظرك إلى ما يعتقد هو أنه عيب موجود فيه , ( المهم العمل ) يعني لا تهتم بأن يكون هو طالب علم , المهم العمل هل هو موجود أم لا ؟ يعني هنا علامة استفهام - مثل أبى سفيان لما سأله هرقل : هل يغدر محمد صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا ونحن منهم فى مدة لا ندري ما هو صانع فيها - فإذا قلت له فلان رجل نقي تقي عابد عامل صالح زاهد ورع داعية , قال ( إيه بس المهم الإخلاص ) طيب ما اطلعنا على قلوب الناس !! ولو قلت له يا أخي : ظاهره الإخلاص وهو كأنه لا يريد إلا وجه الله تعالى ونحسبه كذلك والله حسبه ولا نزكي على الله أحدا , قال ( نعم ولكن ينقصه العلم الصحيح و لا شك أن العمل بلا علم يضر أكثر مما ينفع ) ! فالمهم أن هذا الإنسان من حيث أن تحجره يريد أن ينفلت , لا يريد أن يعترف لأحد بفضل , ولا يعترف بالفضل لأهله إلا ذو الفضل . أما من فيه نقص فى ذاته يكون فهو يكون مبتلى بعيب الآخرين وثلبهم ونقصهم ويجد فى ذلك من السرور والأنس واللذة الشيء العظيم مثل ما يجده المنصفون إذا مدحوا وأثنوا من يستحق الثناء ممن مدحه الله تعالى وأثنى عليه , فإن المدح والثناء وكذلك الذم والعيب لا يكون بمزاجي ومزاجك وهواي وهواك , لا , يكون بالألفاظ الشرعية التى مدح الله بها من مدح , مثل لفظ الإيمان والإحسان والإسلام والتقوى والبر والطاعة و الجهاد والنصره , أهل هذه الأوصاف يمدحون . والذم يكون بألفاظ الفسق والنفاق والكفر والضلال و الظلم والبغي والعدوان والفحش , أهل هذه الألفاظ يذمون . فليس المدح والذم مسألة أمزجة أو مواقف شخصية , لمدح والذم قضية شرعية من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم .

عندنا قضية أساسية قد تكون من أواخر القضايا , و هي قضية تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة , وأضرب لك أمثلة عابرة مراعاة للوقت :
قضية التحليل السياسي . بعض الناس يشتغل بتحليل الأحداث السياسية , ليس فقط تحليل الأحداث السياسية , فتحليل الأحداث السياسية مطلب شرعي ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبدا , فهذا جزء من فهم المسلم لواقعه الذي يتحرك فيه بل إنني أقول أنه جزء من فهم المسلم لهذا الواقع الذى يريد أن يحكم عليه . نحن نعرف أن من كلام علماء الأصول ما يسمونه بالأحكام الوضعية التى هي الحكم على أفعال الناس بأنها صحيحة أو فاسدة , أو خطأ أو صواب , حق أو باطل . كيف تحكم أن هذا الشيء صحيح أو خطأ , حق أو باطل , وأنت لا تدري ما هو هذا الشيء ؟ فلكي تكون مصيبا شرعا يجب أن تكون عالما بالواقعة التى تتحدث عنها سواء أكانت واقعة فردية أو واقعة جماعية , مستوى فرد أو مستوى دولة أو مستوى أمة , قريب أم بعيد , هذا أمر بدهي لا يحتاج إلى كلام , وبالتالي معرفة الأحوال والأحداث السياسية والتقلبات وربط بعضها ببعض بصورة صحيحة هذا لا غبار عليه . لكن أحيانا يتطور هذا الأمر إلى نوع من المرض عند بعض الناس , فيصبح عنده لو عثرت بغلة من أقصى بلاد الدنيا , لا بد أن تربط هذه بالقضية الكبرى ويأتي لها بالأدلة والتحليلات وضرب الأشياء , حتى أصبح مرض , وأصبح مثلا يتعاطى هذا الشيء أناس ليس لديهم بعد فكري عميق , وليس لديهم قدرة , بقدر ما هي القضية صارت تخوف قلبي يجعل الإنسان يربط أى شيء بأي شيء , وعنده فكرة أن أى حدث لازم تحلله وتربطه بغيره دون أن تكون عنده الوسيلة أو الإمكانية لذلك , فيبالغ فى قضية التحليل السياسي مبالغة مذمومة , ربما تعوقه أحيانا عن كثير من الأعمال الصالحة .

