بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » السلفية السياسة

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 18-08-2007, 07:16 PM   #1
محمد بن صالح البجادي
Registered User
 
تاريخ التسجيل: Feb 2007
المشاركات: 40
السلفية السياسة

السلفية الوسطى

العدل عديل الصلاة

أم سلفيات الصبر على الطغاة ما أقاموا الصلاة؟

مقاربة لتصفية المقياس السلفي من غبار الصياغات العباسية والمملوكية والعثمانية







مقالات

د/أبو بلال عبد الله الحامد

الأستاذ السابق في جامعة الإمام بالرياض

المسودة الأولى 1423هـ2002م

(نسخة حائل)المسودة العاشرة‏‏‏01‏/08‏/1428 ( ‏‏14‏/08‏/2007)



شــــكــــر



أشكر دعاة الدستور الإسلامي،من قضاة وفقهاء وحقوقيين ومحامين، وأساتذة جامعات، ومهتمين بالشأن العام، الذين تكرموا بقراءة مسودة هذه المقالات، فأهدوني ثمارها ملاحظة وتصويبا وتهذيبا، -على أن شكرهم لا يلزم منه تبعتهم عن شيء فيه-وأخص بالذكر منهم:

1=المحامي د/ موسى بن محمد القرني. أستاذعلم أصول الفقه سابقا في الجامعة الإسلامية، في المدينة المنورة. وأحد دعاة الدستور الإسلامي:العدل والشورى وحقوق الإنسان ، الذين يواصلون الدعوة بموقفهم الشجاع خلف القضبان

2-المحامي:سليمان بن إبراهيم الرشودي/ القاضي السابق/ وأحد أعضاء لجنة حقوق الإنسان الشرعية 1413هت(1992م). وأحد دعاة الدستور الإسلامي:العدل والشورى وحقوق الإنسان الذين يواصلون الدعوة بموقفهم الشجاع خلف القضبان













بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين

والصلاة والسلام على المبعوث رحمة العالمين،

وعلى آله وأصحابه السابقين،

الذين أقاموا معالم العدل والشورى،

وعلى من تبعهم بإحسان،إلى يوم الدين















أ- السلفية:نص وأصل هما المقياس وصور أشتات

1=قابس مصطلح السلفية:

الإمام عبد الله بن مسعود

أ-المعني اللغوي و الاصطلاحيان للسلفية:

السلفية لها ثلاثة معان:في اللغة:

-المعنى الأول:المعنى اللغوي الأعم: السلفية : وصف وثقافي واجتماعي محايد ، يشير إلى أن التصورات والتصرفات تعيد إنتاج الماضي، سواء أكان هذا الماضي حسناً أم رديئاً، فهي الاقتداء بالسلف من الآباء والأجداد ، آباء الأرواح وآباء الأجساد.

-المعنى الاصطلاحي العام: تقديس تراث اتباع الماضين، التعلق بعادات وأعراف بالآباء والجدود، واعتبارهم حجة على كل جديد، فهي الاتباع دون نظر وعلم، بل عجز عن التجديد ولزوم للتقليد، كما الذي ذمها الذكر الحكيم.

لأن انتضاء أفكار ونظريات ووسائل منه ، لحل مشكلات الحاضر والمستقبل. فهي رغبة في التعلق بالأموات، ودوران حول ضريح الرفات الثقافي أو الاجتماعي، التي لا تستجيب لمتغيرات الحياة. ولما كان إنتاج الماضي؛ لا يستطيع الإجابة عن الأسئلة الحديثة، صارت السلفية مذهبا اتباعيا، ولذلك ترد ذماً للتصورات والتصرفات الماضوية العاجزة عن حل مشكلات الناس الحاضرة.

فالسلفية –هنا-بمعنى الماضوية/ضد المستقبلية) : وكثير من المثقفين يستخدمونها ذماً لاتجاه ثقافي أو اجتماعي أو سياسي، فإذا ذموا هذا الاتجاه أو ذاك قالوا: هو سلفي. ويلاحظون فيها نزعة التقليد، أو الإتباع من دون دليل.

-المعنى الثالث: المعنى الاصطلاحي الخاص وصف عقيدي:

فالسلفية: هي اتجاه يعلن أصحابه أنهم لا يرجعون إلى صيغة الإسلام التاريخي، في أي عصر أموي أو عباسي أو مملوكي أو عثماني، بل يعلنون شوقهم المتجدد للتمسك بالإسلام النصي، ويتطلعون لإضاءة دربهم بضوء سراج القرآن والسنة، من خلال مشكاة تطبيقهما النبوية والراشدية،ويحاولون بناء فكرهم وعملهم، وفق هذا النموذج العالي.

السلفي بهذا المعنى هو الأصولي هو الذي يعلن أنه ينبذ المستحدثات والبدع ويرجع إلى التطبيقات النبوية و الراشدية، كما جاءت في القرآن وأحاديث الرسول، فالسلفية-هنا-هي"الأصولية"، أي العودة إلى الأصول.

فالسلفية إذن تبلورت-نظريا- بمعنى العودة إلى النص، واستنباطه من خلال مسرح تطبيقه الأول.

فالسلفية –نظريا-هي التي تعلن الإتباع بدليل، فهي إذن حركة تجديد وتأصيل معاً، إنها تعني استلهام الجذور الصحيحة: قولا في الكتاب والسنة، وعملا في سير الرسول والراشدين رضي الله عنهم، وليست عودة مطلقة إلى ما ورث الناس عن آبائهم وأجدادهم، وهذا هو الفرق بين الاصطلاح العام والاصطلاح الخاص.

ومفهوم السلفية يماثل الأصولية، وبينهما فرق لفظي.والذي يعنينا في هذا الكتاب، هو السلفية بهذا المعنى الثالث، وهي السلفية حصر المرجعية بمصباح القرآن والسنة، في زجاجة مشكاة التطبيق النبوي والراشدي، وسنن الله في الإنسان والطبيعة

ب-نشأة مصطلح السلفية، والجو الذي ترعرع فيه:

أول من أطلق فكرة الاقتداء بالسلف؛ هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وكان خازن بيت المال، لعثمان رضي الله عنهما، فأمره عثمان بصرف مبلغ من بيت المال، لأحد الولاة، ولكن ابن مسعود رأى أن صرف هذا المال للوالي، لا يستند إلى مشروعية، فراجع عثمان فلم يقتنع برأيه، فاستقال من وظيفته، وقال "من كان منكم مستنا، فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفا" "أي أنها الاتجاه الذي كان عليه الصحابة السابقون، فهم الذين أشار إليهم ابن مسعود، المتوفي سنة 32هـ والتابعون لهم بإحسان.

وهذا يدل على أن وصف السلفية ليس محصورا بأمور غيبية ولا روحية ؛ لأن مناسبة قول ابن مسعود؛ كانت في مجال العدل وحفظ مال الأمة، وفي مشروعية تصرف الحاكم في بيت مال الأمة.

وهذا يؤكد أن السلفية لاتهون من أركان إقامة عدل الدولة وإسلامها المعتبرة.

ويستنبط من ذلك أنه لا يصح إطلاق السلفية على أي اتجاه أو تيار أو كتاب أو كاتب أو حاكم، يهون من شروط عدل الدولة وإسلامها والمجتمع العشرة، وأن أي تصرف يفرق بين شق العقيدة الروحي والمدني؛ ليس سلفيا.

وبذلك تظهر فائدة تثبيت مسطرة القرآن الكريم والسنة، من خلال مشكاة التطبيق النبوي والراشدي وسنن الله في الإنسان والطبيعة، واعتبارها مقياسا وحيدا للعلم والعمل.

وصارت الكلمة بعد ابن مسعود عبارة جاهزة، عندما أطلت الروح الصحراوية البدوية والكسروية،بقرونها السياسية والفكرية، فظهرت الفرق السياسية والفكرية كالأموية والخوارج والشيعة والجبرية التي ساندت حكم الجبر والجور.

وتحولت العبارة إلى خاتم، يشير إلى اتجاه محدد، إبان الامتزاج بالثقافات الأجنبية، عندما ظهرت الفرق الفكرية كالقدرية والجهمية ، وكانت القدرية رد فعل على الفكر الجبري، فنادت بحرية الإرادة، وظهر فيها معبد الجهني الذي دعا إلى محاسبة الحاكم في المال العام، وقتله الحجاج، سنة 83هـ، كما قتل الخليفة هشام تلميذه غيلانا الدمشقي سنة120هـ.

وفي محضن القدرية نشأ المعتزلة، حينما ظهرت محاولة الإجابة عن السؤال الحرية: هل الإنسان مسير أم مخير، ولاسيما في الفكر الاعتزالي، ليقول رموز السلفية: عليكم بإتباع طريق من سلف من الرعيل الراشدي، فإنه هو الصراط المستقيم، أي أنها نادت بالعودة إلى ما كان عليه الصحابة، أي الأصول الثوابت في الكتاب والسنة، من خلل حقل تطبيقهما فوق المسرح الراشدي.

وحينما وصل المعتزلة إلى بلاط السلطان المأمون، وكان منهم عديد من القضاة والمستشارين؛ فحملوه على الانتصار لمذهبهم، رد فعل على ما نال رموزهم، منذ عهد هشام بن عبد الملك وخالد القسري، واستمرأ الخليفة المأمون هذا الاتجاه، تنكيلا بالتيار الذي آزر أخاه الأمين وعمه إبراهيم بن المهدي .

