بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 23-11-2006, 02:42 PM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

السلام عليكم ورحمة الله ..
هنا ..
سنؤلف كتابا من دون إذن المؤلف !
سنجمع الحروف من هنا وهناك ..
ليعلم الجمع ممن ضم مجلسنا عن البدايات والتجليات والتحولات .. والمؤلفات ..
ستقرأ هنا المقالات العديدة .. واللقاءات المتنوعة .. والردود في المعارك الطويلة ..
ماحداني لذلك هو تشتت تراث الدكتور حسن الهويمل في كل واد من هذا العالم الثقافي ..
فأحببت جمعه في كتاب مني ومنكم .. وهو لي ولكم ..
فهل تنشطون معي ؟
أتمنى ذلك ..
وعلى بركة الله ..
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج

آخر من قام بالتعديل عباس محمود العقاد; بتاريخ 23-11-2006 الساعة 03:11 PM.
عباس محمود العقاد غير متصل  


قديم(ـة) 23-11-2006, 02:46 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الحديث مع الدكتور حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي بالقصيم، ورئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي والناقد السعودي المعروف، يذكرني بروادنا الكبار، فالهويمل فيه نفس الرواد كما قال أحد محبيه العارفين، كما أن الحديث معه يوحي لصاحبه بالثقة المطلقة، فهو ناقد أحب النقد وبذل في سبيله الكثير والكثير من العناء وخاض من أجله ولأجله العديد من المعارك النقدية التي بدأها قبل أربعين سنة مع الشاعر الكبير محمد السنوسي رحمه الله.

الدكتور حسن الهويمل بدأ من الكتاتيب إلى الابتدائية ومنها إلى مايليها في سلّم التعليم، غير أنه أكمل دراسته بالانتساب وارتبط بالقراءة غير الصفيّة، وكان الكتاب فقط عشقه الأول والأخير.

النشأة، الزواج، النقد، الجامعة، النادي الأدبي.. بعض المحطات سيتوقف عندها القارىء عبر هذا الحوار بالإضافة إلى هموم أخرى في المشهد الثقافي العربي بشكل عام والسعودي على وجه الخصوص.

\\ لك قصة عجيبة مع الدراسة والشهادات الدراسية، فأنت مثقف بنى نفسه ذاتياً، مدرسته الأولى «الكتّاب» وجامعته الكبرى «القراءة الجادة». فما قصة د. حسن مع الدراسة، وكيف حصل على شهاداته بدءاً من الدراسة الابتدائية وانتهاءً بالجامعة؟

\ قصتي مع الدراسة لا تختلف عن قصص لداتي ليس فيها ما يثير، وليس فيها ما يفيد، من الكتّاب إلى الابتدائية، ومن الابتدائية إلى ما يليها في سلّم التعليم. غير أنني عملت في التدريس منذ الابتدائية وأكملت دراستي بالانتساب وارتبطت بالقراءة (غير المنهجية) منذ الصغر، وكان الكتاب عشقي الأول والأخير، لا أرى الحياة إلا من خلاله، ولا أجد الراحة إلا في أفيائه، ومن ثم تحولت القراءة من الهواية إلى الإدمان، وتلك وصيتي لأبنائي وطلابي القراءة ليس غير.

\\ أيضاً لك فلسفة رائعة حول الزواج المبكر فهل حدثتنا عن حياتك الخاصة.. أبناؤك، بناتك، وحظهم من التعليم، وهل منهم من التقى بك اهتماماً وميولاً أدبياً وفكرياً؟

\ ما كانت لأحد من لداتي في زمننا الخيرة في أمورنا كافة، وفي أمر الزواج على وجه الخصوص، فالآباء لهم الكلمة الأولى والأخيرة، ومن ثم فقد نبئت برغبة الوالد في أن أتزوج في سن الثامنة عشرة وعلى ابنة صديقه التي لا أعرفها ولا تعرفني ولم أرها، ولم ترني، وتزوجت وكانت الخيرة فيما اختاره الله، فأبنائي وبناتي تطاولني هاماتهم والأحفاد والأسباط يملؤونني سعادة، والأصهار وزوجات الأبناء بمنزلة الأبناء والبنات، وحياة الإنسان حين تمتلىء بهذا الشكل لا تترك له فراغاً فهو يعيش سعادات متواصلة قد تعتريها بعض المنغصات ولكن الإنسان سعيد حين يرى له في كل بقعة ولد أو بنت أو حفيد أو سبط، هذا طبيب، وذلك مهندس، وهذا أستاذ، وذلك رجل أعمال، فالزواج المبكر نعمة لم يسعد بها جيل الطفرة التعليمية، فالبنت تود إكمال دراستها والابن يود تأمين مستقبله، وهكذا فوت الشباب والشابات على أنفسهم أسعد فترات حياتهم.

\\ عرفك القارىء من خلال آرائك الجريئة ومعاركك الهادفة إلى «الحق» كما عرفك صاحب مبدأ وموقف في زمن كثر فيه «التلون» وساد فيه نهج الثللية وليس (الشللية).. فما هي المعركة الأدبية الأولى في حياة ناقدنا الكبير الهويمل التي مازالت ذكراها ترن في ذاكرته، وما «أم المعارك» في حياتك الأدبية ـ إن صحّ التعبير؟

\ أحسبك بالغت كثيراً في الثناء ولك الأجر بإدخال السرور على نفسي، ولن تُصدِّق حين أقول لك إن المعركة الأولى كانت قبل أربعين سنة مع الشاعر الكبير محمد بن علي السنوسي، كنتُ يومها في عنفوان الشباب وفي بدايات القراءة ومن ثم قسوت عليه وقامت بيني وبين المرحوم عبدالقدوس الأنصاري جفوة بسبب الحدة في نقد السنوسي وكان ـ رحمه الله ـ قد أهداني ديوان (القلائد) لقراءته وكتابة دراسة عنه ولما لم ترق له اعتذر بلطف عن نشرها فبعثت بها لجريدة «الرائد» فنشرت بكل ما فيها من تحامل كان ذلك عام واحد وثمانين على ما أذكر.

أما أم المعارك وأسميها «أم الهزائم» فمع الذين يخرجون من الموضوعي إلى الشخصي، ومن الجدل إلى الهجاء، ومن الحكمة والموعظة الحسنة إلى الغضاضة والغلظة، وبإمكان القارىء معرفة تلك المعارك فهي من الشيوع بحيث لا تحتاج إلى ذكر، وما أعول عليه في مثل ذلك أن ما قلت وما قاله الآخرون محفوظ في مراكز المعلومات وسيأتي من يستعيد ذلك في غيابنا جميعاً ويقف على الحقائق والدراسات الأكاديمية كشفت عن تجاوزات من سبقنا من النقاد.

\\ هذه المعارك أثرت المشهد الثقافي السعودي بشهادة المنصفين، سؤالي عن هؤلاء الذين حاورتهم وحاوروك، وقدمتهم إلى الآخرين مَن أبرزهم؟ وماذا عساك قائل عنهم بعد أن هدأت تلك المعارك أو كادت؟

\ عشرات الأدباء والشعراء والمفكرين والعلماء، ولعل من أفضلهم وأكثرهم تسديداً الأستاذ الدكتور محمد محمد أبو شهبة ـ رحمه الله ـ حين دخلت معه جدلاً حول الإسرائيليات في التفسير في مجلة رابطة العالم الإسلامي. وآخرهم الأستاذ الدكتور سعيد ياقطين الناقد المغربي. وفيما بين هذا وذاك عشرات تعرف منهم وتنكر. ولأن المعارك لم تهدأ ولا أحسبها ستهدأ ولكن لا بأس أن نقول لكل الذين دخلت معهم في معارك: إن يدي مبسوطة، وقلبي مفتوح، والصفحات الجديدة جاهزة، والهدف من كل المعارك إحقاق الحق وإعلاء كلمة الله فقد أوفق في الهم وقد يعتريني التقصير، فما وفقت فيه فاذكروه وما أخفقت به فاعذروني فيه وأرشدوني إلى الصواب بالحكمة والموعظة الحسنة. وعفوّا عن الشخصي، واقتصروا على الموضوعي فما يحسم الأمر إتهامي بالجهل والسرقة وسوء الفهم وسوء الظن وضعف الملكة وما أشبه ذلك من الجنايات التي لا تخدم الأدب ولا تشرف الأدباء حتى لقد قال بعضهم إني من الأذى المأجور على إماطته!

\\ الجامعة.. النادي الأدبي.. المنزل، بين هذه الساحات، كيف يقضي الدكتور حسن يومه لكي يعطي أكاديمياً في الجامعة، ويلتزم أدبياً في النادي والكتابة والصحافة، وينضبط أسرياً في المنزل؟

\ أبنائي وأهل بيتي يعرفون التزاماتي ومشاغلي وعشقي للقراءة ومن ثم يتسابقون في توفير أقصى حد من الأجواء الملائمة، مع أن إمكاناتي المنزلية والمالية قادرة على تهيئة الأجواء الملائمة لاستغلال الدقائق والثواني لمواجهة متطلبات العمل الأكاديمي والعمل بالنادي والإسهامات المتعددة من مقالات ودراسات ومحاضرات ومناقشات وغيرها، والتغلب على المشاغل يتطلب تنظيم الوقت والإمكانات المتعددة وبخاصة توفر الكتب في حوزة الأديب وقدرته على الوصول إلى المعلومة بأقل جهد وأقل وقت.

\\ رابطة الأدب الإسلامي العالمية لك دور تجاهها التزمت به، حدثنا عن علاقتك بهذه الرابطة منهجاً وانتماءً؟

\ أستاذنا الدكتور عبدالقدوس أبوصالح توسم بي خيراً فألحقني بالعضوية ثم اختارني عضواً في مجلس الأمناء ثم عضواً في المكتب الإقليمي والآن رشحني رئيساً لهذا المكتب بالمملكة، ولا أحسبني قدمت للرابطة ما يتكافأ مع هذا التكريم، والإخوة في الرابطة يعرفون ذلك ويرضون مني باليسير فلهم مني الشكر والدعاء الخالص، والرابطة التي أفرزت أو أفرزها (الأدب الإسلامي) ضرورة ملحة في زمن أدلج فيه الأدب وسيس فيه الإبداع.

وواجب النخب المسلمة أن تقدم مشروعها الإسلامي في زمن لوثت فيه الكلمة، وأجهض الفن الرفيع، واجتاح العبث والمجون، وأدب الاعتراف كل فنون القول وتفشت العامية، وليس في الانضواء تحت مسمى الأدب الإسلامي ما يضير بالأدب العربي.

\\ مجمع اللغة العربية المزمع إقامته في بلادنا ـ إن شاء الله ـ كيف تستشرف مهامه ودوره في حياتنا الثقافية، وهل ترسم ملامحه للقارىء كما تود أن يكون؟

\ المملكة العربية السعودية بلد المبادرات الإيجابية والحمّالة وهي حكومة وشعباً تشعر بمسؤوليتها الإسلامية والعربية وتؤدي دورها بكل صدق

وخدمة اللغة من أوجب الواجبات فهي وعاء الدين وسعت كتاب الله لفظاً وغاية. والمملكة التي نهضت بخدمة كتاب الله تعليماً وطباعة تشعر أنها مسؤولة عن خدمة اللغة، ومن ثم فإن مجمع اللغة العربية من أولى مهمات الدولة، وأملي أن يولد ذلك المشروع سوياً مكتملاً متلافياً لكل ما ينقص المجامع السابقة، وأنا متفائل بنجاح المشروع وسده للثغرات المهمة. وأحسب أن ملامحه ستكون سوية لأن المملكة لم تجازف ولم ترتجل، وتداوله في مجلس الشورى من بوادر النجاح إن شاء الله.

\\ التزمت مؤخراً بالكتابة بصحيفة «الجزيرة» كيف تنظر إلى الكتابة الصحفية كوسيلة عطاء للمثقف، وماذا عن الكاتب حسن الهويمل، هل سنجد فيه الكاتب الشمولي.. أم لا؟

\ اسألوا أبا بشار، فهو الآمر الذي لا أعصي له طلباً. والجزيرة هي الصحيفة التي أجدني من كتابها. والكتابة الصحفية مهمة شاقة ورسالة خطيرة، ومن لم يحسب لها حساباً يسقط في نظر القراء. وعما إذا كنت شمولياً أو تخصصياً في كتاباتي أحسب أنني سأكون شمولياً إن شاء الله.

\\ أيضاً في مجال الكتابة الصحفية لك علاقة مميزة بـ«ملحق الأربعاء» الأدبي، لماذا هذا الملحق بالذات؟

\ جريدة المدينة وملاحقها صحيفة رزينة وموضوعية، وتقدر كتابها وتتابعهم وتهتم بهم، ومن ثم وجدت الملحق من أفضل المجالات. والأمور غالباً ترتبط بطلب الكتابة من القائمين وإلحاحهم وتقديرهم للكاتب والمشرف الأخ فهد الشريف شاب لطيف ومتابع ولديه حس إسلامي وإمكانات صحفية، ومن ثم استطاع أن يغريني بالكتابة في ملحقه. غير أن الجزيرة خطفتني من الكل وهي جديرة، وأرجو أن أكون عند حسن ظن الجميع.

\\ لك مكتبة كبيرة تربو على عشرين ألف كتاب أو يزيد.. حدثنا عن علاقتك المبكرة بالكتاب قراءة واقتناء، وكيف جمعت هذه الثروة الفكرية؟

\ منذ أن كنت في المرحلة الابتدائية قبل خمسين عاماً وأنا أحس بميل للكتاب ورغبة ملحة في اقتنائه حتى ولو لم أقرؤه، ومنذ ذلك الوقت وأنا أتابع الكتب.. أشتري وأستهدي وأستعير وحين وسّع الله عليّ وتمكنت من تواصل الأسفار لتمثيل بلادي وحضور المؤتمرات كان شغلي الشاغل المكتبات ودور النشر.. أشتري وأصوّر وأتابع ولديّ علاقات شخصية مع أهم دور النشر في الوطن العربي من المغرب إلى العراق.. ومازلت أحس بنهم ورغبة في المتابعة والكتاب الذي لا أحصل عليه أقوم بتصويره. وهكذا تكونت عندي مكتبة متنوعة في الدين والفلسفة والآداب وسائر المعارف وفي سكني الجديد هيأت موقعاً مناسباً، وقد لقيت العنت في سبيل تكوينها ولكنني أنسى كل شيء حين تضطرني المعارك الأدبية استكمال موضوع فأجده عندي وفي متناول يدي.

\\ سور الأزبكية في مصر لك قصة معه سطرتها في إحدى مقالاتك الرائعة، ماذا عن ذلك المكان وما بقي من أريجه الثقافي في ذاكرتك؟

\ «سور الأزبكية» تتكىء عليه «أكشاك» لباعة الكتب القديمة وكنا نمر به مصبحين حين نذهب إلى الأزهر، وممسين حين نعود منه، وحين نجد الوقت ننقب عن كتب قديمة باعها الوارثون لهؤلاء ونشتريها بثمن بخس، ثم نرحل بها إلى المملكة، وفيما بعد كتبت مقالاً عن ذكرياتي مع هذا «السور» الذي لم يعد بضخامة ما كان عليه قبل ثلاثين عاماً أو تزيد، وقد أثار هذا المقال كوامن العلامة المرحوم أحمد عبدالغفور عطار فكتب عن ذكرياته مع هذا «السور» وما اشتراه من كتب نادرة، ومما حصلت عليه من هذا السور كتب طبعت قبل مئة وخمسين سنة وقبل مئة سنة، ومازالت مصدر اعتزاز في مكتبتي.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج

آخر من قام بالتعديل عباس محمود العقاد; بتاريخ 23-11-2006 الساعة 03:12 PM.
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:05 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لماذا المساس بالعلماء والتشكيك بالثوابت؟
د. حسن بن فهد الهويمل



ما من عصر أو مصر إلا ويخلو فيهما من يربك المسيرة، ويصدِّع التلاحم، ويضع الأمة على مفترق الطرق، حتى لا تدري أين المفر.

وما تفرقت الأمة إلا من بعد ما جاءتها قوافل المستغربين، تحمل رايات التزهيد بتراث الأمة، والتشكيك بقطعيات الدلالة والثبوت، وحتى التاث أمرها بأنصاف المتعلمين، ممن احتلوا وسائل الإعلام للقول في سائر الشؤون، فكان أن ضيق عليها المتنطعون، حتى التقت أضلاعها، ووسع لها المتعلمنون، حتى فقدت ضوابطها، وأضلها الجاهلون حتى حارت بعد الكور. وضاع الوسطيون في ضجة الإفراط والتفريط، ولقد ظاهرت دعاة الاستغراب موجات الغزو والتآمر المتدفقة من كل حدب وصوب، مؤدية دورها المرسوم وتدبيرها المحكم. ومما صعد الإشكاليات فهم الأشياء على غير وجهها وذهاب كل مفكر بما يرى، دون بصر أو بصيرة. واشتغال غير أولي التخصص والتأصيل المعرفي بما سلف من علم شرعي أو بما خلا من علماء أجلاء، أقيمت على جهودهم حضارة أمة، قبست منها كل الحضارات. والحائمون حول الحمى: إما جهلة يفتقرون إلى معلمين، أو ضالون يتطلبون مرشدين، أو مواطئون يحتاجون إلى محذرين أو إلى متعقبين، يتجاوزون لحن القول إلى ما تخفي الصدور.

ومما يعكر صفو الحيوات الفكرية والحضارية، ويذكي أوار الارتياب والشك ما يتعمده ذوو القامات القصيرة والمحصول السمعي المضطرب من استدعاء غير مبرر لأساطين الفكر وجهابذة العلم، ممن جددوا لهذه الأمة أمر دينها، وتعاملوا مع النوازل بعلم غزير، وفقه دقيق وإلمام بمتطلبات المرحلة التي عاشوها بكل ظروفها وملابساتها، وخلوا بما كسبوا واكتسبوا.

واستدعاء العلماء الأفذاذ، لا يكون بابتسار مفردة من مفرداتهم التي خالفوا بها الإجماع، وأجمع خلفهم على انفرادهم بها، وكانت في النهاية من خطأ الاجتهاد، الذي لا ينفك منه عالم نذر نفسه لمواجهة النوازل وعالم أتقن العلوم وأصولها ونازل أساطين الملل والنحل، وفند أقوالهم، لا تسقطه مخالفة في الفروع، فلكل مجتهد مطلق أو مقيد، ولكل مذهب يحيل إلى الأصول والقواعد الخاصة به مفردات لا يعضدها إجماع، ولكنها تظل شاهداً على الحراك السليم للاجتهاد المشروع. وكيف نتأفف من خطأ الاجتهاد، والصحابة رد بعضهم على بعض، وخالف بعضهم بعضاً.

وكم كنت أتمنى من أولئك المغرمين بإيقاظ النوم، وإزعاج الآمنين، أن يدعوا من ودعهم من سلف الأمة، ممن لم تكن لهم مواقف أو آراء تناقض ما علم من الدين بالضرورة، وإن كان ثمة فضلة من جهد أو وقت، فإن عليهم إنفاقها في البحث عن منقذ للأمة، مما هي فيه من تخل عما يحييها، وتقاصر متعمد عما في أيدي الناس من مهارات، وما في أدمغتهم من معلومات عن ظاهر الحياة الدنيا. وعلماء السلف الذين يستمرئ الجهلة المغامرون النيل منهم، لا يمنعون من علم، ولا يحولون دون اجتهاد، ولا يضيقون واسعاً، ولا يدعون إلى رهبانية، ولا يحبذون انكفاء على الذات، ولا يصدون عن إعداد أي قوة: حسية كانت أو معنوية. وإذا كان قدرهم قد ألقاهم في آتون الفتن، وجاء بهم في زمن التداعي على الأمة، مما شغلهم بالتصدي والتحدي والصمود، فإن ذلك لا يعني عنفهم ولا صلفهم، وإنما يعني الدفاع عن بيضة الإسلام وحوزة الأمة، وأين الناقمون من حملات الصليبيين، وعنف التتار وجور المقتسمين لتركة الرجل المريض التي تمخضت عنها اتفاقية (سايكس بيكو)؟.. وأين هم من غطرسة القوة ووحشية المحتل؟ فأي فترة من فترات الإسلام فعل فيها الحكام والعلماء ما يفعل بالمسلمين القابعين في ديارهم؟.. والناقمون على علماء الأمة تمتد نقمتهم إلى تراثها، وكان عليهم إذا اتجهوا صوب الموروث العلمي أو الفكري أو الأدبي أو إلى أحد من رجالات هذه المعارف أن يكون ذلك لاستيعابه أولاً، وفهم أنساقه وسياقاته وظروف تشكله، ثم استصحاب ما تقوم الحاجة إليه، وما لا يتحقق الوجود الكريم إلا به.

فما من حضارة إلا ولها كتابها المنزل، وشرعها المستنبط، ومنهجها المحكم، وحملة تلك الأمانة. وليس منتمياً من لا يتمثل الثوابت، ويظهر الدين: سلوكاً وشعائر ومنهج حياة. وبخاصة أن الدين الإسلامي: شرعة ومنهاج وشمول. ولن تأخذ الحضارة الإسلامية حقها المشروع حتى تكون بادية للعيان: بشعائرها ومشاعرها وأوامرها ونواهيها وأنظمتها ورؤيتها للكون والإنسان والحياة.

وليس بمسلم من يؤمن ببعض الكتاب، ويكفر ببعض وإذا استحر الهجوم على الإسلام ومؤسساته وعلمائه من الإعلام الغربي، فالواجب أن نكون ردءاً له، ندفع بالتي هي أحسن، ومتى استقاموا لنا استقمنا لهم، وابتدرنا الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، فلا نشايع معتدياً، ولا نسكت على باطل، ولا نقع تحت طائلة الانفعال والافتعال، نصدق القول الجائر، ونقبل الدنية في الدين. وإذا فهم المتنطعون والمتطرفون قضايا الدين على غير وجهها فإن ذلك لا يحمل الوسطيين والميسِّرين على إسقاطها أو الامتعاض منها، ف(التكفير) و(الولاء) و(البراء) و(الردة) و(الجهاد) قضايا إسلامية، يعد المساس بها كالفهم الخاطئ لها.



وإذا كان قدرنا - وهو قدر حميد - أن ولدنا على الفطرة، وأن آباءنا أسلمونا، مثلما هود غيرنا أبناءه أو نصروهم، فواجبنا أن نكون كما أراد الله لنا متمثلين للإسلام، كما أراده الله، محتملين تبعاته في المنشط والمكره، مقتفين أثر السلف الصالح في تقدير الأشياء قدرها، كافين عن الخوض بما لا نعلم، عافين عن أعراض العلماء، فالعلم قبل القول والعمل. ووسط ضجة المتعالمين والمتعالقين مع الآخر لابد من احترام التخصص، والتضلع من العلم، والتزود بالخبرة، والتعامل مع المستجد وفق المقاصد والمقتضيات الإسلامية، وعلى ضوء المناهج والأصول والقواعد إذ ما كان بمقدور سلفنا إنجاز تلك المعارف والفنون، لولا ما توفروا عليه من علم غزير، وفهم دقيق، وخبرة واسعة، ومنهج واضح، وآلية مرنة، ومعرفة كل شيء عن مجال الاجتهاد وآليته ومنهجه. والمؤذي أن طائفة من الأحداث استدبروا النوازل، وأنشبوا أظفارهم بما كفوا مؤونته من كليات ناضجة، وبما خلا من علماء أفذاذ.

وهذا التحرش بالثوابت وبالعلماء أخلى الثغور لمن مالوا على الأمة بأفتك الأسلحة، وأحد الألسنة، فأهلكوا الحرث والنسل، وأيقظوا الفتن، وفرقوا الشمل. وكلما نهض الغيورون لفك الاشتباك، وإيقاف التدهور، وصفوا بضيق العطن، واتهموا بالحد من الحرية. وما علموا أنه من حق كل مقتدر مساءلة أي مشتغل بحيازات الأمة، فكان منه الإفراط أو التفريط وليس هناك ما يمنع من تلقي التراث، وقراءته بعيون العصر وإرادته، ولكن دون تنقص أو إسقاط. ولن تكون القراءة لحضارة الذات سليمة، ما لم يتزود القارئ بالمعرفة والخبرة والصدق والتقوى، ولن تستوي الحضارة ما لم تتزود بما ينقصها من حضارات الغير، مما لا يتعارض مع المقاصد والمقتضيات.

والصفقات الخاسرة في اشتغال الخلي بالتشكيك في بناة الحضارة، من علماء متمكنين، ومفكرين مقتدرين، ومصلحين ورعين. وهو بعد لم يسد المكان الذي سده أولئك، ممن أصبحوا مجالاً للاتهام والتجريح والسخرية والاستهزاء.

ولو أن علماء السلف الذين شيدوا صرح هذه الحضارة، كان ما تركوه من تراث عقبة في طريق التحضر والتمدن، لباركنا لهؤلاء مساسهم بهم.

ولو كانت المراجعة لموطن خلاف معتبر، ما كان منا امتعاض، ولا تذمر، ولا ارتياب. ولو أن أخذ العالم بالمسألة على رأي يترتب عليه اضطراب في المفاهيم، لكان لزاماً على من خلف تدارك ما سلف. ولو أن مقاصد المراجعة لرأب الصدع وإعادة الوفاق بين أطياف المذاهب، لكان مثل ذلك داخلاً في إصلاح ذات البين، وتنقية الدين مما علق به من دواعي الفرقة والتنازع.

ولو أن المراجعة تمت دون المساس بأهلية العالم أو التشكيك بقدرته أو الطعن في أمانته، لكان ذلك داخلاً في الاختلاف المشروع.

ولو كانت المراجعة لتخليص الأمة من حرج، أوقعها فيه العالم، لكان في ذلك تفريج لكربة الأمة، وتيسير عليها. وما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.

ولو كانت المراجعة من عالم متخصص، يشتغل في مجاله، ويستكمل رؤيته، وفق النوازل والمعاصرة، لما كان في ذلك محذور، فباب الاجتهاد مفتوح. لكن الأمر غير ذلك كله، وكل الذين يتجرؤون على علماء الأمة ما هم منهم، لا في علمهم، ولا في ورعهم، ولا في حملهم لهم الدين والدنيا، ولا في صدعهم بالحق. وما تلك الزوبعة إلا من اللغط الإعلامي الذي يسد فيه الكاتب أو المتحدث فراغاً، أو يكسب فيه شهرة، أو يحصل به على ثمن بخس من لعاعات الدنيا.

وقراءة التراث قراءة مريبة، تقاطر عليها مستشرقون ومستغربون، كانوا خليطاً من متمكنين ومتسطحين، وباحثين عن الحق، ومضلين عنه. وتعشق الحديث عن المسكوت عنه عفة أو تفويضاً مؤذن بفساد كبير، وقد يكون المسكوت عنه من المتشابه، والراسخون في العلم لا يزيدون على الإيمان أو التفويض. والمريب أننا لا ننفك من طلعات موجعة، تشكك في اليقينيات والثوابت، وتستدعي المتشابه والمسكوت عنه، وتقدح بثقات أجمعت الأمة على عدالتهم وأهليتهم. وكيف تسلم الأمة عبر حقبها التاريخية لمتكلم، أو محدث، أو فقيه، أو مصلح. ثم يأتي نكرة لجوج يخرج على الإجماع، فيطعن في الأمانة، أو يقلل من المعرفة، أو يصف بالسفاهة. والمتابع لفيوض الإعلام، ينتابه الخوف مما يعتري قضايا الأمة ورجالاتها من سهام أبنائها. ومصميات الأمة أن كل انتهاك لقطعيات أو تجريح لعلماء يسوغه المنتهكون بدعوى الحرية وحق الاجتهاد، وتلك شنشنة لا ننفك نسمعها من كل أفاك أثيم.