قضية أخرى : قضية المكر الصهيوني . أصبح الكثيرين يعتقدون أن اليهودية العالمية تهيمن على الكون , وهي التى توزع على الناس الهواء الذى يتنفسون , والماء الذى يشربون والطعام الذى يقتاتون , وهي التى تطبع لهم الكتب , وهي التى تفعل لهم كل شي . صارت شبحا ! وهذا فى الواقع من الأشياء التى نجح فيها اليهود , أنهم نجحوا فى جعل أنفسهم شبحا وخوفا وخطرا فى عقول الشعوب , فصارت الشعوب مهزومة معنويا , وصار المسلم يحس بأن اليهود يلاحقونه فى كل مكان , وأن اليهود دولة لا تقهر , وأنهم خطر جاثم لا فكاك له ولا مرد له من الله , ليس فقط فى دولتهم إسرائيل , بل فى كل مكان , حتى ولو وجد أي قضية تبرع بأن يربط هذا بأنه من كيد اليهود ومن مكرهم . يا أحبابي صراحة أقولها : حتى المشاكل الحقيقية بين المسلمين ما أعتقد أن أعداءنا بحاجة إلى أن يتدخلوا بيننا فيها , أعداؤنا قد كفوا بنا , بعيوبنا , بسلبياتنا , وأصبحنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا ونحقق أهداف عدونا بسلبياتنا , بغبائنا , بجهلنا , بعدم تصحيح نياتنا , بعدم إخلاصنا لله عز وجل فيما نأخذ وما ندع , باشتغالنا ببعض الأمور وإهمالنا أمورا أعظم منها , بتناحرنا , بتفرقنا , بتشتتنا , باشتغال بعضنا ببعض , أصبحنا نحن نخدم عدونا دون أن يحتاج هو إلى التدخل , ليس بحاجة أن يحرض بعضنا على بعض , ولا أن ينصر بعضنا على بعض , ولا أن يعين بعضنا على بعض , بلاؤنا فينا وكما يقول المثل الشامي الشعبي ( سوس الخل منه وفيه ) فالداء منا وفينا , الداء جاث فى أعماق قلوبنا بل وفى عقولنا أيضا .

قضية الحركات الباطنية أيضا وكثرة الكلام عنها وأنها خطر . هي لا شك خطر جاثم وخاصة فى الظروف الحاضرة , فإننا نجد مثلا دولة كإيران أصبحت تستغل صمتنا صمت القبور , بل ما هو أكثر من الصمت : خطوات العرب والمسلمين إلى الصلح عبر مؤامرة السلام - أو ما يسمى مؤتمر السلام - أصبحت تستغله لتحقيق مزيد من المكاسب , فتستقطب المعارضين للسلام من كافة الطوائف والأحزاب والجهات والبلاد , وتعقد لهم المؤتمرات وتذيع التوصيات وتحرض وتبدو كما لو كانت عدوا للسلام , وكأنها هى المعارض الوحيد الذى يقف فى وجه أمريكا والغرب وفى وجه إسرائيل و فى وجه النظام الدولي الجديد . وهذا ينذر فعلا بوجود خطر للباطنية مع نشاطهم القوي فى الدعوة له . لكن ينبغي مع ذلك أيضا أن نضع خطر الباطنية فى حجمه الطبيعي , ولا نبالغ فى ذلك , لأن المبالغة فى تقدير حجم العدو أحيانا تقعد الإنسان عن العمل , وأحيانا تنجح من حيث لا تشعر فى إعطاء العدو شيئا لا يستحقه , تحقيق بعض المكاسب له مثل إنسان ظن أن العدو سيهجم على البلد فانسحب فجاء العدو فوجد الأرض حره باردة لا يحتاج إلى نزال ولا إلى قتال .