وأسرف المأمون في امتحان الناس في سؤال هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق، فجاءت السلفية أيضاً وسطاً لتقول :عليكم بمن سلف من خيار الأمة، وسلف الأمة لم يتساءلوا هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق، بل قالوا: القرآن منزل وكفى، وعلى ذلك جاء ما يمكن أن نسميه " السلف العباسي الصالح "

وجاء وصف الإنسان الذي يعلن أنه يقدم القرآن الصريح والحديث الصحيح الصريح ، على الرأي بأنه " سلفي " و" أثري " أي أنه إذا ثبت لديه الأثر أي النص ، لم يخرج عن معناه الصريح، الذي تعرفه العرب من أساليبها، فإذا جاء في القرآن الكريم " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً، فسروا الرسول بأنه النبي ، فلم يحملوا النص على غير ظاهره، مادام ظاهره مقبولا في السياق اللغوي، و لم يفسروه بالعقل، كما فعل المعتزلة.

ولكنهم لم ينكروا المجاز-كما يتصور بعض الناس- عندما قرأوا قول الله تعالى"وسع كرسيه السماوات والأرض"؛ فسروا الكرسي بالعلم والسلطان، لأن ظاهره غير مقبول في السياق اللغوي، ولا بد من أن يكون الكرسي مجازا.

وأكثر النصوص التي ثار حولها النقاش ، كانت في شق الشريعة الروحي الغيبي ، كأسماء الله وصفاته، وصارت الفرق التي تأثرت بالفلسفة الأجنبية التجريدية تحاول أن تتصور البارئ ، من خلال إطار الفلسفة التجريدية ، فتؤول الآيات ، حتى تعطل مدلولاتها ، ولذلك جاءت السلفية أيضاً تعلن الالتزام بفقه الكتاب والسنة ، وفق فهم الصحابة في هذا الجانب (في ما أعلنته و إن لم تلتزم بذلك في كافة فكرها ومواقفها، ولنقول عن آيات الصفات: ""أمروها كما جاءت"" دون تعطيل ولا تأويل.

وجاءت كلمة الإمام مالك رحمه الله ، بلورة للمنهج السلفي –في المجال الغيبي-لمن سأله عن معنى قوله تعالى "الرحمن على العرش استوى" فقال "الاستواء معلوم ، والكيف مجهول، والإيمان به واجب"، أي ليشغلكم التفكير في مخلوقات الله، عن التقعر في صفاته وذاته، لأنها لا يترتب عليها عمل.





2=المقياس السلفي مسطرة واحدة وصورة مثلى

أنتجتا صورا شتى حركات وصياغات واتجاهات ومذاهب متقاربة

أ‌- في الغيبي من شق العقيدة الروحي:

في خلق القرآن ثلاثة اتجاهات:

السلفية التي يتصورها بعض الناس؛ مذهبا عباسيا محدداً، ليست كذلك بل هي اتجاه منهجي فكري محدد، يقول بمرجعية سراج الكتاب والسنة من خلال زجاجة التطبيق النبوي والراشدي و مشكاة حقائق العلوم، ومن الطبيعي أن ينتج المنهج عددا من الآراء والمذاهب.

من أجل ذلك نجد فيها اتجاهات متشددة، وأخرى متفتحة، واتجاهات مناضلة وأخرى مسالمة، واتجاهات تنم عن ثقافة واسعة، وأخرى تنم عن ثقافة محدودة، سواء في أصول الفقه، أو في فقه العقيدة الأكبر.

وما بحثوه تحت عنوان العقيدة يضم أمرين:

-الأول: أمور قطعية كالإيمان باليوم الآخر، وتولى الصحابة.

ولكن هذه القطعيات، على صحتها، غابت عنها فكرة أن العقيدة نظام متكامل، كالجسد الواحد،

-الثاني: أمور ظنية.

- لهم أيضا في آيات الصفات مذهبان، الذين يمرونها على ظاهرها، والذين ينفون يقسمونها إلى ما هو حقيقة، وما هو من المجاز، حسب أساليب اللغة العربية.

وفي قضية خلق القرآن لم يحصل علي اتفاق كما يتصور بعض الناس؛ على القول بأن القرآن غير مخلوق، بل لم يتوافقوا على بحث القضية، ولا على الرأي فيها –عند بحثها- فلهم في ثلاثة اتجاهات:

-القول بخلق القرآن الذي قالت به الأقلية كأبي حنيفة،كما ذكر عبد الله بن أحمد في كتاب السنة

- والقول بأنه غير مخلوق الذي قالت به الأكثرية، كأحمد بن حنبل.

-السكوت وترك الخوض في السؤال جملة وتفصيلا،قال بذلك مالك وابن عبدالبر، وتابعهما الشاطبي والشوكاني.

واتجاه مالك أقرب إلى المنهج السلفي، للأسباب التالية:

-أن السؤال لم يثر في عصر صدر الإسلام.

- ولأنه ليس أساسيا في العقيدة.

-ولأنه ليس عمليا.

-ولأنه ليست له أولوية، على سؤال العدل والشورى.

-ولأن التدليل على الجواب ظني،من قبيل الاجتهاد.

-ولأن تركيز المعتزلة عليه إنما جاء في سياق رد المعتزلة على الملاحدة والنصارى، كيوحنا النصراني.

-ولأن الدخول فيه يثير خلافات وتدابرا، في أمور ظنية غيبية ثانوية، تخل بمابين المسلمين من تآلف وتعاون على الأمور الأساسية.

-ولأن إثارته لعبة من المأمون للنيل من خصومه أهل الحديث، الذين آزروا أخاه الأمين وعمه إبراهيم المهدي، على فسقهما وفضله وعلمه،كما بين فهمي جدعان في كتاب المحنة.

ولهم في تغليب الرواية على القياس والدراية مذهبان: للشافعي وأحمد يتشدان ولأبي حنيفة وأتباعه وجمهور الفقهاء من بعدهم يتوسعون.

- وفي الاحتجاج بأحاديث الآحاد في أصول الدين هم أيضا فريقان.

والسلفيون العباسيون في العقل المدني والسياسي (أو ما سموه التحسين والتقبيح) فريقان:

-فقال المعتزلة ووافقهم الحنابلة، الذين قالوا: إنما عماد التحسين والتقبيح العقل والفطرة.

-أغلب الأشاعرة: الذين قالوا: إنما عماد التحسين والتقبيح الشرع لا الفطرة، و رفضوا قول المعتزلة.

و الرأي الأول هو الوجيه، وقد نصره الشاطبي-رغم أشعريته- كما أكده الفقيه النجدي عبد الله السعد-في مقدمة تحقيق الموافقات- لأن صريح علوم الشريعة، لا يناقض صحيح علوم الإنسان و الطبيعة.



ب-ولهم في السياسة والحضارة اتجاهات الكف عن ما شجر بين الصحابة اتجاهان:

والسلفيون في الكف عن ما شجر بين الصحابة أو الخوض فيه فريقان:

- من ترك الخوض جملة وتفصيلا كالبربهاري والسيوطي.

- من خاض كابن تيمية وابن العربي.

والمحدثون أيضا فريقان: فالباحث في مدونات الحديث كالصحاح الستة ونحوها، لا مفر له من أن يلاحظ أن المحدثين كلهم تأثروا بعوامل شتى وهم يروون الحديث، فالاتجاه السياسي كان حاضراً، وإن كان مضمرا، فما رواه البخاري وأبو داوود، أميل إلى المسالمة.

-وما رواه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه أقرب إلى المقاومة.

وهم في الميول نحو آل البيت أو الأمويين أيضا فريقان:

فما رواه الإمام أحمد والنسائي والحاكم وابن عبد البر من فضائل علي وآل البيت، أكثر من مارواه البخاري وأبو داوود. ولأحمد بن حنبل كلمات كثار في إنصاف علي بن أبي طالب، وهوالذي يقول لابنه صالح عن يزيد بن معاوية: "يابني وهل يحب يزيدَ بن معاوية من يؤمن بالله واليوم الآخر؟"، والشافعي الذي يقول:

إن كان رفضا حب آل محمد × فليشهد الثقلان أني رافضي

وفريق آخر وضحت نزعته الأموية، كابن العربي في العواصم وابن تيمية في منهاج السنة، ومحب الدين الخطيب، ولا لوم ولا تثريب، فلكل مجتهد من الأجر نصيب.

وهم في التعامل مع الخصوم والمخالفين فريقان:

-متسامحون غير مذهبيين وهم القلة،كأحمد بن حنبل (إذا حذفنا مبالغات التكفير والتبديع التي نقلها بعض تلاميذه و لاسيما ابنه عبد الله؛ لأن في تصحيحها أكثر من إشكال ومقال) وأبي حنيفة الشافعي وعبد الله بن المبارك وابن عبد البر والذهبي، والشاطبي والشوكاني والقاسمي.

-ومتشددون وهم الكثرة: كعبد الله بن حنبل والبريهاري وابن بطة والخلال واللالكائي والدرامي ،والجويني وابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبدالوهاب وتلاميذ مدرسته وأبرزهم ابن سحمان.

ج-العباسيون ليسوا هم المسطرة ولا النموذج الأصلي يل صور

وبناء على مامر ينبغي التفريق، بين السلف المتبوع، وهم الصحابة السابقون الراشديون، والسلف التابع وهم الأموي والعباسي التابع، بإضافة ياء النسب إلى السلف التابع ( الأموي والعباسي) لنفرق بين سلف راشدي صالح وسلفي أموي وعباسي صالح، تمييزا للتابعين عن المتبوعين(الصحابة السابقين)،ليزيل ذالك كثيرا من اللبس، الناتج عن دمج السلفي الأموي والعباسي، في السلف الراشدي.