وإذا كان تراثنا مليئاً بالقول والقول المناقض فإن بإمكاننا أن نتخول الزمن المواتي والأسلوب المحكم، فالوضع المعاش مثقل بكل العوائق. وإذا استطاعت الأمة احتمال المواجهة فإن علينا أن نستعرض مفردات الحضارة على مهل، ثم نأخذ بأحسن النتائج فليس كل ما خلفه علماؤنا مما تقوم الحاجة إليه، وليست العصمة لأحد غير الرسل، فكل عالم راد ومردود عليه، ولكن المواجهة مركب صعب، لا يؤتاها إلا الأفذاذ، وليس من الاقتداء السليم أن نأخذ كل ما توصلوا إليه بحذافيره، ولا أن نتمثله كما لو كنا معهم في زمانهم. وكيف يتأتى ذلك و(عمر بن الخطاب) قد استحضر تغير الزمان، وأكد على أن أبناء معاصريه خلقوا لزمان غير زمانهم، و(الشافعي) قد استحضر تغير المكان، فكان له مذهبه القديم والجديد، وما تحفظنا إلا على ما نراه من نسف للتراث، وإدانة للعلماء، أما أن نعيد قراءة التراث بعيون العصر وإمكانيات الحاضر، فذلك عين الصواب، غير أن ما نسمعه، وما نراه، يختلف عن ذلك كل الاختلاف. وكيف يحتمل (الرأي العام) من يتكئ على أريكته باسترخاء، ثم يصدر أحكامه بكل برودة أعصاب وسوء قصد، فيحكم بكفر عالم أجمعت الأمة على جلال قدره، وحفل التاريخ ببطولاته، وماذا يضيف منكر القول إلى أمة مثخنة الجراح مهيضة الجناح.

ومتى كثر لغط المبتدئين، وتعالى صخب المتعصبين، فإن من حق الشركاء في السفينة الأخذ على يد السفهاء والمجازفين، الذين يهزون الثوابت والمسلمات، ويشككون لداتهم في يقينيات الأمة. والأدهى والأمر أن ذلك كله يتم دونما حاجة قائمة، وفي ظل ظروف غير ملائمة. فالأمة متوترة، والأعداء متحفزون، والقول في حق العلماء لا يحل إشكالاً، ولا يزيل عقبة، ولا يؤلف قلوباً، ولا يقيل عثرة، وما أتيت الأمة إلا من جهلة يتعالمون بقول معار أو معاد، وكل ما يقال لا يعدو كونه اجتراراً لما فرغ منه المستشرقون والمستغربون والمتعصبون لمذاهبهم وما تلقفه المستشرقون، وبنوا من ذراته قباباً، لا ينخدع به إلا الفارغون من المعرفة أو الغافلون عن مكائد الأعداء. والمتعقب للطرح المستفز، لا يجد فيه إلا طبيخاً مغباً أعيد تسخينه. فما ترك المستشرقون والظلاميون قولاً لقائل، لقد قالوا عن الله وفي الله ما يتعالى الله عنه علواً كبيراً، وقالوا عن رسوله، وعن مصدري التشريع، وعن سلف الأمة ما لا تحتمله الجبال الراسيات.

وما أضر بالمسيرة الفكرية للأمة إلا الذين تصوروا أن كل قول يقال يمتلك الشرعية، وتحميه حرية القول، وإلا الذين لا يقرؤون أطروحات العصر وتقلباته الفكرية، وإلا الذين لا يفقهون المتغيرات، ولا يحسبون للواقع حسابه. إذ ما يقال في زمن القوة والتماسك لا تحتمله الأمة في زمن الضعف والتهالك. وأحوال الأمم كأحوال الأجسام، تتعرض للأمراض، ثم لا تقدر على الحركة ولا على الاحتمال، ومن عرض الجسم المريض لما لا يقدر على احتماله، فقد حمله ما لا طاقة له به. والله سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها.

وهل من عاقل رفيق يرى أن أمته بوضعها الحالي قادرة على الإمعان في بلبلة فكرها وإثارة شكوكها بآراء وتصورات ومواقف ليست من متطلبات المرحلة؟ وإذ نؤمن بأن بعض العلماء قد يتعرضون لإشكالية الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وقد لا تدق رؤيتهم، بحيث لا يفرقون بين الشرائع والأعراف والسوائد والمسلمات فإن معالجة تلك الإشكاليات لا تكون بالنيل منهم والسخرية بهم، وإسقاط عدالتهم، والتشكيك بأمانتهم، وإنما هي بإرشاد ضالهم، وتعليم جاهلهم، والتماس العذر لمخطئهم، ذلك أنهم اجتهدوا ما وسعهم الاجتهاد، وحين لم يحالف بعضهم الصواب فإن من واجبنا أن نستدرك إخفاقاتهم، مع الترحم عليهم، والاستغفار لهم، وحسن الظن بهم، وعدم الجزم بصواب ما نرى وخطأ ما يرون. فقضايا الاجتهاد مجال للأخذ والرد، ومن خلط بين اليقين والاحتمال، وقع في تأليه الهوى. وليس من الحصافة أن نتبع سنن الأعداء، ولا أن نسلم لكل دعاويهم. لقد نالوا من مرجعيات الأمة: الكتاب والسنة، وطعنوا في حملة الرسالة وورثة الأنبياء، وكرسوا الطائفية والمذهبية، وعززوا جانب التعصب، وباركوا تنازع العلماء، ونقبوا في تراث الأمة بحثاً عن المتشابه، وكل من في قلبه زيغ يتبع ما تشابه منه. ولقد تلقت طائفة من أبناء هذه الأمة راية الطعن والتشكيك، واستمرؤوا الخوض في آيات الله بغير علم، واستحلوا تجريح علماء الأمة، وأحلوا قومهم دار البوار، فكان أن هددت حصون الأمة من الداخل
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:15 PM   #4
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مواجهة المفاجآت المؤلمة في الحج..!
د. حسن بن فهد الهويمل


من تصور أنه حين يفرض الحج على نفسه أو على من يلي أمره يكون الحج بالنسبة لهما سياحة ممتعة فقد نسي أو تناسى البلد الذي لا يبلغه الراجلون والركبان إلا بشق الأنفس، والحتم المقضي أنه ليس في وسع أحد كائنا من كان أن يتوفر على كامل الراحة له، أو أن يوفرها كما يريد لقاصدي الحج والعمرة. وحين نسلم كرها بالمشقة بكل تصوراتها وتنوعاتها تكون أمامنا احتمالات الكوارث والأوبئة والحوادث والاختناقات المجهدة، وليس بيد المسؤول عن الأمن والراحة إلا وقف الأزمات عند الحد المعقول، ومحاصرة المشاكل في مهدها، بحيث تكون تحت السيطرة.
والسفر بوصفه قطعة من نار، أو هو النار كلها - كما تقول عائشة- رضي الله عنها - جزء من مشقات الحج، بل أكاد أعده الجزء الأسهل في سياق تبعاته، وبخاصة حين أمَّنت السبل وعبدت الطرق، وتعددت وسائل النقل. والخبيرون باستعدادات الدولة للحج يستبعدون كافة الاحتمالات السيئة، ولكن المفاجآت تأتي بما لا يشتهي المسؤول، ولكل موسم مفاجآته غير المتوقعة وغير السارة.
ومن تلك المفاجآت غير الحميدة سقوط العمارة القائمة في موقع حساس ومهم، لا يمكن معه تصور بقاء مبان آيلة للسقوط في موقع كهذا، ولكنه قضاء لا مرد له، ومن ذا الذي يتصور حدوث مثل ذلك في ظل الإمكانيات المذهلة التي تملكها الدولة وتسخرها، ولا أشك أن حدثا كهذا ناتج ثغرة تركها حراسها مثلما ترك الرماة الثنية في (غزوة أحد)، ولقد تداولت المشاهد الإعلامية هذا الحدث الأليم، وتلمست الأسباب، وضربت في متاهات الاحتمالات، وفي زحمة الأقاويل، وتعدد الآراء، وتدفق المعلومات، وقفت على خبرين يجب أن يكونا بداية الخيط الموصل إلى مكمن الداء:
الخبر الأول: ما جاء على لسان العمدة قوله: إن المبنى معروف من ثلاثين عاما، وقد أضيف إليه قبل أربع سنوات طابقان.
والخبر الثاني: قول المالك: إن لجنة الكشف على المساكن أعطت شهادة بالصلاحية.
وأمامهما تكون الكرة في سلة (الأمانة) أو (اللجنة)، وليس الهدف من تحديد المسؤولية التمهيد للقتل، أو الاستعداد لقطع الأيدي والأرجل من خلاف، أو ممارسة النفي من الأرض لمقترف الخطيئة، وإنما الهدف وضع الأمور في مواضعها، ومساءلة الجهات المهملة أو المواطئة: أفرادا كانوا أو مؤسسات، وإيقاع الجزاء المناسب ليشهده من سيخلفهم، فإذا كان الخطأ ناتج تحميل أدوار على أساسات لا تحتمل، فهذه مسؤولية (أمانة العاصمة المقدسة)، فمن أعطى الفسح؟ وعلى أي أساس أعطاه؟ وهل تم ذلك عن جهل أو إهمال أو محسوبية؟ وإذا كان الخطأ ناتج استهلاك للعمر الافتراضي، فمن منح المبنى حق الاستثمار؟ والخبران مع أهميتهما يحتملان الصدق والكذب، إذ ليس من حق أحد أن يكون الخصم والحكما، وإذا أتى المحاسبون يجادلون عن أنفسهم يوم الدين فإن من حق المتهم أن يجادل عن نفسه، وليس من حقه استبعاد المحاكمة والمعاقبة، والمالك والمسؤول سواء أمام العدالة.
إن تحديد المسؤولية لن يعيد الحياة لمن مات، ولكنه كما القصاص {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. وعندما جاء الإسلام شرعة ومنهاجا، قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} وكان حقا على السلطة التشريعية محاسبة السلطة التنفيذية أمام السلطة القضائية عن كل تقصير أو تهاون أو تحايل.
والذين يجملون القول، ويلقونه على عواهنه، ويتولون كِبر الإفك يلمزون الدولة بتقصير المنفذين، واحتيال المتلاعبين، ولا يكلفون أنفسهم التفريق بين السلطة المشرعة والسلطة المنفذة، ولا معرفة ما يبذل من أموال وجهود وطاقات بشرية، ولا يقفون على ما يجود به أهل الدثور من مأكل ومشرب ومأوى لأبناء السبيل. وما علموا أن الدولة تنفق بسخاء، وتجند كل الطاقات، وتضع أدق التعليمات، وترسم أشمل الخطط، وتشكل فرق العمل، وإذ لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم فإنه إذا جهل فرد، أو ضعفت نفسه، وأفسد جمال الموقف وجلاله وجب أن يحاسب حسابا عسيرا. و(رئيس لجنة الحج العليا) وعد بأنه لن يدع الأمور تمر بسلام، وحسنا فعل، ذلك أن الدولة حين لا تقصر ولا تبخل يحق لها أن تحافظ على سمعتها، وليس من العفو المحمود الإغماض فيه.
وبعد أن تجرعنا مرارة السقوط غير المتوقع، فوجئنا بما هو أكبر، وهو حادث الجمرات المتوقع، وهذا الحدث تكرر أكثر من مرة، وما كان له أن يكون بهذا الحجم في ظل الإمكانيات المادية والبشرية المبذولة بسخاء، ولكنه وقع، ولقد ردت الأسباب للازدحام ولحمل المتاع في ساعات الذروة، ولجهل الحجاج، وعدم تقيدهم بالتعليمات، أو عدم معرفتهم بها، وهذه الساعة العصيبة تمر بالمنظمين في كل عام، وكم نود أن تكون حاضرة المشرفين، لقد حصل التدافع، ووقعت الواقعة، وكل حاضر يشهد بما علم، والإعلام المرجف يلتقط ما يسمع، وقد يضيف أو يحذف، وما فات لا يرد، ولكننا بصدد ما هو آت، لكيلا تتكرر المأساة. أعرف جيدا أن الدولة لم تدخر وسعا، ولم تتوان في تطهير بيت الله للطائفين والعاكفين والركع السجود، وأنها ستبذل المزيد في سبيل العتق من هذه المنخنقات، والتطوير الذي باركه (خادم الحرمين الشريفين) سيحل كثيرا من إشكاليات الجمرات، ومع كل الاحتياطات تبدو ثغرات وثنيات لابد من استحضارها في كل موسم.
لقد تحدثت مع عدد من الحجاج العائدين واستطلعت آراءهم حول ما كان، وما يجب أن يكون، ولا أستبعد أن يمارس المسؤولون ذات الاستفتاء، وأن يجمعوا كل ما يمكن جمعه من المعلومات، وأن يحللوها، ويخرجوا بنتائج إيجابية، ولا أشك أن (مركز أبحاث الحج) يستبطن الشيء الكثير من الخبرات والتوصيات، وما سنقوله نقطة في بحر لجٍّي، ولكننا سنقول، وعلى المعني بأمر الحج أن يرحب صدره، وأن يلقي السمع وهو شهيد.
ولا مفر، ولات حين مناص من ازدياد عدد الحجاج، وتذليل وسائل النقل البري والبحري، ولا خلاص من المخالفين لأنظمة الإقامة، والجاهلين بتعليمات الحج، والمسنين، والمفترشين، والضعفاء، والمغامرين طلبا للشهادة، والمتشددين في الأنساك، وتلك عوائق لا يمكن حسمها بسهولة، ومهما كانت التعليمات صارمة فإن هناك أكثر من ثغرة ينفذ منها المفسدون لروعة الحج وروحانياته، وأمام تلك الحتميات لابد من أخذ الاحتياطات اللازمة، ومواجهة القدر المأزوم بكل قوة، واختيار الأيسر من الأنساك، واعتماد قول رسول الرحمة للمستفتين: (افعل ولا حرج)، واستبعاد الوقافين عند المقدم في المذهب، وعلى مستوى الكثافة فإن التقديرات المرتبطة بإحصائيات المنافذ البرية والبحرية والجوية وقوائم المصرح لهم من الداخل من الموهمات، إن العدد الحقيقي أكثر من هذا بكثير، فهناك المقيمون بمكة، والمتسللون إليها، والمتخلفون، والمخالفون للتعليمات من حجاج الداخل: مواطنين ومقيمين الذين ينفذون إلى المشاعر مشيا على الأقدام، وترتيب الأمور على ضوء الإحصاءات الرسمية من المضلات، وأقوى المحرضات ما يمارسه الخطباء في المساجد والواعظون المتطوعون في التجمعات من حث على موالاة الحج والعمرة، مع ما في ذلك من مخالفة صريحة وآثمة لأمر ولي الأمر الذي لا تتم مقتضيات البيعة الشرعية إلا بطاعته، متى لم يأمر بمعصية، وحيث إنه ربط الحج بالرخصة تفاديا للاختناقات المهلكة، وقرر عدم التكرار إلا بعد خمس سنوات فإن المتحايل آثم، والمواطئ آثم، والمفتي آثم، وما يتعرض له الحجاج من اختناقات يمس الإثم المخالف والمفتي والمحرض، ولا يستخف بالتعليمات والضوابط المؤيدة من هيئة كبار العلماء إلا من فيه خصلة من الثوريين أو الخوارج.
والحياة بكل وجوهها لا يستقيم أمرها بدون سلطة مطاعة تزن الأمور، وتعرف المباح الممكن والمباح غير الممكن، بل لا تكفي الطاعة وحدها، إذ لا بد من إشاعة الأمر والتأكيد على تنفيذه، وواجب العلماء والفقهاء والمفتين وسائر المتنفذين إعلاما وتعليما أن يؤكدوا على إثم المخالف، وأن يحذروا العامة من مغبة عدم السمع والطاعة. والقادرون على الإنفاق والراغبون في التزود من التقوى لديهم مجالات واسعة، والأفضل من الحج المخالف للضوابط الملزمة شرعا أن يدفع المقتدر الممنوع بقوة المصلحة العامة نفقة حاج فقير، لم يؤد فريضة الحج، أو أن يسهم في أي عمل خيري، حتى ولو كانت نفقة الحج الممنوع.
ومشكلتنا المستعصية أننا لم نعِ بعد الفكر السياسي الإسلامي، ولو فهمناه حق الفهم لكان من أوجب الواجبات الاستجابة لله والرسول وولي الأمر، فالمخالفة مضرة بالحجاج الذي يستهمون في بلادهم لأداء فريضة الحج، وإذا تجاوزنا هذه الإشكاليات التي من الممكن تلافيها، أفضى بنا الحديث إلى ما يمكن تلافيه للتخفيف من توقعات الكوارث والأوبئة والحوادث، والدولة ساعية جهدها لاستكمال البنيتين: التحتية والفوقية للمشاعر، ولكنها بحاجة ماسة إلى مساندة الصفوة من العلماء والمفكرين والإعلاميين للتوعية والإرشاد.
وتلافيا لمفاجآت الجمرات الموجعة لابد من تفادي صد الأمواج أو حبسها وعدم التمكين من التكتلات البشرية، فالأمواج البشرية حين تقدم وهي متماسكة لا تفكر إلا بالوصول إلى حوض الرمي، وحين تصدر لا تفكر إلا بالخلاص، وعامة حجاج الآفاق من الضعفاء والمسنين والعجم، ونظرا لأن الرمي محاط بعقبات زمانية ومكانية محدودة، لا يمكن تفاديها فإن هناك ما يمكن تفاديه، وهو التفويج، وعدم التكتل، وعدم حبس الأمواج البشرية، ولابد والحالة تلك من الأخذ بالفتيا التي تفتح زمن الرمي، وتجيز التأخير والتوكيل، وتوسيع دوائر الرمي قدر المستطاع، حتى تكون بسعة الملعب الرياضي، وتعدد الأدوار والمداخل، بحيث يكون لكل دور مدخل ومخرج مغاير، والتمكن من إقفال أي مدخل يحصل فيه الزحام، وتحويل الأفواج إلى المداخل الأخرى، ولتفادي عقبات الافتراش الاستعجال في استخدام الجبال على شكل طوابق خرسانية مفتوحة ومدرجة تؤدي إليها أنفاق متعددة المداخل والمخارج، وهذا الاستخدام الجانبي يجعل الوادي فضاء رحبا.
وأحسب أنه حان الوقت لاستخدام القطارات التي تحت الأرض لمنع الشاحنات والحافلات وسيارات الأفراد، ولأن الافتراش والتدفق العشوائي مشكلة مستعصية، لا يمكن القضاء عليها بسهولة، ولأن الأثاث المحمول على الظهور من معوقات الانسيابية في العبور والتحرك فإنه لابد من إيجاد آلية تقلص هذه الإشكاليات، وليس هناك ما يمنع من استخدام باطن الأرض في وادي منى كأقبية واسعة للمفترشين، وليس هناك ما يمنع من تسليم قطع من أرض منى للمطوفين والشركات والأثرياء: المحسنين أو المستثمرين لتحويل باطن الوادي إلى أقبية واسعة للافتراش، والامتداد الرأسي على شكل طوابق مكشوفة لكي يخلو وجه الأرض في منى لمن سبق.
إن هناك إشكالية المتخلفين، وهم بمئات الآلاف، وإشكالية العمالة وهم بالملايين، وهؤلاء يفدون إلى مكة راجلين أو مهربين من شهر رجب للعمل في هذا الموسم، ولأداء فريضة الحج بثمن بخس، وهذه الكتل البشرية تشكل عوائق كثيرة، وقد يمارسون أعمالا مخلة بالأمن والصحة، ولا سيما أن الأثرياء يوزعون المشرب والمطعم بشكل يكفي للملايين.
ولكيلا يكون التسابق في إنشاء المبرات مظنة التكاثر فإنه لابد من وضع آليات تفيد المعوزين ولا تغري على المخالفة. إن حجاج الداخل المدفوعين على التطوع والمتخلفين والمتسللين هم مكمن الخطورة، ولابد من التصرف معهم بحكمة وقوة، ووضع آليات تكفل للدولة نفاذ تعليماتها، وإذا تساهل المسؤول أضاع فرص النجاح، والشاعر يقول:




قسا ليزدجروا ومن يك راحما
فليقس أحيانا على من يرحم


ولابد من وضع الأمور في موضعها الصحيح والسليم:



ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى


وأمام هذه الكوارث المؤلمة لابد من القوة، ولابد من فرض النظام، وفرض احترامه، ومتى أحس أي متلاعب أن النظام نافذ، وأن مبدأ الثواب والعقاب قائم، وأن الجزاء من جنس العمل تردد كثيرا قبل أن يقدم على التحايل. إن هناك إزهاق أرواح، والدولة معذورة حين تأخذ الأمر بقوة، وتحاسب المخالفين للتعليمات، والمساعدين، والمشجعين، والمفتين، حتى الخطباء والوعاظ الذين يضربون بالتعليمات عرض الحائط، يجب أن يحاسبوا على مخالفتهم، وأن يمكنوا من التفقه في السياسة الشرعية ولا سيما أن (هيئة كبار العلماء) بوصفها المؤسسة الدينية العليا منحت التعليمات والأنظمة الشرعية والنفاذ.
ولو أن (وزارة الشؤون الإسلامية) عقدت دورات قبل الموسم، وأبانت لأكثر من عشرة آلاف خطيب أن طاعة ولي الأمر واجبة، وأن التحايل على الأنظمة يعد مخالفة شرعية يأثم الفاعل والآمر، وأن إزهاق الأرواح بسبب الازدحام مرده إلى الموالاة بين الحج والعمرة، ومساعدة المتخلفين والمتسللين، وأن الحجاج الوافدين من المسنين والعجزة، وأن من حقهم علينا توفير الراحة لهم، وأن مكة وشعابها ومشاعرها محدودة المساحة، ولا يمكن أن تستوعب تلك الأعداد الهائلة، وأن حجة الإسلام للفقراء والمستضعفين أهم من حج التطوع من الأقوياء والموسرين، ومن بدر منه خلاف ما تقتضيه مصلحة الأمة وجبت مناصحته أولا فإن امتثل وإلا ردع. إننا في زمن أحوج ما نكون فيه إلى (درة عمر).
لقد روعيت مصلحة العامة في التاريخ الإسلامي، والرسول- صلى الله عليه وسلم- ينهى الأقوياء عن المزاحمة في الحج مع أن المزاحمة في سبيل الخير، وينثني عن فعل الفاضل مراعاة لمشاعر العامة. إن الإسلام يقوم على الوسطية والتيسير، ولهذا ربط الحج بالاستطاعة، والرسول- صلى الله عليه وسلم- لم يحج إلا مرة واحدة طوال حياته مع مرور أكثر من عشر سنوات وهو في المدينة.
إن على الإعلام أن ينقل بالصورة والصوت ما يعانيه الحجاج، وما تغالبه أجهزة الدولة، ومتى تمادى المواطن والمقيم في الغي وجبت مساءلة كل متهاون، ومحاسبة كل مخالف، وإن لم نفعل استفحل الخطر، وظل الحج مظنة الكوارث والأوبئة والحوادث والاختناقات، وعلى الدول الإسلامية توعية حجاجها، وتزويدهم بأساليب الأداء الصحيح للشعائر تفاديا للخطر، وعلى حملة الأقلام والمتفقهين في الدين أن ينذروا قومهم في كل موسم لنكون من مطهري بيت الله لقصاده، وما لم يتعاون المواطن مع الدولة فإن ذلك مؤذن لإجهاض أي نظام يخدم الحجاج ويحفظ سمعتها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:20 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تكريم للهويمل في ثلاثية (المشوّح)

الرياض: محمد شلاّل الحناحنة 6/9/1427
28/09/2006



أقامت ثلاثية الشيخ محمد المشوّح بالرياض مساء الثلاثاء 19/8/1427هـ، تكريمًا للأديب الإسلامي السعودي د. حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي بالقصيم سابقًا، ورئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض، وأدار اللقاء الأديب الإذاعي المعروف د. عبد الله الحيدري، وحضرها حشد من الأدباء والإعلاميين والمثقفين.



بداية عطرة مع علم بارز

بدأ اللقاء بآيات من الذكر الحكيم نديّ للشيخ عبد الرافع قاري، ثمّ كلمة المضيف الأستاذ الأديب عبد الله بن إدريس وقال: إنّ الثلاثية تكرّم هذه الليلة المباركة علمًا بارزًا في مسيرة الأدب والثقافة السعودية، وقد أثرى المشهد الثقافي في بلادنا بعطاء عظيم، ولا يستطيع جاحدٌ أن ينكر ذلك.
ثم تحدث الأديب د. عبد الله الحيدري قائلاً: نحنُ نحتفي بقامة ثقافية أدبية بارزة في ساحة النقد والتأليف، ارتبط اسمه بنادي القصيم لربع قرن، وهو لا يحتاج مني لتقديم، وتميّز لدفاعه عن اللغة العربية ضدّ دعاة العاميّة، ومنافحته عن التراث والأصالة، من خلال إشراقة في الأسلوب وتعبيرات قرآنية ناصعة. وطبع ما لا يقل عن اثني عشر كتابًا، وهناك ثلاث محطّات في مسيرته الطويلة الثقافية الأدبية هي:
نادي القصيم الأدبي، وجامعة القصيم، والمكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامية العالمية بالرياض.




أصالته وعطاؤه الإسلاميّ

أصغى الحضور بعد ذلك لكلمة وافية معبّرة لفضيلة الشيخ/ الأديب عبد الله بن إدريس الذي قال: أديبنا الأستاذ الدكتور/ حسن الهويمل أكبر من الكلمات، ولجّته أكبر من البحر، لجّته الثقافة الواسعة في دفاعه عن اللغة العربية، والأصالة الإسلامية، والدين الإسلامي، وقد هاجم الحداثة المنحرفة، مع أنه مجدّد بالرؤى والأساليب، وهو رجل لا يكلّ، ولا يملّ، من كتاباته القيمة تتجلّى ثقافته وأصالته وركونه للعطاء الإسلامي المتجدد، حقًا قليل مثيله، بل هو من نوادر الرجال الذي أثروا الساحة الأدبية، يتطوّر بشكل عجيب، وما زلت أذكر محاضرته الرائعة بالنادي الأدبي بالرياض عن الحداثة، وقد وقف في وجهه عدد من الأقلام والألسنة، ولكنه ثبت في دفاعه عن شعرنا الفصيح، ولغتنا الفصحى، ولاشك أنه عصاميّ، قوي الشكيمة، متوكل على الله، فأدعو الله أن يوفّقه، ويزيده نورًا وعطاءً.



النجم اللامع

ثم تحدّث الناقد الدكتور/ منصور الحازمي الذي شكر الأستاذ/ محمد المشوّح على ندوته في دورها الثقافي الكبير وقال: إن فارسنا د. الهويمل لامع أضاء ساحتنا الثقافية، وإن كنت أختلف معه في قضايا الأدب الإسلامي والحداثة، إذ ما زال في عداء شديد للحداثة، ومع هذا فإنني أهنئ الصديق الأديب د. حسن الهويمل على كلّ إنجازاته وكتبه الكثيرة طوال العقود الثلاثة الماضية.



التفرغ لمشروع الثقافة في المملكة

أمّا الدكتور/ محمد الربيع رئيس النادي بالرياض سابقًا، فبعد حمده لله، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد، قال: ماذا يمكنني أن أتحدّث عن أديبنا الكبير د. حسن الهويمل في هذه العجالة؟! فكم كنّا بحاجة إلى من يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقد تحقق هذا لدى أديبنا، فهو أصيل في ثقافته التراثية ولغته الخالدة، وهو ليس منغلقًا على نفسه، فهو ذو ثقافة متنوّعة متعددة المصادر، أما جمعه بين الأصالة ولمعاصرة فسمة واضحة في كتاباته، كما لديه متابعة دقيقة لما ينشر بالدوريات، كما ركز على الأدب في السعودية حتى في رسائله الجامعية (في الماجستير والدكتوراه)، كما يمتاز الأديب د. حسن الهويمل بثباته على الرأي، وقوّة الحجّة، وقوّة البيان، وحسن إيراده للدليل، وقدرته على الإقناع، مع تقبله للرأي الآخر ما لم يكن منحرفًا عن الحق والثوابت، ومن يتابع كتاباته يجد أحيانًا نقدًا للذات، أما أسلوبه ففيه شيء من الإطناب الذي هو جزء من البلاغة، وأخيرًا أقدّم له اقتراحين:
1- التفرّغ لمشروع الثقافة والأدب في المملكة، ولعله يبني كتاباته في هذا المجال بناءً منهجيًا واضحًا، وبعمق وشمولية.
2- أدعوه إلى إقامة منتديات ثقافية خاصة في القصيم كالثلاثية.