من القضايا التى نكبرها مثلا قضية الأسماء و أنا أتعجب أننا نعنى بالأسماء عناية فاخرة , حتى أنك تجد اسم البنشر بنشر الإخلاص , و تجد ملحمة التقوى , أو مغسلة ابن تيمية !! يولد لواحد منا ولد فتجده فى الأسبوع الاول بل قبل الولادة بأسبوع أو أسبوعين معني جدا بمسألة البحث عن اسم , يدور على المكتبات و يشتري الكتب التي فيها الأسماء , ويستشير ويعقد جلسات ومؤتمرات ومشاكل وأخذ ورد , وأحيانا تصير مشاكل بين الزوجة والزوج وتنتهي بالطلاق , ربما يحدث هذا ‍‍!! بعض الناس كل همه قضية الاسم فيبحث لولده عن اسم وبالتالي هذا الاسم قد يكون جميلا عنده لكن الناس يستسمجونه ويستهجنونه , وبالتالي الولد حين يكبر يكون مضطرا لتغيير هذا الاسم بعد الإعلان عنه فى الجريدة . هذه العناية الشديدة بالاسم , هل يقابلها عناية بتربية الولد ؟ عناية بإعداده وتنشأته ؟ هل نعده كما لو كنا نعده لخوض معركة الإسلام الكبرى , المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل أو مع النصارى أو مع غيرهم ؟ هل يقابله اهتمام فى المدرسة التى سوف يدرس فيها الولد ؟ اهتمام بالبيئة التى سوف يتربى فيها ؟ اهتمام بالمواد الإعلامية التى يتلقاها ؟ أم أنك بعد ما اخترت له هذا الاسم الجميل أصبح كل همك منحصرا أيضا فى الشكليات , فى الثياب الجميلة , فى اللعب الجميلة , لكنك بعد ذلك تدعه لأفلام الكرتون , أو بعض الأشياء الإعلامية الفاسدة الكاسدة التى تقوم بمهمة التربية , وتولي الجانب الخطير , جانب العقل من هذا الطفل وجانب النفس وجانب الروح . و أحيانا إلى مدرسة : قد تكون مدارس نصرانية , وفى بعض البلاد تكون مدارس علمانية , وفى بلاد أخرى مدارس منحرفة , وفى بعض الأماكن مدارس تربي الأطفال والصغار والكبار على الموسيقى وعلى الغناء وعلى الرقص وعلى التبرج والسفور وعلى الاختلاط وعلى المعاني المنحرفة .

تأتي إلى قضية الأسماء تجد عندنا كما أسلفت عناية بأسماء المدن , بأسماء الشوارع , بأسماء الجامعات , بأسماء المدارس , هذا نحن لا نعترض عليه إذا كان الإسم حسنا و مناسبا ومعبرا , ويحكي ارتباط هذه الامة , يحكي تاريخها , يحكي انتماءها . لكن المصية إذا تحولت القضية إلى اهتمام مجرد بالشكل , ولكن إذا أتيت إلى منهج المدرسة أو الجامعة لا تجد أى اهتمام : الأستاذ المربي الموجه , لا تجد اهتمام , الطالب لا تجد اهتمام , السكن لا تجد الاهتمام الكافى بالنواحي الأخلاقية , والتربوية , والعلمية له مثلا وهنا تقع المشكلة . نحن لا نعترض على أن يكون الاهتمام بهذا وذاك , تهتم بالاسم الجميل , وتهتم أيضا بالمضمون الجميل , بالمنهج الحسن , بالتربية الجيدة , بالأستاذ الناجح , بإعداد الإنسان الطالب إعدادا صحيحا يضمن له النجاح فى دنياه وفي آخرته . أما أن تحصر همك فى القضية الشكلية فهذا يعبر عن خواء ويعبر عن فراغ .