ولهذا التمييز أثر كبير في دفع الالتباس، عندما نقيم فكر السلفي العباسي الصالح، ينبغي أن نتذكر أن أكثرهم أنتج لنا فكرا سياسيا غير صالح،وهو فكر عاش في مناخ الاستبداد السياسي والاختلال الاجتماعي، فاحتوى أفكار حية معيارية وأخري آنية، وأفكارا ميتة، لكي لا يتماهى مع فكر السلف/ القدوة التي تجسد المرجعية.

ولكن اثبات ياء النسب في قولنا السلفي الأموي والعباسي الصالح،يحدث لبسا آخر، إذ قد يظن بعض الناس أن المقصود هم الحكام، لذلك لعل من الأنسب، ان يكون التمييز بوصف زمني، بأن يوصف السلف الصالح المتبوع بأنه الراشدي والسلفي التابع بأنه سلف العصر الأموي أوالعباسي أو المملوكي أو العثماني أوالإمبريالي الغربي.

سبب ذلك أن دور السلف العباسي الصالح، دورهم الأظهر الأشهر إنما هو في بناء المنهج وتصحيح نصوص الملة وتدوينها، ولذلك اتفق السلفيون العباسيون في المنهج ومادته، ولكنهم في التطبيقات -كما ذكر محمد عمارة- أشتات، فمنهم محافظون جامدون، ومنهم مجددون، ومنهم من يتنكر للعقل جملة وتفصيلا، ومنهم من يعلى شأنه (انظر موسوعة الحضارة:381-382 عن السلفية للزنيدي).





3=السلفية ليست محصورة بالإصلاح الروحي

بل هي إصلاح سياسي أيضا ذو وسائل شتى

أ-الكفر البواح وحمل السلاح:

المنهج السلفي يقرر أن السلفية حفاظ على العقيدة إصلاح في جانبيها الروحي والمدني معا، وإصلاح سياسي وروحي معا، ولم يتكون اتجاه سلفي معتبر بخلاف ذلك، والنصوص قطعية في وجوب مقاومة الاستبداد والظلم. والآثار والأحاديث التي تبرر أو تأمر بالصبر على الجور معارضة بما هو أقوى منها، وللمحدثين والأصوليين، كلام قواعد تبين ذلك في مسألة العلل ونقد المتن أو التعارض و الترجيح، فأدلة الصبر على الجورغير قطعية، لأنها معارضة بما هو أقوى منها وأصرح، غير صريحة أو مرجوحة أو غير صحيحة.

وأغلبها أحاديث صريحة أولها بعض الفقهاء الغافلين –في أزمنة الاضطرار-كحديث "إلا أن تروا كفرا بواحا"، فقد بين الفقهاء أن الكفر البواح، لا يقتصر على الكفر المعنى الحقيقي:الإلحاد، لأن كلمة الكفر تطلق في القرآن والسنة كثيرا، للتعبير عن كبار الفواحش، ولأن الشريعة تصف كل جريمة ذات خطر جسيم بالكفر، ولو لم تكن كفر إلحاد، كما قرر الأصوليون كالشاطبي في الموافقات.

بل إن المقصود الأساس بالكفر البواح-في الحديث- هو الإخلال بأركان إسلام الدولة، وقد صرح على أن المقصود بالكفر البواح الاستبداد والظلم؛ عدد من الفقهاء كالنووي، وقد شهدت على ذلك روايات الحديث الأخرى"إلا أن تروا معصية بواحا".

ومن أجل ذلك فإن الوصف بالكفر منطبق على كل إخلال كبير بأي ركن من أركان إسلام الدولة العشرة. كالاستبداد والظلم المقنن والتفريط بالهوية، وانتشار الزنا واللواط وشرب الخمور، وانتشار الفقر الذي يؤدي إلى اختلال المعايير.

و ليس الكفر خاصا بالأمور الروحية كترك الصلاة و الصوم.

وهم في الفقه السياسي ثلاثة تيارات:

التيار الأول الجهاد الحربي:القائلون بإلزام الحاكم شرطي البيعة:العدل والشورى، حتى لو لم يمكن إلزامه إلا بالسلاح، وهم أغلب السلف الأموي الصالح من شيوخ التابعين، فقد كان أكثرهم يقاومون الفساد السياسي، و لو عن طريق العنف، فشاركوا أو شجعوا في الثورات السبع، كثورة أهل الحرة، وثورة ابن الأشعث عندما ثار على الحجاج، كالحسن البصري وسعيد بن جبير والأعمش وزيد بن علي والنفس الزكية، وإبراهيم النخعي ومنهم الحسين وابن الزبير.

فالفقهاء الأمويين قاوموا الجور و الجبر، وآزروا عمر بن عبدالعزيز و عبدالله بن الزبير، اللذين أقرا الحرية و التعددية و العدالة و الشورية، وقد اتجه هذا الاتجاه قولا وعملا، عديد من رموز السلف الأموي والمخضرم الصالح ، كأبي حنيفة ومالك والشافعي، وصرح بذلك عديد من الفقهاء العباسيين كابن حزم وابن عطية وابن خويز منداد. وعلى تراثهم نشأت الوهابية، وحركات الإصلاح السياسي الإسلامية الحديثة.

ب- الصبر على الجائر ما أقام الصلاة:

هناك آخرون من السلف الأموي الصالح ركبوا مطية الاضطرار، فمهادنوا، كمحمد بن سيرين والأوزاعي وابن عون. هؤلاء ركزوا على جانب المهادنة السياسية، بعد أخفقت حركات الإصلاح السياسي، التي حملت السلاح،ورأوا طاعة الإمام المسلم الجائر، ما أقام الصلاة، الغزو معه براً كان أم فاجراً، وركزوا على الدعاء للسلطان بالصلاح، أو الدعاء على أمثال الحجاج بالهلاك. وحصروا جواز بحالة الكفر البواح، (التي حددوها بكفر الإلحاد )، بترك الصلاة، وقد أخطأوا خطأين:

الأول: أنهم اعتبروا تارك الصلاة تهاونا كافر، وليس لهم دليل قطعي على هذا القول.

الثاني: أنهم فرقوا بين ترك العدل والصلاة، ففرقوا بين ركني فسطاط الإسلام: وهما بمنزلة واحده. وعنونوا هذه التفرقة، من خلال أحاديث دست عليهم منها حديث: ما أقاموا فيكم الصلاة.

وقد استقر على هذا الرأي أغلب الفقهاء، في الدولة العباسية، لما سيطر عليهم الاحباط.

وكانت المطالبة بشرطي البيعة: العدل والشورى، لاتزال ماثلة،أوائل العصر العباسي، ولكن شعلتها تتضائل، فاشترك فيها الأئمة الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي، فانهزم التيار، واضطر من بعدهم إلى الاستسلام.

فظهر ذلك الاتجاه في جيل العصر العباسي الثاني، كالإمام أحمد بن حنبل والفضيل بن عياض وأيوب السختياني، وسفيان بن عيينة ثم شايعه المتأخرون كابن تيمية، و إنما استقر هذا الاتجاه؛ بسبب رسوخ الاستبداد،وغلبة سلطان الجور، واليأس من الخروج من الوقوع في مستنقع الفساد.بسببين:

-ترك الفقهاء تثمين إنكار المنكرات السلطانية سلما، مع أن الإسلام اعتبر ذلك خيرا من الجهاد الحربي وأفضل.

-غفلة الفقهاء عن آليات الجهاد السلمي الفعالة،-التي طورتها الشعوب الغربية وسائر شعوب العالم اليوم_ وتصورهم إن إصلاح الدولة لا يكون إلا بالخروج العسكري، و ترك الجماهير مبدأ التجمع والتعاون

وإلزام الحاكم بشرطي العدل والشورى-بصرف النظر عن الوسيلة-هو القول الصحيح، المتسق مع مقاصد الإسلام الكلية القطعية، والقول بأن الإسلام يأمر المسلمين بالصبر عن ظلم الحاكم مادام يقيم الصلاة؛ ليس مذهبا أصلا، بل هو من فقه الاضطرار.

ج- صور سلفية لإصلاح روحي ولإصلاح سياسي:

وهذا يذكرنا بأن السلفيات اجتهادات وتشكيلات شتى، فروعا ومذاهب وحركات وعلماء، أنتج عديدا من المذاهب كالحنابلة والأشاعرة والماتريدية وابن تيمية والوهابية، وهي جميعها تنتسب إلى السلف الراشدي (الصحابة والتابعين قبل الخلاف)، و لكنها لا تنفصل عن مكانها و زمانها في المعالجات و التطبيقات.وليست مرجعية، إنما هي محكومة بالمرجعية.

وهذا يشير إلى أن السلفية متفقة في منهج الاستدلال، ولكنها شتى الصياغات و المعالجات، و أهمها ثلاث مجموعات:

الأولى: السلفية الأموية

الثانية: السلفيات العباسية القديمة:

1- الحنبلية المتشددة: وهي الحنبلية في شقها الذي تبناه الخلال وعبد الله بن أحمد، وعلى تراثهم جاء ابن تيمية. و هم الكثرة: كعبدالله بن حنبل و الخلال، و البربهاري وابن بطة، و اللالكائي و الدارمي، و الجويني و ابن تيمية و ابن القيم.