الترفع عن السقطات

وجاء حديث د. مرزوق بن تنباك موجزًا معبّرًا عن إعجابه بالأديب د. حسن الهويمل على الرغم من اختلافه معه في أكثر من موقف، وقال: لقد فرحنا بهذا التكريم للأديب د. حسن الهويمل، وكم ندمت أنني لم أتصل به وأسارع بالتعرف عليه منذ زمن، وهو أكبر من أن نتحدث عنه في إثرائه للساحة الثقافية، ولا شك أنه ناقد وأديب كبير، ومفكر وصاحب موقف متميّز سواء وافقناه أم اختلفناه معه، لديه وضوح وثبات في جميع كتاباته، ومع اختلافي معه في مصطلح الأدب الإسلامي، والعامية والفصحى إلاّ أنني احترمه، لأنه يحترم من يخالفه، ويترفع عن السقطات الشخصية.



لمسات من الوفاء

وقال الأديب الناقد محمد بن خالد الفاضل الأستاذ بجامعة الإمام: إنّ في حياة أديبنا د. حسن الهويمل محطات كثيرة، فهو رائد من رواد الأدب الإسلاميّ السعودي، ويختط أسلوبًا فريدًا في عباراته، وله قاموس لغوي خاص به، وأنا من المعجبين جدًا به، فهو يكاد يأسرك بأسلوبه، ومواقفه المشهورة أمام الحداثة في منحاها الفكري التغريبي.
أما الدكتور عائض الردادي عضو مجلس الشورى، والإعلامي المعروف، فبيّن أن الأديب د. الهويمل ثابت على مبادئه منتمٍ لأمته الإسلامية، ويدافع عن هويتها، وليس دفاعه عن مجرد نوع من الأدب كالأدب الإسلامي، ويسعدني أن أدعوه للكتابة عن تجربة الأندية الأدبية، وكذلك د. محمد الربيع ود. منصور الحازمي، لما في ذلك من أهمية في هذا الوقت.
وتحدّث الأستاذ/ حمد القاضي رئيس تحرير المجلة العربية، وعضو مجلس الشورى أيضًا قائلاً: ما أجمل الوفاء لمن أعطوا لأوطانهم وأمتهم، وأرى أنّ مفتاح شخصية الأديب د. حسن الهويمل كإنسان وأديب وناقد هي هوية الأمة، وهوية الوطن. وعندما تقرأ له يشبع عقلك، ويريح قلبك، ويحمل رسالة سامية لدينه ووطنه ومستقبل أمته.
والحق أنني أهنئه لترك نادي القصيم الأدبي؛ لأننا بحاجة إلى تفرّغه لأدبه وإبداعه، ومشروعاته الثقافية.
وكان للأديب الروائي د. عبد الله العريني كلمة رائعة، فقد ذكر أنّ تكريم د. حسن الهويمل تكريم للأدب الأصيل، وللمضمون الرائع الناصع، فهو يبهرنا بالنقد والبلاغة، ويظل نسيج وحده، وأحسبه يتعب نفسه ويريح قُرّاءه في كتابته وأسلوبه، أما تساؤلات د. الحازمي فيجيب عنها تعريف الأدب الإسلامي، وتاريخه العريق منذ بزوغ الإسلام.
وتحدّث د. علي بن عبد العزيز الخضيري الذي أكدّ أن د. الهويمل هو علم بارز ينبغي تكريمه من وزارة الإعلام، وقد شاركنا في مجالات عديدة، لذا فهو المفكر والأديب الذي لا يغيب عن البال، أمّا الأستاذ/ محمد بن ناصر الأسمري فكان معجبًا بنزاهة د. الهويمل في آرائه الحرّة، ومحترمًا صرامته، وحفاظه على لغة راقية في الحوار، وبيّن أن الاحتفاء به هو احتفاء برمز من رموز الوطن. ونقف أخيرًا مع الأديب الأستاذ د. صابر عبد الدايم الذي قال: في عام 1992م حضر د. الأديب حسن الهويمل مؤتمرًا لأدباء مصر ممثلاً لرعاية الشباب، وقد شهد الجميع لأهمية كلمته التي ألقاها من حيث الفكر الواعي الأصيل والرؤى المتميزة، والأسلوب الرائع، كما حضر أخيرًا مؤتمر الأدب الإسلامي في القاهرة، فوجدنا أن لديه جرأة المثقفين، وثباتهم وثقتهم بأنفسهم.




درع التكريم

وفي ختام اللقاء، شكر الأديب د. حسن الهويمل جميع الإخوة المتحدثين وخصّ الأستاذ/ محمد المشوح على تكريمه، إذْ جمعه بأصدقائه وأساتذته تحت سقف واحد، وما كان هذا ليتم لولا هذا اللقاء.
وأشار أنّ خروجه من نادي القصيم الأدبي كان بعد أن قدّم له ما قدّم، وقد حقق له إنجازات كثيرة، ومنها: مقرّ للنادي بثلاثة ملايين ريال، وشراء أرض له بخمسة ملايين ريال، وفي رصيد النادي سبعة ملايين ريال، وأحب أن يحقق النادي ما لم يحققه أيام رئاستي له في السنوات الماضية.
ثم قدّم الأستاذ/ محمد المشوّح للأديب د. حسن الهويمل درع التكريم.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:23 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
عقائد المفكرين في القرن العشرين..!
د. حسن بن فهد الهويمل


كلما هممت في تناول موضوع يشغل الرأي العام أو الخاص، وله مساس بالفكر المعاصر، هرعت إلى مكتبتي التي نشأت معي منذ نصف قرن، واتخذت لها توزيعاً وفق رؤيتي الخاصة، وليس وفق النظام العشري المعتمد لدى المكتبات العالمية. ومنها ألتمس المراجع والمصادر التي تعضد فكرتي، وتشدّ أزر موقفي؛ سعياً وراء تحويل المقال من الإنشائية المترسلة إلى الثقافية الممتلئة؛ فأنا أكره المترسلين والمخفين والإنشائيين، وأحفل بالمقال الممتلئ معرفة، والمؤصل علماً. وكلما ارتبت من شطحة كاتب أو جهله، أو ضقت ذرعاً بتعالمه هرعت إلى أمات المصادر والمراجع؛ للتمكن من ردّ التائهين إلى جادة الصواب. وما من كاتب إلا مدرك أو مستدرك عليه، كما قال الإمام مالك: (ما منا إلا رادّ أو مردود عليه إلا صاحب هذا القبر) - يعني مَن لا ينطق عن الهوى -.
والنصّ الثقافي هو النص المطعم بمختلف المعارف، المحلّى بأنواع الثقافات وأصناف الآراء. وعودتي إلى الكتب المسعفة ليست كعودة الخالي الوفاض الذي يأخذ من هذا، وينقل من ذاك، ثم لا يحسن الانتقاء، ولا يوفق في العرض، فيكون كمن يطيل الحديث، ثم لا يقول شيئاً، أو كحاطب ليل، وإنما هي عودة المتزود، وخير الزاد ما يقي الإنسان زلة اللسان وصبوة القلم.
ويقيني أنني مررت عبر عشرات السنين على تلك الكتب، وعرفت ما تنطوي عليه. ومن عادتي حين أريد شراء كتاب أجهل مؤلفه، ولا أتوفر على معرفة كافية عن حقله المعرفي، أن أستعرض المقدمة والخاتمة والمراجع، وأستبين المنهج والخطة وآلية التناول، ثم أختار بعض الصفحات عشوائياً، فإذا شدني سحر اللغة وحلاوة الأسلوب، أو استهوتني طرافة المعلومة، أو استمالني عمق الباحث واقتداره، اشتريت الكتاب. وإلى جانب هذا الاستعراض السريع أميل إلى استكمال ما ألفته طائفة من العلماء والأدباء والمفكرين ممن لهم حضورهم المؤثر في سائر المشاهد. أسأل عما لهم من مؤلفات أو عمن كتب عنهم؛ لكونهم يشكلون مكانة علمية متميزة. وتمتد رغبتي إلى جانب ذلك إلى مذاهب وظواهر لا بدّ من استكمال المعلومات عنها، ف (الحداثة) أو (العولمة) و(التفكيكية) و(التحويلية) - على سبيل المثال - من الظواهر التي يفرض عليّ حضوري الاهتمام بها، واستكمال المعلومات عنها، مثلما كانت (الوجودية) و(الماركسية) من قبل محط الأنظار، والاهتمام يمتد إلى الموسوعات والمعاجم كافة في أيّ حقل معرفي.
وحين أردت التعليق على مأزق التعالق والردّ على بعض المغالطين حول سائر الظواهر؛ بوصفها متعددة المفاهيم، لم أقنع باللغط المحلي، ولا باللغو الإعلامي؛ ذلك أنه زبد لا يغني ولا يقني، بل عدت إلى تاريخ الحضارات والعلوم والمذاهب والأفكار من خلال موسوعاتها أو رجالاتها، أو ما ألف عنها من كتب، أو ما كتب فيها من مقالات ورسائل علمية محكمة، وما أجري حولها من لقاءات، وكان من بين ما رجعت إليه كتاب (عقائد المفكرين في القرن العشرين) للمفكر العربي الكبير (عباس محمود العقاد - ت 1964م) - رحمه الله -، ولهذا المفكر الفذ في نفسي كل الإعجاب وكل الإكبار، وهو في حياته وبعد مماته ظالم ومظلوم؛ فكل الذين قرؤوه لم ينصفوه، وأكثرهم قرأ عنه، ولم يقرأ له، وتلك من عثرات الأقلام. لقد عرفته قبل نصف قرن، ودخلت كتبه مكتبتي في وقت مبكر، فهذا الكتاب وضع عليه تاريخ الشراء عام 1388هـ.
وجناح (العقاد) في مكتبتي من أوسع الأجنحة لا ينازعه إلا جناح (طه حسين) و(عبد الرحمن بدوي) و(زكي نجيب محمود)؛ إذ يشتمل على كل كتبه التي ألفها، وطبعها في حياته، وما طبع له بعد مماته، وأكثر ما كتب عنه. وحين أقول: (أكثر ما كتب عنه) فإنني أعرف حجم ما كتب عنه، ولا سيما بعدما استعرضت السلسلة (الببليوجرافية) عن أعلام الأدب المعاصر في مصر، التي أعدها فريق عمل، تحت إشراف الأستاذ (حمدي السكوت) الذي نال جائزة الملك فيصل. وهو قد انفرد بإعداد ما يخص (عباس محمود العقاد) في مجلدين نيفا على ألف ومائة وخمسين صفحة، ليس فيها إلا عناوين الكتب والمقالات. وفيما يتعلق بالكتاب مجال الحديث (عقائد المفكرين في القرن العشرين) فإن ترتيبه يأتي بين مؤلفاته المطبوعة في حياته بعد أربعين كتاباً سبقته، ولعل هذا مؤشر على نضجه وسيطرته على معارف عصره. ولن أنقب عما كُتب عن هذا الكتاب من مدح أو قدح فيما كتب عن العقاد من رسائل علمية وكتب دراسية أو نقدية، والتي تجاوزت السبعين كتاباً في مصر وحدها؛ لأن ذلك يند بنا عما نحن بصدده.
والمتتبع للعقاد يجده في اللغة كمن ينحت من الصخر، وفي المعاني كمن يغرف من البحر؛ فهو حين يعزم على تناول ظاهرة فكرية تنثال عليه المعلومات من كل جانب، وتحتشد الكتب بمختلف اللغات. ولأنه لا يعتمد النقل، ولا يهتم بالإحالة، فإن القارئ المبتدئ لا يملك مجاراته. ولقد تجرعت مرارات المغالبة؛ إذ شدني (العقاد) وأنا غض الإهاب، وأحسست وأنا أجيل النظر في كتبه أنني أمام مطلسم لا يبالي بقارئيه، حتى لا أدري كيف السبيل إلى مراميه وأهدافه، ولم يكن في مقدوري إذ ذاك السيطرة على فكره، ولا السيطرة على غرامي بكتبه، ووجدت أن الحل الأمثل في التوفر على كتبه، وتركها مرصوصة في المكتبة يعلوها الغبار، حتى تتوفر القدرة على التفكيك والتشريح والتقويض، وحتى أمتلك أكثر من نظرية معرفية؛ فقراءة العقاد تحتاج إلى آليات قرائية تقدر على تثوير معارفه المتماسكة كما الصخر.
وحديثه عن (عقائد المفكرين) حصيلة قراءة مباشرة لما كتبوه بأيديهم؛ إذ لم يقع تحت رحمة المترجمين الذين لا يملكون القدرة على استيعاب الأفكار ولا القدرة على معضلات اللغات. وكل من يتلقى معارفه من المترجمين يكون مرتهناً لمبلغهم من العلم. و(العقاد) حين يعطيك تصوره للأفكار يدعم رؤيته بنقول في غاية الاختصار؛ ففي حديثه - على سبيل المثال - عن (مشكلة الشر) تجده يقدم رؤيته كمفكر لا يقل عن أساطين الفكر الغربي، حتى إذا وثق من تحرير موقفه، عطف على مَن لهم رؤية موافقة أو مخالفة، وهو في أمور كثيرة لا يحسم الإشكالية، ولكنه يتركها لمزيد من الإضافات. والذين يمتلكون ترويض جماح فكره يخرجون بنتائج إيجابية.
والكتاب - كما يقال - (معتصر المختصر)، وهو من الكتب المؤلفة، وليس من المقالات المجموعة، وميزة التأليف أنها تعتمد الخطة والمنهج والآلية والمراجع والمصادر، وتحتفظ بالوحدة الموضوعية والعضوية، وتبسط الحديث عن الموضوع، وليست كذلك المقالات أو الدراسات المجموعة بعد النشر أو الإلقاء. وللعقاد عشرات الكتب من هذا وذاك؛ ذلك أنه زهد بالوظائف، ولم يمارس التجارة، وجاء من (أسوان) إلى (القاهرة) شاباً معدماً مجهولاً تتقحمه العيون ويزدريه الكبراء، فكان أن اعتمد على قلمه في رزقه، وفي فرض وجوده، ومن ثم جذبته الصحافة واستهلكته، والعباقرة كالمجانين، لا تسعهم الوظائف، ولا تصبر عليهم النساء، فما باع نفسه بالتقسيط - كما يقول -، وما شغلته زوجة ولا ولد، ولسنا معه في شيء من ذلك، ولكنها حيوات العباقرة الشاذة والمفيدة في آن.
و(العقاد) الذي شدّني إليه صلفه وعنف مواجهته الأفكار والأناسيّ ليس معصوماً من الأخطاء الفادحة، والانحياز السلبيّ والدخول في اللعب السياسية أثناء المدّ الشيوعي، ولسنا بصدد الحديث عن جوانب حياته ومجمل أفكاره، ولكننا نودّ الحديث عن كتاب قرأته أكثر من مرة، وعدت إليه أكثر من مرة، وأحسست أنه من أصول الفلسفة الحديثة؛ لأنه يعرض - بالإيجاز - رموز الفكر الغربي الحديث، ويرصد التحولات الفكرية والعلمية كافة. وما من طالب علم وفكر يريد لنفسه التأصيل المعرفي إلا ويكون (العقاد) واحداً من أهم مراجعه، وغياب التأصيل للفلسفة الحديثة يعرض الدارسين للتيه، وذلك ما نراه ونسمعه. وتشكّل الثقافة من الكتبة المتسطحين يؤدي إلى ثقافة ضحلة متسطحة. وكتاب الصحف أو بعضهم على الأقل ممن تجذبهم الصحافة، وتحملهم على تنويع الموضوعات يكبرون في أعين الناس، وتصبح مقولاتهم حاسمة، وما هم في الحقيقة إلا منشئون لا يؤصلون لعلم، ولا يحررون لمسائل، فإذا تحدثوا عن القضايا والظواهر والمذاهب والمبادئ، ربكوا الأذهان، واضطربت من أقوالهم المفاهيم، وأدت كتاباتهم إلى التنازع بين القانعين بما يقولون. والذين يتوفرون على المعاجم والموسوعات والمترجمات وأمات الكتب والدراسات، ويتابعون ما يجدّ من قضايا وظواهر، ويحصلون على ما يكتب فيها وعنها تكون لهم رؤية صائبة فيما يكتب من مقالات ودراسات مرتجلة. ومكمن الإشكاليات الفكرية والسياسية والدينية في واحدية التلقي؛ بمعنى أن يقيد القارئ نفسه بعالم أو كاتب أو مصدر علمي ناقص، أو يكون مقلداً لفكر أو مذهب، يرى فيه العمق والشمول، وما هو كذلك، وإنما هو التعصب الأعمى والتزكية المتعجلة.
وحديثي عن الكتاب لا ينهض بمهمة العرض ولا التلخيص، ولكنه يومئ إلى حلقة مفقودة عند سائر الكتبة الذين يتصدرون القول في الظواهر الفكرية الغربية، وهم لم يتمكنوا من استكناه الجذور، ولا الإلمام بمتطلبات القول عن المفاهيم، وفي هذا تضليل وإرباك.
والراصد لفيوض الحديث عن (الغربنة) وسائر مفرداتها من عشرات الظواهر والمذاهب والمصطلحات يصاب بخيبة الأمل؛ ذلك أن أكثر المتحدثين يخلطون بين المبادئ والتطبيقات، ويعولون على إيجابيات الممارسة لتزكية الآخر، ولا يفرقون بين (الأيديولوجيا) والإجراء، وإذا حددوا مفهومهم للظاهرة تبين أنهم مثقفو مساع، وليسوا مؤصلين للمعارف؛ فهم ثملاً يتصورون أن (الحداثة) مجرد التجديد، والدليل على ذلك وصفهم الخصوم بالتقليديين، وهم يتصورون أن (الليبرالية) مجرد التوفر على الحرية وعصرنة الدساتير؛ ولهذا يصفون خصومهم بالرجعيين أو الماضويين. ولك أن تقول مثل ذلك عن (الديموقراطية) وغيرها، ومصدر المشاكل التعويل على المتداول الإعلامي، والركون إلى الشعارات الثورية. والعلماء والمفكرون يقصدون بحار العلوم، (ومن قصد البحر استقل السواقيا). ومن لم يوظف الجهد والوقت والمال لمتابعة ما يجدّ من الدراسات والمعاجم والموسوعات والمترجمات لا يقدر على استبانة الرشد، وسيظل يخبط في بنيات الطريق كما العشواء.
وكتاب (العقاد) الذي تداعت معه هذه الهواجس يضع قدم الباحث على المحجة، ويمكنه من الرصد الدقيق لتحولات الفكر، ومع أنه يقع في مئة وسبع وستين صفحة فإنه يمكن الباحث من ترائي فضاءات الفكر المعاصر، ويغريه بالبحث والتقصي عمن ذكر من الأناسيّ والمبادئ. و(العقاد) لا يفصّل القول، ولا يحمل همّ الشمول؛ فالعقائد والفلسفات متاهات داخلها مفقود وخارجها مولود، على حد: (نهاية إقدام العقول عقال). و(العقاد) الذي يملك جَلَد المثابرين، ونباهة العبقريين، يلمّ بكل المنجز الفكري، ويعرف دخائله وأصوله. ومصائب المشهد الفكري المعاصر أن سواده الأعظم لا يتجاوزون سقط المعارف، وحين يتحدثون تتفرق بهم سبل المفاهيم ونظريات التأويل والتلقي. والمقتصر على ذلك النوع من النثار أشبه بالمجتث من فوق الأرض، لا يكون له قرار. وما صعّد الخلاف، وأشعل الجدل إلا المتسطحون على المعارف، وكل متابع تعدو عينه إلى جذور النظريات وأصولها ومرجعياتها وأنساقها يريح ويستريح؛ لأنه يقطع قول كل خطيب. و(العقاد) من هذه النوعية القليلة، وسواء اتفقت معه، أو لم تتفق، فإنك لا تجد بداً من احترامه.
وإذ يتحدث في كتابه المركز عن (عقائد المفكرين) فإنه يحاول تحديد مفهوم (العقيدة). وبعد مجمل التساؤلات يقرر أن العقيدة في بحثه تعني: مشمول الوجدان، وطريقة الحياة، وحاجة النفس، وهي تتجلى بالتقديس والتصديق والتسليم، ويمحّصها الإدراك والشك ثم اليقين. وحرصه على التكثيف والإيجاز لم يمنعه من إطالة الحديث، واستعراض مجمل الرؤى والتصورات عند علماء النفس والفلسفة والتاريخ. وتجلية عقائد المفكرين في مقطع زماني أو مكاني تتطلب التحقق من الأنساق والسياقات، وقد سماها العقاد (سمة العصر)، وأبرز سمات العصر طغيان سلطان العقل وسلطان العلم.
وهو قد صوّر التحولات على النحو التالي:
- هيمنة سلطان الدين.
- ثم هيمنة سلطان العقل.
- وأخيراً هيمنة سلطان العلم.
وقد حصر أسباب التحول العقدي في خمسة أمور:
- اكتشاف مركز الأرض في منظومتها.
- ظهور القوانين المادية.
- مذهب النشوء والارتقاء.
- مقارنة الأديان.
- مشكلة الشرّ.
ولقد تناولها بشيء من التركيز، ولم يكن - فيما أعلم - متحدثاً عن مجرد العقيدة، ولكنه أراد أن يرصد التحولات العقدية؛ فالغرب قبل التنوير كان (لاهوتياً) تقوده الكنيسة، وأثناء التنوير ساد العقل، وتخلف النص، ثم تخلف العقل والنص، وساد العلم، وكانت المادة وقوانينها مجال التفكير والبحث. وكنت أتوقع منه أن يؤخر الحديث عن قوانين المادة؛ ذلك أن عقائد المفكرين حطت برحالها عند تلك القوانين، وإن كانت المكتشفات قد أسقطت الكثير منها، ولما جاءت (النسبية) كادت تنهد معها كل القوانين. وأمتع بحوثه ما كتبه عن (مشكلة الشرّ)، وهو حين تناولها، من خلال الحكمة والعدل والأسس، تقصاها عند فلاسفة الغرب، ولم يعرج عليها في الفكر الإسلامي. ومنهجية البحث لا تقتضي ذلك، وهو قد نهج الطريق ذاته عندما تحدث عن (نظرية النشوء والارتقاء)، وللفكر الإسلامي رؤية مسددة في قضية (الخير والشر) قد نتقصاها في مقال لاحق.
ومثلما فعل مع تحولات العقائد، فعل في كتابه (إبليس)؛ حيث أخذه الحديث عن تاريخ الشيطان كرمز للشر، ولكنه - كما هو في كتابه (الله) - لم يتحدث عن فلسفة (الخير والشر)، ولا عن (الفلسفة الأخلاقية) بالقدر الكافي. وأحسبه معنيّ بتحرير عقائد المفكرين في حقبة محدودة ومكان محدود. وإشكاليات الخير والشر تتنازعها حقول (الناسوت) و (اللاهوت)، وما لهما من فلسفات ومثاليات.
ومحصلة القول: أن نتجافى في تناول القضايا عن السماع المبعثر، ومن أراد تحرير القضايا والتأصيل لها فعليه أن يتحمل عناء القراءة الشمولية المعمقة، أو ليدع ما للعلماء للعلماء، وما للعامة للعامة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 02:48 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
في هذه الحلقة الثانية من حوارنا الشامل مع د. حسن بن فهد الهويمل رئيس النادي الأدبي في القصيم والناقد المعروف، نواصل الغوص في أعماقه لاكتشاف الجديد من مواقفه وآرائه الجريئة في عدد من قضايا المشهد الثقافي في الوطن العربي.

\\ حمد الجاسر رائد من روادنا الكبار فقدته ساحتنا الثقافية، متى بدأت علاقتك به؟ وما موقفه من معاركك الأدبية؟

\ أما عن موقفه ـ رحمه الله ـ من معاركي فكان ينبغي أن يسأل عنها، غير أنني أسمع منه ثناءً عاطراً كلما زرته في بيته، وهو علم من أعلام الأدب والفكر في الوطن العربي، وعلاقتي به تتسم بالاحترام المتبادل وتلك سجيته، فهو دائماً هاش باش وبخاصة حين تقدمت به السن وكان أول لقاء معه حين عزمت على تحضير شهادة الماجستير، زرته في بيته واستفدت من آرائه وحين تلقيت منه خطاباً وقعه معه الشيخ عبدالله بن خميس لطلب الانضمام معهم في تأسيس نادٍ أدبي في الرياض، وكان هذا تكريماً منهما لشاب مبتدىء مثلي آنذاك، ومازلت أحتفظ بهذا الخطاب لما أحدثه في نفسي من ارتياح.

\\ في ظل ازدياد الندوات الأدبية الخاصة.. ألم يأن للدكتور حسن أن يفتتح ندوة أدبية بمنزله تأخذ من شخصه ونقده تميزها وتسد فراغاً كبيراً في منطقة القصيم، وتلبي حاجة الكثيرين من ناشئة الأدب ومحبي الثقافة الأصيلة؟

\ بعد انتقالي إلى المسكن الجديد سوف أجعل هناك ندوة وقد أقمت لها خيمة واسعة في ساحة البيت ومازلت في طور الإعداد لها بحيث تكون ـ إن شاء الله ـ ظهيراً لنشاطات النادي الأدبي الذي أرأسه.

\\ يتصدر مكتبك بالنادي الأدبي عبارة «خير جليس في الزمان كتاب» أما زلت تؤمن بدور الكتاب وأهميته في عصر «الإنترنت» وعولمة الفضاء؟

\ بالطبع، فالكتاب من أهم المصادر العلمية والثقافية ولن يزيحه عن أهميته ما جدّ من أوعية ثقافية متعددة وهي التي أطلق عليها نائب الرئيس الأمريكي (آل جور) (جادة المعلومات).

\\ لك تجربة مع شعر الدكتور إبراهيم العواجي ونقده، ماذا عن رؤيتك النقدية تجاهه شاعراً؟

\ الدكتور إبراهيم العواجي شاعر له نكهته الخاصة ولم أسعد بدراسة شعره ولكنني أشرت إليه في مواضع كثيرة في رسالتي للماجستير «اتجاهات الشعر المعاصر في نجد» وفي رسالتي للدكتوراه «النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر» وقد أعود إليه بشكل أوسع وهو يستحق أن يخص بدراسات متعددة تتناول ظواهره الفنية والدلالية.

\\ د. أسامة عبدالرحمن تحترمه شاعراً وتقدره مثقفاً، هل تناولته نقداً؟

\ لديّ الآن دراسة من حلقتين عن آخر ديوان أصدره د. أسامة نشرتها في صحيفة الجزيرة، وسبق أن درست شعره، واستاء من دراستي ولم أشأ تصعيد الخلاف، فالدكتور أسامة يملؤني احتراماً وتقديراً ورأيي في شاعريته حق لي وليس نهائياً بالنسبة له فما لا أراه في شعره متميزاً يراه غيري متميزاً ومؤشراً لأهلية اختلاف الرأي.

\\ قلت الشعر وكتبته ـ أيضاً ـ ماذا عن الشاعر د. حسن الهويمل وما قصته مع الشعر؟ وهل ترى نفسك شاعراً كما أنت ناقد؟

\ أنا لست بشاعر، وإن قلت الشعر، فالشعر موهبة وليس كسباً، والذين يخادعون الناس باقتدارهم أناس مجازفون، هناك موهبة، وهناك اقتدار، والمقتدرون يقولون الشعر وينشرون القصائد ويصدرون الدواوين وكلهم ليسوا بشعراء. إذن فأنا لست بشاعر وأرجو ألا تزلقوني بادعائكم.