أيضا هناك قضية الاشتغال الدائم بالفرعيات : قد يكون عندنا عشرون مسألة وإن شئت فقل ثلاثون , هى كل ما نتحدث عنها خاصة نحن طلبة العلم فى مجالسنا الخاصة , لا يكاد يخلو مجلس من مجالسنا مثلا عن الكلام عن جلسة الاستراحة مستحب أم مكروه أم جائز وفى بعض الأقوال بأنها واجبة , تحريك الأصبع فى التشهد ربما أكثر من عشرين كتاب ألف في هذه المسألة وتفنن الناس فى تحريك الأصبع بالتشهد بشكل لم يسبق له نظير , قضية وضع اليد فى الصلاة أين يضعها على صدره أم تحت السرة أم فوق السرة , قضية الهوي إلى السجود هل يسجد على ركبتيه أم على يديه أولا - كما أسلفنا - مع أن ابن تيمية لما تكلم عن هذه المسألة - مسألة الهوي على اليدين أو على الركبتين - قال : هذه من المسائل العويصة المشكلة المختلفة التى الأدلة فيها غير واضحة . ولكنك تجد طالب العلم الصغير أول ما يبدأ بالمسألة هذه , وليت المسألة تقف عند هذا الحد , قد يألف فيها مصنفات أحيانا , وليت الأمر يقف عند هذا الحد بل قد تجد هذا الإنسان أصبح يعتبر هذه المسألة ميزانا وفيصلا بين الذى يتبع السنة والذى لا يتبع السنة , فالذى يقدم يديه هذا يتبع السنة والذى لا يقدم يديه هذا لا يتبع السنة . الصلاة بالنعال مثلا , قضية النقاب بالنسبة للمرأة , التسبيح باليمين أم بكلتا اليدين , صلاة التراويح خمس أو عشر أم أكثر أم أقل , هل يجهر بالذكر بعد الصلاة أم لا يجهر , قضية دخول الأطفال إلى المساجد , وما أشبه ذلك من المسائل المحدودة هي أصبحت جل همنا وحديثنا و كلامنا , وكل طالب علم أراد أن يجرب خبرته وإمكانيته فإنه يختار بعض هذه المسأئل ويرجع إلى بعض الكتب ويجمع بعض ما قيل فيها ويكتب فى ذلك مصنفا أو جزء حديثيا أو جزء فقهيا . وأنا أشير - حتى يكون الكلام واضحا - إلى أن الاهتمام بهذه المسائل لا حرج فيه , وإعطائها حقها مطلوب , وأستغفر الله وأتوب إليه , أنا أقول أني كغيري من طلبة العلم إذا مرت هذه المسائل علينا فى الدرس درسناها وبحثناها ونظرنا فى الأدلة ورجعنا إلى كلام أهل العلم , وهناك كتب ألفت فى بعض ما ذكرت من المسائل , كتبها طلبة علم كبار ومجتهدون وأخيار وفضلاء ويشكرون , والعبد الفقير ممن استفاد مما كتبوه جزاهم الله خيرا . نحن لا نعترض على هذه الكتب , الشيء الذى نعترض عليه هو أن تصبح هذه القضايا جل همنا بل كل همنا ومدار حديثنا وملئ مجالسنا , بل ملئ قلوبنا وعقولنا. إلى متى نظل ندور ثم ندور ثم ندور فى مثل هذه القضايا ونترك القضايا الكبرى , قضايا الاعتقاد , قضايا الواقع , قضايا التخلف العلمي , التخلف التقني , التخلف الاقتصادي , البحث عن موضع قدم لهذه الأمة الإسلامية , إلى متى تضل هذه القضايا مهدرة ونحن نشتغل بغيرها من هذه القضايا الجزئية الفرعية ؟

إن هناك غفلة مطلقة فى مقابل ذلك عن فقه المعاملات , فتجد عموم بحث الطلاب عن فقه العبادات , والعبادات أمرها واضح لأن فيها نصوص صريحة ولا مجال فيها للاجتهاد , وأمرها واضح وسهل , ولذلك يهتم الإنسان بها لأنها كالجدار القصير , كل إنسان يستطيع أن يقفزه . لكن فقه المعاملات ليس كذلك , إذا انتقل الإنسان إلى فقه البيوع مثلا فلا يستطيع أن يتكلم عن هذه الأمور فى قليل ولا كثير .

إذن هناك تهويل فى طرح بعض الأمور ومبالغة وهناك إسراف فى تضخيم بعض القضايا حتى أننى أذكر أن هناك بعض أهل العلم إذا أراد أن يحذر من قضية – وهذه القضية ليست محرمة - لا يستطيع أن يقول أنها حرام , ولذلك قد يلجأ إلى حشد السلبيات المترتبة عليها , أو حشد المحاذير المترتبة عليها , وربما أوصلها إلى عشرين أو ثلاثين محذورا , حتى يقول للناس دعوها العالم مصيب , لأنه يعتبر أن هذا أسلوب تربوي . فبدل من أن يقول للناس " حرام " وهو ليس عنده دليل صريح على التحريم , يلجأ إلى نهي الناس عنها دون أن يقطع بتحريمها , لكن المشكلة تقع حين إذن عند الطالب العلم فإنه إذا سمع هذا الكلام أورث فى نفسه أن هذه قضية خطيرة وكبيرة ويترتب عليها مفاسد وأنها تحدث فى المجتمع آثارا وتؤثر فى عمل الإنسان وحياته وعبادته , فتصبح قضية خطيرة كبيرة لأنه حشدت عنده محاذير أكثر من اللازم لهذه القضية , وكان من المفروض أن يقول الأولى تركها أو الأولى فعلها , أو فيها نظر أو أى أسلوب آخر يكون فيه نهي للناس عنها , دون أن يتعدى الأمر إلى أكثر من هذا . ولذلك يقول بعض الأصوليين - وهو الشيرازى - يقول : (( إنى رأيت كثيرا من العوام أكثر حماسا للمسائل الفقهية من العلماء )) , فالعالم المجتهد مثلا عنده المسألة فيها أقوال ويعرف كل قول بدليله , وأنه قال به من الصحابة فلان وفلان ومن التابعين ومن الأئمة ولذلك هو رجح أحد الأقوال ترجيحا يسيرا وهو يقول : أستغفر الله قد أكون مخطئا , فلا يجزم ولا يتحمس ولا يتعصب ولا ينفعل . لكن الطالب أو العامي الذى أفتي بهذه المسألة دون أن تذكر له الأدلة ودون أن تذكر له الأقوال الأخرى ودون أن توضع فى إطار مقبول وموضوعي , تجد أنها ملأت قلبه وصار الدين عنده هو هذا الأمر , والدين عنده هو هذه الفتوى التى أفتاها فلان لأن فلانا ماعنده الوقت لكي يعطيه الأقوال والأدلة والراجح والمرجوح فأعطاه خلاصة ما توصل إليه أنه " لا يجوز " مثلا , فصار هذا الإنسان يعتقد أن هذا لا يجوز , و صارت قضية دين يبدأ بها ويعيد ويهتم بها ومن رآه يخالفها أجلب عليه , و ربما عاداه , وربما أبغضه , وقد يكون مجتهدا فى هذه المسألة , وقد يكون الحق معه فى أن هذا الامر ليس بمحرم أيضا . كما أن هذا الأمر يورث عند جمهور من الناس أن هؤلاء الدعاة وأن طلبة العلم أناس سطحيون أصحاب قصر نظر محصورون فى مثل هذه القضايا التى لا هم لهم إلا الحديث عنها .