2-الحنابلة المتسامحة: وهي الحنبلية في شقها الذي تبناه ابن الجوزي وابن عقيل، وابن هبيرة وابن مفلح.

2- الأشعرية في شقهم الذي بناه الأشعري واستقل باسم الأشاعرة، ومن رموزه الغزالي والعز بن عبد السلام والشاطبي.

3- المعتزلة المتأخرون المعتدلون، من من شاركوا السلفية هذه الأصول، كالزمخشري والقاضي عبد الجبار.

4-الوهابية، وهي مدرسة الإمام محمد بن عبدالوهاب، و هي من أقرب السلفيات إلى الروح العملية، والبعد عن التقعر اللفظي، لكنها عنيت بالتوازن بين إقام العدل وإقام الصلاة، وإن اكتسبت من الصحراء بعض قساوتها وتشددها، فلم تثمن قضية الحرية، وشروط ارتقاء الأمة المتحضرة..

الثالثة: السلفيات السياسية:

وعلى المنهج نفسه؛ اعتمدت السلفيات السياسية ، عند محمد عبده، ومحمد رشيد رضا، ثم حسن البنا وحركة الإخوان المسلمين، ولعل أبرز من اهتم بإشكال الاستبداد ومحاولة جوابه فارسان:الكواكبي وخير الدين التونسي.

وجاءت اتجاهات السلفية حسب احتياجات المجتمعات، وذهنيات الأشخاص، والجغرافيا والمناخ الاجتماعي. فكانت حركة إصلاح للتفكير: عند أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن تيمية. وحركة رفض للدخيل عند أحمد بن حنبل. وحركة نقض للفلسفة اليونانية عند الغزالي. وحركة هدم لخرفات الاعتقاد بالأموات عند ابن تيمية، وحركة تأصيل للفكر الاجتماعي عند ابن خلدون. وحركة بناء لمقاصد الشريعة الكلية القطعية عند الشاطبي في الموافقات، وعند الدهلوي في كتابه "حجة الله البالغة". وحركات تنوير وتحرير للهوية من الجمود والتغريب؛ عند محمد عبده ومحمد رشيد رضا والمودودي والكواكبي وحسن البنا وسيد قطب.

وحركة استقلال سياسي للهوية عند محمد بن عبدالوهاب وعبد القادر الجزائري، وابن باديس، وحركة وعلال الفاسي، و هي حركة دعوة إلى قيم المجتمع المدني، و تجمعاته الأهلية، وضمانات الحكم العادل، والمطالبة بالدستور، في اتجاهات بدأت منذ الكواكبي وخير الدين التونسي والأفغاني وغيرهم، ثم تنامت عند حروب الخليج، منذ مطلع القرن الخامس عشر الهجري، عندما بدأت تتساقط الأقنعة القومية والاشتراكية والإسلامية والوطنية، عن وجه الدولة العربية القمعية.





4=الفرز بين ثلاثة متشابهات: نص و تطبيق راشدي هما المقياس

وصور أشتات

أ- : المقياس السلفي نص لا ينحصر تجسيده بمذهب محدد متقدم أو متأخر:

هناك خلط شائع بين الاتجاه السلفي والفرق السلفية، عند كثير من المنتسبين إليها المقلدين:أشاعرة وتيمية ووهابية.فقد ظنوا السلفية فرقة معينة، أو مذهبا محددا تم بناؤه في العصر العباسي، وتوهموا أنه يحتوى على منظومة من الأفكار المتسقة المتكاملة، في العقيدة والمعرفة والتربية والسياسة، وفي أصول الفقه.

وسعوا إلى إعادة إنتاجه في كل عصر ومصر،فقرروا في جامعاتهم ومدارسهم أمثال كتاب الطحاوية وشرحها والتدمرية والواسطية، وروضة الناظر، واحتكروا به مفهوم السنة والجماعة والاستقامة والفرقة الناجية، فضلا عن مفهوم السلفية، ورموا من خالفهم بالابتداع أو الكفر، أو فساد العقيدة.

ولم ينتبهوا إلى أن الفرق السلفية العباسية وما بعدها خلطات تجميعية منتقاة، ومعالجات وصياغات، راعت معطيات وتحديات ومناخات خاصة ببيئاتها، توصف بالسلفية، ولكنها ليس مرجعية تحتكر المفهوم بمعالجاتها، فقد دخلت فيها مؤثرات الخلفية الاجتماعية والسياسية والأمزجة الشخصية، والفرق السلفية العباسية؛ يصدق عليها قول البوطي- "تم تجميعها من التراث الإسلامي، ولم يجر هذا التجمع بناء على فحص عملي" (السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب:235). ولذلك أنكر البوطي على من أرادوا حصر الإسلام بالصياغات السلفية العباسية ، واعتبارها مذاهب، تتجاوز عصرها، لأنها خلطات إصلاح وعلاج، ناسبت ما في تلك البيئات من أمراض أواحتياج، وليس ذلك سمت المذهب.

فالواقع التاريخي يبين أن الفرق السلفية العباسية ، لم تكن لأي واحدة منها خلطة منسجمة، كما هو الحال في المذاهب الفقهية الأربعة السنية والمذهب الشيعي الإمامي، لكي يصح إطلاق كلمة المذهب عليها، إلا أن بعض المنتجين مذاهب منها، حاولوا أن يحتكروا الاتجاه السلفي، في قالب مذهبهم المحدد، ولكن المشكلة التي واجهت كل فريق، أنه استدعى كل الرموز من أبي بكر حتى أحمد بن حنبل وابن تيمية، فنحلهم تصوراته، وبنى من شواردهم مذهبا محددا، احتكر به المفهوم، واستبعد الخصوم.

ومن المغالطة أن يحدد محافظ على الصياغة العباسية اليوم، مفهوم السلفية، بمذهب الأشاعرة دون مذهب الحنابلة، أو بمذهب ابن تيمية دون مذهب الغزالي، فكلا الطائفتين سلفية، و لكل منهما اتجاهات في التطبيقات و التفريعات لا تنزع منها الانتماء إلى سلف المصباح، ولكل منهما معالجات وصياغات نسبية وأخطاء في التطبيقات و التفريعات، ولا سيما في شق العقيدة المدني.

لا ينبغي أن نتورط في أفخاخ هذه الدعاوي، التي شاعت في عصورنا القديمة والحديثة، التي تحصر كل منها السلفية في اتجاهها، فالسلفي هو كل ملتزم بأن يستضيء بمصباح الكتاب والسنة أصولا، ويجعل التطبيق النبوي والراشدي وحقائق علوم الإنسان والطبيعة، نظارة يرى من خلالها المصباح. سواء أكان عبدليا(نسبة إلى عبد الله بن أحمد) أم أشعريا أم تيميا، وهابيا أم إخوانيا أو حنفيا أومعتزليا (معتدلا) أو زيديا.أم من دعاة الصحوة السلفية المدنية اليوم.

ب-السلفيات العباسية صورا وليست لا أصلا ولا مقياسا ولا مرجعية:

ويلزم من حصرها في مذهب تاريخي محدد، وأن تكون أفعال الرعيل السلفي العباسي الصالح ومعالجاتهم صوابا مطلقا، وأن تكون تجسيدا تاما للنص، وأن لا توجد كواكب أخرى تدور حول القطب في أزمنة وأمكنة أخرى

بل ولا يصح حصرها في قالب مذهب تاريخي محدد؛ لأنه ليست لأي سلفية عباسية أو مملوكية أو عثماني؛ منظومة سياسية أو اجتماعية أو قانونية حقوقية أو تربوية أو معرفية.أو مشروع محدد، تجاه القضايا الأساسية في حياة الأمة.

ولم تقدم أي منها مشروعا إسلاميا يوازن في العقيدة، بين عمودي فسطاط الإسلام: الصلاة والعدل، وينبثق من كون الإسلام نظاما، لا ينفك الارتباط بين أركانه العظام، وينبه الغافلين إلى أن سبب كل بلايا الأمة، وسقوط الفسطاط هوالتهوين من قدر عمود العدل، خوفا من انهيار عمود الصلاة.

من أجل ذلك لم تستطع كل الفرق السلفية أن تقدم مشروعا إصلاحيا، ذا فكر ذي نظريات متسقة، لا في السياسة ولا في التربية ولا في المنطق والفلسفة، ولا في نظرية المعرفة، كما يقول طه عبدالرحمن "لم يصلنا عن السلفيين أنهم صاغوا أفكارهم في أنساق منظمة وتامة، على طريقة أصحاب المذاهب، وإنما اقتصروا على ضرورة التمسك بالنصوص الأصلية"... فهي طريقة أو أسلوب يدعو إلى استنطاق النصوص الأصلية لمعالجة الأوضاع المتردية للمجتمع" (العمل الديني وتجديد العقل:115- عن الزنيدي:89).

وفي المعنى نفسه يقول سعيد بن سعيد "" السلفية بصفة عامة لا تشكل نظرية مكتملة، بقدر ما تشكل طريقة طرح أو تناول "" (دراسات مغربية:189- عن الزنيدي:90).

يصعب حصر أن تكون أي من السلفيات العباسية، مذهبا محتذى لأنها تفتقر إلى فكر اقتصادي وسياسي واجتماعي، فضلا عن النظريات والآليات والبرامج، بل لايمكن التعويل على السلفية؛إلا إذا حصرنا الإسلام بشق العقيدة الروحي و الغيبي، وهمشنا شقها المدني، تربويا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا.