\\ مشهدنا الثقافي السعودي ما حظه من «النقد» وما حظ ذلك «النقد» من الحياة والتجدد؟

\ المشهد الثقافي في المملكة لا يختلف عن المشاهد العربية له وعليه، ولا يجوز أن نصفه بالضعف أو بالتميز إنه في سياقه العربي في مستوى أي مشهد إقليمي. لدينا النقاد المنظرون والنقاد المطبقون، ولدينا العلماء في فنون الأدب من أكاديميين وطلاب، وإذا كان لنا موقف من بعض النقاد فإن هذا لا يمتد إلى المشهد جملة ولا يمتد إلى جملة إمكاناتهم، هم نقاد وإن اختلفنا معهم.

\\ ما جديدك القادم.. دراسة أو بحثاً أو إبداعاً؟

\ أنا أعيش مع الكلمة: تأليفاً، مقالة، ومحاضرة، ومناقشة رسائل، وإشراف، وتحكيم، ومن ثم فإن هناك كماً هائلاً من الأعمال التي لم أتمكن من تجهيزها للطباعة، ومع ذلك فقد طبع لي أكثر من ثلاثة كتب خلال العام المنصرم.

\\ لك علاقة بجائزة الملك فيصل العالمية، ماذا حققت هذه الجائزة العالمية العملاقة؟

\ علاقتي مع الجائزة كأي علاقة أديب مع مؤسسة أدبية عالمية، والعاملون فيها تربطني بهم زمالة وصداقة وأعرف ما تنطوي عليه من طموحات وتطلعات لخدمة الأدب والفكر والعقيدة والعلم في الوطن العربي والإسلامي والعالمي. وهي مؤشر حضاري وقيمة عالمية تحسب للمملكة العربية السعودية والمؤسف أنها لا تحتل في وسائلنا الإعلامية المكانة التي تستحقها وإن كان لي من كلمة فهي الدعاء الصادق لأبناء الملك فيصل ـ رحمه الله ـ الذين مكنوا لهذا الزعيم الإسلامي الكبير من أن يعيش حضوراً عالمياً مشرفاً.

\\ لك علاقة فاعلة بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة من خلال لجنة «المشورة»، ولك موقف واضح من الشعر العامي الذي فعّلته الجنادرية حضوراً ونقداً من خلال الأطروحات السنوية المتكررة.. هل هذا تنازل من د. حسن أم «تكتيك» أم ماذا؟

\ المهرجان الوطني للثقافة والتراث «الجنادرية» متعددة الاهتمامات، وأنا أعمل معهم بما أميل إليه، أشترك في اللجنة الفكرية والأدبية، وليس لي أدنى علاقة فيما تمارسه «الجنادرية» من أعمال شعبية، ومن حقها أن تعدد اهتماماتها وأن تبرز كل الجوانب الشعبية والأخوة في الجنادرية هم الذين يكرمونني بالاستشارة والإشراك وأنا سعيد بهذا التشريف وآخر إسهاماتي ما قدمته لهم من مشورة مطولة أرجو أن يكون لها نصيب من القبول.

\\ رحلتك الطويلة مع «الكلمة» الصادقة، وتجربتك الفكرية، والمراحل التي مررت بها. متى نراها مدونة على شكل «سيرة ذاتية» لتصبح مشعل هداية تنير الطريق لشداة الأدب ممن يدرس الأدب السعودي؟

\ مازلت متردداً في كتابة السيرة الذاتية وإن كنت حريصاً على قراءة السير الذاتية، وناقشت رسالة علمية أبرزت فنيات هذا الفن في الأدب السعودي المعاصر. ومع أنني مع هذا الفن إلا أنني أتحفظ على سخافات تجيء في بعض السير الذاتية وبخاصة الروايات التي يبدعها أصحابها بوصفها سيراً ذاتية.

\\ عباس محمود العقاد، ذلك العملاق والمفكر المعروف متهم أنت بحبه لدرجة «الإعجاب» لاشك أن لذلك أسباب فما هي؟ وما نصيبه من مؤلفاتك ومقالاتك ودراساتك؟

\ محمود عباس العقاد عملاق الفكر والأدب العربي المعاصر وإعجابي به مازال قائماً، وإن اختلفت معه في أمور كثيرة.

وقد عرفت العقاد ـ رحمه الله ـ في زمن مبكر وبالتحديد عام 1960م قبل وفاته بأربع سنوات وما كنت يومها أفهم كل كتاباته، وإن ادعيت ذلك، ومن ثم فقد توافرت على جميع مؤلفاته وأعماله الشعرية عدد كبير من الدراسات التي كتبت عنه. والعقاد مفكر متزن وذو حس إسلامي، ورؤيته عقلية متمكنة، وهو بلاشك مدرسة فكرية حرم من الاستفادة منها خلق كثير لما مُني به من تصديات جائرة من مصطفى صادق الرافعي ـ رحمه الله ـ، والغريب أن الذين يتصدون لفكر العقاد يقرأون عنه ولا يقرأونه ويعولون على ما يقوله خصومه ولو قرىء العقاد بتجرد لأخذ مكانته اللائقة به.

وقد كتبت عنه مقالات ودراسات ورددت على بعض الجنايات التي ارتكبها المنتفعون من إرثه العلمي والأدبي من مثل عامر أحمد العقاد الذي أساء إلى عمه حين كتب عن جوانب من حياته.

\\ قلت ذلك مرة، إننا بحاجة إلى موسوعة الأديب السعودي لتسد الحاجة القائمة وتعيد أدباءنا ومفكرينا إلى ذاكرة الناشئة وتعرِّف بهم أدباء العالم العربي الذين تنقصهم المعرفة الشاملة لحركتنا الأدبية في المملكة.

ماذا عن هذه الموسوعة؟ وماذا تم بخصوصها؟

\ نوقش هذا الموضوع في أحد المؤتمرات التي يعقدها رؤساء الأندية الأدبية، ووضعت توصية بأن يقوم كل نادٍ بوضع تراجم مفصلة لأدباء المنطقة التابع لها النادي وبادر بعضهم وتردد آخرون ولكن المنجز لم يكن على ما يرام ومازالت الرغبة قائمة والحاجة ملحة، فالمملكة بحاجة ماسة لتقديم نفسها إلى المشاهد الأدبية من خلال التعريف بأدبائها ومبدعيها.

\\ تلاميذ الدكتور حسن متميزون في تعاملهم مع منجزه الفكري وحواراته الأدبية، كيف استطعت أن تطبعهم بهذا «التميّز» وماذا قدم لك هؤلاء التلاميذ؟

\ لا أستطيع أن أسايرك فيما تذهب إليه، تلاميذي في الجامعة هم الذين أقبل تسميتهم بالتلاميذ، أما القراء فزملاء يغمرونني بالتقدير وتواضعهم يصفني بالأستاذية، وما أفعله من قول أو كتابة إنما هو جهد مقل يود أن يقول رأيه مع ما فيه من هنات.

\\ مهتم أنت بالشاعر الكبير محمد حسن فقي، ماذا عن تناولك لهذا الشاعر نقداً ودراسة، ولماذا هذا الشاعر بالذات. وما موقفه من تلك الدراسات التي كتبتها منه؟

\ قصتي مع الشاعر الكبير محمد حسن فقي طويلة وممتعة، فلقد أراد نادي جدة الثقافي تكريمه، فاختارني للحديث عنه في يوم التكريم، وحين علم الفقي لم يرُقه هذا الاختيار واعتذر عن التكريم، فما كان مني إلا أن عزمت على دراسة شعره على أي وجه ومن خلال أي وسيلة إعلانية وأعلنت ذلك.

ولأن الفقي رجل لطيف المعشر، طيب القلب، فقد أسف على اعتذاره، وقبل دراستي، وقبل التكريم، وزودني بمجموعته الشعرية، وبما يتوافر لديه من الدراسات، وتم التكريم في نادي جدة، وألقيت الدراسة فأعجب بها وأثنى عليها وعدها الدراسة المنصفة له. ثم أضفت إليها وعدلت فيها وألقيتها في دار الأوبرا في القاهرة في ندوة نقدية حول شاعريته، وطبعت الدراسة في ملف المؤتمر. وبعد سنواتأكرمته الجنادرية وكنت المتحدث الرسمي في هذا التكريم فأعددت قراءته وأضفت ما أراه مناسباً فكانت الدراسة بصيغتها النهائية.

تلك هي قصة دراستي للفقي أمد الله في عمره.

\\ ألا تعتقد أن واقعنا الأدبي والنقدي السعودي بحاجة إلى مجلة نقدية علمية ليست لسان حال نادي واحد وإنما تجمع الأندية الأدبية وتخدم الأدب والنقد السعودي؟

\ نحن بحاجة ماسة إلى جمع الشتات فهناك مجلات كثيرة وعلى مستوى من الجودة والموضوعية، مجلات علمية وأخرى أدبية ولكنها جميعاً لا تملك الانتشار المناسب وليست لها الخطة والمنهج المرسومان بإتقان. وفي الوطن العربي مجلات لها سمعة وانتشار وما لدينا ليس بأقل قيمة ولكننا لا نحسن التسويق واحتراق مشاهد الآخرين.. لهذا فالحركة الأدبية في المملكة بحاجة إلى مؤسسة أدبية تصدر مجلة محكمة وقوية وواسعة الانتشار والمؤسف أننا نمتلك الإمكانات ولكننا لم نفعل بعد.

\\ ماذا تقول لهؤلاء؟

عبدالعزيز السالم، محمد عبدالله المليباري، عبدالله الصالح العثيمين، د. أحمد الضبيب، د. محمد الربيع.

\ عبدالعزيز السالم: أود لو جمع مقالاته في كتاب بعد صدور المجموعة الأولى ضمن كتاب (الرياض).

ــ محمد عبدالله المليباري: مازال ورثته مقصرين في حق المشهد الثقافي بعدم جمعهم لمعاركه الفكرية والأدبية وإصدارها في كتاب.

ــ عبدالله الصالح العثيمين: إذا قال في تاريخ المملكة فصدقوه فإنه حذامه.

ــ د. أحمد الضبيب: التراثي المتعصرن.

ــ د. محمد الربيع: العلم والإدارة.

\\ المعارك الحادة بينك وبين الدكتور الغذامي لم تنته إلى حل وسط، فكلا موقفيكما متباعدان، فما السبب وراء ذلك؟ وإلى متى تبقيان على هذه الحال، أليس هناك مجالاً للتواصل البناء؟

\ ليس من مصلحة المشهد الثقافي أن تصفى الخلافات بالتنازلات، بل باستبانة الحق والرجوع إليه
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج

آخر من قام بالتعديل عباس محمود العقاد; بتاريخ 23-11-2006 الساعة 03:09 PM.
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:06 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مسوغات الأدب الإسلامي..!
د. حسن بن فهد الهويمل

ما من مصطلح جديد إلا ويواجه بالتساؤلات والتحفظات، ويطلب من ذويه البرهنة عن مشروعيته ومرجعيته وتخطيه من الفرضية إلى النظرية، ومراد الأفكار أهم من مراد المعدات والشهوات، ذلك أن الأفكار تشكل المواقف والتصورات، وتنقب في السوائد والمسلمات، وتنشئ الملل والنحل، وتوقظ الفتن، وتدفع إلى الحروب، ومن ثم أصبحت قضايا الفكر هي القضايا الأهم. لأنها تجمع الأشتات، أو تفرق الجماعات، ولأن الأدب عامة و«الأدب الإسلامي» خاصة بعد موجة «الأدلجة» والتسييس قضية من أهم القضايا الفكرية والأدبية التي تتداولها المشاهد الفكرية، فقد كان لزاماً على المصدقين بمشروعيته إبداء الأسباب والمؤيدات، سعياً وراء الإقناع والاستمالة، أو الدفع بالتي هي أحسن، ولن يتأتى الإقناع إلا بتقصي حيثيات المشروعية ومسوغات الطرح، والتناوش من مكان قريب، وعقلنة التداول، والمصطلح المثير ثنائي التركيب ثنائي المقاصد، فالأدبية لها شرطها، والإسلامية لها مقتضاها، ولابد و- الحالة تلك- من النظر في كل وجوه المصطلح المركب ومقتضياته ومشروعية قيامه، وبخاصة بعد الخلطة المستحكمة بين الفن والفكر، ومثل ذلك يتطلب تلقي التساؤلات والتحفظات بصدر رحب، ومجادلة بالتي هي أحسن، في سبيل تبرير مشروعيته، وسط أطياف المذاهب والتيارات والقضايا والمبادئ التي تملأ الرحب، ومشروعيته تتحقق بحشد المسوغات والتماس المبررات، ولاسيما أن هذا المصطلح لم يقم إلا بعد قرون من قيام «الأدب العربي» الذي تحمل مهام الإمتاع والإقناع، ولأن الفن عامة والفن القولي خاصة سابق على التشريع، ومختلف بلغته وغاياته عن سائر المعارف، فإن النظر إليه بعد التشريع يختلف عما كانت عليه النظرات من قبل.
و«الأدب الإسلامي» يواجه تحديات متعددة، فخصوم الإسلام خصوم الداء، والمتفلتون على القيم الأخلاقية، ممن لم يجتنبوا كبائر الإثم والفواحش خصوم متفاوتون بين متحفظ ومتخوف، أو متردد بجهله أو بوقوعه تحت تأثير المفاهيم الخاطئة، ممن يرى أن الفن القولي بمعزل عن الدين، ثم لا يعرف قدر الاعتزال وأمداء التداخل، وأمام تلك المواجهات لابد من أن يقدم المعنيون بالمشروع مسوغات مشروعهم، وأحسبها إن لم تكن معهوداً معرفياً فإنها معهود ذهني، إذ ما من متلق واع إلا ويعرف لماذا طرح المشروع، وما هي دواعيه ومقاصده، ولعل من أهم المسوغات:-
- هيمنة الإسلام، وشموليته وحاكميته وحقه الإلهي في أن يكون كل شيء على مراد الله، ومن جعل الفن خارج أمر الله أعوزه الدليل، وحق الفن في التشريع كحق سائر الممارسات القولية والفعلية، ودراية الأمة بأمور دنياها مرتبطة بوعي المقاصد الإسلامية.
- مشروعية تكافؤ الفرص، وتساوي الحقوق، فالقبول ب «أدب حداثي» أو «وجودي »أو «ماركسي» يلزم بقبول «أدب إسلامي » وبخاصة بعد أن وسع «الأدب العربي» كل هذه الاتجاهات وأصبح نهباً لها.
- تصحيح العلاقة بين «الادب» و «العقيدة» ولما كان واجب الأدب- أي أدب- أن يكون في خدمة عقيدة الأمة التي ينتمي إليها الأدب، كان لابد من تصحيح العلاقة بينهما، لتتم الخدمة على أقوم طريق، فالأدب وثيق الصلة بالحياة، ولن تتحقق العقيدة منفصلة عن الحياة، ولن يكون الأدب بمعزل عن تواشج الحياة بالعقيدة.
فالأدب تعبير عن موقف، وإبداع المنتمي مصطبغ بالانتماء، فالأدب إذاً بطبيعته تعبير غير مباشر عن العقيدة، ولكي يكون التعبير سليما مطابقاً لمراد المشرع، كان لابد من وعي المقتضى، وما لا تقوم العقيدة إلا به فهو عقيدة أو جزء منها، ولأن العقيدة هدف أسمى، كان لابد أن يكون قول المعتقد في خدمة هذا الهدف، ولعلنا نلمح للدلالة اللغوية لجذر «عقد» إذ يوحي بعقد مبرم بين طرفين يلزم بالوفاء، فهي من تعقيد الأيمان، وعقدها غير اللغو فيها، ومن لم يلتزم بمقتضيات العقيدة فهو يلغو فيها، والخصائص الايمانية لا تتحقق إلا بالتمثل قولاً وعملاً واعتقاداً، فمن قال ولم يعمل كبر مقت الله له، ومن اعتقد بقلبه وناقض الاعتقاد بالقول أو بالفعل أخل بالمقتضى الايماني، ولهذا جاء «الادب الإسلامي» ليصحح العلاقة بين ثلاثي التحمل: الاعتقاد، والقول، والعمل، ولا يمكن أن يكون الأدب بمعزل عن العقيدة، كما لا يمكن أن تكون الحياة بمعزل عنها، وفي الوقت نفسه لا يكون الأدب خالصاً لها، ولكنه يكون مخلصا لها، والفرق دقيق بين الخالص والمخلص، هذه القطعيات الطردية تؤدي إلى حتمية ارتباط الادب بالعقيدة ارتباطاً يعي الفرق بين «الأدب» و«علم الكلام»، إذ ما من أدب أمة إلا ويكون مصبوغاً بعقيدتها، و«تولستوي» يربط عظمة الفن بقدر ما يعكسه من إدراك ديني، ولعل شهرة «الإلياذة» مرتبطة بما تعكسه من وثنية معتبرة في لحظة الإبداع، ويقال مثل ذلك عن «الكوميديا الإلهية» «لدانتي» حيث تجسد العقيدة «الكاثوليكية»، وكذلك «الفردوس المفقود» «لملتون» إذ فيها تصوير لموقف االمسيح من الله والعالم.
وحتى الآداب ذات البعد العاطفي لا يمكن أن تثير الكوامن النفسية إلا من خلال العواطف الدينية، فالعقيدة سدى الفن ولحمته ومدده، وبدونها لا يكون الأدب أدباً خالداً، والقول ب «اللامنتمي» يعني الانتماء لعدم الانتماء، فما من قول إلا وله مضمون وهدف وانتماء، وإذا تبدت عقائد النصارى واليهود والبوذيين في آدابهم فإن العقيدة الإسلامية أولى في الظهور والتمثل، ومع هذا يجب أن نفرق بين «الأدب الديني» و«الأدب الإسلامي»، فالأول يشتغل بالموضوع الديني، والآخر يشتغل وفق المقتضى الإسلامي.
- وإذا تجاوزنا المقتضى العقدي بوصفه الركيزة الأساسية تبدى لنا مسوغ آخر، يتعلق بالسلوكيات، وحفظ القيم الأخلاقية مطلب إنساني، قبل أن يكون مطلباً إسلامياً أو مطلباً أدبياً يهتم بقيم الإسلام، والجذر اللغوي لكلمة «أدب» في كل دلالاته وثيق الصلة بالقيم الأخلاقية ف «الأدب» - بسكون الدال- هو الدعوة للزاد، وهو عين الكرم، والكرم مفردة أخلاقية، والتأديب تهيئة نفسية وسلوكية لتمثل المكارم الأخلاقية، وإطلاق كلمة «أدب» مسمى لتدارس الشعر والنثر إطلاق مولد، نظر فيه إلى التأديب والدعوة، ولقد قيل للمعلم مؤدب، لأنه يحمل طلابه على مكارم الأخلاق، فالأدب دعوة وتطويع، ومن ثم تصبح كلمة «أدب» مرتبطة بالقيم الأخلاقية على كل دلالاتها، والتمرد على الآداب السلوكية خروج على مقتضى الدلالة، والشاذ يفقد مسوغه، وأدب الرذيلة لا يعد أدباً بالمفهوم الأخلاقي، وإن كان أدباً بالمفهوم الفني، والدول التي تعتمد الحرية الدينية والسلوكية، يروعها الانحراف الخلقي، ومن ثم تحاول محاصرة الأخلاقيات المسفة، وإن حماها قانون الحريات الشخصية، وحين أصبح دور الأدب المتهتك في الانحرافات السلوكية دوراً فاعلاً، تحرف المسؤولون عن الأخلاقيات لترشيده والحد من تهتكه.
ولقد ارتفعت نبرة الجدل حول أولوية الجمال أو الجلال، وإذ يسلم الجميع بأن الجمال الحسي مرتبط بالغرائز، فإنهم يسلمون بأن الجلال المعنوي مرتبط بالقيم المعنوية، والإنسان في النهاية مجموعة قيم، وليس مجموعة غرائز وحسب، ذلك أنه بالقيم يمتاز عن سائر الأمم، فالغرائز قاسم مشترك بين الإنسان والحيوان، بينما القيم الأخلاقية خاصة بالإنسان.
وتبعاً لذلك يكون الجلال المعنوي شرط الجمال الحسي وأسُّه، وجمال القيم والأخلاق أهم من الجمال الحسي، وشرف اللفظ والمعنى أزكى من شرف اللفظ وحده، وقد نبه المشرع حين حذر من «خضراء الدمن» وأكد على مكارم الأخلاق في أكثر من آية وحديث، والأخلاقيات المطلوبة في الأداء الإبداعي امتداد لاهتمام الإسلام بالأخلاق، وحرصه على عدم الجهر بالمعاصي، وحديث «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» يؤكد أهمية التستر، وعدم إبداء الصفحة، فمن بدت صفحة خطيئته لزم ردعه وأطره، وإشاعة الرذيلة عبر الكلمة الجميلة عين التهتك، وعين المجاهرة وبدو الصفحة، والعملية الإبداعية طاقة موجهة، فلابد أن تكون بناءة.
- ومن مسوغات «الأدب الإسلامي » ما عليه الآداب العالمية والعربية من سقوط وانحراف وهبوط في المستويات الفنية واللغوية، ف «الأدب الإسلامي» هدفه إقالة عثرة الأدب العربي، والنهوض به من كبواته المتعددة، والمتابعون لفيوض الإبداعات والدراسات والكتابات: التنظيرية والتطبيقية، يدركون الانحرافات الواضحة عن جادة الصواب، انحراف فكري، وسقوط أخلاقي، وتمرد على الشرط الفني، وإلغاء لخصوصيات الأنواع الإبداعية، وتفلت على ضوابط اللغة، وترد في مهاوي العامية، ونسف لقنوات التواصل، بافتعال التغامض، وخلق الأسطورة، وتعمد التغنص.
«والأدب الإسلامي» يسعى لتلافي ذلك كله، ويتعمد إشاعة القيم الفنية واللغوية والأخلاقية على حد سواء، ويحرص على حمل الناس عليها طواعية لا إكراهاً، وهدفه أن يقدم مشروعه بالتي هي أحسن، لا يكره الناس على أن يكونوا أدباء إسلاميين، إنه دعوة سلمية، تحاول إغراء المتعطشين إلى الكلمة الطيبة والقول السديد بالنهوض بهذه المهمة قولاً وتلقياً، ولما كانت طائفة من دعاة «الأدب الحديث» تعيش عالة على كل القيم الفنية والدلالية الغربية، ولما كان مشاهير الأدباء المعاصرين في لهاث وراء سرابيات المذاهب والتيارات الوافدة، كان لابد من التماس قيم عربية وأخلاقيات إسلامية تميز الأدب العربي عن غيره من الآداب، والمتابع للمشاهد الأدبية لا يسمع إلا بمذهب غربي، ولا يعايش إلا ظاهرة غربية، والأدباء العرب يصطرعون حول قضايا ومذاهب لا تمت إلى الحضارة الإسلامية بصلة.
لهذا كان لابد من استشعار الواقع المتردي للأدب العربي، والعمل على تلافي نقاط الضعف سعياً وراء إقالة العثرة.
و«الأدب العربي» جزء من مفردات الحضارة الإسلامية، منها ينطلق وإليها يعود، وارتماؤه في أحضان الحضارات الوافدة مسخ له وإذابة لخصوصيته، ولاشك أن طائفة من عمالقته تولت كبر الارتماء في أحضان الغير، ونافحت عمن تعجل إلى الحضارات، دون تضلع من التراث، يمكن من التمثل، ووسط هذا التهافت على المستجد دون وعي ودون حاجة اقتدار وتمثل، كان لابد أن يكون لنا أدبنا المتميز الذي يستصحب التراث، ويتفاعل مع المستجد، لا ينسلخ من قيمه الفنية والأخلاقية، ولا يعتزل المعاصرة، فالناس أبناء حاضرهم، وليسوا أبناء تاريخهم، والتفاعل الإيجابي مطلب حضاري، ومؤشر قوة واقتدار، وكم هو الفرق بين أن يحتويك الطارئ أو تحتويه، والنزعة التقليدية هي احتواء التراث للمبدع والناقد، وليس تقليد الغرب بأحسن حال من تقليد التراث، والمحافظة غير التقليد، ومحاكاة الغرب ليست تجديداً، ان مهمة «الأدب الإسلامي» أن يحتوي التراث والمعاصرة معاً، ويستن لنفسه طريقاً قاصداً، يستجيب فيه لحاجة الأمة، ويشبع رغباتها المشروعة، ولن يتحقق التميز إلا إذا انطلق أدباؤنا من التصور الإسلامي لله والكون والحياة والإنسان، والتصور الإسلامي لا يناقض أدبية النص ولا شعريته ومن قال بذلك حمل « الأدب الاسلامي » ما لا يحتمل ، وإذا تحققت أدبية النص في الإبداع الوجودي والماركسي فإن تحققها في «الأدب الإسلامي» أولى، وما القرآن إلا معجزة بيانية في الدرجة الأولى، مع أنه وعاء التشريع والتوحيد والقيم الأخلاقية.
- ولما لم يكن الأدب في سالف عهوده مؤدلجاً ولا مسيساً لم تقم الحاجة إلى أسلمته، إذ هو إسلامي لتوفر الحاكمية والتزام الناس بالمقتضى الإسلامي وقوة الوازع الديني، وما مرت به عصور الأدب من نزوع صوفي أو شعوبي أو طائفي أو سياسي يعد مبادرات شخصية، وليست مذاهب مقصودة، نجد في أدبنا العربي القديم شعر «الخوارج» و«الهاشميين» وشعر «الشعوبيين» و«المتصوفة» و«الشكوكيين» و«الماجنين»، ولكنها عوارض مقموعة بالغلبة، وليس لها ثبات المذهبية.
أما في العصر الحديث فقد تجلى الالتزام، وقامت المذهبية، ودخل الأدب في ضوائق السياسة و«الأيديولوجيات» وحين تعي المذاهب الفكرية أهمية الأدب ومهمته، وتسعى لتوظيفه في خدمة المبادئ والمذاهب يكون من حق المفكرين الإسلاميين استنهاض الأدباء للقيام بواجبهم الإسلامي.
ومقاصد «الأدب الإسلامي» لا تقف حيث يكون شعر المواعظ والزهد والتصوف والشعر الديني والابتهالات والأناشيد الإسلامية، إنها مقاصد تستوعب الطارف والتليد، وترمي إلى غايات أبعد مما يتصوره المتحفظون.
إن أمامنا أدباً ماركسياً، وأدباً حداثياً، وأدباً وجودياً، تشيع المبادئ والأفكار والقيم بطرائق لا تكون فيها مباشرة الدعوة، إنها تمثل للمبادئ والأفكار، وتحرك وفق مقتضياتها، وذلك ما تسعى إليه نظرية «الأدب الإسلامي»، ولو كان هناك توظيف واع وقاصد للأدب العربي لما كان هناك تفكير في الأسلمة، ذلك أن الأدب إسلامي بطبيعته، وذلك ما يجنح إليه البعض ممن يتحفظون على التسمية، ولا يعترضون على الممارسة، ولكن «الأدلجة» حين حادت بالأدب العربي عن طرائق العفوية، أصبح من الضروري طرح مشروع «الأدب الإسلامي».
- وفوق هذا وذاك فإن الأدب «كلمة» وللكلمة رسالة تواكب رسالة المسلم في الحياة، فما رسالة المسلم في الحياة، قبل أن يكون مبدعاً، وبعد أن كان؟
إن «الكلمة» مسؤولية {مّا يّلًفٌظٍ مٌن قّوًلُ إلاَّ لّدّيًهٌ رّقٌيبِ عّتٌيدِ } { وّقٍولٍوا قّوًلاْ سّدٌيدْا} {وّهٍدٍوا إلّى الطَّيٌَبٌ مٌنّ القّوًلٌ } {إلّيًهٌ يّصًعّدٍ الكّلٌمٍ الطَّيٌَبٍ } {لا يٍحٌبٍَ اللهٍ الجّهًرّ بٌالسٍَوءٌ مٌنّ پًقّوًلٌ إلاَّ مّن ظٍلٌمّ } وإذا كان الإنسان محاسباً على ما يقول، وإن تصور أنه في قوله يخوض ويلعب، فإن من واجبه ألا يقول إلا حسنا، أحسب أن الواقع المعاش يستدعي مثل هذا المشروع، فالواقع العالمي وواقع الأدب العربي يقتضيان التحرف السليم لصناعة الكلم الطيب والقول السديد، مع الاحتفاظ بحرية الأديب وأدبية النص، فالأدب غير الفقه وغير التفسير وغير التاريخ، ولكنه يستمد منهما ما يحقق انتماءه لحضارته، وما حضارته إلا الإسلام، وما الإسلام إلا أمر ونهي وحرام وحلال وأطر على الحق، يقع على القول مثلما يقع على الفعل، والحرية لا تكون إلا بضوابطها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:12 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مكة المكرمة في عيون المثقفين والأُدباء..!!
د. حسن بن فهد الهويمل


