بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » قصة الذباب

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

إضافة رد
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 15-07-2002, 04:57 PM   #1
الجنرال
عـضـو
 
صورة الجنرال الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2001
المشاركات: 2,290
قصة الذباب

لازلت أحمل كرت التوصية وأقف أمامه بارتباك،وعيناي تركضان في هذا المكتب الأنيق ببلادة وثمة قلق ممزوج بضيق يتمدد في صدري وثمة خاطر يخاتلني :
- خرجنا كلنا من رحم واحد فلماذا هناك سادة وعبيد .

أكان لا بد أن أقف هذه الوقفة المخزية،وقفة أشبه بالتماثيل المصنوعة بيد نحات يثير السخرية من منحوتاته المشوهة،بوقفتي تلك كنت ممثلا للغفلة،أقف مرتبكا محتزما نصف قامتي حينا ومسبلا يداي أحيانا،أحك بمقدمة حذائي وبر السجاد الناعم متابعا التعرجات التي ترتسم على ذلك السجاد ذي الوبر الغزير ومبعثرا خواطري خارج هذا المكتب .

- كلنا مياه لزجة طلحية قذفت في ليل بهيم .. فمن أين تأتي هذه القوة لتشكل مياهنا وتجعل منا الآمر والمطيع ،العزيز والذليل ،السيد والعبد .

مضت نصف ساعة على وقفتي هذه من غير أن تنبس شفتاى بكلمة،خلال هذا الوقت الذي استطال تمنيت لو أننى أستطيع الركض خارج هذا المكتب فلم أعد راغبا في العمل،تطلعت لهذا الكرت الذى أحمله ،هذه الورقة الصغيرة الأنيقة التى لا تحمل سوى جملة غامضة ومبتسرة وتشي أن ثمة دناسة تلتصق بها :


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عزيزى أبو حسام :

حامل الكرت إنسان عزيز،أرجو تدبير أمره

مع تحياتى .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هذه الورقة الصغيرة الفاخرة تحاول دفع الدناسة عنها،بنصاعة أرضيتها،وتصميمها البديع،وأحرفها المنمقة كخيوط حرير تشابكت وتمازجت كأغنية احتفت بلحن النهوند الحزين الباعث على دفع الآهات والشجن المر ،ورقة أنيقة تخفي خلف جمالها دما فاسدا وأثما عظيما .

هذا الكرت لم أحصل عليه إلا بعد ركض استمر شهورا عدة بدأت بوعد من جارتنا التي دأبت على مجالسة والدتي في الضحى لتناول أقداح القهوة ومضغ لحوم الغائبات من الجارات اللاتي تأخرن عن موعدهن في مشاركتهما تناول فنجان الصباح،وكانت والدتي تستريب من جارتنا تلك بسبب كثرة معارفها وتبرج لسانها غير متورعة عن ذكر إعجاب الرجال بقوامها الهارب من غلاله ومدعية أن عيونهم ترف بين نهديها الشامخين،ومقسمة أن أحدا لم يجرؤ على بناء عشه على قمتيهما حين تشيح عنهما عباءتها في محاولة إغواء صغيرة ..كان لسانها السافر يغريني باستراق نظرات خاطفة لتلك القمتين اللتين تغدوان كهضاب الزبد وكلما انحنت لتناول فنجان قهوتها تبدوان كجنينين حبسهما رحم ضيق فتقلصا بتكور مضن.

اقتنصت نظراتي المتورطة بين أدغال إبطيها مرارا وفي كل مرة تتركني هناك أتلصص للوصول إلى نهاية جذعها من غير أن تكترث كثيرا بصدي وإن كنت أحس أنها تمنحني فرصة لتشمم روائح تلك الغابة حين تمد لي بشيء ما تدنوا حتى تترك شيئا من جسدها رهينة صدري وتسبل عينيها في حركة غير بريئة البتة .