أيها الأحبة إن من السهل أن نصحح كثيرا من القضايا الجزئية والقضايا الفرعية بجرة قلم كما يقال , لكن من الصعب جدا أن نغير القضايا الأصولية والقضايا الكلية , والمفترض أن يكون اهتمامنا بتغيير وتصحيح القضايا الكلية والقضايا الأصلية هو الأهم لأنه إذا صلحت الأصول وصلحت الكليات وصلحت القواعد صلحت تبعا لذلك الفروع , وهذا لا يعارض أبدا العناية بإصلاح الفروع . فالأنبياء كان أحدهم يبعث لقوم ويأمرهم بالتوحيد {{ ولا تبخسوا المكيال والميزان }} يأمرهم بهذا وذلك فى نفس الوقت , لكن العناية بالأصل هو الأعظم بلا شك وهي المنطلق , ومن هذا المنطلق دعا إلى تصحيح الفرع , فهو ما جاءهم يقول مثلا أريد أن أحدث عندكم إصلاحا اقتصاديا , إنما جاء يدعوهم إلى التوحيد وبناء على دعوة التوحيد يبين لهم أن ما هم فيه يخالف هذه العقيدة ويخالف المبدأ الذى جاءهم به , ومن ذلك قضية الأمور الاقتصادية أي بناء الاقتصاد على غير الإسلام , أو بناء الأمور الاجتماعية على غير الإسلام , أو بناء الأمور السياسية , أو الإدارية على غير الإسلام , أو بناء الأمور العلمية على غير الإسلام , أو بناء الأمور الفنية أو الإعلامية على غير الاسلام , فالأصل هو الدعوة إلى القضايا الكلية الأصولية , القواعد التى بصلاحها تصلح الفروع , وهذا أيضا لا يمنع من بذل الجهد والاجتهاد فى إصلاح الفروع بقدر المستطاع على أن لا يلهينا ذلك و لا ينسينا العناية بإصلاح الأصول .


هناك بعض الحلول أختم بها وربما جار عليها الوقت أيضا , من الحلول :

ضرورة اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل . لا يجوز أن ينطلق كل عالم وكل داعية على وجهه دون أن يكون هناك عناية بوضع أصول وضوابط ومنطلقات ومنهج واضح للدعوة إلى الله تعالى وطلب العلم والتعليم , لأن هؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا وفى أيدينا يجب أن نرتاد لهم الطريق الصحيح .