الحديث عن وادٍ غير ذي زرع في عيون المبدعين والمثقفين كافة يصرف الأنظار إلى ما تمتاز به تلك البقاع، وهو امتياز لا يضارعه امتياز، وأيّ مبدع أو متحدِّث أو متعقِّب لفيوض العطاء لا ينفك من ذلك الامتياز، لأنّه المهيمن، ولأنّه ثر العطاء، يجم على المتلقِّي حتى يكاد يغرق بالمعلومات. وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وأفئدة الناس تهوي إليها، ويأتيها الرجال والرّكبان من كلِّ فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، وما من متعقِّب إلاّ ويسْتَشْعِرُ تلك الخصوصية، ويستذكر لحظة اللقاء بين السماء والأرض، آمراً بالقراءة مشيداً بالقلم الذي يتعلّم منه الإنسان ما لم يعلم.
وفي المستهل أود أن أتقرى ولو بلمس مفاهيم: (المكان) و(المثقف) و(الأديب)، ومدى ارتباط الرؤية بالبصر والبصيرة، وانطلاق البصائر من الخلفية المعرفية والروحية. إذ ما من مبصر أو متبصِّر إلاّ وتعدو حواسه مجتمعة أو متفرِّقة إلى ما وراء المشاهد من قيم: روحية وتاريخية، خافقة بأجنحة الدراية والرواية والمواقف. وما الحديث عن الأطلال إلاّ لما تثيره من ذكريات، وحبُّ الديار مرتبط بكوامنها من الأناسي والأحداث، على حد:




(وما حب الديار شغفن قلبي
ولكن حب من سكن الديار)


ومكة حين نقرؤها بهذه الرؤية، في ضجّة الاحتفاء، تتكشّف عن قضايا وأحداث ومواقف أحسبها بعدد المتحدِّثين عبر مختلف القرون. أمّا (المثقف) فهو ذلك الإنسان القارئ بنهم لكلِّ ما تصل إليه يده أو عينه، متفاعلاً مع المقروء، مستثمراً له، في ظل فهم دقيق، وتمثُّل واعٍ. أمّا (الأديب) هنا فهو الموهوب الذي يبدع النَّص الشِّعري أو السَّردي مسجِّلاً لتجربة، أو محدِّداً لموقف. ولما أن فُرض عليَّ الحديث عن تلك الرؤى، لم أجد بدّاً من الرجوع إلى حقل (مكة المكرمة) في مكتبتي، مسترفداً من سبق، وتلك سنّة الله في خلقه. فما من كاتب أو متحدِّث إلاّ هو آخذٌ بنواصي مقروئة يحلب أشطره، ومن ادّعى نقاء نصِّه فقد وهم وأوهم. ولقد أحسست وأنا أتصيّد شوارد المقروء أنّني كما (خراش) الذي تكاثرت عليه الضباء، فما يدري ما يصيد وما يدع.
ولأضرب بعض الأمثال، لتجسيد الصعوبة في أطر الموضوع والسيطرة عليه، أشير إلى مفردة واحدة في حقل واحد في زمن محدود، فلو تقصَّينا (أدب الرحلة الحجازية) في العهد السعودي فقط، وهو عهد لم يبلغ القرن، لوجدناه زاخراً بالأعمال الثقافية والأدبية من عرب وعجم: أُدباء وساسة وعلماء ومؤرِّخين واقتصاديين وجغرافيين. وكلُّ راصد لرحلته إلى تلك البقاع يسلِّط الضوء على جانب من جوانب الحيوات الحجازية التي تتنازعها الحاضرة والبادية والأمن والخوف، والرَّخاء والشدّة. والرّاصد الأدبي لهذه الظواهر يتوخَّى أدبيّة النص وثقافته، والراحلون إلى مكة، إمّا أن يكونوا حجّاجاً أو عُمّاراً متعلّمين أو مجاورين، وقد يطلبون على هامش ذلك فضلاً من الله عبر البيع أو الشراء. ولكلِّ قادم خلفّيته الثقافية التي تحمله على تسجيل أحداث وقضايا تختلف عمّا يسجِّله الآخرون، والقارئ لا يستغني بشيء، ولا يستغني عن شيء.
فالأديب المصري (إبراهيم عبد القادر المازني) - على سبيل المثال - بوصفه كاتباً صحفيّاً يسلِّط الضوء على العادات والأزياء، ويصف المَشَاهِد والمشاعر وطرق الحج، فيما يهتم (عبد الغني شهبندر) بالجوانب الاقتصادية. والراحلان متقاربان زماناً، مختلفان ثقافة وهمّا. فيما تأتي رحلة (محمد بهجت البيطار) مركِّزة على حياة البادية. ولو تجاوزنا في (أدب الرحلة) خاصة إلى ما قبل العهد السعودي، لوجدنا العجب العجاب، وللقارئ أن يستعرض (مرآة الحرمين) أو (الرحلات الحجازية والحج ومشاعره الدينية) للواء (إبراهيم رفعت باشا) في السنوات من 1318 إلى 1325هـ ليقف على صور الحياة البائسة واختلال الأمن ومعاناة الحجاج في حلِّهم وترحالهم، واستعدادهم كما لو كانوا محاربين. فأيّ عيون نقتفي أثرها؟ وأيّ رؤية نأخذ بعصمها، وأيّ قول نكتفي به؟ ولك أن تقول أكثر من هذا عن الإبداع السّردي. أمّا الشعر فخلق آخر، لا يحيط ببعضه أولو العزم من الدارسين، ولو استمدّ الكاتب مداد الأرض ما كان له أن يستوفيه.
ولربما كان مشروع الدكتور (عبد العزيز راشد السنيدي) المعجمي الحصري عمّا ألّف عن (مكة) قبل العهد السعودي وبعده، وعن (الحج)، ومشروع الدكتور (منصور بن إبراهيم الحازمي) المعجمي عمّا اشتملت عليه جريدتا: (صوت الحجاز) و(أم القرى) من مقالات ودراسات وإبداعات، ومشروع (دارة الملك عبد العزيز) عن (الملك عبد العزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى)، ومشاريع أخرى لا نعلمها، هذه المشاريع إطلالة متواضعة ومحدودة على الكم الثقافي والأدبي الذي صوّر أرض القداسات في عيون الأُدباء والمثقفين وهي بمجموعها كما الكوّة النافذة إلى عوالم شاسعة، لا تحيط بها الأبصار. وما أحد بقادر على أن يحدد الرؤى والتصوُّرات لو أنّه فرغ لجمع العناوين فضلاً عن الحديث الموجز أو المفصّل عن أنواع النصوص. والقارئ لعناوين الكتب يكتشف أنّ مكة تثير كوامن النفوس، وتثوِّر ما تراكم فيها، ليكون تعبيراً عن الذوات من خلال المثير، وذلك مؤشّر لعبقرية المكان، ومتى عرف أن من فرض في الأشهر الحرم الحج شدته انتماءاته الفكرية والعقدية والمذهبية وخلفيّاته الثقافية، وقال قولاً له خصوصية الذات المثارة بفعل خصوصية المكان.
وفيما يتعلَّق بالرؤية الأدبية الحديثة نجد أنّ موسوعة (مكة المكرمة الجلال والجمال) تمثِّل إطلالة دراسية، سجَّل الباحثون فيها رؤيتهم لهذه البقاع الطاهرة من خلال الأدب العربي في المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص. ومكة تحتلُّ في ذاكرة الشِّعر القديم والحديث أعلى المراتب وأوسع المساحات، وهي الأكثر حضوراً في الشِّعر العربي كافة والشِّعر السعودي خاصة. وكيف لا تكون، وهي مهبط الوحي، ومصدر الإسلام، ومن ربوعها انطلقت قوافل الجهاد والدعوة والتعليم، وعند بيتها المحرّم التطمت أمواج المعارف، وعلى أديمها وُلد الهدى ودرج، وتحت كلِّ صخرة فيها حدث غيّر وجه التاريخ.
ومنذ أن قصدها (أبو الأنبياء) ورفع القواعد من البيت حتى اليوم وهي مادة الحديث ومداده، ومن مغارات جبالها انبثق النور، وأشرقت الدنيا بنور ربها، ولجبالها وشعابها حضور في التاريخ القديم والحديث فضلاً عن مشاعرها وبطاحها، وكلُّ وافد إلى مكة يرى في شواخصها الجلال والجمال. وكلُّ مستعرض للتاريخ يحس بدورها في إلهام الشعراء ونجدة المؤرّخين. والشعراء يفعمهم الحب والوله، ويحدوهم الإيمان إلى تمجيد الجبال والشِّعاب والضراب والآكام:



(أيا قمة فوق هام الخلود
سمت بسناها الشذي العطر)
... (هناك حيث شعاب الله مجدبة
وإنما خصبها عَفْوٌ وغفران)


وإذ لا يكون الإحساس إزاء (مكة) مادياً فإنّ الشعراء رأوها كما لو كانت قنينة عطر أو جدول ماء، حتى لكأنّك تعصر الحجر ميثج الماء الفرات، يقول حسين عرب:



(ترابك أندى من فتيت معطر
وصخرك أجدى من كريم الزمرد)


ويقول:



(والمحاريب والمشاعر كون
ناطق بالتقى وبالإيمان)


ولأنّ ربوع مكة لم تكن مجرَّد مكان تطرقه الأقدام، ويجوس خلاله ذوو المآرب الدنيا، فإنّها ألهمت الشعراء، وأثرت الأُدباء، وفجَّرت المواهب. إنّها أكوان من المعارف والثقافات والأحداث، تموج بها ربوع مكة في الغدوِّ والآصال. إنّها سجلاّت منشورة، لم ترفع أقلامها، ولم تجف صحفها، وكيف يرفع التاريخ ريشته ويريق محابره وأفئدة الناس تهفو إليها من كلِّ الفجاج، وعمّار المساجد يطهِّرون بيت الله للطائفين والعاكفين والرُّكَّع السُّجود. لقد هبّت طائفة من أصحاب الدراسات العليا لتقصِّي هذا اللون من الإبداع، فكان أن أغنوا المكتبة العربية برسائل التطمت فيها الإبداعات الأدبية والدراسات الأدبية والاجتماعية، بحيث تجسَّدت من خلالها رؤية الأُدباء والمثقفين لتلك البقاع الطاهرة، فكتبوا عن الشِّعر في الحج وعن سائر الحيوات الأدبية والاجتماعية وعن عدد من الأُدباء والعلماء، وعن الزعماء في عيون المبدعين، وكلُّ متحدِّث تفرض مكة نفسها عليه لتحتلّ المكان الأوفى.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:15 PM   #10
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الوأد عند العرب.. بين الوهم والحقيقة (1 - 2)
د.حسن بن فهد الهويمل


هذا عنوان كتاب أُهدي إليَّ من مؤلفه الزميل الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك، حيث ذكَّرني بكتاب سلف لي بعنوان: (حاتم الطائي بين أصالة الشعر وأسطورة الكرم)، ولمَّا أعد إليه إلا بعد أمة، وما كان لي أن أدعه كما سلف من الإهداءات لمكانة صاحبه، ولأهمية موضوعه.. وأنا حفي بالمبادرين للقضايا الأبكار، وبالمتقحمين لغرائب الأفكار، وبالمختلفين معي حول القضايا المحتملة للاختلاف، والمتّسعة لمزيد من الاجتهاد، ولا سيما إذا كان الباحث ذا باع طويل، وطول مكث في غيابة التراث، وإذا كان ذا مصداقية وموقف، وإن نقض غزل الحقائق أنكاثاً، وبخاصة حين لا يبخس متعلّقات الموضوع شيئاً.. فلقد كانت نُقوله وإحالاته واستشهاداته متّسمة بالعدل والثقة بالنفس، وهو إذ ساق ما له وما عليه، فإن المخالفَ له لا يحتاج إلى تجاوز ما جمع، وتلك ثقة وأمانة، قلَّ توفرها في عدد من الباحثين.. والباحث يُقدِّم عصارة المقروء، ولا يعيده كما بضاعة الأسباط.. ومع كل هذه الاحتفالية بما صنع، فإني عازم على نسف رؤيته من قواعدها، إن كنت لها من المقرنين، وإذ منح نفسه حق الْمحو لكل ما قِيل حول (الوأد) فإنَّ من حقنا تدارُّك الأمر، وجمع الأشلاء المبعثَّرة من تحت سنابك خيله ورجله.
ولما كانت النتائج التي توصل إليها من الغرابة، بحيث لا يَحْسُن السكوتُ عليها، ولما كانت آراؤه من الجرأة، بحيث تثير أكثر من تساؤل، فقد فرغت لقراءة الكتاب المثير، وحرصت الحرص كله على الكتاب المثير، وحرصت الحرص كله على الوقوف ملياً على الجهد المضني الذي أنفقه في البحث والتنقيب والتجهيز، وأسفي المضوي أن جهده الجهيد سيذهب سُدى، لقيامه على شفا جرف هارٍ.
ومرد ذلك أن المفسرين والمحدثين والفقهاء واللغويين المؤرخين المتقدمين منهم والمتأخرين في وجهة، والباحث وحده في وجهة مخالفة.. ومع إصراره على رؤيته الغرائبية وثقته في تقريرها فإنه لا يملك دليلاً علمياً واحداً يعضد به اعتزاله، وما أدري، ولست إخال أدري، أهو يُدافع عن كرامة المرأة، أم يُنافح عن الجاهلية الأولى.. وإذ عوّل على ثلاث حكايات خرافية، وجعل منها مركز القضية، وتصوّر أن نسفها مؤذن بنسف ظاهرة الوأد، فإن الخلوص من مقتضيات النص القطعي الدلالة والثبوت إلى تداعياته مخل بمنهج البحث وآلياته.. وطرائق الباحثين وغرائبية النتائج لن تنسينا براعة التحليل لكافة النصوص المباشرة والمساعدة.. والأمور العشرة التي أجهز بها على الحكايات، أبدت براعة الكاتب، فيما لم تكن الحكايات الثلاث بحاجة لمثل هذا التفكيك، لأنها متهافتة من أساسها، ولمَّا تكن معوّل الباحثين، بحيث تنتهي بنهايتها كل متعلّقات (الوأد) الذي أخرجه المؤسطرون من مستقر المعقولية إلى هلامية العواطف، كما أخرج المفسرون قصص الأنبياء، وكما أُسْطرت الشخصيات الاستثنائية ك(حاتم) و(عنترة)، ولم تكن الأسطرة الطارئة مؤذنة بإنكار القصص أو الشخصيات، وذلك بعض ما فعلته في كتابي عن (حاتم الطائي).
وإذ نسلّم بأن الحكايات الثلاث التي قلَّبها الباحث، وقلب من حولها الأمور، لا تصمد أمام البحث، فإن سقوطها البدهي لن يؤثر على ثبات الظاهرة، كما يراها الكافة، لا كما يراها الباحث.. ولأنها أقرب إلى الحكاية الخرافية، فقد رددها كثيراً، وجاء بها مبسوطة وموجزة، وأشار إليها أكثر من مرة، واحتفى بأبطالها وسائر شخصياتها.. وإذ يكون احتمال الكذب والاختلاق في هذه الحكايات الثلاث متوقعاً، بل مقطوعاً به، فإن تأثيرها على الظاهرة لا يقول به إلا متسرعٌ أو مجازفٌ، لا يُكلِّف نفسه مشقة التثبُّت والتبيُّن الحقيقين لكل باحث يخشى يوم المساءلة.
وأحب أن أشير إلى أن (عالم الجن) و(عالم الملائكة) وكل العوالم الغيبية التي ذُكِرت في القرآن الكريم لا يُمكن التشكيك بوجودها لمجرد الاستجابة للخرافات والأساطير والوقوعات التي يتداولها المنتفعون حولها، كالقول بالتّزاوج بين الإنس والجن، أو رؤيتهم أو محادثتهم أو إجرائهم للعمليات الجراحية لمن يحبون، مما هو داخل في الوقوعات المحتملة للصدق والكذب، مع أنها إلى الكذب والافتراء أقرب.. ف(الجن) و(الملائكة) أمم أمثالنا، لهم وجودهم الذي لا نعلم كنهه، ولهم مهماتهم في الحياة، وهذا الوجود العقدي لا يعضد الخرافيين ولا البسطاء ولا المتنفعين فيما يدعونه من وقوعات.
ولنا أن نقول عن ظاهرة (الوأد) مثل ذلك، فهي حقيقة، لا كما يراها الباحث من أنها (النفس) وإنما كما يراها المفسرون.. وربطها بقبيلة أو بإنسان أو بمرحلة، يخضع للصدق والكذب، ومن حقنا أن نتردد في قبول الوقوعات، لكن ليس من حقنا التّردد في وجود الظاهرة.. ف(الوأد) للبنات حقيقة ذكرها القرآن الكريم بالنص، وأشار إليها في آيات كثيرة، وجاءت أحاديث وقصائد وإجماع على ارتباطها بالمرأة، وليس من واجبنا، ولا من حقنا تحديدها بالصوت والصورة والزمان والمكان والإنسان والعدد والكيفية، والإيغال في الأسطرة والتفصيل لا يلغي حقائق التاريخ.
وإذا استساغ المفسرون والمؤرخون والموسوعيون اختلاق الحكايات، وتلقي الإسرائيليات، وإلصاقها بالقصص القرآني، فإن هذا الاختلاق لا يمتد إلى الظواهر الثابتة بالنص القطعي الدلالة والثبوت. ولقد كان للإسرائيليات في تفسير القرآن الكريم أثرها السلبي على التفسير، وكانت مدخلاً ل(المستشرقين) الذين سمَّوا التفسير بالنص الثاني، وتصوّروا قطعية الدلالة والثبوت له، فشككوا في مصداقية القرآن تعويلاً على أسطورية التفسير، والتفسير لم يخل من أساطير بني إسرائيل ومن الخرافة عند القصّاص والمذكرين، وتعويل الجانحين إلى الأسطرة حديث: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، ولقد دُرس أثر القصّاص والمذكرين السيئ على الحديث النبوي).
والباحث في بحثه خلط بين رد الوقوعات المحتملة للرد وتأويل الظاهرة الثابتة وغير المحتملة للشك وفق رؤية المفسرين والمحدثين، ولو أنه تأمّل ما ذهب إليه (العقاد) و(محمد بيومي مهران) و(الحوفي) و(عبد العزيز صالح) لوجد أنهم تحفظوا على الوقوعات وعلى بعض الروايات، لكنهم لم يتعرّضوا لظاهرة (الوأد)، فهم يعرفون جيداً أصول البحث ومتعلقاته.. ودليل مجازفة الباحث قوله عن المفكر الإسلامي الكبير (عباس العقاد) إنه: (ينافح عنه بلغة إنشائية) ويعني بذلك حديثه عن قضية (الوأد) في سيرة الخليفة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه.. والعقاد مفكر وليس منشئاً.
والباحث الذي لم يتهيَّب من تخطِئة الكافة لا يجد حرجاً من وصف العقاد بما لا يليق به.. (العقاد) مفكر شهدت له كل الأوساط بعلمية الأسلوب ومتانته، وهو حين يتناول قضاياه، يتناولها بموضوعية وعلمية ولغة راقية، ولم يكن في يوم من الأيام إنشائياً.. ولو أن (العقاد) خرج لينافح عن نفسه، لما احتاج إلا للمثل الشائع (رمتني بدائها وانسلَّت).
والباحث المقتدر حقاً تحت تأثير الأنفة العربية والاندفاع العاطفي خالف كل من سلف من المفسرين من (ابن عباس) إلى (سيد قطب)، وخالف الموسوعيين من (الأصفهاني) إلى (الآلوسي)، وخالف اللغويين الذين عوّل على متكآتهم ك(السياق)، ولم يتهيَّب ردود الفعل، وكأن ما سبق من جهابذة العلماء وما لحق شعره في مفرقه، ولست أدري عن حجم الثقة بالنفس حين خالف الإجماع، وأنحى باللائمة على المتقدمين والمتأخرين، وطرح رؤية لم يسبقه أحد إلى مثلها.. ومن المؤكد في زمن العجائب أن يقول المعذِّرون: إن من حق كل مجتهد أن يعيد قراءة النص، وأن يبدي رأيه فيه، وإن خالف الإجماع.
وإشكالية القراء المحدثين أنهم ينكبون عن ذكر العواقب جانباً، ويحسبون أن آليات التفكيكية والتحويلية والسياق والأنساق والعلاقات والعلامات قادرة على تبرير الرؤية المناقضة.. ومع الفارق الفكري والانتمائي فإن تقحُّم الباحث لمثل هذه المسلّمات المتواترة، يشبه إلى حد كبير تقحُّمات مماثلة ل(محمود أبو رية) و(نصر حامد أبو زيد) و(عبد الكريم خليل) و(محمد شحرور) و(محمد سعيد العشماوي)، والفرق بين جرأته وجرأة هؤلاء، أن صاحبنا سليم الطوية، ورؤيته ذاتية غير منتمية، أما رؤية أولئك فهي منتمية لتيارات تدور حولها الشبهات. وعلى شاكلة الذين يقدّمون بين يدي غرائبهم ما يرضون به المتلقي، استهل بحثه بإعلان إيمانه (بما جاء في كتاب الله على مراد الله، وفيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله).. وكان بإمكانه وهو طالب حق ولا شك، أن يسعه ما وسع علماء الأمة من القرن الأول إلى القرن الخامس عشر، وليس من المعقول أن يظل الأعلام من العلماء على جهل بمراد الله ورسوله، فيما يكون الباحث وحده الذي فهم مراد الله ورسوله، وتحقيق مراد الله ومراد رسوله بالرد إليهما، وبسؤال أهل الذكر.
والباحث في تغريده خارج السرب عوّل على مشروعية الاجتهاد وحقه فيه، والاجتهاد المأجور في حال الخطأ والصواب لا بد فيه من توفر المادة والإمكانية واتساع الحدث أو الظاهرة لمزيد من الرؤى، إذ ليس كل مجتهد مأجوراً.. والباحث حين أتى المسلّمات كلها من قواعدها، لم يكن له عضد محق أو مبطل.. والمتلقي لن يسلِّم له، ما لم يكن له سلف أو خلف، وما لم يكن معه نص بقوة نصوص علماء الأمة، وليس هو من ذوي الاجتهاد المطلق أو المقيّد، بحيث يكون من ذوي المفردات ك(ابن تيمية) مثلاً.. وإذ تكون القضية مرتبطة ب(علم التفسير) فإن لها أصولها وآلياتها ومناهجها، التي لم يعوّل عليها الباحث بالقدر الكافي، فقوله مثلاً: (أما ما صنعته الروايات غير الموثّقة... فأمر سنناقشه في ثنايا هذا البحث).. والمناقشة لا يكفي فيها ابتدار الرؤية والموقف، بل لا بد من مواجهة الروايات بآليات الجرح والتعديل والتخريج، ومواجهة الرواية بما هو أقوى منها، أو التماس ناسخ أو مخصص، مما هو معروف في علم (مصطلح الحديث).. أما تقليب الرواية خارج هذه الآليات والمناهج والأُطر، فإجراء لا مجال له في مثل هذه الأمور، وكل خائض في قضايا التفسير والحديث والفقه بوصفها مصادر التشريع لا بد أن يكون على علم بأصول تلك العلوم نفسها، ملماً بأسباب الاختلاف ومعوَّل المخالف، وليته يخلط ثقافته بشيء من (الفقه المقارن) كما هو عند (ابن رشد) و(ابن قدامه).
وليس يعيب مفسري العصر الحديث عدم خروجهم عن فهم الأقدمين، متى لم تتوفر لديهم قناعة مدعومة بالشواهد والأدلة، فالخروج على الإجماع والتواتر، لا يكون رغبة يبتدرها المفسر أو الباحث، ذلك أن قضايا العلم والفكر لا تخضع للرغبات والفرضيات ونزغات الأنفس الأمَّارة. ولو أن المفسرين المعاصرين بدت لهم ثغرات لنفذوا منها، وهم قد فعلوا ذلك في كثير من القضايا، ولم تأخذهم بالحق لومة لائم.. والتعويل على الوقوعات لنسف الثوابت تعويل غير معرفي، وفوق ذلك فالبحث حشد من الانفعالات أدى إلى خلط القضايا والتقديم والتأخير والتكرير وجرجرة الحكايات الخرافية بوصفها قابلة للنسف.
وحين أشير إلى الهنات واللمم في المنهج والمنتج أعوِّل على تعدد المصدرية وتفاوت أصولها ومناهجها، في حين بدت وحدة التّعامل، فالظاهرة تستمد وجودها من كتب التفسير والحديث والتاريخ والأدب، ولكل مصدر منهجه وأصوله وطرائقه.. والباحث لم يستعن بأصول هذه العلوم في نقض القضية، فعلى سبيل المثال وردت أحاديث في الصحاح والمسانيد والسنن. ودراسة الظاهرة من خلال علم الحديث تتطلَّب استعمال آليات المحدثين ورجال الجرح والتعديل وأساليب الشرّاح وطرق استنباطهم، ويُقال في علم التفسير والتاريخ مثل ذلك.. لقد تجلت مواهب الباحث وتجاربه في (النقد الأدبي) وذلك حين تحدث عن دور الشعر في تكريس الظاهرة، وكانت موازناته ولفتاته في غاية الدقة والموضوعية، وإن كان قد عوّل على آليات الانتحال وأسبابه، وهو تعويل في غير محله.. ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها المثقفون وكُتَّاب السياسة والفكر أنهم يستجيبون لعواطفهم، ويطلقون العنان لعقولهم لتعلو فوق النص القطعي الدلالة والثبوت، ولا يضعون قيمة للنصوص ومقتضياتها، ولا لأصول المعارف التي يشتغلون فيها، فإذا استفحش أحدٌ منهم مدلول حديث أنكره، ولم يتأوّل، والمفكرون المعاصرون أكثر جناية على الحديث النبوي الشريف.
ولقد جاءت أحاديث مشكلة، تسرّع البعض في ردّها أو تأويلها، وتصدى لهم من أرشدهم وردّ تعدياتهم منذ (ابن قتيبة) حتى (القصيمي) الذي ألّف قبل انحرافه كتاباً قيماً في تأويل مشكل الحديث.. والحديث النبوي الشريف له مستويات في احتمال الثبوت، كما أن له مستويات في احتمال الدلالة، وله قطعياته ومتشابهاته، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، والنص هنا يعني قطعية الدلالة والثبوت.. ولقد أدرك العلماء خطورة الخوض في العلوم التي لها أصولها وقواعدها دون علم بالأصول والقواعد وطرائق تطبيقها، حتى لقد قالوا: (من تحدّث بغير فنه جاء بالعجائب)، والباحث علمٌ من أعلام الأدب، لكنه دون ذلك بكثير فيما سوى الأدب والتراث، ولا يعيبه ذلك، لكن الذي يعيب تقحُّم سائر التخصصات، ومزاحمة عمالقتها بالمنكب الغض والجناح القصير.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:19 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
... بل هو خيرٌ لكم..!
د. حسن بن فهد الهويمل