كانت أمي تزدريها في أحيان كثيرة وعندما تجدها تقف على الباب تمنحها لسانا متزلفا وتجالسها حتى إذا خرجت رمتها بالظنون المشينة ولا توقفها إلا باستغفار ملح وسرد كل أذكار استغفار المجلس وتنهي أدعيتها ببراءتها من تحمل غيبتها،يبدو أن وقوفي كأعمدة الإنارة الخربة جعلها تمعن في التودد إلى جارتنا ودعوتها في كل حين لتبادل الأحاديث متزلفة إليها بمحبة فياضة ومع هذا الإغداق المفرط تواصلت زيارات جارتنا وغدت جليستها الدائمة ،وفي لحظة اعتداد بنفسها وعدت والدتي وعدا قاطعا في أن تبحث لى عن عمل من خلال معارفها بعد أن اشتكت لها أمي سوء حظي وعثراتي التي لاتنته وخشيتها أن أهيم في الشوارع،فرفعت خصلة شعرها وهي تطرقع بلبانة ملت من مضغها :

- أعدك أن أجد له عملا في القريب العاجل فقط امنحيني بعض الوقت

فحضنتها أمي متوددة ومتصنعة تقبل فيضان جمائلها التي لاتنضب وغالت في تصنعها بأن أخرجت من دولابها قطعة قماش أقسمت أنها لم تشتريها إلا لها مبينة أن هديتها ليس لها علاقة بصنيعها الذي تعتزم القيام به ،فمدت جارتنا يدها وتناولت قطعة القماش بتأفف مظهرة ولعها بشراء الغالي من الثياب وذاكرة محلات الأقمشة التي تبتاع منها فغاصت أمي خجلة من تبجحها حيال رخص تلك القطعة القماشية لكن جارتنا مسحت صلفها بجملة باترة :

- الهدية ليست في قيمتها

وأطلقت أسارير وجهها من جديد :

- ما هي إلا أيام ويكون ابنك موظفا يشار إليه بالبنان

فرفعت أمي يديها للسماء تمطرها بالدعوات التي لم تكن جارتنا جديرة بأدناها .

وتسلسلت التوصيات وفي كل مرة كنت أحمل كرتا من شخص إلى آخر حتى أثمرت كل تلك التوصيات حصولي على هذا الكرت .

عندما تسلمت هذا الكرت شعرت بضآلته،وكدت أقذف به وأعود للتسكع على أرصفة المدينة لكن جملة صارمة انبرت من أحد الأصدقاء جعلتني أتمسك به بشدة .

- بواسطة هذا الكرت أنت تمسك بوظيفة أكيدة،فإياك ثم إياك و التفريط بهذه الفرصة الذهبية

اكتشفت أهمية هذا الكرت حين كنت أعبر دهاليز دائرة الشرطة،فما أن يستوقفني أحد حتى أبرز له ذلك الكرت فيسمح لى بالدخول لأماكن لم أكن لأجرؤ من الاقتراب منها،أو التفكير بالوصول إليها،وعندما وقفت أمام بابه رأيت مجموعة كبيرة من المراجعين تستعطف ذلك الرقيب العجوز لأن يسمح لهم بالدخول لكنه كان يقف بكل صرامة أمام أي طلب رافضا حتى الشروع في الحديث كان فمه يطبق على تعب سنين طويلة ويجاهد نفسه للوقوف لأداء التحية العسكرية إذ مرت بنا إحدى الرتب العالية .

عندما وقفت أمامه نحاني بيده جانبا - بالرغم من إبراز كرت التوصية - فامتثلت لأمره وأخذت أنتظر أن يسألني مرة أخرى عن أمري لكنه لم يلتفت إلي فتجرأت ووقفت أمامه مباشرة ومددت الكرت في وجهه - هذه المرة - وقلت بصوت واثق :

- أحمل له هذا الكرت فأنا على موعد مع سيادته وأخشى أن يمر الوقت المحدد من غير أن تخبره

لم يكترث بي أبعدني عن وجهه بيده:

- استرح

شعرت أنني أتضاءل وأن كلماتي التي أطلقتها كانت محل تندر البعض،فرفعت صوتي بحزم محاولا إكساب نفسي أهمية :

- أقول لك أنا على موعد مع سيادته ألا تفهم ؟

نظر في وجهي بإرهاق،وكمن يزيح تعبا إضافيا تمتم :

- الكل هنا يقول أنه على موعد ..

