الأنبياء لا يظلمون أحدًا ؛ ذلك لأنهم مبلغون عن ربهم , فهم ملزمون بالتبليغ كما جاء به الوحي , وهم – إثر ذلك – مطاعون من قبل قومهم إن نصرهم الله , لكنني أتحدث هنا عن غير الأنبياء , كأن يكون خليفة أو ملكًا أو رئيس دولة , أو رب أسرة . . .
قد يعجب المرء من قصة ابن عمرو بن العاص حين ضرب أعرابيًا قد سبقه بدرة , حيث قال للأعرابي : خذها وأنا ابن الأكرمين . فما إن سمع الخليفة عمر بن الخطاب بالحادثة حتى استدعى الثلاثة من مصر , فقال للأعرابي : خذ الدرة واضرب ابن الأكرمين . فضربه حتى أثخن فيه , فلما فرغ قال له عمر : أجِلْها على صلعة أبيه - يعني رأس عمرو – فما ضربك إلا بسلطانه . فضرب الأعرابي عمْرًا وهو والي مصر .
قد يعجب المرء من الظلم الواقع على عمرو بن العاص , فما شأنه بخطأ ابنه ؟ ! لكن عمر يعلم أن المراد ليس العدل لذات العدل , وإنما أراد طمأنة الرعية من أنه لا أحد فوق العدل , وأن خليفتهم عادل حتى مع ولاته , كما نجد - كذلك - في عدالة عمر , فقد حدَّ ابنه حين شرب الخمر حتى مات ضربًا بالسياط .
مثل ذلك حين يؤدب الأب ابنه تأديبًا قاسيًا وقد أخطأ خطأ صغيرًا , وما ذلك إلا كيما يُري أبناءه أنه لا فرق بينهم في العدل , وأن عقابه شديد لو أخطأ أحد منهم , فكان ذلك من باب الظلم الذي يخالط العدل حين يروم المسئول بث الطمأنينة والخيفة في آن في قلوب من يرعاهم .
الناس تهاب الظالم , وتحتقر العادل الخالص من غير الأنبياء , والمسئول خير له أن يكون مهابًا غير محبوب , فالمحبة للأنبياء , وغير الأنبياء بحاجة إلى الظلم كيما يُهابون , ولكن هذا الظلم لا بد أن يكون مصحوبًا بالعدل , فليس المراد العدل للعدل ذاته , وإنما المراد مقدرة المسئول على تأكيد مقدرته على إحقاق الحق في رعيته , فحين يبالغ في العدل فذلك هو الظلم , كضرب صلعة عمرو بن العاص بجريرة ابنه , ومدى قوته في تمكين العدل بينهم , فتلك غاية الرعية .
لو رأى أحدنا شابًا يقوم بالتفحيط بسيارته في أحد شوارع المدينة , لتمنى كل واحد من المشاهدين المستنكرين أن يُعاقب هذا الشاب , وأن يُعاقب أبوه , فلولا مال أبيه وسوء تربيته لما استطاع أن يمتلك سيارة , ولما استطاع أن يصنع بها هذا الصنع .