طُعن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الصميم، حين اتهمت أحبّ النساء إليه، ولما سُئِلتْ كان جوابها: (فصبر جميل...). ولما كان الله المستعان على ما يصفون فوجئ الكون الإنساني بما لم يكن في حسبان الجميع: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}وقبل هذا وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنون والسحر والشاعرية، وأدمي عقبه، ووضعت القاذورات على ظهره، وشنأه الأبتر، وكسرت ثنيته، وسُحر، ووصفه رأس المنافقين بالأذل، ولمَّا تزل فوهات المدافع تقذف الحمم، وأفواه المنافقين تفيض بالبهتان الذي يحير سامعيه لفظاعته. ولما كان التاريخ يكرر نفسه، فقد انبعث أشقاها، ليؤذي الحبيب الأحبّ من النفس والمال والأهل على مسمع ومرأى من مليار ونيف من المسلمين. وحين لا يبادر القادرون بردّ فعل رادع، كلٌ حسب طاقته، لكي يحفظ جنابه، ويسعد أحبابه، تبلغ الأمة درك الذلة والمهانة، وتستفحل فيها الغثائية، وتكون عرضة لمزيد من الإيذاء في الدين، ومن الاعتداء على الأنفس والأعراض والأموال، ثم لا تقدر على ردّ يد لامس. والتعدي على جنابه الطاهر أثار مشاعر المسلمين على مختلف المستويات، وأثبت للعالم أجمع أن الأمة الإسلامية، وإن وهنت وحزنت ستظل دون ثوابتها ومقدساتها.
وواجب صفوة الصفوة من علماء ومفكرين وساسة وإعلاميين عند مثل هذه النوازل التدبر والتفكر، ووضع الأمور حيث يجب أن توضع؛ إذ المواجهة ستطول وتمتد، وقد يمكر الشانئون بجرّ المنافحين إلى مواجهات غير متكافئة، ليستفيد مَن لا يقاتلون إلا من وراء جدر. وعلينا أمام هذه التحديات الممسك بعضها برقاب بعض ألا نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده، بحيث تكون المحاسبة مقدَّرة بقدرها، لا يكون فيها تعدّ ولا ظلم ولا مجازفات خاسرة، كما يجب ألا تكون الغيرة والتصدي والصمود سحابة صيف، تعصف، ثم تخبو؛ إذ كل اهتياج غير موزون يحور رماداً بعد إذ هو ساطع.
وأخوف ما أخاف على أمتنا ذاكرتها المخروقة، ونسيانها المعتق، فما تواجهه من تعديات متلاحقة ينسي بعضها بعضاً؛ فأين نحن من آلاف المقترفات السافرة، والانتهاكات المتواصلة عبر التاريخ؟ وتفادياً لأيّ مواجهة غير محسوبة علينا أن نتساءل: هل جاء المساس في سياق الحرب النفسية، أم جاء بادرة شخصية، تجهل مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين، أم أن ذلك في سياق الصدام الحضاري؟ فلكل دافع أسلوب في المواجهة، ونحن أحوج ما نكون إلى (استراتيجية) محكمة؛ لمواجهة مثل هذه النوازل؛ فالحرب الفكرية ليست بأقل شأناً من الحرب العسكرية، وقضايا المسلمين العامة لا بدّ لها من مؤسسات ترصد وتحلل وتحكم المواجهة.
وطبعي أننا لا نملك القدرة على المواجهة العسكرية، ولا نميل إليها لو توفرت إمكانياتها، وعندئذ فإن المواجهة الفكرية والاقتصادية والسياسية أجدى وأهدى وأعمق تأثيراً. وبرهان ذلك تراجعات المؤسسات (الدانمركية) واستباقها لمحاصرة القضية، والحيلولة دون امتدادها، بيد أن لملمة ذيولها جاء في غير وقته. ولو أن عقلاء القوم إذ أحسوا بفداحة الخطيئة تداركوا الأمر، وقدموا اعتذارهم، لما بلغت الأمور ما بلغت. وتبرير الفعلة النكرى بحق التفكير والتعبير مجانب للصواب؛ فالحرية الإنسانية لا بدّ أن تكون منضبطة، وكرامات الشعوب لا بدّ أن تكون مستحضرة مصونة، وبقدر محافظة الإنسان على قيمه المادية تكون محافظته على قيمه المعنوية. والمؤسسة السياسية في (الدانمرك) ارتكبت خطأً فادحاً بتعويلها على (حرية الصحافة) و(حرية الكلمة)؛ فذلك تعويل لا تعضده الأعراف السياسية، فضلاً عن حدود الحريات الأخرى. ولقد أشار (الأمين العام) (كوفي أنان) إلى خطأ الفهم، وحث على تجنب بؤر التوتر، ومن بعد ذلك تلاحقت التصريحات التنصلية من بعض زعماء العالم، وكان حقاً على الدول الأوربية التي عاضدت بعضُ صحفها (الدانمرك) أن تعينها بردّها عن الظلم، على حدّ (أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً)؛ فالمملكة العربية السعودية التي قادت حملة الاستياء، حالت دون تصرفات غاضبة، يقودها الشارع الإسلامي، ثم تكون فتنة لا تصيبنَّ الذين ظلموا خاصة.
ومثل هذا التصعيد العاطفي لن يكون في صالح العالم بأسره، ومشاعر الشعوب لا يمكن حسمها بقرار سياسيّ، إنها كالطوفان تدمّر كل شيء أتت عليه، وما كان من أهداف المؤسسات الإسلامية زجّ العالم في بؤر التوتر؛ إن موقفهم غيرة على سمعة رسولهم وطهره، ومحاولة لتراجع المعتدي عن اعتدائه، وما كان ضرّ الصحيفة لو اعتذرت عما بدر منها، وحمَّلت الخطأ رسَّامها (الكاريكاتيري).
والإسلام الذي قطع بكفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، وإن يد الله مغلولة، ولقي منهم أذىً كبيراً، لا يودّ من المسلمين تصعيد الخلاف، ومن ثم نهاهم عن سبّ معبودات المشركين، ونهى عن قطيعة المخالف في الدين، وحصر المواجهة مع الذين يقاتلون على الدين، ويخرجون من الديار، والذين اقترفوا خطيئة النيل من الرسول لم يعرفوا أن إيمان المؤمن لا يتم حتى يكون الرسول أحبّ إليه من كل شيء حتى من نفسه. ولم يتحقق إيمان (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - حتى كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أحبّ إليه من كل شيء، حتى في نفسه، وحين قالها، قال له رسول الله: (الآن يا عمر)؛ أي الآن تحقق الإيمان. وكيف يكون اعتداء على رسول الرحمة والسلام، والمسلمون لا يفرقون بين أحد من رسله؟ ألا يكفي الغرب أن يعاملنا بالمثل، أو يكف عن تعمد الإهانة لمشاعر المسلمين؟
وما فعلته الصحافة (الدانمركية) وباركته المؤسسة السياسية يعدّ من نقض العهد والتعدي السافر؛ ذلك أن العهود والمواثيق تتطلب احترام مقدسات الآخر، أو الكف عنها على الأقل؛ فنحن نعرف أن (اليهود) و(النصارى) لا يؤمنون برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا يرون القرآن كلام الله، وتلك من عقائدهم، ومع ذلك فإنها لم تؤثر في العهود والمواثيق المبرمة بين الدول المختلفة في عقائدها، متى لم ينقض المخالف الميثاق. ومع ما يتجرعه العالم الإسلامي من ويلات فإنه مستعد لنسيان ما فات، وفتح صفحة جديدة، وما على المؤسسة السياسية في (الدانمرك) إلا أن تبدي أسفها واعتذارها، وتؤكد لصحافتها أن من مستلزمات التبادل التجاري، وهو جزء من العهود والمواثيق الكف عن إيذاء مشاعر المسلمين، وعندئذ لا يكون هناك ما يمنع من عودة المياه إلى مجاريها على المستوى السياسي على الأقل، أما المقاطعة الشعبية فتلك إرادة لا يقدر عليها إلا من بيده مقاليد كل شيء. وإذا كان الإعلام الغربي قد أضل قومه بتحميل الإسلام معرة الإرهاب فإن من واجب قادة العالم تصحيح المفاهيم؛ ليعيش العالم بسلام.
ومن المؤسف أن تُمِدَّ بعض الصحف الغربية صحف الدانمرك بالغيّ، وتلك الحيل (التكتيكية) قامت بها بعض الدول الأوربية لفك الاختناق عن (الدانمرك)، وتخفيف حدة المواجهة، بحيث أعادت نشر الصور، تمشياً مع سياسة ضياع الدم بين القبائل، ووضع الأمة الإسلامية والمملكة العربية السعودية بالذات في موقف حرج، وتلك محاولة غبية، متى استطاع العالم الإسلامي التعامل معها بحكمة وروية، فالبادئ مقترف، والمساير مؤيِّد، وعلى الأمة الإسلامية أن تظل في مواجهة المقترف، وأن تدع المساندين لها، محتفظة بحقها، حين تحتاج تلك الدول إلى مساندة أو تأييد في المحافل الدولية.
وظاهرة المساندة الأوربية دليل على نجاح ردود الفعل الإسلامي، ودليل على أن الفكر الأوربي في الهمِّ غرب، وأنهم في الهوى سواء. إن مواجهة أوربا كلها في الأمور المتعذرة، والصحافة الأوربية التي شاطرت (الدانمرك) تريد أن تخفف من وطأة المقاطعة، وأن تربك المواجهة الإسلامية. وما تلاقيه المملكة من نقد إن هو إلا ابتلاء وامتحان، وعليها أن تصبر وتصابر وترابط، والاحتجاج بأنها عضوٌ في (منظمة التجارة العالمية)، وأن العضوية لا تخولها مقاطعة الدانمرك اقتصادياً احتجاج مرجوح؛ فالتعدي على مشاعر المسلمين وإثارتهم يحمِّلان الدولة؛ بوصفها قبلة المسلمين وفي أرضها يرقد الجسد الطاهر، مسؤولية الاستجابة لمشاعر الشعوب الإسلامية، ثم إن مبادرة المقاطعة ليست سياسية، وإنما هي شعبية، وحتى لو فتحت المملكة أسواقها للمنتجات (الدانمركية) فإن الرأي العام الإسلامي سيتمسك بالمقاطعة؛ مما يعرض البضائع الدانمركية للكساد، وتلك مقاومة سلمية مشروعة، استطاع بها (غاندي) إخراج (الإنجليز) من الهند. وإذا كان الغرب جاداً في مواجهة الإرهاب، فعليه أن يجتهد في تجفيف مستنقعاته، وقطع دابر مثيراته. وإثارة مشاعر المسلمين ورقة رابحة في يد الإرهابيين، والدول الإسلامية جادة من جانبها في مطاردة فلول الإرهاب، ولا أحسب الدول الغربية واعية للأسباب، ولا محسنة لأسلوب المواجهة.
ومع كل التداعيات السلبية والإيجابية فإن هذا الإيذاء ترك آثاراً إيجابية ما كان لها أن تكون لولا التعدي الآثم على حرمات المسلمين، وهذا يستدعي قصة (الإفك) وتطمين الله للمؤمنين حين حسبوه شراً لهم، وهو في النهاية خير؛ فالذين يركنون إلى الغرب من أبناء المسلمين، ويدَّعون رغبته في التعايش السلمي والحوار الحضاري، ويلومون أهلهم على سوء التعامل معه، وسوء الظن به، تبدت لهم منطوياته؛ فلقد كشف الحدث عن خبيئة الأعداء ومساندة بعضهم بعضاً. وحين يتلقى الذين في قلوبهم مرض درساً عملياً، يكون ذلك أدعى لوعيهم بالذي يبيته المناوئون، وأخذ الحذر من الأعداء الذين يبيتون ما لا يرضى الله في القول والفعل.
ومشروعية الحوار وتبادل المعارف والخبرات، لا تقتضي الغفلة، ولا الركون إلى الذين ظلموا، ولا المداهنة. وأخذ الحذر لا يتعارض مع الجنوح للسلام والمصالحة والتعايش وتبادل المنافع؛ فنحن هنا لا نريد قطع السبيل، ولا المقاطعة، ولا المواجهة، وإنما نريد الوعي بما ينطوي عليه الآخر، وترتيب الأمور بحيث تكون المواجهة حضارية، وما منعت المواجهة العسكرية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مقايضة الأسرى المشركين بتعليم أبناء المسلمين.
وإيذاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - يأتي حلقة في سلسلة محاولات يائسة للنيل من مقدسات المسلمين. وإذ تكون المحاولة اليائسة البائسة بحق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - فإن استعراض سيرته وموقف الآخر منها يتوفر على شواهد كافية. وشخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ظلت، ولما تزل مجال حديث منكر يتداوله المستشرقون والمبشرون والمستغربون من أبناء المسلمين الذين ران على قلوبهم ما كانوا يقرؤون. وما تتلقفه الصحافة العالمية إن هو إلا ناتج طبعي لهذه الحملة المتواصلة على قيم الأمة الإسلامية؛ فالمستشرقون والمبشرون والمناديب ومَن اتخذهم دليلاً من مستغربي المسلمين، ولغوا في قضايا الأمة ومسلماتها، ولما تعدم الأمة من علمائها الأوفياء مَن تصدى لأولئك، وفند أقوالهم، وأجهض حملاتهم الفكرية، مثلما أجهضت جيوش المسلمين حملاتهم الصليبية.
وإذا كانت أذية الكلمة حكراً على المفكرين الذين شُغلوا بمقارنة الأديان، وتولوا كبر الغزو الفكري، فقد امتدت الأذية من الكلمة العلمية إلى الكلمة الإبداعية، وإلى سائر الفنون: الفعلية والشكلية؛ فكان أن تولى كبر الأذية الروائيون والممثلون والرسامون، وهؤلاء أكثر ارتباطاً وتأثيراً في الرأي العام، ولعلنا نذكر رواية (الآيات...) و(العار) و(الوليمة).
وما فعلته الصحافة (الدانمركية) محاولة بذيئة جنت من ورائها خيبة الأمل؛ فالمسلمون توحدت مشاعرهم، وقد تتوحد صفوفهم وأهدافهم، والرأي العام (الدانمركي) انشق على نفسه، واختلفت صفوفه. وما كانت الفعلة النكراء في الصحافة الدانمركية من بوادر العصر؛ إنها خليقة الأعداء، ومَن تصوّر أن ذلك عارض زائل فقد وهم. وكيف لا نعي قول الباري: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، وتحذير الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لتتبعن سنن من كان قبلكم). والغرب لن ينفك عن الغزو والتآمر، وواجبنا إتقان لعبة التواصل معه.
لقد اهتمّ المستشرقون بسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخذوها من أطرافها قدحاً أو مدحاً، وكان منهم المنصفون، ومنهم دون ذلك، ومنهم المتحاملون، وقليل منهم مَن أثرت فيه السيرة العطرة بكل طهرها ونصاعتها فأسلم. ومن المستشرقين (الدانمركيين) بالذات الذين تناولوا سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - المستشرق (يوهل فرنفز ت 1932م) الذي ألف كتاب (حياة محمد) و(تعاليم محمد طبقاً للقرآن)، وآخرون من (الدانمركيين) كتبوا في التاريخ الإسلامي من مثل (أوليسترب ت 1938م) و(جودي بيتر ت 1945م) و(بدرسن). ولم تكن المشاهد الفكرية في الدانمرك جاهلةً مكانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند المسلمين، ولا جاهلةً ما عرفه العالم عن أخلاقه المتميزة. ولا شك أن مثل هذه المحاولة لها أهداف خفية، قد لا نعرفها في القريب العاجل، ولكنها ستبدو في أذيال اللعبة، حين يفرج عن الوثائق، أو حين ينفضّ سامر المأجورين: (ويأتيك بالأخبار مَن لم تزود). وفي غمرة الحملة ضدّ مَن كان خلقه القرآن، ومن زكاه ربه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، نجد مَن أنصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المستشرقين. وممن أنصفه وأسلم عدد كبير، من بينهم (آتيين دينيه) الفرنسي، وقد سمّى نفسه (ناصر الدين)، و(يوزورث سمث) و(ج. ولينز) و(أنسو بروكس) و(بارنت) الألمانيون، و(أرثر كين) الأمريكي، وآخرون لا حصر لهم. وكتابات المجحفين منهم مرتبطة بخلفياتهم الدينية والفكرية وأنساقهم الثقافية، ومنطلقة من رؤيتهم الوضعية ولصوقهم الماديّ، وأكثرهم أجيرٌ جنّدته المنظمات المعادية للإسلام، والمقتفون أثرهم من المفكرين العرب تتشابه الأفكار عندهم كما تشابهت البقر عند بني إسرائيل، وتتداخل الآراء في كتاباتهم حتى تكون كما طيلسان (ابن حرب).
وإذا أساء المستشرقون لكل مفردات الحضارة الإسلامية، فإن لهم مواقف عدائية من الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحيث أنكروا الوحي والإسراء والمعراج، واتهموا الرسول بأنه مؤلف للقرآن، وصانع للإسلام، ووصفوه بأنه ناثر مبدع، وثائر عربي خدم قوميته. وحتى الذين ذكروه على رأس الأبطال، نظروا إليه بوصفه عبقريا إنسانيا، وليس مرسلا من عند ربه. والمؤسف أن هذه الرؤى التقطها بعض مرضى القلوب من المسلمين، فلقد سايرهم على سبيل المثال (محمود أبو رية) في قضية الإسراء والمعراج، وسايرهم (طه حسين) في تاريخ إبراهيم وإسماعيل، والتقط بعض المفكرين أطرافاً من دعاويهم دون وعي منهم بخطورة تبني مثل هذه الأفكار المادية الإلحادية. وفقهاء الأمة ناقشوا مثل هذه التعديات، وأقروا عقوبة المستهزئين، وخير من تناول ذلك شيخ الإسلام (ابن تيمية) في كتابه الموسوعي (الصارم المسلول على شاتم الرسول).
ولعل هذا الحدث المنكر يهدي أفكاراً ضالة، ويشفي نفوساً مريضة، ويردها إلى جادة الصواب؛ فالمفكرون من أبناء المسلمين يتلقون مثل هذه المقولات ويتقبلونها بقبول حسن، ويشيعونها: إما جهلاً منهم بنواقض الإيمان، وإما إعجاباً منهم برؤية المستشرقين ومناهجهم. وإذا كانت تصديات الغيورين بهذا المستوى المشرف لما روّجته صحف الغرب فإن الواجب أن تمتد الغيرة إلى لغط عربي، يمسّ ثوابت الأمة، باسم الاجتهاد والتأويل وحرية الفكر، وما شيء من ذلك له ما يبرره، وبخاصة أن الإسلام مستهدف، وأن المسلمين مضللون.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 02:49 PM   #12
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
إلى الظلاميين في زمن الادعاء التنويري..!
د.حسن بن فهد الهويمل