ضرورة نشر الوعي الصحيح لهذا الدين بين المسلمين وأن الدين جاء ليهيمن على كل شئون الحياة . ما جاء الدين ليكون عقيدة مستسرة في قلبك بينك وبين الله فقط , ولا جاء الدين ليكون عبادة تؤديها فى المسجد ثم بعد ذلك تدع ما لقيصر لقصير وما لله لله , ولا جاء الدين ليهيمن على جزء يترك أجزاء للطاغوت أو للشيطان , لا , جاء الدين مهيمنا على كل شئون الحياة , جاء الدين ليحكم الدقيق والجليل , ويستلم الإنسان من يوم أن يولد فيسميه بالإسلام - أسماء تجوز وأسماء لا تجوز وأسماء مستحبة وأسماء مكروهة - وأحكام ما يتعلق بالمولود , فيستلمه من ذلك الوقت إلى أن يودعه فى قبره , فيذكر كيفية الدفن وأحكامه وآدابه وما يتعلق بذلك , هذا على مستوى الفرد و على مستوى الجماعة و الأمة بأكملها . فهذا الشعور يجب أن يصفو لدى الناس ليعرفوا أن الدين يجب أن يهيمن على الدقيق والجليل من الأمور , والكبير والصغير , ولا يشذ عن هذه القاعدة شيء لأن الله تعالى يقول {{ يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة }} ويقول سبحانه {{ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الزارق ذو القوة المتين }} .

من الحلول أيضا طرح الأسئلة على العلماء والدعاة وإقامة اللقاءات والاجتماعات والبرامج التى تجعل الناس يطرحون ما لديهم من الأمور والإشكالات , وتجعل العلماء والدعاة يتولون الإجابه عليها . وهنا أثير قضية أن جماهير المسلمين فى كل مكان ربما أن 90% من أسئلتهم التى نقرأها أو نسمعها تتعلق بقضية أحكام فقهية , فرعية , تفصلية . لا بأس , من حق الإنسان , بل من واجب الإنسان , أن يسأل عن أسئلة تهمه فى أمر دينه , لكن أين الأسئلة مثلا عن البراءة من الأحزاب الكافرة العلمانية التى حكمت المسلمين فى كل مكان زمانا طويلا ؟ أين تلك الأسئلة ؟ أين الأسئلة التى تتكلم عن تصحيح العقيدة ؟ أين الأسئلة التى تتكلم عن أحوال المسلمين وكيفية الخلاص من المآسي التى يعانونها ؟ أين الأسئلة التى تستهدف تنوير المسلمين بما يعانيه إخوانهم فى كل مكان ؟ أين الأسئلة التى تبحث عن مخرج لهذه الأزمات المتكاثرة التى يعيشها المسلمون ؟ أين الأسئلة التى تستهدف إحياء منهج إسلامي في الاقتصاد , فى الإعلام , في السياسة فى الإدارة , فى الصحافة فى الأدب فى كل مجال ؟ هذه الأسئلة غائبة , من المسؤول عن غيابها ؟؟ المسؤول هو مصدر السؤال الذي هو أنا وأنت , قد لا نسأل , لماذا ؟ لأننا مستغرقون فى الجزئيات كما دل عليه عنوان المحاضرة إن وافقتم عليه . لأننا مستغرقون فى الجزئيات تجدنا نسأل عن هذه الجزئيات التى تشغلنا , لا حرج أن نسأل عما يهمنا حتى فى أحلك الظروف ينبغي أن تسأل عما يهمك من أمر دينك ولو كان جزئيا أو تفصيليا , ولكن ينبغي أن تسأل عما هو أهم منه وأخطر , و ألا تكون كمن يعالج الجرح والرأس مقطوع كما يقال . فأنت مسؤول وأنا مسؤول , ولكن أيضا المعلم أو المفتى أو الموجه أو الداعية أو العالم مسؤول أيضا لأنه إذا لم ترد هذه الأسئلة لسبب أو لآخر , إما لأنك أنت لم تطرحها أو لأنه حيل بينها وبين الوصول إليه , فينبغي أن يتولى هو بنفسه الإجابة على هذه الأسئلة التى من المفترض أن تطرح وأن يسأل عنها وأن يعرف الناس حكمها وجوابها فى شريعة الله تعالى , لأن الله تعالى يقول {{ مافرطنا فى الكتاب من شي }} و {{ نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي }} .

كذلك من الحلول ضرورة وضع سياسة عامة للطباعة والنشر والتأليف سواء فى مجال الكتاب أو الشريط الإسلامي . الآن المكتبات الإسلامية ودور النشر حدث ولا حرج , محلات الاشرطة الإسلامية حدث ولا حرج , لكن ما هو نوع الكتاب الذى يطبع ؟ ما نوع الكتاب الذى ينشر ؟ ما نوع الشريط الذى يطبع وينشر ويوزع ؟ هذه مأساة !!