لم تكن السلفيات مذهبا-عند روادها-، وإنما كانت حركات تجديد وتحرير، وجهاد واجتهاد، كما قال سعيد بن سعيد تهدف ""إلى تقوية روح المبادرة، وتحرير طاقات الفرد والجماعات، من كل تواكل وخنوع"" (دراسات مغربية: 189/ عن الزنيدي).

أو كما عبر عزيز الحبابي كانت كفاحا من أجل فتح باب الاجتهاد، وإنقاذا للمسلم من روح القطيع (الشخصانية:124/ عن الزنيدي).هذا المعنى لم ينتبه إليه كثير من المحافظين على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والثقافة، لأنهم لم يثمنوا أن السلفية أسلوب ومنهج، وليست مذهبا، وأن ما أنتجه الرواد والمجددون؛ كان خلطات إصلاح، متأثرة بالمعطيات والأمراض الشائعة في زمنها.

ولم يلاحظوا أن خلطة التجديد إلتجديد إذا استعملت في ظروف مغايرة؛ صارت تقليدا عاجزا، كما بينت في مقالة التجديد والتقليد التالية.



ج-اللبس بين المقياس السلفي: النص و الصور السلفية

ولكن مفهوم (السلفية) أيضا محصورا في فرقة عباسية،كانت فبادت، كما زعم البوطي في كتابه"السلفية حركة مباركة".

فاعتبار السلفية حركة بائدة، لبس وقع فيه كثير من الفضلاء نتيجة خلط بين ثلاثة أمور :الفرق السلفية، والمنهج السلفي.

الأول: المقياس السلفي: النص وهي إعلان سلطة النص، والتمسك بالالتزام برؤية مصباح الكتاب والسنة في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، فهو الالتزام بالنصوص الشرعية وتقديمها على غيرها،

الثاني:الأصل المحتذى هو التطبيق النبوي والراشدي والحذر من إخضاعه للمؤثرات التي حدثت بعد الخلافة الراشدة، والالتزام بهدى الرسول وإجماع الصحابة علما وعملا، بصرف النظر عن مدى دقة هذا الالتزام.

-الثالث: الصور السلفية صياغات وحركات ومذاهب وفرقا ، وهي كواكب سلفية دوارة، تتجدد معالجاتها وتتغير، وتركز في كل عصر خلطة علاج، حسب ما في البيئة من أمراض، حسب المعطيات والتحديات والمناخات، فإن كان الإخلال يترك شيء من منظومة الصلاة، كاطواف حول أموات أرباب، ركزت علاجه، وإن كان بشيء من منظومة العدل كالبطواف حول رؤساء أو علماء أرباب، ولكل مرض علاج، ولكل مقصد منهاج، وبما أنها خلطات علاجية؛ كان من الطبيعي أن تبرز السلفيات بعض العناصر على بعض، وأن لا تخلو من انتقاء انتقاء النصوص التي تعضد اتجاها محددا، عند تركيب عناصر الدواء.

فالمذاهب والصياغات والحركات والفرق، إنما هي خلطات وطبخات منتقاة، تتكون منها اتجاهات ومعالجات وصياغات أشتات، حسب المعطيات والتحديات. لمعالجة في بيئة من البيئات

والسلفيات أموية وعباسية ومملوكية وعثمانية، إذن بنات علات:قبلتها قطب واحد، هو مصباح النص في الزجاجة والمشكاة.



5= السلفية ليست صورة عباسية محددة

بل مسطرة وتطبيق راشدي لإنتاج تيارات إسلامية بلا تعصب لمذهبية

أ-معالم نجمة القطب والبوصلة:

معيار السلفية هو القول بمرجعية نص القرآن والسنة، مجردا من كل التطبيقات والتفسيرات غير النبوية والراشدية وغير المعرفية، فهي بوصلة مرنة تجمع بين أمرين:

قدر مناسب من الضوابط، يمنع تحريف المبادئ وكليات الشريعة ومقاصدها وروحها، يمن من أن يكون نص القرآن والسنة نصا مفتوحا، لكل مؤول أو محرف، وحمال أوجه، لأن تحديد رؤية المصباح بالزجاجة والمشكاة، يمنع من أن يكون النص مفتوحا لمعالجات شتى، بلا معالم.

المرونة في إنتاج حركات وصياغات آنية ووقتية، تعالج مشكلات أو تحديات أو أخطاء شائعة، في بلد من البلدان، سواء أكانت في شق التوحيد الروحي كالطواف حول القبور، والاستغاثة بالأموات، وبدع الغلو في الدعاء. أو في شق العقيدة المدني، كالتفريط بالأخلاق والتربية، والهوية، والظلم والاستبداد

وضابط أن يلتزم بأن لا يفهم القرآن والسنة، إلا حسب فهم الصحابة، أي حسب أصول فهم الكلام العربي، أي على معهود العرب في أساليبها، وما فيها من خاص يراد به العام، وظاهر يراد به الظاهر، وحقيقة يراد بها المجاز، ومطلق يرد إلى المقيد، وعام يرد إلى الخاص كما قرر الشافعي في الرسالة، والشاطبي في الموافقات،

وكان للسلف العباسي الصالح، من رواد السلفية العباسية‘ فضل كبير في كشف معالم أصول فقه الكتاب والسنة، كما بدأ أبو حنيفة وتلميذه محمد بن الحسن، ثم بلور الشافعي ودون، وهذا ثاني عمل في الأهمية قام به السلف العباسي الصالح بعد الجمع.

وكان ذلك أساسا لتفسير القرآن وشرح الحديث وبناء فقه الفروع والأصول.

و أصول الفقه التي دونوا صالحة صلبة كالمسطرة-في الجملة-منها ما هو قطعي يجب الاعتماد عليه، أو ظني ليس فيه خلاف معتبر ينبغي الاطمئنان إليه، وفيها ما هو مجال خلاف، ولاسيما في شق شئون الحياة. ولكن هذا وذاك لا ينال من سلامة التأسيس في الجملة.

وهذا يدعونا إلى أن نفرز الإنتاج السلفي العباسي، في أصول فقه الكتاب والسنة، إلى ما هو من القطعيات، أو شبه القطعيات وما هو من الاجتهادات الظنية التي ليس فيها خلاف معتبر، أو ليس لها معارض أقوى، من أجل ضمان اعتماد منهج صلب صارم، وتجنب التعصب للتمذهب، والابتداع في الدين، والتقليد.

فإن كان من القطعيات أو شبهها، فهو من الأصول السلفية كالقول بأن غرض الشارع تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، وإن كان ظنيا لايسلم من معارض، كقول أكثر علماء أصول الفقه:العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكالقول بالمصالح المرسلة. فهو رأي يحتمل الصواب والخطأ، وهو من الاجتهادات التي يجوز فيها الخلاف، مالم تخالف حقائق الحياة سواءا عدوه في الفروع، أو الأصول. وكل قاعدة تعد من أصول فقه الكتاب و السنة، أو مقاصد الشريعة أوكلياتها، يجب أن تكون قطعية،أو شبه قطعية، كما دلل الشاطبي، لكي لا فكيف نقيس بمقياس غير منضبط، وقد أدرج الأصوليون ظنيات كثيرة، في المفهوم السلفي، وقد ذكرت نماذج في كتابي(العديلين والجناحين).

أ-الفرق بين السلفيين وغيرهم:

السلفية مسطرة بلورها السلفيون العباسيون ، (بصرف النظر عن ما أنتجوه من أفكار ومواقف) فمن لا يجعل ثلاثية المصباح والزجاجة والمشكاة في فقه الكتاب و السنة، له بوصلة، سيبدو القرآن و السنة نصين مفتوحين لكل تأويل، لأن رفض البوصلة التي بلوروها السلف العباسي الصالح، رفض للأصول العربية، لفقه القرآن والسنة، إنه يعني أن نقرأ القرآن والسنة قراءة فوضوية.

وعلى هذا فإن أروع وأكبر ما في السلفيات العباسية؛ أنها حفظت (المصباح) فدونت المصادر، وجلت (الزجاجة)، بينت المغازي والتاريخ، وضعته في (المشكاة)، فحددت بذلك قواعد فقه الكتاب والسنة.

وعندما يدعي أحدنا أن مرجعيته الكتاب والسنة، يدخل في هذه الدعوى كل أهل القبلة من شيعة وسنة وخوارج وصوفية.

وعندما تحدد السنة بمجاميع صحاح الحديث الستة، من خلال مشكاة النبوة والعهد الراشدي، تخرج بعض الفرق الأخرى التي لم لا تؤمن بحجية الحديث الصريح الصحيح، و أو لم تؤمن بمشكاة بعض فترات العهد الراشدي كغلاة المعتزلة كالشيعة(الإمامية) التي لا تحتج إلا بفترة علي بن أبي طالب، والخوارج التي لا تحتج بفترة عثمان وعلي.

وعندما نشير إلى العهد الراشدي، "ما أنا عليه وأصحابي"، و"سنة الخلفاء الراسشدين"نركز على أركان إقامة الدولة المسلمة العشرة، وندين كل روح رهبنة أو فرعنة فرقت بين إقام العدل وإقام الصلاة.

بهذا القيد يخرج ما داخل فقه القرآن، من ابتسار صحراوي دون روح مدنية وقع فيه الخوارج فيخرج –بهذا القيد-فهم الخوارج الصحراوي ، وعندما ننص على تطبيق العهد الراشدي، يخرج بهذا القيد الفقه الشيعي(الإمامي) أصولاً.