تظل الأيام معي كما هي مع (المتنبي) أشكو إليها ضيق الوقت، وتشتت الفكر، وجور الجشع القرائي، وهي جند ذلك كله، تحرمني من قراءة من يفرحني، ومن يترحني، ومن يجمجم عما في نفسي، ومن يتحدى مشاعري، ومن هو فوق هام السحب، شرفاً في اللفظ، وتألقاً في المعنى، ومن هو مترب مقو، لا يغني ولايقني، ومن يؤذي كما العقرب التي يقول ملسوعها (حب الأذية من طباع العقرب) ومن هو برُّ رحيم، يحمل هم أمته، ويرود لها موارد النجاة، ومن هو فظ غليظ القلب، لايحمي ساقه، ولايرود لمقدمة.
وفي هذا الزمن المتلفت كتبته الأحداث والمتصابئون على كل الضوابط، أمرٌّ بمقترفات كتابية لطائفة من مدعي التنوير والطلائعية، ولمن خلا لهم الجو من مبتدئين، ويسترفدون مقروءهم الآتي، فيأتون به كما (طيلسان ابن حرب). ومع طوفان التعاضد مع المضل، واسترفاده، منَّيتُ نفسي بقراءة ذلك كله، لأتمكن من نصر الأخ الظالم أو المظلوم، استجابة لحديث: - (انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً). حتى إذا توارت تلك المقالات بالحجاب، بكل ما تحمله من خطأ وخطل ومناصرة وتخذيل، رأيت الناس منها في برم وضيق وتذمر، فقلت مكرهاً: ردوها عليَّ، لتظل في حقيبتي أياماً، وحين لايجود الوقت بساعة من نهار لقراءتها، ألقيها جانباً، وفي النفس ما فيها من الحسرات. غير أن امتعاض الخيرين واستياء الغيورين يضطراني لإرجاع البصر، ولو لمرة واحدة، لأرى أكثر من فطور. وكلما هممت باستخدام المجسات والمسابير، ونقض الأنساق الثقافية التي تصدر منها تلك الآراء الفجة والتصورات الخاطئة، وتحيل إليها، شُغلت بنوازل يرقق بعضها بعضاً.
ولما أن بلغ السيل الزبى، وتجرأ على الثوابت من لايزن الأمور، عقدت العزم على مكاشفة أولئك الموغلين في الإثارة والتجديف ضد التيار. ولقد تذكرت وأنا في حمأة الاستياء قول الله لرسوله {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} ولمحت في هذه الآية معطى دلالياً، في غاية الأهمية، وهو أن عظمة المبدأ لاتكفي وحدها لاستمالة الآخرين وإقناعهم، بل لابد من وسيلة تُمتِّع وتستميل وتقنع، وهي (اللين والتودد) ومن قبل هذا قال الله لموسى وهارون، حين أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا} وما أصحابنا الذين أوذينا باستفزازهم ومزايداتهم إلا مسلمون جنحوا للغرب، وأُشربوا في قلوبهم عجله، وقليل منهم مجتهدون، لم يحالفهم التوفيق في كثير مما يقولون. وما هم ونحن إلا طلاب حق، وحقهم علينا ألا نسيء الظن بهم ابتداء، وفي الوقت نفسه لايخدعنا الخبُّ ولا المتماكر، ومن غايته الحق فواجبه ألا تأخذه العزة بالإثم، فإذا قيل له: اتق الله، لزمه الإذعان ومحاسبة النفس قبل أن يحاسب، والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت. والذي أتوقعه في سائر الكتبة في صحفنا - على الأقل- وفي المشاركين في حوار القنوات من أبناء البلاد أنهم لايتعمدون المخالفة. وأن أحدهم يكتب ما يكتب، ويقول ما يقول عن حسن نية وسلامة قصد وحرص على الموافقة لمقتضيات الدين ومقاصده، وإذا اندس فيهم من لايحمل همهم، أو حاد أحد منهم عن جادة الصواب، لزمهم التنبه له، والبراءة مما يصنع. ولنا في (نوح) عليه السلام وابنه قدوة، ولنا في أبي الأنبياء (ابراهيم) عليه السلام وأبيه أسوة. وأملنا أن يكون المثيرون قولا وعملاً واعتقاداً من أهلنا، فأبناء الفطرة رجاعون إلى الحق، ولو ثبت أن أحداً ممن نحسن الظن به يتعمد مناقضة الأحكام، ويصر عليها، لما وسعنا إلا مواجهته بما هو عليه، ولا كرامة، فالساكت عن الحق شيطان أخرس. وهناك فرق بين الخطأ ابتداء، والخطأ إصراراً وعناداً، فمن بان له وجه الصواب، ولم يرعوِ، فهو مصر معاند، وعلى من يملك تغيير المنكر باليد أن يأطره على الحق، متى تبين له العناد والإصرار وتعمد المخالفة. ومصائب الأمة في مفهوم الثوريين للحرية، وفي إيمانهم بحتمية العداء لكل أشكال السلطة، وتخوين الموالين لها، وهو مفهوم خاطئ، مخالف لآليات الحضارة الإسلامية وأساليبها في الحكم وإنكار المنكر. ولأن طائفة من الظلاميين باسم التنوير يخلطون بين الشرائع والمناهج والإجراءات، ويدعون أنهم وقَّافون عند الكتاب والسنة، وأنهم يسلمون لهما، وأن ليست لهم الخيرة من أمرهم، متى قضى الله ورسوله أمراً، فإن واجب العلماء أن يرشدوا ضالهم، وأن يعلموا جاهلهم. وإذا لم يقيض الله لهم من يواجههم بالحقائق فإن واجب كل واحد منهم أن يسأل نفسه: لماذا أصادم الرأي العام؟ ولماذا الناس يختلفون معي؟ ولماذا يتعرضون لي بالسب والشتم والمضايقة عبر قنوات الاتصال والمواقع؟ هل الناس جميعاً على ضلال، وأنا وحدي على الحق؟ وهل سألت نفسي يوماً ما: عماإذا كان ما يقوله الناس حقاً؟ وهل تواضعت لحظة من نهار، وحملت مجموعة من مقالاتي أو كتبي المثيرة للاشمئزاز لمن شهد له الناس بالعلم الشرعي والتقوى والوسطية، وطلبت منه عرضها على مقاصد الشريعة ومقتضيات نصوصها القطعية، ؟ وهل اختلافي مع المفكرين الإسلاميين وفقهاء الأمة من الاختلاف المعتبر؟ ولماذا هذه الجفوة بيني وبين حملة العلم الشرعي والفكر الإسلامي المستنير وركوني لمن هم موضع الشبه؟ إن الكلمة مسؤولية، وهي دمار أو عمار، وحملتها ممن يسنون سنناً حسنة أو سيئة، وهم شركاء بالأجر أو بالوزر إلى يوم القيامة، وما قامت الملل والمذاهب والنحل والأحزاب والدول (الدكتاتورية) من (ماركسية) و(فاشية) و(نازية) إلا على اللسان والسنان ({وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. والمؤسف أن كثيراً من الكتبة والمحاورين يطلقون الكلمات المدانة أو الاتهامات المعمَّمة، لايلقون لها بالاً، تهوي بسمعتهم، وتشكك في نواياهم، فيما يتقحم المشاهد مبتدئين بثقافة سمعية، لاتؤهلهم للقيادة الفكرية، ومع ذلك لايراجعون، ولايتراجعون، ولاينفكون من العناد، ومعول نكراتهم وأحداثهم أنهم لايلوون على مثمنات، ولايخشون استعداء الناس، وكأني بسراتهم وجهالهم يردد كل واحد منهم: - (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، وطائفة منهم متمكنون في علمهم غير أنهم فهموا الاصلاح والتجديد على غير مراد الحق، فكان أن عولوا على حضارة الغرب لتنقذهم من التخلف. ولما أن كانت حركات الاصلاح الغربي قائمة على (العلمنة الشاملة) فإن البعض من هؤلاء لايجد حرجاً من مقاربة ذات التوجه، ولايخفي تذمره من نفاذ (التيار الديني) في كبريات المؤسسات، وليس من الكياسة أن نداهن هؤلاء، ولا أن ندعهم وشأنهم، ذلك أنهم معنا في السفينة، وخلخلة الوحدة الفكرية من أخطر الظواهر، وما نعايشه عبر وسائل الإعلام الصحفية والقنواتية ومراكز المعلومات وبعض المواقع نذير شؤم، فالمفكرون ومن دونهم يصطرعون حول الثوابت والمسلمات، وليس الخلاف فيما بينهم معتبراً.
وما أكثر السامريين المصرِّين على أن المناوئين لهم ما ضويون، وأكثر المصدقين لهم، ومتى أطلقوا (الماضوية) ظنوا أنهم حسموا الموقف لصالحهم، وما عرفوا أن أكثر الوقافين عند حدود الله أمضى منهم في التجديد، وهل من التجديد، ما يكتبه نكرات متعالمون، أومثقفون مستغربون؟ يتناولون فيه قضايا (المرأة) و(المناهج) وسائر الأوضاع بطريقة مؤذية، وكأن من حولنا من الدول العربية ممن أتاحوا للمرأة التبرج والاختلاط والخلوة ومزاحمة الرجال، وملأوا مشاهدنا بالمغنيات والممثلات والراقصات قد حققوا من وراء ذلك غزو الفضاء، وصناعة الإنسان، وسلاح الردع، وكانوا أعزة أغنياء، وأننا بالتزامنا ومحافظتنا تخلفنا عنهم، وفاتنا الركب.
ومع ما غمرنا من طفح القول ومشبوه الكلم فإنني لا أجد الوقت الكافي لقراءة كل ما يدور من دعوات مغثية، تثير الاشمئزاز ، وتبعث على الخوف. لقد زودني البعض بقصاصات وكتب، وزودني آخرون بنقاط مستوحاة مما ينقمون به على مثل هؤلاء. وإذا لم تكن تلك النقاط مبتسرة من سياقها فإنهم محقون في تذمرهم. وأحب في غمرة التمرد مناصحة من أتوسم فيهم الخير من شركائنا في مهنة الكتابة، وهي مهنة معتقة أو موبقة، وكلي ثقة برحابة صدورهم وثقتهم بأنفسهم، ومفاتحتي إياهم دافعها الحب لعقيدتي ولوطني وحرصي على سلامة المجتمع الذي أنتمي إليه، وأنعم بأمنه واستقراره وتلاحم أبنائه، وحبي للكتبة أنفسهم، امتثالاً لحديث (لايؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وإذا كنت أحب لنفسي أن يستعملني الله في طاعته، وفي خدمة عباده، وأن أمتلك الشجاعة في محاسبة النفس، والقدرة على كف اللسان، وعدم قفو ما ليس لي به علم، وتحامي افتراء الكذب على الآخرين، وإذا كنت حريصاً على أن تظل الفتن نائمة، والأمة متلاحمة، ولو على المفضول، اقتداء بالرسول الرحيم، يوم فتح مكة، حيث لم يعد بناء الكعبة على قواعد ابراهيم، جمعاً للكلمة، وتفادياً للشقاق والتفرق، إذا كنت في ذلك كله كذلك. فإنني أحب لكل عالم أو مفكر أو كاتب أن يكون كما أريد. ولعل أصحابنا الذين يقترفون ما هم مقترفون من مخالفات لا تحتمل التأويل ولا التبرير على علم بأنني أحرص الناس على أن يأخذ كل مقتدر حيزه، وأنني أبعد الناس عن مصادرة الحقوق والإقصاء، ولست ممن تأسره المذهبية، ولا ممن لا يرى إلا واحدية الرأي، ولست حدياً صارم الحدية. وحين لا تجمعني بأحد منهم إلا اخوة الإسلام، ونعمّا هي من علاقة، إذا أخذناها بحقها، فإن من أولويات حقها أن أصدقهم القول، وأن أنصح لهم، وأرجو ألا يكونوا ممن لايحبون الناصحين. والصدق والنصيحة لا تتحققان إلا إذا كان كل واحد مرآة صافية، ينظر فيها الآخر ذاته المعنوية بكل ماهي عليه. وإذا بدت من أحدنا غلطة فمن حقه على كل متلق أن يبادر إلى إهدائها إليه، ورحم الله من أهدى عيوبنا إلينا، وكفى المرء نبلاً أن تعد معايبه. وكم أود من بعض أولئك الذين يخوضون في مصائر الأمة بغير علم، ويبغون حكم الجاهلية في قضايا المرأة والمناهج والاجتماع، أن يكونوا على علم بفقه الأحكام، وفقه الواقع، وفقه الأولويات، وأن يعرفوا قواعد المذاهب وأصولها وشروط الاجتهاد عندها، وحدود الحرية ومجالات الاختلاف، ومقاصد الشريعة، وسد الذرائع، ودرء المفاسد، والمحرم لذاته، والمحرم لغيره، ومدى حق السلطان في الحظر والإباحة والطاعة، ومقصد الأصوليين من مقولة (لا اجتهاد مع النص) ذلك أن جهل مثل هذه القاعدة بالذات أردت علماء وفقهاء ومفكرين، ف (النص) هنا: هو ما لايحتمل إلا دلالة واحدة، وليس المقصود به مطلق القول. وحين لايحتمل النص إلا دلالة واحدة، لايكون للاجتهاد فيه مكان. وكثير من المتعالمين: إما أن يخوضوا في كل نص، أو يحجموا عن الخوض في كل نص، ولايفرقون بين القطعي والاحتمالي، محققين معجزة من معجزات الرسول الغيبية في (رفع العلم) في آخر الزمان، وذلك ما تعانيه كافة المشاهد في راهنها. فلقد شارفنا على نزع العلم الشرعي أو كدنا، وعلى نزع الورع والحياء أو كدنا. وأين المتسرعون اليوم من (أبي بكر الصديق) الذي سئل عن (الأب) في قوله تعالى {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله بغير علم؟ وأين هم من (الفاروق) الذي يجمع الصحابة عندما تنتاب الأمة نازلة؟ ويطلب من رواة الأحاديث من يشهد لهم، بل أين هم من (لا أدري) وهي نصف العلم، ومن قالها فقد أفتى. لقد سمعنا أغيلمة أحداثاً يتشامخون، ويتعملقون، ويقولون بكل جرأة في قضايا الأمة: الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية. وارتيابنا من الاحتفاء بهم، وتمكينهم من وسائل الإعلام، مع ما هم عليه من ضحالة في التفكير وسوء في التعبير، ورأينا أشيمطين متصابين يوغلون في النيل من حراس الفضيلة، ويبسطون أيديهم لناشئة ليست على شيء من العلم، ولا على شيء من التجربة. وإذا قيل لهم: اتقوا الله، وقولوا قولاً سديداً. قال قائلهم: -نحن رجال وهم رجال، وقال آخرون: -إن ما نقوله من حرية الرأي والتعبير المكفولة لكل إنسان. وحسبك من هؤلاء ما تشاهده من قتل للأبرياء، وهدم للمتلكات، وإخلال في الأمن وخلل في الفكر، وتمردعلى السلطة، وخوض جريء في آيات الله. ولو أنهم لم يؤلهوا الهوى، ولم تعجبهم آراؤهم، ولم يتزببوا في زمن الحصرمة، ولو أنهم عرفوا قدر أنفسهم، لكانوا قد سألوا أهل الذكر، وردوا خلافهم إلى الله والرسول وأولي الأمر منهم. وإذ تكون حجتهم في التغيير ضعف الأمة وتخلفها، تكون حجتنا ذات حجتهم، ولكننا نختلف في الحل، فهم يودون اللحاق بحضارة الغرب والانسلاخ من حضارتهم، فيما نود فهم الإسلام ومقتضياته والانطلاق منه والرد إليه، بحيث يكون النور الذي نهتدي به موقداً من شجرة زيتونة لاشرقية ولاغربية.
وإذ مسنا الضر من تطرف الموغلين في الدين بغير رفق وبغير علم فإننا على وجل من المتطرفين في الفكر، الخارجين على رأي الجماعة، المستمرئين للنيل من كفاءات الأمة العلمية والفكرية، ومن القائلين في القضايا الفكرية والتربوية والاجتماعية دون تثبت، ودون تسليم للمرجعيات المعتمدة، وكيف يقبل عاقل رشيد الخوض في (قضايا المرأة) دون استصحاب الموقف الإسلامي، ودون تحفظ او استثناء في زمن نرى فيه تسليع المرأة واستغلال جمالها في الإعلام والتمثيل والدعاية والتجارة، وقبولها تلك النخاسة، واستمراء الرجل لذلك وما من عاقل رشيد غيور يقبل على محارمه أن يكن كاسيات عاريات مائلات مميلات، ولقد خصم الرسول صلى الله عليه وسلم الشاب الذي طلب منه ان يحل له الزنا، فكان أن سأله عما إذا كان يرضاه لأمه أو لأخته أو لزوجته أو ابنته.
وفي الوقت نفسه لن يمانع اي عاقل رشيد أن تأخذ المرأة وضعها الطبيعي في المجتمع، وأن تكون عضواً عاملاً، متى دعت الحاجة الى خروجها من المنزل. وحين يتحدث مدعو الإصلاح عن (حقوق المرأة) فعلى اية شاكلة يرونها وما التجربة المثلى التي يحيلون إليها؟
إن التجارب القائمة في سائر أنحاء العالم تقتضى المصير الى التحديد والتوصيف ووضع الضوابط، وهذا ما اختلف فيه مع الظلاميين، ولأنني لا اريد نسف الجسور، ولا تعطيل قنوات الاتصال بيني وبين أي محرض على التمرد والسفور والاختلاط وعلمنة المناهج فإنني أحاول أن اضع كل واحد أمام ضميره، ولن أقابل مجازفات اولئك بمجازفات مماثلة، تحيد بكل الأطراف عن جادة الصواب، وتؤدي الى المجاراة في المنهي عنه، ولن أبحث عن شواهد الإدانة، ولن أصعد الخلاف، فأنا طالب حق، ولست طالب انتصار، ومبدي نصح، ولست باحثاً عن إدانة، وكم أود أن يجري الله الحق على لسان من أخاصم. وإذ لا اقطع بضلال أحد، فإنني لا أريد لهذا البلد الذي قام على العقيدة السلفية الوسطية، الرادة عند الاختلاف الى الله والرسول ان تعصف به الأهواء، ولا أن تؤول أموره وأحواله الى ما آلت إليه أحوال الدول التي شط أبناؤها في آرائهم ومواقفهم وتصرفاتهم، فكان ما نراه من تصدع في التلاحم، واختلال في الأمن، ونقص في كل وجوه الحياة، وما ذلك إلا بسبب صدام الأفكار، وتنازع السلطة والخروج على شرعة الله ومنهاجه. وما نقم مني البعض تصريحاً أو تلميحاً إلا لأنني ادعو الى أخذ الحذر من دعاة السوء، والتزود من المعارف قبل التصدي والتصدر، امتثالاً لأمر عمر: (تفقهوا قبل أن تسودوا) والرد عند الاختلاف الى الله والرسول وأولي الأمر.
فإذا قلت: إن المكان الطبيعي للمرأة هو البيت، فليس معنى هذا انني اعارض التعليم والعمل ومشاركة المرأة بما هي أهل له، ثم إنني بهذا القول أرد الى الله، والله يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى } فلماذا يحيل الناقمون القول عليّ، ولا يحيلونه الى مصارده. وإذا كان الوضع الطبيعي أن تقرّ المرأة في البيت، فإن الوضع الاضطراري ان تبرحه، وحين تكون المبارحة اضطراراً كان لابد من ضوابط، وليس من متقضيات القرار تحريم الخروج والعمل، ونساء الصحابة خرجن وعملن، والرسول عمل أجيراً عند (خديجة) والتحفظ الذي نقول به حملنا عليه ما آلت اليه أوضاع المرأة من تبذل وامتهان وإخلاء للبيت لتحلته امرأة اجنبية. وإذا قلت: إن عمل المرأة مشروط بشرطين (قيام الحاجة وعدم الاختلاط) فإنما أرد الى الله، والله يقول على لسان ابنتي شعيب: { لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (23) سورة القصص فصدور الرعاة من الموارد خشية الاختلاط، وشيخوخة الأب لتأكيد قيام الحاجة لعمل المرأة، وإذا قلت: إن عمل المرأة خارج المنزل ضرورة تقدر بقدرها، فإنما أرد الى الله، والله يقول لآدم: { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) سورة طه ولم يقل (فتشقيان)، لأن العمل الشاق من مسؤوليات الرجل. ولأن الرجل هو الكادح والمنفق فقد كفي الحمل والرضاعة، وحّمل القوامة والسعي في مناكب الأرض، فيما أعطيت المرأة ما لم يعط الرجل من الحنان والعطف والنعومة،وأعطي الرجل ما لم تعطه المرأة من القوة والخشونة الجسدية، فما عيبت امرأة في بكاء، وما حمد رجل عليه ولأن لكل من الرجل والمرأة خصائصه الجسمية والنفسية، وله مجاله الاختياري الملائم لخصائصه فإن القول بمطلق المساواة، أو القول بتوحيد المناهج قول مخالف للسنن الكونية التي رتبت عليها السنن الشرعية، وإذا قام الاختلاف العضوي والنفسي بين الرجل والمرأة فإنه يلزم من ذلك قيام الاختلاف في المهمات والاحتياجات، وإلا أصبح التنوع من العبث، ولأن الله رتب الكون على ثنائية الازدواج، فقد فضل احدهما على الآخر، ليجعل له سلطة التدبير المتخلية عن التسلط والاستبداد، ومن ثم كان جل الخطاب للمفضل، ولم يكن خطاباً ذكورياً كما يعتقد البعض، ومع ان الغرب أوغل في المساواة الا أن المرأة الغربية تظل دون الرجل في كثير من المسؤوليات بما فيها رئاسة الدولة، ذلك ان الطبيعة تغلب التطبع، فالمرأة الغربية لها مطلق الحرية في الفعل والترك والمشاركة، ومع هذا تظل مسبوقة بمسافات كبيرة من قبل الرجل، لا بقوة القانون، وإنما بتفاوت التكوين والمصير العفوي للطبيعة البشرية، والقائلون بغلبة الخطاب الذكوري العربي لا يفكرون بغلبة الرجل الغربي على المرأة مع غياب الخطاب الذكوري.
وحين أقول بمنع السفور والاختلاط فإنما ارد الى الله، والله يقول: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ} ويقول {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وإيما امرأة خضعت أو اختلطت أو خلت أصبحت عرضة للريبة والطمع، ولنا في أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها موعظة، لقد تعرضت لخلوة اضطرارية، فكان (حديث الإفك)، وفي الأثر أن نفراً مروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يكلم ابنته، فقال: إنها فاطمة، ولما عجبوا قال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، أو كما في الأثر فأين نحن من (عائشة ومحمد وفاطمة)، ولما حصلت الخلوة بين (يوسف) عليه السلام وامرأة العزيز{غَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } (23) سورة يوسف ولما كان حديث البعض من دعاة التفرنج عن المرأة يتجاوز المشروع كان لزاماً علينا أن نرد قولهم الى الله والرسول، وعليهم أن ترحب صدورهم إذا قلنا: هاتوا برهانكم ولا برهان إلا من آية أو حديث، نذعن لهما ونسلم، ونحن طلاب حق وبلادنا محكومة بالكتاب والسنة. وتجربة (المنتدى الاقتصادي) خير دليل على أن الناس بحاجة الى وزاع سلطاني، وأطر على الحق، وفي الأثر: أن الله ليزع بالسطان ما لا يزع بالقرآن. وحين لا نتناهى عن منكر فعله المتسرعون طالنا ما يطال اليهود الذين أخبر الباري عن عدم تناهيهم عن المنكرات، ومشروعية اشتراك المرأة في المنتديات والمؤتمرات لا يستدعي السفور ولا الاختلاط، وما أضاع الأمة وحرمها من سماحة الإسلام إلا الافراط في المنع او التفريط في الإباحة، ولو أن النسوة اللائي اشتركن في الملتقى عرفن ما لهن وما عليهن لكان أن تمتعن بحقهن المشروع الذي يوفر كل الحقوق ويمنع كل التعديات.
والذين يدعون فيما يكتبون أنهم مصلحون، وان المرأة محرومة من حقوقها المشروعة، ثم يسوقون شواهد من وقوعات أو من تعامل جائر مع المرأة يحيلون ذلك الى الكافة، والكافة منه براء، وعليهم حين يحكمون على جور أملته العادات أن يربطوا الأسباب بالمسببات، وان يقارعوا تلك الظواهر بما درج عليه سلف الأمة، فالمرأة لها مثل الذي عليها بالمعروف، واشكاليتنا في تحديد هذا المعروف، فهو واقع بين افراط المتشددين وتفريط المتسيبين، أقول قولي هذا وأنا اعرف حق المرأة في (العلم) و(العمل) و(التجارة) والخروج المنضبط، وانها نصف المجتمع، وشقيقة الرجل، وأن قوامة الرجل الشرعية لا تسلب حقاً، ولا تعطل قدرة، ولا تمنع من الاستجابة لخدمة المجتمع في المجال الذي لا تسده إلا المرأة، أو أن من الخير ألا تسده إلا المرأة، وتقرير ذلك كله لذوي الاختصاص والمسؤولية، فمثل ذلك النوازل، و(فقه النوازل) لابد له من اجتهاد جماعي ورؤية مؤسساتية، فحين لا يكون على المرأة (جهاد) ولا (نفقة) وحين تلزمها الشريعة الإسلامية بالمحرمية في السفر، فمن ذا الذي يقرر خروجها وجهادها وانفاقها وسفرها في حالات الضرورة؟
وحين تقتضي الحياة خروج المرأة من البيت للدراسة او للتجارة او للعمل، فمن ذا الذي يحدد ذلك ويرسم طريقه ومجالاته، أهل الذكر والحل والعقد أم المستغربون المتعلمنون؟
أقول ما تقرأون، ولي تجاربي التي تحميني من الاتهام بالشدة والإمعان في منع المرأة من حقوقها المشروعة، فأنا اب لاثنتي عشرة بنتاً هن عندي زينة الحياة وبهجتها، ثمان منهن جامعيات، واربع منهن عشن في أمريكا مع ازواجهن ودرس بعضهن هناك، وواحدة منهن اعطت محاضرات في الكمبيوتر في الجامعة، وهن زوجات موفقات، منهن العاملات، وأكثرهن ربات بيوت، عملن ثم فضلن التفرغ للزوج والأولاد وشؤون البيت بالطوع والاختيار والاستغناء، ولم ازل اشرف على ثلاث رسائل دكتوراه لثلاث طالبات، فهل سيكون موقفي من المرأة القائم على القرار في البيت والتزام الحجاب وتفادي الاختلاط والخلوة والتبرج سبباً في ضياعهن أو جهلهن او تعطيل نصف المجتمع، كما يحلو لدعاة السوء أن يقولوا عني؟
دعك من قضايا المرأة، وخذ بيدي الى قضايا (المناهج)، و(السياسة)، ولما كنت ابني بجدة (المناهج) تعلماً وتعليماً وممارسة منذ نصف قرن فإنني حقيق بالقول، ولا فخر، لقد درست في ثلاث جامعات عربية، وتخصصت في التربية وعلم النفس، ومارست التعليم على مدى خمسين سنة، وحاضرت في المناهج، وألفت في ذلك، وخبرت التعليم من الكتاتيب حتى الدراسات العليا، وأشرفت على رسائل الدكتوراه وناقشتها، ولم أزال اتقلب في التعليم منذ السادسة عشرة من عمري، ومع ذلك لم اسلم من الغمز واللمز والسخرية، وكأنني كهفي أبعث بورقي الى المدينة. وحين أقول: أن مناهجنا لا تصنع ارهاباً، ولا تكفر أعياناً، فإنني أقول: إنها في الغالب لا تخرج إلا كتبه، وانها لا تساير خطط التنمية، ولكنها مع هذا ليست سيئة بالقدر الذي يشيعه المستغربون والمتسرعون، ويكفي أنها خرجت الأطباء والمهندسين والعلماء، وعشرات الآلاف من المتخصصين في مختلف العلوم الإنسانية والعلمية، وربما كانت بلادنا من أكثر دول العالم في الابتعاث للدراسة الى الخارج، وما كان احدهم بدعاً في تربيته وتعليمه، وما كانت مناهجنا من قبل مثل جدل ولا استنكار ولا استغراب.
والذين عادوا متأثرين بالأفكار الغربية شكلوا طوائف (ليبرالية) و(فرانكوفونية) ان هم إلا سليل تلك المناهج التي تتهم من الداخل والخارج، ومع إصرارنا على التطوير فإننا نفرق بين الاتهام السافر والملاحظات المتزنة، وإذا لم نطور مناهجنا يوماً بعد يوم، ونأخذ من مناهج الغير أحسنها وأقدرها على مواكبة الحياة المعاصرة سبقنا العالم. وأسلمة المناهج لا تشكل عقبة في طريق الإصلاح ومواكبة الحياة، ومن فهم الأسلمة على غير ذلك ففهمه مرورد عليه، وعمليات التطوير شيء والاتهام والاستعداء شيء آخر، والذين يسايرون الأعداء في اتهام مناهجنا بالارهاب أو بالتكفير، ويحتمون بمراوغة اللغة، يجهلون او يتجاهلون (سبعين عاماً) من عمر التعليم، ويتجاهلون الملايين من مخرجاته ممن يختلطون مع مختلف الجنسيات والأديان، ويجوبون آفاق المعمورة، دون ان يمسوا أحداً بأذى، ولقد كان (الأمريكيون)، بالذات يذرعون فضاء أرضنا جيئة وذهاباً، منذ عهد الملك (عبدالعزيز) الأشد تمسكاً بالسلفية، ينقبون عن المعادن، لا يرافقهم إلا أعرابي طارت شهرته في الآفاق، ولهم اسهامهم في تعليم أبناء البلاد، مما هم بحاجة إليه في القطاعات العسكرية والتخصصات العلمية، كما أنهم يمارسون مختلف الأعمال في المستشفيات والمصانع والمؤسسات، وما قيل عن احدهم انه قتل غيلة، ولم تكتشف اللعبة، وهمت كل طائفة بأختها وصفيت الثارات، ولكيلا ترد الأحداث الى مصادرها فتتعرى اللعبة، وينفضح اللاعبون، حملت المناهج وزر غيرها، واستخدم طغام الظلاميين لترويج الفرية.
أما السياسة فلست ابن بجدتها، ولكنني قارئ نهم، بدأت قراءتها فيما كتب عن (لعبة الأمم)، وصدام المصالح، وصراع الحضارات، ودسائس الاستشراق، ومكر التبشير، ومكائد الاستعمارو وسير الزعماء ومذكراتهم، والاستخبارات ومغامراتها وقصص الثورات وعمالتها، ومتابعة الوثائق التي يفرج عنها كل حين وملفات القضايا المصيرية، وما تعانيه الشعوب من ويلات، وعايشت احداثاً مؤلمة من نكسات واحتلال وتطبيع ومواطآت وتراجعات مؤلمة، فتبين لي ان العالم العربي والإسلامي يعيش تحت وطأة لعبة سياسية كونية، أتت على مقدارته وأمنه، وأذهبت ريحه، ولما يزل يخرج من لعبة قذرة، ويدخل في أخرى، ومن تعاطى السياسة كما يتداولها الاكاديميون او كما تبثها وسائل الإعلام فقد يضر بمصالح أمته السياسية، فن الممكن، ولقد عايشها عقلاء مجربون، فخرجوا من مستنقعاتها، وهم يلعنون ساس ويسوس وما تصرف منها وعجبي من مفكرين وكتاب يظنون ان ما يقوله الإعلام الغربي حق لا مراء فيه، ومن ثم يرتبون أمورهم ومواقفهم على ما ينتهي إليهم منه وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج
وبعد: كل الذي أرجوه من اولئك الذين آذوا البلاد والعباد ان ينظروا في مسلماتهم، وان يتزودوا من العلم الشرعي، فهو مرجعية حضارتهم، وان يؤصلوا لمعارفهم، وان يمحصوا مواقفهم بالمراجعة والمحاسبة والمساءلة، وحين تلتبس عليهم الأمور، عليهم ألا يجدوا حرجاً في أن يسألوا أهل الذكر، فدواء العي السؤال، وفوق كل ذي علم عليم، وإذا كان بعض اولئك غاضباً على الذين يؤذونه بالاتصالات، ويسبونه من خلال المواقع المعلوماتية، ومن خلال الردود والرسائل فليعلم ان البادئ أظلم، ولو ترك القطا لنام، وما بعد البعد نقول: (انج سعد فقد هلك سعيد).]
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج

آخر من قام بالتعديل عباس محمود العقاد; بتاريخ 23-11-2006 الساعة 03:08 PM.
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:13 PM   #13
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ريادة أم القرى في معركة البناء
د. حسن بن فهد الهويمل


من فضول القول الحديث عن تصدر (مكة المكرمة) للأحداث الجسام في التاريخ الإسلامي. والحديث عنها لا يبرح نطاق القول المعاد أو المعار، غير أن الاحتفاء يفرضه، وإن كان مكروراً. وأمجاد (أم القرى) محفورة في كل ذاكرة تقدر مكة حق قدرها، وكأن المتحدث عنها لا يريد من حديثه إلا بركة القول السديد ومثوبة الكلم الطيب. وقرَّاء المعاجم والفهارس عما أُلِّفَ عنها أو قيل فيها يقفون على ما يتوقعونه من هذا الكم المعرفي بكل تشعباته وتنوعاته. إذ ما حظيت مدينة في التاريخ الإنساني بقدر ما حظيت به (مكة المكرمة)، وستظل في الذورة ما بقي الذكر الذي تعهد الله بحفظه. وإذ بهر (البغدادي) المشهد التاريخي ب(تاريخ بغداد)، واستثار (ابن عساكر) دهشة المؤرخين ب (تاريخ دمشق)، فإن ما اشتملت عليه صفحات مؤلفيهما بعض ما لِ (أم القرى). وتاريخ المدن يتسع لكل شؤونها، أما التاريخ ل (أم القرى) فلا يتسع إلا لبعض مفرداتها.
واتخاذ (مكة المكرمة) عاصمة للثقافة الإسلامية في مستهل الربع الثاني من القرن الخامس عشر محاولة للتذكير بمدينة ينتمي لها كل مسلم، ويستقبلها كل مؤمن، والشوق إليها عريق:-




