الخوف من النقد
من المسلم به أن اقتناع الإنسان بما يطرحه من آراء وتصورات وما يعتنقه من عقائد ومذاهب كونه يتوافر على حد أدنى من البرهنة النظرية على كل ذلك يجعله في مأمن من الفزع تجاه تعرض تلك الآراء والمذاهب لشيء من النقد هذا شيء معروف بالبديهة؛ حتى قبل أن يعرف الإنسان فلسفة اختلاف الآراء وأنها جبلة مفطور عليها البشر خلقيا بنص القرآن الكريم الذي قرر أن الناس ( لا يزالون مختلفين ) في المقابل فإن تخلخل القناعة بتلك الآراء والمذاهب ونقصان البرهنة المنطقية التي تغلف بها تجهل المتماهي معها حساسا وقلقا تجاه أية آراء مخالفة؛ حتى وإن كانت تلك الآراء المخالفة تلقى بطريقة ودية وبدون التعرض لصاحبها شخصيا بل من ناحية موضوعية بحتة تنصب على الرأي نفسه.
هذا ما يفسر الرعب الذي يجتاح البعض عند مواجهته لأي نقد وعلى أي مستوى من الطرح؛ من منطلق عدم قدرته على مواجهة ذلك الناقد أو المتداخل على خط فكرته أو وجهة نظره برهانيا مما يجعله يعول وبطريقة شعورية ولا شعورية أحيانا على التركيز على النواحي الشخصية للمخالف لتعويض النقص ألقناعي والبر هاني لديه برميه بحزمة من التهم الجاهزة من قبيل مخالفته للعقيدة القويمة أو الأرثوذكسية التي يرى أن مرجعيته تمثل الرأي الوحيد تجاه تفسير تعليمها وأنه من ثم لا يجوز لرأي معارض بحال تجاوز تخوم مناطقها المحددة سلفا؛ وإلا فإن المنطق يفترض أنه طالما أن الاتجاهات والعقائد القويمة تمتلك حدا أدنى من قناعة أصحابها وفي جعبتهم أسس برها نية منطقية يبررون بواسطتها سر تمسكهم بها فإن أي رأي مخالف أو حتى معارض سوف لن يشكل لهم ما يدعوهم لتعويض ذلك النقص باستصحاب مفردات الهجوم الشخصي والتصنيفات الأيدلوجية الرائجة في السوق الأرثوذكسية
يعتضد ذلك السلوك المبني على تضعضع الحجة بانعدام التربية –كجزء من الحالة الثقافية المعاشة – على مراعاة حق الآخر في الاختلاف من زاوية عدم احتكار الحقيقة من جانب واحد؛ أيا كان هذا الجانب سواء أكان فردا أو جماعة أو هيئة أو مذهبا أو خلافه؛ ولو كان الأمر خلاف ذلك لاعتبر الفرد مخالفة ما يطرحه من آراء إنما هو بمثابة إثراء معرفي يفيده ولا يسلبه حقه في الإدلاء بدلوه في أشياء لا قطعية حولها إما من جهة ثبوتها وأما من جهة دلالتها وبالتالي فلأمر يسع من أراد إضافة أو إثراء يعبر في النهاية عن رأي شخصي يأتيه الخطأ إما من بين يديه وإما من خلفه وإما من كليهما؛ ولعل النظرة إلى الآخر المخالف من خلال بث روح التسامح تؤهل لبناء جيل قادر على حمل الآخرين محمل الآدمية القابلة للالتباس بالخطأ الناتج أساسا من البنية البشرية المجبولة على الخطأ؛ والرسول صلى الله عليه وسلم أكد أن (بني آدم خطاء وخير الخطاءين التوابين) هذا إذاإعتبرنا أن ثمة خطأ اقترفه المخالف حين أبدى وجهة نظره؛ إذ أن وعاء الشريعة يتسع لحث الفرد على تقبل خطأ أخيه الإنسان من منطلق أنه مجبول على الخطأ؛ ولكن معظم ما يثير غضب الجموع التقليدية المبرمجة على التعامل مع رأي واحد ليس كامنا في خطأ واضح قدر ما هو مخالفة رأي لها وجه مشروع ومآخذ مبررة