قد تجد عشرات الأشرطة فى قضايا جزئية , والله بعض الأشرطة التى أسمعها وأحلف بالله أني أستحي وأتمنى ألا يسمعها من خصومنا أحد , لأنهم سوف يجدون فيها ورقة رابحة يشهرونها ضدنا , فهي تتدخل فى جزئيات الناس , تتدخل فى تفاصيلهم , في أمور لا فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ولا من كلام أهل العلم ولا فيها دليل . تأتي تقول يا أخي افعل كذا وكذا واترك كذا , تتحكم فى أمور ليس لك مستند شرعي فيها ! يا أخي نحن نعبد الله وحده وليس من حقك أن تعطينا أنت رأيك الخاص , أو قناعتك الخاصة , بل تعطينا حكم الله ورسوله . كونك تقول يجب أن يكون حذاء المرأة أسودا أو أشهبا , وينبغي ألا يكون برتقاليا ولا أصفرا , هل تعرفون فيها نصا من كتاب الله أو حديثا عن رسول الله روي بالإسناد الصحيح ؟ لا يوجد . كم ( سنتيمتر ) يجب أن يكون كعب حذاء المرأة , واحد سنتيمتر أو اثنين سنتيمتر أو ثلاثة سنتيمتر ؟ هذه ما فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم . صحيح أننا نقول كما قال علماؤنا فيما يتعلق بالكعوب الطويلة العالية التى هي خارجة عن المعتاد و المألوف , وفيها مفاسد وفيها مضار .. إلخ , لكن نقول أن بعض الناس يدخل فى تفاصيل دقيقة لا حاجة إلى الدخول فيها , فيحدد بالسنتيمتر والشرع ما حدد بالسنتيمتر .

فنقول إذن مسألة الكتاب والشريط وكثرة المطبوعات وكثرة الأشرطة ينبغي أن تكون مضبوطة بضوابط معينة , لا مانع من نشر أي شريط نافع ما دام أنه تتوفر فيه شروط مضبوطة واضحة وصحيحة , ويسر الدعاة أن ينتشر . لكن أيضا يجب أن يكون هناك عناية بترويج كتب معينة , وترويج مواد إعلامية يعتقد أنها تخدم المصلحة العامة وأنها تحقق هدفا ودورا فى ظرف من الظروف , الآن أو غدا أو بعد غد .

من الحلول ضرورة وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج , يضع عقول الناس فى وضعها الصحيح , ويصنع العقليات الناضجة التى نبحث عنها ويزيل ما عند الناس من غبش أو سوء في التصور مما صنعه عندهم الإعلام المزيف , مثل حصر الدين فى بعض جوانب الحياة دون بعض ، ومثل تشويه صورة المتدينين ، وتشويه صورة الدعاة وأشياء كثيرة جدا , من الضروري أن يكون هناك عمل إعلامي متكامل ناضج . أليس من المؤسف أيها الأحبة أن تقوم مجموعة كبيرة من الصحف الكويتية في هذه الأيام بحملة شرسة شعواء على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى وتصفهم بأقذع ما في قاموسها من ألفاظ السب والشتم , كلمات لم نسمعها حتى من أبى جهل حين كان يتحدث عن رسول الله وعن أصحابه !! كلام جارح بلا نهاية , ولا نجد صوتا واحدا يستطيع على الأقل أن ينصف هؤلاء المظلومين أو يرد اعتبارهم . لا قدست أمة لا يأخد الضعيف فيها حقه غير متعتع , وإذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها . هل تستطيع أن تقول للأمة الآن – لا أقول للحاكم - بل للصحفي يا ظالم ؟ الواقع يقول لا , ممكن نقول أنا وإياكم في هذا المجلس لكن لا نستطيع أن نملك الوسيلة التى يملكها هو بحيث نصل إلى العقول التى وصل إليها ونصلح العقول التى خربها . هذا لا زال المسلمون دونه بمراحل ولا يملكون وسيلة إعلامية واحدة حرة تستطيع أن تعبر عن الرأي الإسلامي الصحيح دون ضغط أو مجاملة .