وذو الشوق القديم وإن تعزى
مشوق حين يلقى العاشقينا


وكلما أعيدت قراءتها تجلت عن جلائل الأعمال وجميل السمات. وكأني بهذه المناسبة تتماهى مع أيام: الأم والصحة والطفل، إنها مجرد محطة، للتأمل والتفكر، واستذكار ما يجب استذكاره.
و (مكة المكرمة) حين يحتفي بها المسلمون، ويتناولون مفردات من تاريخها المجيد، لا يقدرون على استيفاء مفردة واحدة، فضلاً عما سلف، وعما هو قائم، وعما يعد به عصرهما الذهبي. ووسط دوائر الضوء المنداحة اتخذتُ مقطعاً زمنياً، لا يتجاوز ثلاثة عقود، وهي المدة الزمنية الممتدة من دخول المؤسس إلى وفاته، أي من عام 1343هـ إلى 1373هـ، فالبداية من العام الذي استعاد فيه الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - (مكة المكرمة)، والنهاية هي العام الذي قضى فيه نحبه، بعد عمر حافل بجلائل الأعمال. وفي خضم هذه المدة القصيرة في عمر المدن التاريخية اتخذت مفردة واحدة هي (ريادتها في معركة البناء) التي خاضها المؤسس. ومع الضوابط والحدود فإن أشياء كثيرة ستند عن الذاكرة، إذ كل مهتم بتاريخ تلك البقاع تفيض ذاكرته بأشياء غائبة عن ذاكرة من سواه.
والمتقصي للتاريخ الحديث لقلب الجزيرة العربية، لا يعزب عن علمه الدور الإيجابي الذي نهض به المؤسس في معركة البناء الذي كان منطلقه (مكة المكرمة). وحياة المؤسس أوزاع بين معركتين:
- معركة التكوين.
- ومعركة البناء.
وأحسب أن كل الصيد في جوف المعركة الحضارية: معركة بناء هذا الكيان على هدي من الشريعة وتجارب الإنسان السوي، وقراءة هذه المعركة تضع (مكة المكرمة) فوق الذرى، بوصفها المنطلق لكل الحراك الحضاري، ففيها ومنها انطلقت مشاريع المؤسس الحضارية، لقد استوفت متطلبات المجتمع المدني من قبل. وما إن استعادها المؤسس حتى بدأت حركة التأسيس الحضاري لهذا الكيان.
ولا شك أن حكمة المؤسس وعبقريته أعادتا الثقة للشبيبة الحجازية، وحفزتهم على مواكبة مشروعه الحضاري. واندفاع رجالات العلم والفكر والأدب والإدارة في الحجاز للعمل الصادق المخلص في ظل قيادة المؤسس أتاح لها أن تكون رائدة المدن. ولو استعرضنا أوليات التحديث لوجدناها تنطلق من فجاج (مكة المكرمة)، فالصحافة والطباعة والتعليم النظامي وسائر المؤسسات المالية والصحية والبريدية والبرقية والضريبية وغيرها، كلها انطلقت من ربوع الحجاز.
ومنذ أن دخل المؤسس (مكة المكرمة) والحراك الحضاري على أشده، لا يند عن ذلك شيء، ولوصْل الحبل السري بين مكة وبقية المناطق أقام المؤسس أنجب أولاده وأقدرهم على الفعل الحضاري نائباً له في الحجاز، ولم يفعل ذلك في أي منطقة أخرى، وفي ذلك إشارة قوية على أهمية الحجاز وتوفره على متطلبات الحضارة. لقد دخل الملك عبدالعزيز الحجاز و(الثورة العربية) التي يقودها (الحسين بن علي) رحمه الله على أشدها، وهي ثورة فرضتها حملة التتريك، ولا أشك أن هذه الحملة العنصرية دسيسة استعمارية، أضافت إلى مصائب (الرجل المريض) أفدحَ المتاعب، وهي دعوة قومية عنصرية منحت الأمة العربية مشروعية الانفصال والنضال. ولم تئن مكائد الأعداء عن إذكاء حماس الطرفين: الشبيبة التركية الساعية لتتريك العالم الإسلامي، والشبيبة العربية المحافظة على عروبتها.
ولأن (الثورة العربية) في وجه التتريك بحاجة إلى مزيد الإمكانيات فقد توفرت للحسين بن علي - رحمه الله - كل الإمكانيات المادية والبشرية، حيث وفد عليه الهاربون من مطاردة الأتراك في الهلال الخصيب. والمعروف أن الأتراك ضيقوا الخناق على القوميين العرب، وعلى العروبيين، وعلى نصارى الشام ولبنان، الأمر الذي فتح باب الهجرة إلى آفاق المعمورة. فكان أن نشأ (الأدب المهجري) في أمريكا الجنوبية والشمالية، فيما اتجه العلماء والإعلاميون والأدباء الإسلاميون من الهلال الخصيب إلى (مكة المكرمة) يحدوهم الأمل بالثورة العربية التي يقودها الحسين بن علي ضد التتريك.
هذا الحراك الذي واجهته تركيا بالمطاردة أسهم في توجه عدد من علماء الشام وأدبائه إلى الحجاز والانضمام إلى الثورة العربية. ولما أن استعاد المؤسس البقاع الطاهرة، تلاقح مشروعه بهمِّ العروبة والإسلام، واستمرت تلك الجهود في الأداء، مما جهز الأرضية المناسبة لريادة (مكة المكرمة) في مشروع التحضر والمدنية الذي باشره المؤسس. ولأن دخول الملك عبدالعزيز للحجاز كان في أعقاب معركة التكوين فإن استفادته أكبر، لأنه ترك التناوش خلف ظهره، واتجه صوب البناء. لقد عاد المؤسس من منفاه في (الكويت) عام 1319هـ والبلاد ترزح تحت نير الفرقة: القبلية والإقليمية، في ظل تركيبة سكانية رعوية متموجة، فكان أن تتبع أقصى دائها فشفاها بالوحدة والعلم والعمل والتحضر. والمستفيض انطلاق هيكلة الحكم ونظامه ومؤسساته وإعلامه وسائر شؤونه من الحجاز.
ف (مكة المكرمة) التي كانت مهبط الرسالة ومنطلق الإسلام، كانت ولمَّا تزل مصدر إشاعة لكل مقتضيات الحضارة الإسلامية، وليس بغريب أن تنطلق منها بوادر المجتمع المدني إلى آفاق المملكة.
- فعلى مستوى التعليم سبق الحجاز مناطق المملكة في استحداث التعليم النظامي، وما إن بدأ التوسع فيه، كان لأبناء الحجاز دور في النهوض به، ولما أزل أذكر ما يتناقله أبناء (بريدة) من أخبار عن أول شاب حجازي جاء إلى (القصيم) يدعى (موسى عطار) لفتح أول مدرسة ابتدائية نظامية عام 1356هـ، ولما أن استقامت، واستقطبت الطلاب والمعلمين، لم يطل مقامه فيها، بل أخذ طريقه إلى (المجمعة) لفتح مدرسة أخرى. ولا تخلو منطقة من مناطق المملكة من رجالات الحجاز.
وحين احتاجت البلاد إلى مؤهلات عليا، كانت (مكة المكرمة) موئل المعاهد ومدارس تحضير البعثات والكليات. ولحرص المؤسس على إشاعة العلم وتعميم المدارس وجه بأخذ النابهين والمتفوقين من شباب البلاد بالقوة لمواصلة دراستهم في (مكة المكرمة) فكان أن عادوا بعد استكمال دراساتهم الشرعية واللغوية إلى مراكز القيادة في أنحاء البلاد، ولمَّا تزل مكة مثابة لطلاب العلم والدراسات العليا على الرغم من تعميم التعليم وتعدد الجامعات والكليات، وستظل رائدة التعليم، وستظل أفئدة طلاب العلم تهفو إليها.
- وإذا تخطينا الريادة التعليمية إلى الريادة الأدبية، تجلت لنا إبداعات ومبدعون، ونقاد ودارسون، تجاوزت سمعتهم أنحاء البلاد إلى آفاق العالم العربي، وكانت ريادتهم للحركة الأدبية في المملكة موطن إجماع عند كل المؤرخين للأدب العربي في المملكة، وليس بالإمكان استعراض الشعر والشعراء، ولا الأدب والأدباء، ولا الروائيين والقصاص، ولا كتاب السير الذاتية وأدب الرحلات، وإذ لا نقدر على التقصي فلا أقل من الإلماح.
- ففي مجال الأدب بمفهومه الشامل إبداعاً ودراسةً ونقداً وتأريخاً نجد الأديب (محمد سرور الصبان) الذي يعده الدارسون رائد الحركة الأدبية، فهو إلى جانب إبداعاته الشعرية المتألقة ناقد حصيف ودارس متقصٍ ومؤرخ دقيق، ومؤلفاته على قلتها إذا أخذت بسياقها تنبئ عن وعي مبكر بمهمة الأدب في الحياة.
هذه البدايات المتألقة مؤشر ريادة أدبية مبكرة. لقد أرخ (الصبان) للأدب في الحجاز، وحاول تعريف الوفود العربية بأدب الحجاز، كما دافع عن اللغة العربية حين نال منها المهجري (ميخائيل نعيمة) وكان بمجموع أعماله رائد الدراسات الأدبية. كما زامنه، وخلف من بعده من اقتفى أثره في دراسة (الأدب الحجازي)، يقدم أولئك الخلف (عبدالمقصود خوجه) و (عبدالله بلخير) و (عبدالسلام الساسي) وآخرون تفرقت بهم السبل، ولكنهم يلتقون جميعاً في هم التواصل مع الآداب العربية المعاصرة.
- وإذا تجاوزنا الدراسات الأدبية والحركة النقدية، وجدنا فجاج مكة وشعابَها مسرحاً للشعر والشعراء الذين شكلوا فيما بعد ما يشبه المدارس الشعرية، كما ألمح إلى ذلك بعض الدارسين، بحيث قسم الشعر الحجازي الحديث إلى مدرستين:-
- مدرسة الصبان.
- ومدرسة الغزاوي.
فجعل مدرسة (الصبان) أميل إلى التجديد، ومدرسة (الغزاوي) أميل إلى المحافظة. ومن مدرسة الصبان العربي) و (الزمخشري) و (عرب) و (قنديل). ومن مدرسة الغزاوي شاكر) و (النقشبندي) و (ضياء). ولن ندخل في التفاصيل ولا في الاستقصاء، فالشعر في الحجاز أكبر من أن يُحاط به، ولكنها إشارات تغني عن الوقفات، إذ القصد إثبات الريادة لهذا البلد الأمين.
- وإذا عدونا الحركة النقدية والشعرية استوقفتنا الحركة السردية، و (مكة المكرمة) رائدة الإبداع القصصي بدون منازع. وكل المؤرخين للحركة الأدبية في أنحاء البلاد لا يجدون بداً من الحديث المستفيض عن عدد من الرواد في الإبداع الروائي والقصصي، وفي مقدمتهم:-
- عبدالقدوس الأنصاي بروايته (التوأمان) التي كانت مثار جدل عنيف بين الكاتب ومن معه من المناصرين من جهة، وبين من لم يرَ قيمةً فنيةً في هذه الرواية، من أمثال (محمد حسن عواد) و (عزيز ضياء) وهي تمثل الصراع الحضاري.
- أحمد السباعي في روايته (فكرة) وهي رواية غارقة في الخيال، ومن بعدها تلاحقت أعمال السباعي الإبداعية والأدبية والتاريخية، وهي تمثل الصراع الاجتماعي.
- محمد المغربي في روايته (البعث) وتمثل الصراع الثقافي.
وإذا كانت الريادة السردية لشبيبة الحجاز، فإن التأسس السردي جاء على يد (حامد دمنهوري).
ومع أولئك ومن بعدهم جاء عدد من شبيبة الحجاز الذين أزَّهم الحماس وحداهم إثبات الذات للتفاعل مع المشاهد الأدبية العربية من أمثال (عزيز ضياء) و (محمد حسن فقي) و (محمد حسن عواد). ولقد واكب ذلك رصد تاريخي ودراسي للحركة الأدبية، تمثَّل في موسوعة (الساسي) وكتاباته عن شعراء الحجاز، وفي كتاب (وحي الصحراء)، ومن قبلهم كتاب (الصبان) عن أدب الشبيبة الحجازية، ولقد كانت للمنتديات والصالونات الأدبية أثرها في الثراء الأدبي والاقتداء، و(للبغدادي) رصد للمسامرات والمقاهي الأدبية.
- أما على مستوى الإعلام المقروء والمسموع ف (مكة المكرمة) رائدة ذلك كله، ولا ينازعها فيه أي إقليم في المملكة، ولمَّا تزل لها الصدارة في ذلك، ففيها أعلام الصحافة والإعلام، ولقد جاءت (ندوة صحيفة أم القرى) التي نفذتها (وزارة الثقافة والإعلام) بالتعاون مع (دارة الملك عبدالعزيز) مجلية لمنجزات ثقافية وأدبية وإعلامية، وجريدة (أم القرى) ثالث صحيفة تصدر في الحجاز.
والفن الصحفي لا يشيع إلا في ظل حركة علمية وثقافية ووجود كتَّاب وقراء، وذلك ما تجلت عنه ندوة الجريدة، فالريادة الصحفية مؤشر عمق ثقافي وشيوع معرفي. ولو تقصى المتابع صناعة الكتاب، واقتنائه، وعراقة المكتبات وكثرة الوراقين، وبداية الطباعة، وتعدد الناشرين، والموزعين، لما وسعه إلا التسليم بأن (مكة المكرمة) تقدم سائر المدن وترود لها.
وهي بفضل الحرم المكي الشريف تعد مثابة العلم ومنطلق الثقافة، كما هي مثابة للناس وأمناً، والمتقصي لتاريخها القديم والحديث يرى أنها تقدم المدن والقرى. والحديث عن أي مجال حضاري يكون لها فيه قصب السبق، وريادتها في مختلف مجالات الحياة تبع لريادتها الدينية، فمنها وفيها شع نور الحياة، وولد الهدى، ومنها انطلقت قوافل الدعاة والمجاهدين وحملة مشاعل الرسالة، وستظل كذلك حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 03:18 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الوأد عند العرب.. بين الوهم والحقيقة 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


والباحث لا ينكر (الوأد)، ولا يرد نصاً في القرآن الكريم ولا في الحديث النبوي الشريف، ولكنه يحمل ذلك كله على غير الظاهر والمتواتر، ويغرق في التأول. والمفسرون - حسبما أعلم - وفوق كل ذي علم عليم - مجمعون على أن المقصود ب (الوأد) إزهاق حياة البنات؛ خشية العار أو الإملاق، وقد يدخل الذكور من الأولاد في خشية الإملاق، وذلك شائع ومتداول في كتب التفسير والحديث والتاريخ والموسوعات الأدبية، حتى لكأنه عند الجميع قطعي الدلالة والثبوت. وهناك ما يعضد المقصود في قوله تعالى: { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}. وقوله: {أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ}أي يبقى الجارية على قيد الحياة، مع احتمال الهوان، أو أنه لا يحتمل الهوان؛ فيدس الجارية في التراب، وهذا كناية عن (الوأد) ولسنا معنيين بطريقة الدس وأسلوب الوأد، وإنما المهم ثبوت الظاهرة، كما يراها علماء الأمة، وأوضح من ذلك كله قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} وهذا سؤال استنكاري؛ إذ لا ذنب لها، ولو كان ل (الوأد) دلالة أخرى لما كان السؤال عن سبب القتل، ولا حاجة للقول: بأنه العزل، ذلك أنه قول مرجوح، ولو صح ألغى ما تواترت عليه الأقوال.
ولربما يكون الباحث مأخوذاً بالتفسير الأسطوري والتحليل الرمزي للنص، وهذه الطائفة من القراء لا تجد حرجاً من تصور (الدَّس في التراب) كناية عن عزل المرأة عن الحياة العامة. والحكايات الخرافية التي يسوقها الموسوعيون عن (الوأد) و (الإحياء) لا ينعكس أثرها على صحة الظاهرة، وإنما تكون قصصاً خرافية، نسجها القصاص والمذكرون، وجاءت في المراسيل للإمتاع. ونسف الخرافة لا يقتضي نسف الظاهرة، فالمفسرون توسعوا في الإسرائيليات، ولم يقل أحد بعدم صحة أحسن القصص. والذين درسوا الإسرائيليات في التفسير ردوها، وأبقوا على الظواهر التي تدور حولها تلك الأساطير. ولقد كانت لي إلمامات مبكرة بظاهرة الإسرائيليات في التفسير، حين تعقبت الدارسين لهذه الظاهرة؛ الأمر الذي حمل الأستاذ المرحوم (محمد محمد أبو شهبة) على الثناء على تناولي، ومؤاخذتي بإهمال جهوده في هذا المجال، ولقد وجدها مناسبة لمواصلة الحديث عن الإسرائيليات في التفسير، جاء ذلك كله في (مجلة رابطة العالم الإسلامي). و (الوأد) كما يراه المفسرون لم يتعرض له الذكر الحكيم إلا لأنه ظاهرة سلوكية، وليس حدثاً فردياً، والمفسرون التمسوا دوافعه من آي الذكر الحكيم، وحصروها في الدافع الاقتصادي وفي الغيرة والأنفة والحميّة.
والقرآن الكريم ردَّ السبب الأول بقوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ..} (31) سورة الإسراء.
وقوله: { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ ..}(151) سورة الأنعام.
ولقد ربط بعضهم بين ظاهرة (الوأد) وظاهرة تحديد النسل بالعزل أو على ضوء قانون (مالتوس) للسكان، القائم على (الكابح الإرادي) وذلك قبل التقدم الطبي. ولقد كان للصحابة موقف من العزل، حتى قال بعضهم: (كنا نعزل والقرآن ينزل). وسماها آخرون ب(الوأد الخفي) أما العامل الثاني وهو الأنَفَة والحميّة والغيرة فقد شايعته الحكايات الخرافية والشعر العربي، وأشار له القرآن الكريم بقوله تعالى{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ..} (137) سورة الأنعام.
وقوله تعالى: { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ..} (140) سورة الأنعام، وقوله تعالى: {. وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ.. } (12) سورة الممتحنة،
وفي هذه الآية ملمح لنفي ارتباط الوأد بالعزل؛ ذلك أن العزل من الرجال. ونزوع الباحث العقلي المتكئ على التأويل كاد يقصي المدلول النصي، وذلك منهج غير مسبوق بهذا الحجم، والشرح والتفسير يتنازعهما علماء الدراية والرواية، والتأويل من علم الدراية، وهو محسوب على التفسير بالرأي.
وثقة الباحث بنفسه، وتنقصه من المفسرين كافة، جرأة لا يقره أحد عليها، يقول في سياق تخطئته للمفسرين: (ولما احتاجوا إلى العدول بالقرآن عن سياقه إلى المعنى البعيد الذي اتخذه المفسرون وأسرفوا في تأويله وعدلوا بالقرآن ومعناه عما تقوله اللغة وتسمه به). وهل أحد يقبل بهذا التوجيه الغرائبي؟ وكيف يجرؤ علماء الأمة من العصر الأول إلى العصر الحديث على العدول بالقرآن ومعناه عما تقوله اللغة وتسمح به؟ وهل الباحث بوصفه نحوياً يلوك لسانه أعلم باللغة من آلاف المفسرين السليقيين الذين يقولون ويعربون؟ وهل يظل مفهوم (الوأد) مختلطاً على الكافة حتى جاء الباحث؛ ليثبت الأقدام، ويربط على القلوب؟ وهل مسألة (الوأد) مسألة خلافية تفرقت فيها أقوال العلماء، بحيث جنح الباحث إلى طائفة منهم؟ أحسب أن الباحث بهذه المغامرة الخاسرة قد شط على نفسه وعلى قرائه، وحمَّل النص ما لا يحتمل، وعوَّل على (العدول اللغوي) ولم يذعن ل (السياق)، وكان بهذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر كقاصية الغنم أو كضالتها.
واتكاؤه على ظاهرة (العدول) في اللغة حجة عليه لا له؛ فهو الذي عوَّل على العدول؛ إذ الأخذ بظاهر الدلالة لا يكون من العدول في شيء. وقوله: (اتخذه المفسرون) دليل على أن كل المفسرين مخطئون؛ إذ لم ينص على طائفة منهم، وهذا الإجمال مظنة المجازفة والتعميم، ومثل هذه القضايا لا يقوم أمرها على مثل هذا الإجماع.
لقد طوف في آفاق معرفية، تعرف منها وتنكر، وفي النهاية خلص إلى القول بأن (الموؤودة) هي (النفس) وليست (المرأة) وحدها، وكيف يحتاج إلى السياق والعدول والتأويل والرأي وإدارة النص في فلك العقل والمسألة محسومة عند (البخاري) و(مسلم) وأصحاب السنن والمسانيد، وعند كل المفسرين المتقدمين منهم والمتأخرين، ولم يوافقه على ما ذهب إليه - فيما أعلم - أحد من علماء التفسير أو الحديث أو اللغة أو غيرهم، ولم ينكر (الوأد) العرب الذين وصموا به، وعنوا بالتأنيب والنهي، ولم يشكك فيها أي عالم عربي أو أعجمي مسلم أو مستشرق. لقد كانت ل (طه حسين) شطحات، وكانت ل (مصطفى محمود) شطحات، وكانت ل (شحرور) شطحات، وكانت ل (عبدالصبور شاهين) في كتابه (أبونا آدم) شطحات، ولكن كان لكل واحد سلف فيما شذ فيه. أما شطحة الباحث فلا سابقة لها، وهو فرد فيها، ولا يعيبه ذلك لو عضده نص أو قاعدة أصولية أو دلالية لغوية: حقيقية أو مجازية أو سياقية أو عدولية.
وأغرب شيء أن يقول عن المفسرين كافة دون استثناء: (لم يتدبروا النصوص التي أشارت إلى قتل الولد) (ص 155). وذلك عين التكلف والتعسف الذي برأ نفسه منه (ص 157). والمفسرون استكملوا كل الاتجاهات اللغوية والفكرية والعقلية والمذهبية، وربطوا قتل البنت بالعار وقتل الولد بالإملاق، ولمَّا يزل الأبوان على مر التاريخ يفضلان الذكور على الإناث، ولكنهم لا يكرهون البنت حين تكون من قَسْمِهم، وإن تمنوا الولد. والباحث عول على قضية (السياق) اللغوي الذي اتخذه النقاد مناطاً لاستقراءات مخالفة، والعلماء لم يغفلوا (السياق) ولا (الأنساق) ولا (العدول) ولا (التأويل) ولا (المجاز)، فالتعويل على السياق أخذ به المفسرون، ولكنهم في النهاية يعودون إلى ما وقر في نفوسهم من ثقافات، وما استقروا عليه من مذاهب، وما كل نسق مدان.
والباحث ربما وقع - من حيث لم يحتسب - في مأزق التفسير بالرأي، وذلك مذهب المدرسة العقلية الحديثة، كما هي عند (الأفغاني) و (عبده) و (رضا) و(المراغي) وغيرهم. ولست ضد الاتجاه العقلي في التفسير، ولكنني ضد إدارة النص في فلك العقل، وهو المنزع الاعتزالي، وكم هو الفرق بين إدارة العقل في فلك النص وإدارة النص في فلك العقل. والباحث اتخذ سبيله العاطفي الأعزل، بحيث صرف نظره عن أقوال العلماء كافة، ولم يكن له معول على أحد منهم، ولم ينظر في قوانين العلوم ومناهجها، مما يحتاج إليه المفسرون والشارحون والمستنْبطون، وإن عول على (السياق) وهو تعويل لم يسعفه؛ فالسياق ضد فكرته، والتعويل على السياق تعويلا علمياً أسس له وأصَّله العلامة (محمد الأمين محمد مختار الجكني الشنقيطي) - رحمه الله - في تفسيره القيّم (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن) وإن كانت المنية قد اخترمته قبل أن يصل في تفسيره إلى سورة (التكوير)، وقد أكمله تلميذه الشيخ (عطية محمد سالم) - رحمه الله -، مثلما أكمل (السبكي) المجموع بعد وفاة (النووي)، وشتان بين المبتدئ والمكمل في المؤلفين. ومنهج الشنقيطي في التفسير يراعي السياق؛ لأن الآية تستدعي نظائرها في المعنى، ولم يكن الشنقيطي وحده في هذا المهيع، ولكنه الأميز.
والمفسرون يختلفون باختلاف خلفياتهم المعرفية والمذهبية، ولكن الأوَّابين منهم لا يفسقون عن مقاصد النص، وإن استعرضوا وعرضوا سائر الأقاويل الراجح والمرجوح منها. والباحث الذي استصحب السياق كآلية نافذة ومشروعة أسرف في التعويل على التأويل، وهو في اصطلاح الأصوليين: - (صرف اللفظ عن ظاهرة المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك). وإشكالية الباحث أنه عول على (التأويل) دون دليل ولا سند ولا تأييد من عالم سابق أو لاحق. وصرف اللفظ عن ظاهرة بدليل كآية: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ.. } يتحقق معه التأويل الصحيح، أما صرفه لأمر ظني، أو لنزوع مذهبي كآية: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ..} فإنه في هذه الحالة يكون من التأويل الفاسد. والباحث قد عول على أمر ظني لا حجة معه، ومثل هذا الفعل يوصف عند الأصوليين ب (اللعب)، ولقد وصف صاحب (مراقي السعود) مثل هذا بقوله:
(وغيره الفاسد والبعيد... وما خلا فلعباً يفيد)
ولمزيد من عناية المفسرين، أحيل الباحث إلى مقدمة تفسير (أضواء البيان..)، وإلى مبحث (دور السياق في بيان الدلالة) في كتاب (التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن)، وإلى كتاب (العدول اللغوي).
ولو أنه وطَّن نفسه على تعقب لطائف التفسير واستنباطات المفسرين وبخاصة اللغويين منهم مثل كتاب (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز) ل (الفيروز آبادي)، وتقصى الاتجاه العقلي واللغوي في التفسير؛ لكان أن تطامن أمام منجز العلماء الأوائل والأواخر، ولكي أضرب مثلاً بسيطاً من لطائفهم، أحيله إلى تحديد (المشترك اللفظي) وبراعة المفسرين في اقتناص المعنى المراد من بين تنازع الدلالات. ف (القُراء) لفظ مشترك بين (الطهر) و (الحيض)، عول فيه اللغويون على قرينة زيادة (التاء) في قوله تعالى: {ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ..}والدالة على تذكير المعدود، وهي (الأطهار)، فلو أراد (الحيضات) لقال: (ثلاث قروء) بلا (هاء)؛ لأن العرب تقول: ثلاثة أطهار وثلاث حيضات. واختلاف الفقهاء حول ذلك مرجعه إلى غياب المؤشر النحوي، أما التقصير في فهم السياق اللغوي فيبدو عند بعض الفقهاء في الاختلاف حول حرمة لحوم الخيل والبغال والحمير.
وإن كان ثمة حجة يعول عليها فهي تأنيث (الموؤودة)، و (النفس) مؤنثة، ومن ثم فإن المرأة وحدها ليست هي المقصودة، وإنما المقصود مطلق النفس، وهو إذ أطلق هذه الرؤية، لم يحل إشكالية النصوص الدافعة لرؤيته. ومع الإغراق في المماحكات فإن الباحث بارع في دقة التأويل، حتى لكأنك تقرأ للزمخشري في كشافه، فالباحث وهو يحاول تفسير الموؤودة ب(النفس) يجاري الزمخشري في تفسيره (ناظرة) بمنتظرة، أو يجاري الشنقيطي في تفسير (القرء)، وإذ يصطدم الزمخشري بتعاضد النصوص ضده، لا يواجه الشنقيطي بشيء من ذلك. والباحث كما الزمخشري منهك بقوة النصوص. وأمام محجتها البيضاء لم يفسر آية الوأد، ولكنه تأوَّل فيها، ذلك أن التفسير يعتمد على الرواية فيما يعتمد التأويل على الدراية، ولست أشك أنه اجتهد ما وسعه الاجتهاد لتأويل كلمة (الموؤودة)، وأحسبه سيخرج من (المولد) بدون (حمصة) - كما يقولون -. وقد يكون تمحكه من اللطائف، فالنفس في النهاية جماع الذكر والأنثى، ويكون في قوله كله كمن فسر الماء بعد الجهد بالماء.
ومن لطائف هذا البحث الغرائبي براعة الباحث في نقد الحكايات الثلاث، وذهابه بعيداً في التحسس عن المطاعن. واختياره الوقائع والأخبار اللاحقة مؤشر ذكاء وبراعة، ولست أشك أنه ابن بجدة البحث الأدبي وخبيره. ولو أنه اقتصر على نسف الحكايات الخرافية، ولم يعقب على الظاهرة التي أقرها الذكر الحكيم والحديث النبوي الشريف والشعر العربي القديم وتداولها العلماء، وهم الأدرى بتخصصاتهم؛ لكان خيراً له وللمشهد العلمي، ولو لم تكن ظاهرة (الوأد) كما تتابع السلف والخلف عليها لأنكرها العرب منذ اللحظات الأولى.
والباحث وهو يستعرض روايات الأحاديث في الصحاح والمسانيد والسنن عول على (الزيادة) و (الإدراج)، وذكر (الوأد) في موقع وعدم ذكره في موقع آخر، وعد ذلك من الاضطراب الذي قد يفتح باباً على الروايات، وهو قد أومأ من طرف خفي ل(حديث الآحاد) و (حجيته). ولو أنه رجع إلى كتب الأئمة وعلماء الحديث لعرف أن مثل ذلك لا يؤثر على صحة الحديث ف (المدرج) ألف فيه (ابن حجر) و (السيوطي)، وحددوا ذلك، وأوضحوا الفرق بين (الإدراج) و (الزيادة) في النص، وأما (حديث الآحاد) والقبول به في العقائد والعبادات فالخلاف فيه لا يمتد إلى قضية (الوأد)، واختلاف روايات (البخاري) مرتبط بالأبواب التي يعقدها، وليست اضطراباً في الرواية، فهو يأخذ من الحديث ما يناسب الباب، ولا حجة في ذلك. ولأن الباحث غير متخصص في علم الحديث فقد عول على ما لا يعول عليه.
وخلاصة القول أن الباحث مارس رياضة فكرية ممتعة، استطاع أن ينسف الحكايات الخرافية بعشر حجج في غاية الدقة والشمول والعمق، ولكنه لم يستطع تحويل (الوأد) من (المرأة) إلى (النفس) بكل شموليتها، وعتبي عليه أنه أنفق جهداً ووقتاً ثميناً في قضية محسومة. وتساؤلي في النهاية: أي الحزبين أحق بالتصديق والمتابعة، علماء الأمة كافة، أم صاحبنا الذي جاء في الوقت الضائع؟.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 07:04 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)