وعندما ينص على أن فقه الكتاب والسنة، يكون حسب فهم الصحابة يعني ذلك فهم الكلام العربي، حسب أصول اللغة العربية نحواً وتركيبا ودلالة وبلاغة، و فهم القرآن الكريم، حسب دلالات الكلام العربي الشائع،(كما شرح الشاطبي في الموافقات)، تخرج بذلك كل سفسطة وتقعر وتفيهق، كفهم الصوفية ومتطرفي المعتزلة، ومنكري المجاز.

وعندما يضبط تفسير القرآن بحقائق علوم الإنسان والطبيعة، يخرج الفلاسفة القائلون بظاهر للنص وباطن. فالتفيهق وتحويل القرآن إلى نص رمزي مفتوح، ليست له دلالات محددة ؛ إنما هو انحراف صوفي.

و مثله الفهم الباطني عند الصوفية والفلاسفة التجريديين. و صرف الكلام عن ظاهره دون ضرورة، والفهم الذي يقدم الهوى والتخرصات والظنون، ثم يسميها بـ(العقل)، ثم يقدمها -باسم العقل- على الشرع، فيصل إلى تأويل فاسد بعيد عند غلاة المعتزلة، وعند بعض العلمانيين اليوم.

السلفية إذن هي البوصلة المأمونة للوصول إلى الإسلام الصافي فمن قدم أفكارا ناقصة أو كديرة، أو مخلة بتوازن الشق الروحي والمدني من العقيدة؛ فإنه مجتهد مأجور، ولكنه ليس قدوة، منسوب إلى كواكب سلفية دوارة؛ في سماء عباسية أو مملوكية أو عثمانية، ولكن قيمة اجتهاداته، محكومة بسلفية مصباح والمشكاة.

ج-خطأ الذين حصروا المفهوم في صور عباسية:

والسلف هم الذين الصحابة السابقون الذين استضاءوا بالمصباح وهو في الزجاجة والزجاجة في مشكاة، وهم نجمة القطب الذي عليه المدار، وكل سلفي بعدهم فإنما هو كوكب دوار.

والسلفيات العباسية إنما هي حركات وصياغات ومعالجات حددتها المعطيات و المشكلات، أغلبها معالجات خاصة بعصورها، و أنها على مالها من فضل ظاهر، لا تصلح قدوة لغيرها إلا في الروح و منهج المعالجة،والتمسك ببوصلة سلفية المصباح والمشكاة، لا المعالجات والصياغات نفسها. لأن احتذاء سلفية المصباح والمشكاة؛ أنتج أفكارا ومعالجات متباينة و متداخلة وحركات متعددة متشابهة و غير متشابهة.

وتلك السلفيات العباسية صياغات وخلطات، لمعالجة لإشكالات كانت فزالت، ومحاولة إحياء الصيغ العباسية للسلفية _وغيرها_ إنما هي محاولة لإلغاء مؤثرات الزمان والمكان، وتعميم لنموذج فكري واحد، بزعم أنه نموذج مجتمع السلف الراشدي الصالح، ووقوف بالزمن المتغير، دمج للوسائل والصياغات والمعالجات، وهي من المتغيرات في المبادئ والأصول الثوابت.

لعل البوطي لم يفرق بين السلفية اتجاها، يحتذي النص في الزجاجة والمشكاة، والصياغات السلفية العباسية، التي تشكلت منها مذاهب. ولعله عندما قال (كما السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب:235)، لم يقصد أن السلفية العباسية؛ ليست مذهبا محددا، إذ لا شك في أن السلفيات العباسية والمملوكية والعثمانية؛ صاغت من الاتجاه السلفي مذاهب، كالأشعرية والتيمية والوهابية. )، وأحسبه أراد التذكير بأن الفرق السلفية العباسية خلطات إصلاح وعلاج، لعلها ناسبت ما في تلك البيئات من أمراض أواحتياج، وأراد تشديد الإنكار من أرادوها مذهبا محددا، لكل عصر ومصر، مهما اختلفت الأمراض والتحديات والمعطيات.

ولكنه قصد أن المذاهب السلفيات العباسية؛ ليست مذهبا صالحا لكل زمان ومكان، فركز القول على نفي كونها مرجعية، مبينا أنها تاريخية، وأن الاتجاه السلفي ليس محصورا بصياغاتها وحركاتها التاريخية، لأن الاتجاه يطلق على كل مذهب متقدم أو متأخر؛ يستضيء بمصباح الكتاب والسنة، ويجعل من التطبيق النبوي والراشدي وحقائق علوم الإنسان والطبيعة، نظارة يرى من خلالها المصباح، ولو أخطأ في بعض الاجتهادات والممارسات.







ب-خمس لوحات سلفية:

6=الفرق بين الأصل والصور

أ= كل سلفية لا توائم بين الإصلاح الروحي والسياسي فإنما هي صورة باهتة أو مختلة



وحديث جحر الضب يبرهن على ثنائية المقياس السلفي:

ومهما ران على مفهوم السلف الصالح وأهل السنة والجماعة،من الغيوم، فإنه ليس طلسما في رقيم مختوم، لا يدركه إلا متخصص كبير، بل هو معلوم للخصوص وللعموم، لمن عزم على الاستضاءة بالمصباح، وحرر نفسه من الهوى، والآراء الشائعة، فالتوحيد توأم يتكون من شقين:شق روحي وشق مدني سياسي. فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم من أن الإخلال بالعقيدة نوعان:

الأول: انحراف سياسي مدني كما في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قلنا يا رسول الله. فارس والروم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن؟" رواه البخاري.

الثاني: انحراف روحي كما في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه "لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قلنا يا رسول الله. فارس والروم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن؟" رواه مسلم (قال الحافظ ابن حجر "حيث قال (فارس الروم) كان هناك قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية، وحيث قال (اليهود والنصارى) كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات أصولها وفروعها".

والانحراف السياسي مخل بالعقيدة أخطر من الانحراف الروحي، ولذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن ضلال الأمة عن عقيدتها يبدأ سياسيا وينتهي روحيا، كما في الحديث الشريف "أول ما تفقدون من دينكم الحكم، وآخر ما تفقدون منه الصلاة".

وفي هذا تذكير لمن أخلوا بسلم الأولويات، ومبدأ التوازن في العقيدة.

ومادام شعار السلفية هي أن يرى مصباح القرآن والسنة في مشكاة التطبيق النبوي والراشدي وحقائق علوم الإنسان والطبيعة، -إذن-السلف القدوة، هم صحابة العهد النبوي والراشدي". الذين وازنوا بين إقامة العدل وإقام الصلاة، فلم يغرقوا في الغيبيات، وشغلهم العمل عن الإغراق في الجدل، وقاوموا جور الحاكم واستبداده .

فلا يكون الإنسان سلفيا حتى يكون آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، حرا ينادي بالعدل والشورى. وهذا المعيار ينبه إلى أهمية إعادة تصحيح كل حديث أو أثر يصرح بتهوين العدل في الحكم، أو يشرع الصبر على الجور،أويقول بتقبل ظلم الحاكم مادام يقيم الصلاة، ويدوس العدالة محور أركان إقامة الدولة المسلمة العشرة.

إن كل مسلم يعد سلفيا، أي مسلما غير مبتدع و أصوليا،مادام ملتزما بأن يستضيء بمصباح الكتاب والسنة أصولا، ويجعل التطبيق النبوي والراشدي وحقائق علوم الإنسان والطبيعة، نظارة يرى من خلالها المصباح، أما أن يشترط أحد نظارة أموية أو عباسية أو مملوكية أو عثمانية لرؤية المصباح، فذلك قول من غير دليل.

إن ميزة الزجاجة في مشكاة؛ أن لايتبع المتشابه والأحاديث والآراء والمواقف الضعيفة، المخلة بأي ركن من أركان الإسلام روحية ومدنية معا.

وأن لا يتشبث بالنص المتشابه أو الضعيف المنقول، الذي يناقض حقائق علوم الإنسان والطبيعة، التي أدركتها العقول، كما بين ابن تيمية،في العقل والنقل، هذا ما أعلنه الرعيل السلفي العباسي الصالح، أصلاً لفقه الكتاب والسنة، بصرف النظر عن مدى التزام فكرهم ومواقفهم بما أعلنوه.

فالسلفية مسطرة وتطبيق راشدي أنتجا منهج استدلال موحد المقاصد متجدد الوسائل، ينطلق من أن التوحيد فسطاط ذو عمودين :

-سمو روحي عموده الصلاة

- وسمو مدني،عموده العدل.

ب-صور شتى حسب المعطيات والتحديات:

وفي العصور المواضي أموية وعباسية ومملوكية وعثمانية قام على المنهج السلفي سلفيات، قدمت صياغات فكرية عامة، نشأت عليها حركات إصلاحية، ولبيان مرونة المنهج السلفي، وكونه إطارا يسمح بتجديد أصيل يجمع بين الحفاظ على الثوابت القطعية، والتجديد في الوسائل والصياغة والفروع والحركة والتطبيق. والفروع على المنهج الأصول، والتجديد في ؛ لعل من المناسب أن نتعرف على نماذج من هذه السلفيات المجددة خلال العصور ثلاثة من أئمة السفليات الماضية لنؤكد أمورا:

أولها:أن السلفية منهج وأسلوب وليست مذهبا محددا في زمن أموي أو عباسي أو مملوكي أو عثماني.