وكمن يواسيني تمتم :

- انتظر قليلا فقد منع دخول أي شخص

كدت أتراجع لولا أن امتد بداخلي الخجل من تلك العيون المبحلقة بهيأتي فتابعت على الفور:

- سوف أحملك مسؤولية هذا التأخير

وعندما رأى تصميمي تناول الكرت ودلف إلى داخل المكتب،بينما كنت استرق النظر لتلك الوجوه التي ترمقني بمشاعر مختلفة،فهيأتي لا تعزز الثقة بأهميتي،لسعني خاطر مقيت :

- هذه الوجوه تأتى من دهاليز النساء

ربما تبادر لذهنهم صورة جارتنا التي تتقصع متلبنة وهي تقسم أن جسدها الهارب من أغلاله يخطف اللباب،وأن ضحكتها تفتح الأبواب الموصدة،وأن محاولة الإغواء الصغيرة التي تقوم بها تجعل وعودها مفاتيحا ذهبية،وكلما حاولت إبعادها عن مخيلتي طفحت تتثنى بملابسها التي تخلت عن دورها حيال جسد يتراقص ويفور برغبة متأججة تهدمت بجوار زوج عشق الإبحار في الموانئ البعيدة ..ربما كان الكرت يحمل رائحته الدنسة تلك ..!!

عاد الرقيب مادا الكرت ليدي و مفسحا المجال أمامي للدخول ومانعا بيده الأخرى مجموعة حاولت التملص ومرافقتي ...لفحني هواء المكيف البارد وشعرت أنني أقف معلقا فقد كان المكتب واسعا وثمة شخص يجلس خلف مكتب أنيق فتوجهت عموديا باتجاهه،ومددت يدي بالكرت الذي أحمله فصدرت منه حركة لم أع أهي دعوة للجلوس أو الانتظار فوقفت متخشبا،وكلما حاولت أن أتحدث أتراجع أمام انهماكه ولا مبالاته،..كان يجلس خلف مكتبه - بجسمه الفارع وملامح وجهه العتيقة القاسية - منكبا على الكتابة وثمة تأفف يطفح من خلال تجاعيده المشمرة عن عبوسها اختلست النظر لرتبته المعلقة على كتفه وكلما حاولت أن أتذكر تسلسل الرتب العسكرية أعجز ولا أقدر أن أحدد في أي سلم من سلالم العسكرية يقع التاج والمقص .. كانت أعلى رتبة عسكرية عرفتها رتبة ملازم حينما تناقل أهل الحي أن إسماعيل ولد السقا أصبح ضابطا في الأمن العام وكف الناس عن معايرته بلقب (الزفة) وأصبح محل حفاوة الجميع وكنت أمنى نفسي بأن يحتفل بي أبناء الحارة أسوة بإسماعيل الذي كان يشاركني اللعب والبلادة .

عندما صرحت لأحد الأصدقاء بهذه الأمنية ضحك في وجهي كثيرا وأردف:

- إذا عملت بالعسكرية فستكون جنديا ممسوحا لا تحمل على كتفك إلا الأوامر

لكنني تماديت في عنادي وتغطية عجزي:

- سترى عندما أعود وأنا حامل نجمتين كما حملهما إسماعيل وربما أجد أكثر منهما

ضحك حتى امتلأ ت عيناه بالدموع :

- ياعم نجمتين

أحسست بحرقة على نفسي من تلك السخرية فتطاولت بعنادي:

- سترى

تابع سخريته :

- صحيح ..فأمثالك يقضي كل الليل ساهرا والخوف أن تعود لنا وأنت تحمل نجوم السماء مجتمعة ..

وتركني وهو يلعن العناد الأجوف والمكابرة التي قذفت بأمثالي في طريقه..

يبدو أن سحر هذا الكرت توقف فبعد أن يسر لى مقابلة صاحبه كف عن العمل ،ها أنا أقف كأحد أعمدة هذا المكتب لا أجرؤ على الجلوس أو الكلام .. هذا الصمت المهيب جعلني أحرك عيوني بحثا عن أي شيء أتسلى به وأقتل هذه الدقائق التي تطحنني ..

بالمكتب نافذتان إحداهما غربية والأخرى شمالية تغطيهما ستائر من الستان امتزجت ألوانها بأرضية سوداء وتداخلت لتعطى أشكالا هندسية خلابة وفرشت أرضية المكتب ب(موكيت) سكري ذي وبر غزير بينما استقر المكتب في صدارة الغرفة ممتدا بمسافة ثلاثة أمتار لونه التمري اللامع يشي بثمنه الباهظ وقد استقرت عليه ملفات ومقلمية ودباسة وصورة لطفلين تتقافز من عينيهما شقاوة محببة .