هنا أجد أنه من المناسب القول بضرورة إعادة النظر في المناهج التعليمية خاصة المناهج الجامعية في الأقسام التي ترس العقديات والمذاهب بحيث تجعلها تؤسس لنظرة تسامحية تنطلق من إبراز أهداف ومنطلقات الفرق المخلفة عندما أرست قواعد مذاهبها – خاصة الفرق الإسلامية الماضية المنظور لها على أنها ذات أهداف خاصة لهدم الإسلام وتقويض بنيانه بحيث تتأسس المخرجات التعليمية البشرية على التعامل مع حق وحيد ورأي فريد هو ما تلقنه إياه تلك المناهج كحق حصري لمبادئ مذهبه وقواعد مرجعيته؛ المذهب الاعتزالي مثلا عندما أسس للنظرة العقلية في الإشراقات المبكرة من تألق الحضارة الإسلامية كان له هدف نبيل واضح وهو محاربة الهجمة الشعوبية على الإسلام آنذاك المتخذة من مذهب الشك أساسا لإتيان بنيان الإسلام من قواعده فكان أن قام المعتزلة بالتأسيس للمذهب العقلي القاضي بتقديم العقل على النقل كسلاح مماثل وحيد لرد تلك الهجمة على الإسلام؛ ولم يكن حينها من وسيلة ناجعة سوى ذلك؛ ولو جابهوهم بسلاح النقل فقط المجرد من البرهان العقلي لسهل عليهم – أعني أعداء الإسلام آنذاك – احتواءه والتباري لنقض أي محاولة إثبات حوله؛ وبالتالي فقد كان لهم - أي المعتزلة – دور يجب أن يذكر ولا ينسى في الذب عن حياض الإسلام وتحصين غوره وأسسه النظرية ضد عدو متربص؛ صحيح أنه هناك كانت بعض التجاوزات منهم- خاصة عندما حاولوا إجبار الناس على الاعتقاد بخلق القرآن على عهد الخليفة العباسي المأمون – ولكن هذا لا يبرر إبراز مذهبهم وجهود علمائهم على أنها تأتي في سياق الإعداد لهدم الدين وتدمير حياض العقيدة مما يبرمج الطالب على التماهي مع رأي صوابي وحيد؛ وبنفس الوقت عدم التسامح مع الفرق الأخرى وهي التي أنشأت مذاهبها تحت وطأة ظروف ودواع معينة؛ خاصة منها ظروف القهر السياسي التي اضطرت الكثير منها على انتهاج أسلوب العمل السري في البداية؛ ونحن نعلم جميعا ما يكتنف العمل السري تحت وطأة ظروف ملاحقة أطرافه من تأسيس لرؤى ربما تتشرب ما ليس بمقبول أحيانا؛ ومن ثم فإن الحاجة ماسة لتأسيس جديد لأقسام العقيدة والمذاهب في الجامعات لتأسيس طلابها على النظرة المجردة للمذاهب والفرق المخلفة عن طريق وضع مناهج تؤسس هي الأخرى للدراسة التاريخية المجردة باستصحاب كامل لتاريخ نشأة بلك الفرق وأهمها الظروف السياسية التي صاحبت نشأتها وتأسيسها مذهبيا؛ بدل أن تقدم للطالب باعتبارها فرقا ضالة هالكة في مقابل فرقة ناجية وحيدة مما يؤسس للنظرة المتعصبة وإطفاء لروح التسامح الذي لا يمكن تأسيسه إلا على أرضية موضوعية لإعطائه الزخم المطلوب؛ ومن أهم عناصر تلك الأرضية أن تقدم آراء الفرق وظروف نشأتها كما هي بالفعل لا كما تريد الأيديولوجية السياسية والاجتماعية التي لن تكون بالتأكيد قادرة على تأسيس نظرة موضوعية تجاهها وإلا لما تمكنت من فرض أيديولوجيتها.
يوسف أبا الخيل/ جريدة الرياض
|