ثانيها: أن كل سلفية فإنماهي تجديد آني، يشكل خلطة دواء، تركز على وباء ما، في زمانها ومكانها، وإن كان فيها طبخة غذاء، تعيد توازن عناصر الغذاء.وكل سلفية إنما تستنبط من صيدلية القرآن والسنة، خلطة مناسبة توازن بين السموين، وترتب الأولويات، حسب التحدي الماثل.

ثالثها: لن نرفع شعار كف علم السياسة والنقد عن ماشجر بين السلفيات، فمقاربة التقييم تهدف إلى الاعتبار بالماضي، لا إلى التعصب لأحد ولا على أحد ولا للبحث العلمي المجرد من الهدف المحدد: استفادة الأبناء من آبائهم، مع تنبههم لما في الماضي من عبر.

إن في كل حركة سلفية جوانب صواب كبير، ينبغي أن يستفيد منه الناس، ولكنها لاتخلو من أخطاء، ينبغي أن يتجنبه دعاة الإصلاح،

والسلفيات إنماهي خلطات أدوية وطبخات أغذية، فمن وازن بين عناصر الغذاء، وأحسن تركيب الدواء، فالصحة تاج يرى على رءوس الأصحاء.

ولكن صواب المجتهد على بصيرة أكثر من خطئه إن شاء الله،ومن لم يوازن فقد قام بمحاولة مشكورة، لها نبل الغاية والاجتهاد والجهاد، ولكنها قصرت عن الغاية، وكفى بالمحاولة شرفا:

وعلي أن أسعى وليس علي إدراك النجاح.

والتطبيقات والتنظيرات ليست وحيا معصوما لاخطأ فيه، بل لا يبرأ من الخطأ أي ساع، وروح النقد والاجتهاد في المنهج السلفي؛ تصد عنه عوادي التكلس والتقليد، وبذلك صار اليوم قادرا على إنتاج علاج لأمراضنا الحاضرة.

من أجل ذلك سنذكر خمس لوحات من المصلحين بعد السلف الراشدي الصالح:

اللوحة الأولى: فقهاء الصحابة والتابعين الذين جاهدوا الاستبداد والظلم في العصر الأموي.

واللوحة الثانية: . أحمد بن حنبل

واللوحة الثالثة: ابن تيمية..

واللوحة الرابعة: محمد بن عبد الوهاب

اللوحة الخامسة: نموذج من السلفيات المتوازنة(في عصر الهيمنة الأوربية والأمريكية) التي عنيت بصياغة العقيدة صياغة متوازنة، وراعت أولوية التصدي للإمبريالية الغربية.

هذه الدعوات والحركات عينات نموذجية لمصلحين كثير، في أصقاع البلدان الإسلامية في العصر القديم والحديث، من الشخصيات والحركات التي طرحت فكراً أو فعلاً إسلامياً، ثمن شروط البيعة الشرعية على الكتاب والسنة: العدل والشورى.

ولعل البحث من خلالها يفرق بين المنهج السلفي الذي النص وكيفية فهمه : المصباح في زجاجة ومشكاة، وهو القطب الذي عليه المدار وبين التطبيقات والحركات والصياغات في السلفيات التوابع، التي هي محاولة استلهام للمنهج من جديد، من أجل تركيب أدوية لما ألم بالناس من أمراض جديدة.





7= السلفية الأموية واجهت المافيا السياسية:

أ-الإصلاح السياسي أساسي في المفهوم السلفي :

أبرزت السلفية الأموية أركان إسلام الدولة العشرة، ونادت بمعالم العقيدة السياسية ومبادئ السياسة الشرعية، منها:

الأولى: ينبغي إلزام الحاكم بالعدل في قسمة المال وتولية الولاة، ولوازمه كالمساواة والكرامة، ونحوهما من القيم الداخلة في مصطلح (العدل) في القرآن.

الثانية:ينبغي إلزام الحاكم بالشورى، لأن الحاكم وكيل عن الأمة في تنفيذ مصالحها الشرعية، وليس وكيلا عليها. ولذلك يجب على أعيان الأمة قيادة الأمة، لأطره على مشاورتها، بصدوره عن تدبير أهل الرأي والعقل، المفوضين من قبل الأمة، ليصبحوا هم أهل العقد والحل.

الثالثة: التعددية وحرية الرأي والتعبير والاجتماع والتجمع السامية، كما جسدها تعامل الخليفتين الراشدين:عبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز، اللذين جريا على تطبيق علي بن أبي طالب.

الرابعة: قيام الأمة بالجهاد السياسي، الذي هو مقتضى التواصي بالحق والتعاون على البر والتقوى، و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، روحيا ومدنيا، سياسيا واجتماعيا.

وأن هذه الأمور من ما ينبغي الزام الحاكم بها، لأنها هي مقتضى البيعة على الكتاب والسنة.

فحركات الفقهاء الأمويين تذكرت الغافلين المحافظين على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، بأصول السياسة الشرعية.

وترفع أصابع التساؤلات التالية، على مدونات العقيدة التي سادت في عصور الاستبداد، ككتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وكتاب السنة للخلال وكتاب السنة للبربهاري، والعقيدة الطحاوية وشرحها لابن أبي العز ، ونحوها من متون العقيدة التي يدرس في الأزهر بمصر وفي كليات الشريعة السعودية:

1- أليست العدالة من أركان العقيدة ؟.

2- أليس حفظ مال الأمة من أركان العقيدة .

3- أليست الشورى من أركان العقيدة؟.

4- أليست الحرية السامية والتعددية فكرية واجتماعية وثقافية من أركان العقيدة؟ وشيوخ السلفية الأموية أكثر الفقهاء انفتاحا في مسألة الحرية الفكرية والسياسية، وأنه لا يجوز لسلطان ولا لفقيه أن يلزم الناس برأيه، وأن مسألة الحرية والعدل والشورى من أصول العقيدة.

6-أليس بناء الدولة المذهبية القمعية، من هوادم العقيدة؟

7-أليس حفظ حقوق الأقليات غير المسلمة أليست من مسلمات العقيدة وأركانها؟.

8- مشروعية جهاد الطغيان السياسي عامة والسلمي خاصة، وكون إنكار المنكرات السلطانية، من أصول العقيدة.

هذه المسائل السبع أجمع عليها عموم الفقهاء الأمويون، ولم يخالفهم صراحة أحد من الفقهاء العباسيين اللاحقين، لأن هذه المسائل قطعية، ولكن من خالفوهم لم يصرحوا بذلك.

أليست هذه الأركان، هي مقتضى شروط البيعة الشرعية، على الكتاب والسنة.

التذكير بذلك ضروري لكي لا تنحصر أصول العقيدة، بمدونات عباسية، لم تثمن شروط إسلام الدولة والمجتمع العشرة، ككتاب السنة للإمام البربهاري والطحاوية للطحاوي وشرحها لابن أبي العز، والسؤال الفاغر فاه، أمام المحافظين اليوم على الصياغة العباسية في عهد الإمبريالية الغربية:ألا تدخل شروط إقامة دولة العدل والشورى، في قطعيات العقيدة؟:

فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم



ب-حرية الرأي والتعبير في مواقف وكلمات الفقهاء الأمويين:

جسد عمر بن عبد العزيز اعتراف الدولة المسلمة؛ بحرية الرأي والتعبير، فكتب عمر بن عبد العزيز بالكف عن الخوارج ونحوهم، ما لم يسفكوا دماً حراماً، أو يأخذوا مالاً، وكذلك تعامله مع الشيعة، ومن أجل ذلك تذكره الشريف الرضي، بعد بضعة قرون، وهو يعاني قمع بني العباس الشيعة، على صمت من بعض المحسوبين على السلفية أو تأييد:

يابن عبد العزيز لو بكت العيــــــن فتى من أمية لبكيتك

أنت حررتنا من الأسر والقتـــل فنعم البيوت في الناس بيتك

وأنصف القدرية والمعتزلة، ولم يعتبر بدع أهل القبلة مخلة بالعدالة، بل ولى بعض المبتدعة، كغيلان الدمشقي في أعمال الدولة.

قارن إقرار هذا الملك العادل، بصنيع ملوك بني أمية كهشام بن عبد الملك الطاغية، وولاته الطغاة الذين حاوروا أهل البدع بالسلاح، كخالد القسري الذي (ضحى!) يالجعد بن درهم، منتضيا سيف الدفاع عن السنة، وقانون قتل دعاة البدع، وغفلة بعض رموز السلفية العباسية الذين أيدوه عن كواليس السياسة، وقارن موقفهم بموقف البخاري ومسلم ورواة صحاح الحديث، الذين رووا الحديث عن دعاة البدع!

ومنهم الحسن البصري الفقيه المجاهد بحمل السلاح في ثورة ابن الأشعث، والمجاهد السلمي بقول كلمة الحق والعدل أمام السلطان الجائر، الذي قرر-أيضا- قاعدة أن لا يؤخذ الناس بآرائهم مهما تطرفت، ما لم تتحول إلى حمل السلاح فقال عندما سئل عن من يرى رأي الخوارج ولم يخرج، فقال "العمل أملك بالناس من الرأي".

ومنهم الإمام التقي العادل الشهيد الصابر عبدالله بن الزبير، الذي صلت جميع الطوائف خلفه، لعدله وإنصافه وتسامحه.