أيضا أختم بأن أقول مع كل هذا ومع أننى - علم الله - أشعر فى كثير من الأحيان بالأسف و الأسى والحزن يعصر قلبي وأنا أقلب طرفي حول رحلي فلا أرى إلا إغراقا في الاشتغال بالجزئيات على حساب الأصول والكليات , منى ومن غيري , إلا أنني مع ذلك على ثقة كبرى بأن الله يصنع لهذه الامة ما عجزت وسائلنا عن صناعته , يصنع هذه الأمة بالأحداث التي سوف تنضج على أتونها هذه الأمة , و تصفو عقولها , وتصح قلوبها , وتتعدل اهتماماتها , وذلك أن الإنسان لما يكون مستغرقا في قضية جزئية غارقا فيها , لا يستطيع أن يتصور العالم إلا من خلال هذه القضية الجزئية , ولو قال له أحد يا أخي أنت بالغت في المسألة قليلا وطولت , رأى أن هذا الإنسان على ضلال , وأنه مخطىء , وأنه يجب أن يعود إلى رشده وإلى صوابه , لماذا ؟ لأن هذا همه تربى وتكون ونبت لحمه وعظمه وعصبه وكله على هذه القضية , وصار من الصعب أنك تنتزعه منها للهواء الطلق , للاهتمامات الأكبر والأوسع . هناك شيء ممكن ينتزع وهى الأحداث التى تضر الإنسان إضرارا إلى أنه يفكر فيها , و يتأمل , ويدرك , وينظر . ومن هذه الأحداث , الأحداث التى تواجه المسلمين من عدوهم , تحديات تاريخية وقعت فى الماضي وتقع الآن وفى المستقبل , تثير مشاعر الناس , تستفزهم , تحركهم , هذا الإحساس لا بد أن يتجاوب مع هذه الأحداث فترفعه هذه الأحداث عن واقعه الذي كان يعيشه . وهي تذكرني بقصة أختم بها . يحكى أن رجلا عنده زوجة عاقة سيئة الخلق , فكانت تطعمه شتما و سبا له ولوالديه ولأولاده ولأسرته ولأقاربه , وربما اعتدت عليه بالضرب أحيانا , والرجل صابر محتسب لأنه يظن أن الناس كلهم هكذا وأن هذا أمر طبيعي في البيوت - أن كل امرأة لا بد أن تضرب زوجها وتوجهه فى الصباح وفى المساء , فلذلك فهو صابر لأنه لا يتصور الحياة إلا هكذا . وبعد فترة توفيت هذه المرأة وفرج الله تعالى عن هذا المسكين , فتزوج من امرأة أخرى فذاق طعم الحياة ووجد البسمة الحلوة ووجد الكلمة الطيبة ووجد الحديث العذب ووجد حسن الاستقبال , مع أنه أول مرة دخل وقد جهز نفسه لتحمل ما قد يلقى من اللكمات أو الضربات لكنه فوجئ بأن الأمر تغير , فما ملك هذا الرجل وقد اكتشف أن الوضع الذى كان فيه فى السابق وضع خطأ , ووفاء لزوجته السابقة إلا أن ذهب وأحرق قبرها تعبيرا عن سخطه لحياته السابقة التي قضاها , وهذا المثل إن كان أسطورة ولكنه واقع يمكن أن يعيشه فئة كثيرة من الناس .

نسأل الله تعالى أن يبصرنا بمواطن الضعف فى نفوسنا , وأن يهدينا للرشد من أمرنا وأن يجعلنا مخلصين له لا نريد فيما نقول و نفعل رياء ولا سمعة إنما نريد وجه الله تعالى , ونطلب ما عنده و نسعى لكسب مرضاته , آمنا أن الله على كل شيء قدير , و آمنا أن الواحد قد يغير , {{ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم }} , و كم أتمنى أن نعيد النظر في نوعية اهتماماتنا , في نوعية النشرات التي نوزعها في المساجد , في نوعية الأسئلة التي نوجهها إلى العلماء , في نوعية الأحاديث التي نتوجه بها إلى جمهورنا , في نوعية الأشرطة التي نخاطب بها الناس , و الله المستعان و لا حول و لا قوة إلا بالله , و الحمد لله على إحسانه و عطائه , و أستغفر الله لي و لكم و لسائر المسلمين من كل ذنب و خطيئة و أصلي و أسلم على خير رسله و خاتمهم نبينا محمد و على آله و أصحابه أجمعين و الحمد لله رب العالمين .

سبحانك اللهم و بحمدك , نشهد ألا إله إلا أنت , نستغفرك و نتوب إليك .[/CENTER]

المادة صوتية :

الجزء الأول :
http://media.islamway.com/lessons/salman//ighraq1.rm

الجزء الثاني :
http://media.islamway.com/lessons/salman//ighraq2.rm


و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته


.
.


أخوكم
بريماكس
__________________
بريماكس غير متصل  


 

الإشارات المرجعية

أدوات الموضوع
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 01:30 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)