في انشغالي خشيت أن يحدق بي فجأة أو يتحدث معي،فتركت كل شيء وترقبت أي لفتة منه،كان لايزال منهمكا في الكتابة وقد طرأت عليه (نرفزة ) مفاجئة فيهش بيده صعودا وهبوطا.. كانت ثمة ذبابة زرقاء كبيرة قد استقرت على المكتب وحكت برجليها مؤخرتها وغرزت بوزها للأسفل وعاودت التحليق واستقرت على خشمه،وجنتيه،شاربه ،شفتيه المتخاصمتين ..كانت تحط على أي جزء من وجهه وتطير من أدنى حركة تصدر من يده وتستقر على المكتب ثم تعاود التحليق والهبوط على برحة وجهه الواسع بخفة وسرعة خاطفة ..المكان الوحيد الذي كانت تستقر فيه للحظات وتنعم بقليل من الراحة كان بين شفتيه المنفرجتين اللزجتين فتهبط وتمد بوزها وتغرسه في الشفة السفلى حتى ترتوي وتستند على قوائمها الخلفية في قفزة سريعة مرتجفة لتعاود التحليق مرة أخرى،ازدادت حركة يديه وفار وجهه بالضيق،تلاقت عينينا فرمقني بازدراء كنت متحفزا فمددت له بالكرت الذي أحمله لم يمد يده واكتفى باختلاس نظرة سريعة ومباغتة للكرت الذي أحمله وعاد للكتابة وعدت أحدق في ذلك المكتب الواسع وأتمنى لو أنني أستطيع أن أتحرك لأهرب من هذا الموقف، كنت أفكر جديا في ترك مكتبه وكلما هممت بذلك تداعت إلى مخيلتي صورة أمي التي ستصفني بأقذع النعوت لو أخبرتها بنكوصي،وستذكرني بكل ما صنعه أبي معها وقد تتمادى فى ذلك وتنعتني ب(ذيل الكلب ).. قد ضقت ذرعا بها وبتذمرها وتذكيري الدائم بما جناه أبي على حياتها وما خلفه لها من حرائق لم تطفئها عظام أبي الرميمة كانت تقول دائما :

- لم يرض أن يذهب للآخرة من غير أن يترك له صورة تذكرني بعذابي معه

وسرعان ما تفور ذكرياتها القديمة فتلعن اليوم الذي جمعها برجل لم يكن يعرف في الدنيا من شيء سوى الارتماء على السرير والشخير في كل الأوقات،وقد تقذفني بأي شيء في يدها صائحة بغيظ:

- يلعن أبو هذا البطن الذي حمل بذرتك

لازلت أقف أمامه متخشبا متمنيا لو أنني أستطيع الهرب،وراودت نفسي بذلك مرارا ،بعد أن طمأنت خواطري المتهيبة من غضبة أمي بتدبير حكاية محكمة الإتقان تقنعها بعدم جدية من ذهبت إليه وإذا لم تصدقني فلتقل ماتقول فقط أن أهرب من هذا الذل المقيت .

أجدني أقف أمامه كالأبله ومن غير عمل شيء سوى التحديق به والاستمتاع باحتقار تلك الذبابة لأنفته والاقتصاص لي بارتوائها من جرف شفتيه المتخاصمتين ،رأيتها تقف عند جذر أسنانه كبهيمة ترتوي من نهر دبق ،رجلاها مستندة على جذور أسنانه المخضرة وفمها غارق في ريقه الدبق الذي ارتفع منسوبه وكاد يطفح للأعلى بغير اكتراث من صاحبه،كان مهتما بتسويد تلك الورقة التي أمامه بكلمات غامقة رشيقة الحروف،كان كل شيء في وجهه صلدا قاسيا باستثناء ذلك النهر الذي جرى بين شفتيه المتباعدتين .. يبدو – الآن - أنه لا يستطيع تكملة الكتابة فكلما استقرت ريشة القلم على الورقة رفع يده هاشا تلك الذبابة الزرقاء التي أصرت على مضايقته ومواصلة عبثها لتحطيم صخور وجهه ،قذف بالقلم جانبا واستدار بجذعه الأعلى خلف كرسيه ضاغطا على مفتاح جرس استجاب له حارس المكتب بسرعة عجيبة .. ليظهر ذلك الرقيب العجوز بقامته المنحنية والتي جاهد كثيرا لاستوائها وتأدية التحية العسكرية حيث خطى خطوات سريعة لاتتناسب مع عمره الكبير وألقى بالتحية بانضباط ينقصها النشاط والحيوية،وقبل أن يسدل يده من على جبهته كان الصراخ يملأ فضاء المكتب:

- ألم أقل لك .. لا تسمح لأحد بالدخول ؟!

تلعثم الرقيب وبلهجة مبعثرة اعتذر :

- قلت لك بأنه مبعوث من عند (أبو وائل) وأنت أخبرتني أن أسمح له بالدخول حين استأذنتك بذلك

وابتلع ريقه بصعوبة وأكمل:

. صحيح أنك لم تتكلم ولكنني فهمت من إشارتك أنك موافق

رمقني بنصف التفاته وكأنه تنبه لوجودي.. كانت التفاتته أقرب إلى الاحتقار من الترحيب وصاح بالرقيب :

- هناك من أزعجني ولم يمكنني من استكمال كتابة تقرير في غاية الأهمية

تطلع إلي الرقيب معاتبا،فتحت عيناي على اتساعهما وحاولت إخباره أنني حافظت على تخشبي منذ دخولي إلى هذه اللحظة،كان ينظر إلي بإجهاد ولا يعرف ماذا يصنع ،وأخرجته من تردده تلك الصيحة العنيفة التي صدرت من سيده :

- هيا قم بعملك

- ….!!

- خلصني من هذا الإزعاج فأنا غير قادر على العمل

تحرك الرقيب باتجاهي وأمسك بيدي في محاولة لإخراجي،فأزداد تهيجه :

- ليس هذا !!

- ليس هناك من أحد سواه يا سيدي

- بل هناك ..

وكز على أسنانه :

- أنت مهمل لا ترى إلا القريب من عينيك اللتان أكلهما الزمن

ارتبك الرقيب كثيرا،وبتمتمة اقرب إلى الرجاء تساءل :

- ومن هو ذاك ياسيدي

كان لا يزال جالسا خلف مكتبه وصوته يتطاير من بين شفتيه المتخاصمتين :

- أنت لم تعد تصلح إلا لعد ما تبقى لك من أيام ..لا أعرف كيف بقيت ممسكا بوظيفتك إلى الآن

كان الرقيب زائغ البصر يتلقى تلك الكلمات النارية ولا يعرف ماذا يفعل،أعاد محاولة الاسترضاء :

- سيدي إنني أقوم بما تأمر به على أحسن وجه.. من ذا الذي ضايقك وسأخرجه في الحال

صاح به حانقا :

- هاأنت تضيع وقتي بأسئلتك السمجة

وأردف متعجلا حتى أن لعابه تطاير على سطح المكتب :

- لا أريد إضاعة الوقت أكثر مما مضى

وحين لمح أن حارس مكتبه لازال شاردا حائرا صاح :

- اقترب لا طول الله لك عمرا

وأشار بغيظ صوب تلك الذبابة الزرقاء التي استقرت على المقلمية،فتحرك الرقيب صوب تلك الإشارة وأخذ يتطلع ،وتمتم:

- والله لقد قمت بتنظيف كل بقعة في المكتب أكثر من ثلاث مرات كي لا أغضبك

صاح بانفعال مبالغ فيه :

- أنا لا أتحدث عن نظافة المكتب يا غبي ..

- !!!!!

- …بل عن هذه الذبابة التي لم تجعلني أكمل مهمتي..

-!!!!!

- فكيف سمحت لها بالدخول .. عليك بإخراجها الآن !!

اتسعت حدقة الرقيب و ردد بدون قصد:

- ذبابة

- أو تراها حصانا يا غبي ؟.. نعم ذبابة

- ولكن..

- لا أريد كلاما زائدا..ألا تعمل هنا حارسا وتتقاضى راتبا..هيا قم بعملك وأخرجها

تحرك الرقيب بسرعة صوب الباب،فصاح به:

- إلى أين أيها الأبله

- سأحضر الفليت

صاح الضابط بغيض كمن يهم بتمزيق ملابسه:

- ألا تعلم أن المبيدات تسبب لي حساسية وستعيق تنفسي لشهر كامل

رد الرقيب من غير شعور:

- نعم.. نعم تسبب لك حساسية

وظل شاردا

ليصيح به :

- هيا أخرجها بالهش أو بأي طريقة كانت

وبهمة بدأ الرقيب هش الذبابة التي أخذت تنتقل من مكان لآخر،والرقيب يتبعها أينما اتجهت ،وقد خلع (البريه) وأخذ يضيق عليها الخناق في زوايا المكتب فتمنحه قليلا من الفرح وتعاود التحليق في الأماكن الواسعة والتي يصعب فيها ملاحقتها أو أن تتجه مباشرة على وجه سيده فلا يقدر على شيء سوى انتظار أن تغادر ذلك النهر الجاري إلى مكان آخر ،لم يكن قادرا على التركيز فحين يتابع تحليقها يسمع أمرا وبعض الشتائم المندلقة تغير من اتجاهه وكلما دنا منها غيره أمر أو شتيمة فتابع هشها بعشوائية،فجأة وجدت نفسي أشاركه متابعة تلك الذبابة الزرقاء وهشها فكانت تتنقل بخفة وسرعة صاح بنا محقرا :

- يا أغبياء افتحوا الباب وهشوها باتجاهه

صاح الرقيب :

- نعم هذا هو الرأي الصائب

وجدت أن هذه الشتيمة قد أدخلتني في دائرة اهتمامه فقد سمعت أمي توصيني في إحدى المرات:

- إذا سبك الكبير فهذا بداية الخير الكثير

فدعوت الله أن يمكنه من شتيمتي مرة أخرى !!

اقتربت منه ملاطفا :

- سيدي هل تريدنا أن نمسكها حية أم أنك لا ترى مانعا من سحقها

تطلع علي في دهشة وسالت شتيمته كمطر منهمر :

- قبحك الله ..يا وغد

لا أعرف بالتحديد بقية تلك الشتائم فقد تفانيت في إظهار الحرص على إخراج تلك الذبابة هامسا لأعماقي :

-(ياولد شد حيلك ) ربما تكسب بعض رضاه

فانبريت أوجه الرقيب الذي كان يتحرك بصعوبة وقد بدأ الإعياء يجرى في مفاصله،وثمة تمتمات يهمس بها لداخله بحذر،لأجد نفسي أصيح به :

- تعال من هنا

وأخذنا نهش الذبابة وأثناء الهش كانت تراوغنا من أجل الوقوف على شفتيه فوقفت حائلا بينها وبين مرادها في محاولة مستميتة لمنعها من إعادة هبوطها المستمر على وجه حتى إذا ضيق عليها الرقيب الخناق وأصبحت على مقربة من الباب أسرعت على عجل بفتح الباب الذي وقف خلفه مجموعة كبيرة من المراجعين والذين رأوا الغضب يتطاير من وجه الضابط بينما رأونا نهش تلك الذبابة التي استطاعت التملص من الزاوية التي حشرها بها الرقيب فعادت للتحليق في أرجاء المكتب،وقفوا للحظات متأملين حركاتنا بادين دهشة لتلك القفزات المتتالية وحين فاض الغضب صاح الضابط صيحة أحسست أنها شققت سقف حنجرته :

-قلت ..أخرجوها

صحت بالمتجمهرين :

- ألا تسمعون ؟ ساعدونا في إخراج هذه الذبابة اللعينة .!!

انبرى أحد المراجعين لمساعدتنا بعد أن قذف بملفه جانبا،فاكتشفت فداحة ما قلت حين وجدت أن جميع المراجعين تدافعوا لمزاحمتي في هش تلك الذبابة الزرقاء !!. .
الجنرال غير متصل   الرد باقتباس


قديم(ـة) 15-07-2002, 05:00 PM   #2
الجنرال
عـضـو
 
صورة الجنرال الرمزية
 
تاريخ التسجيل: Dec 2001
المشاركات: 2,290
السلام عليكم


أرجوا من المشرف نقل الموضوع الى العام



وله جزيل الشكر
الجنرال غير متصل   الرد باقتباس
إضافة رد

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 06:00 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)