ومن ذلك نعرف أن كل من سكت راضيا عن منكرات السلاطين الكبرى كالاستبداد والظلم وانتهاك حرية الرأي والتعبير والتعددية السامية. ففي إيمانه شك، لأن "الإيمان يهتف بالعمل فإن وجده وإن لا ارتحل" كما قال الحسن البصري فضلا عن ينظر في أمره أهو سلفي أم غير سلفي.تطبيق عموم الفقهاء الأمويين، بين أن الإصلاح السياسي من أعظم معالم المنهج السلفي.



ج-قررت حمل السلاح عندما رأت الكفر البواح:

السلف الأموي والعباسي الصالح رضي الله عنا وعنهم، لم يختلفوا في وجوب الإصلاح السياسي، أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وأنه مبدأ قطعي وركن من أركان الإسلام العظام، لاسيما أن إنكار منكرات السلطان الظاهرة. ولم تكن مذاهبهم أقولا محبرة في أوراق، ولا همسات يلقونها في رواق، بل مواقف ولوحات بارزات،(انظر طرفا منها للشهيد عبد العزيز البدري:مواقف العلماء أمام الحكام)

لم يختلفوا في المبدأ:إلزام الحاكم بشرطي البيعة على الكتاب والسنة؛ العدل والشورى، وقصره عن الجور قصرا، وأطره على العدل أطرا.

وإنما اختلفوا في أسلوب إزالة المنكر السياسي، فلأهل السنة والجماعة مذهبان في إجراءات المبدأ، مذهب الأقلية ومذهب الأكثرية، كما بين الشيخ عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب، في رسالة(جواب أهل السنة).

أما مذهب الأقلية فهو الاكتفاء بالكلام: أي الاكتفاء بالأسلوب السلمي، فقالوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو باللسان إن قدر على ذلك، وقد راق لهم مسلك سعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وعبدالله بن عمر، وهو قول لأحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث (انظر تفصيل ذلك في جواب أهل السنةلعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب:70 ومابعدها).

أما مذهب الأكثرية من فقهاء العصر الأموي؛ فقالوا بوجوب حمل السلاح، عند مثول الكفر البواح، وهو الظلم والاستبداد(كما ذكر النووي) إذا لم يقدر المحتسبون على إنكار المنكر السياسي إلا بذلك، وهو مذهب الفقهاء الأمويين الذين سلوا السيوف، ورأوا أن سلها ذروة سنام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،

وقد روي هذا قولا وعملاً عن أكثر من خمسين من رموز فقهاء العصر الأموي،من صحابة وتابعين.

منهم الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير، ومن قام معهما.

وهو قول من خرج على الحجاج، كعبد الرحمن بن أبي الأشعث، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وسعيد بن جبير وأبي البخترى الطائي، وعطاء من أبي رباح السلمي والحسن البصري، والشعبي وإبراهيم النخعي.

وهو قول الذين خرجوا مع محمد بن عبد الله بن الحسين ذي النفس الزكية.

وهو قول أبي حنيفة ومالك بن أنس والشافعي سلوكهم، عندما خرجوا على دول الاستبداد والجور.

وهو سبب قول الأمير يزيد بن الوليد الأموي عندما خرج على ابن عمه الوليد بن يزيد.

وهو قول سفيان الثوري وإبراهيم التيمي، وحماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة والشهيد أحمد بن نصر الخزاعي.

هذا هو رأي جمهور الفقهاء الأمويين، وقد نعته ابن تيمية وابن حجر العسقلاني:بمذهب السلف القدماء.

وعلى هذا قامت دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب (انظر لعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: جواب أهل السنة: "70- وما بعدها").

لأن الإمامين محمد بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود خلعا ييعة الخليفة العثماني، لأن الخليفة سلطان مستبد جائر مفرط مهمل، وإنما استجازا ذلك لأنهما داعيتي عدل، يخرجان على دولة ظلم وبغي فجريا على رأي قدماء السلف.

د-السلفية الأموية كشفت قناع المتفرعن الذي يعلن الجهاد ويقتل دعاة القسط

التذكير بالسلفيةالأموية مهم أيضا لإبراز أعظم خلل في كتب العقيدة العباسية، وهو الجهاد مع السلطان الجائر، فالسلفية الأموية اكتشفت لعبة الحجاج،الطاغية الذي يسقى الناس كئوس الاستعباد والاستبداد، ثم يسعى لفتوح الاستلاب تحت عباءة الجهاد، وقد فصلت ذلك في كتاب الجناحين.

لا يسع أي طالب علم صغير ولا كبير أن ينكر مشروعية الخروج على الدولة المستبدة المتغلبة.

ولا يستطيع طالب علم صغير ولا كبير أن ينكر أن هذا الأسلوب ينجح أذكر ولا سيما في المجتمعات العربية صحراوية، التي لم تترسخ فيها أعراف تكتل سياسي سلمي ، ينظم التعبير عن الرأي العام.ولا سيما التكتل المنظم الذي هو شرط فعالية التعبير السلمي.

ولا ينكر جاهل ولا عالم أن أي دولة تواصل التفرد بالقرار السياسي والظلم، وتمنع التعبير السلمي، وتعرض البلاد للفوضى، وإلى مزيد من اختلال الأمن، فإنما تدفع الناس دفعا إلى العنف.

ولكن الأسلوب السلمي أضمن وأجدى، وأن تجارب التاريخ تعلمنا،أن سبيل الإصلاح السياسي المستمر المضمون، هو بناء أعراف سياسية ناضجة، تفعيل التجمع الأهلي ولا سيما المدني، وأن مركب العنف ليس مضمون النجاح ولا الاستمرار، لأسباب ذكرتها في مقالة سابقة، شرحتها في كتيب / للإصلاح: هدف منهاج الطريق الثالث: إلى دولة العدل والشورى . (الدار العربية للعلوم1425هـ 2004م. بيروت) وكتيب الكلمة أقوى من الرصاصة: التكتلات الأهلية السلمية هي الجهاد الأكبر (الدار العربية للعلوم1425هـ 2004م. بيروت).

-السلفية الأموية بينت أن المفهوم السلفي ليس صلصالا رخوا يفرق بين إقامة العدل وإقامة الصلاة :

من أهم ما بينته -السلفية الأموية أن المفهوم السلفي ليس صلصالا رخوا يفرق بين إقامة العدل وإقامة الصلاة :

لأن السلف الصالح منذ العصر الأموي، لم يقروا أي حاكم على المنكرات السلطانية،-رغم أن الدولة الأموية حافظتعلى هوية الأمة، و لم تتهاونون أمام أي عدوان خارجي، بل بالغت في دفع العدوان، حتى غزت الأمم الأخرى في حروب وفتوحات ظاهرها الجهاد، وباطنها الامتداد والاستحواذ والعدوان- ورغم ذلك قاوموها لأنهم كانوا يعلمون علم اليقين أن الدولة الأموية أخلت بقواعد الإمامة الكبرى: قواعد الدولة والأمة الإسلامية مثل:

1- العدالة ولوازمها ووسائلها.

2- الشورى الشعبيةولوازمها كالحرية السامية والتعددية

3-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامة،في جميع شعائر الإسلام، روحية ومدنية.

4-التعاون على البر والتقوى

5- واعتبر السلف الأموي الصالح، أن تقويم اعوجاج الحاكم هو الكفر البواح، وأنه يجب من أجل إصلاح الفساد السياسي حمل السلاح.

ولو لم تكن العدالة والشورى من أصول الدين، لما خاض السلف الأموي المصلح أكثر من سبع ثورات.

لم يكن لديهم أدنى شك في حق الأمة في مقاومة الطغيان (الأمر بالمعروف) والنهي عن المنكر، حتى لو كان الطاغية حاكما كالحجاج، يرسل جيشا يفتح الهند والسند، ويسمي الاعتداء على الكفار جهادا، مخالفا ما استقر عليه علماء الأمة، كالحسن البصري وابن تيمية(انظر لابن تيمية:قاعدة في قتال الكفار ومهادنتهم، وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم)، ومزيد من البسط في كتاب:العدالة والحرية جناحان حلق بهما الإسلام).

ولذلك أنكر الفقهاء على بني أمية هذه الفظائع.







8= أحمد بن حنبل: رفض منهج الفكر التجريدي/ رفض السفسطة/ الجهاد السلمي من أجل حرية الاجتهاد

أ- هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟

اللعبة السياسية:فرق تسد /بسؤال بيزنطي بدد طاقات الأمة:

هذه القضية رغم أنها ثانوية، شغلت المجتمع في عصري المأمون والمعتصم، وهي مسألة غيبية اجتهادية، و تفصيل دقيق لا يدركه إلا القليل، وسؤالها لم يثر في عهد النبوة والخلافة الراشدة، فقد كان سلفيو العصر الراشد مشغولين بإتقان العمل، عن التشدق في الجدل.

إنها مظهر من مظاهر الجدل الثقافي، في أجواء القمع السياسي، و قد تمخضت عن احتكاك أمة جديدة بأمم أخرى قديمة، وصار بينهما تماس وتمازج، فانفرز الناس فيها إلى فريقين:

فريق حافظ على القديم وبالغ، فجرته المحافظة، إلى تساهل في تمحيص المنقول-كما نجد في الأحاديث الضعيفة والموضوعة، التي لم تخل منها حتى كتب العقائد، ككتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل.

وبالغ هذا الفريق في الحفاظ على الرواية، حتى أنكر بعض رموزه المجاز ، وحتى همش دور العقل البرهاني والسياسي، الذي هو هدف الخطاب القرآني، وفريق جره التجديد فانبهر بالفكر الأجنبي، إلى العناية بالجدل النظري ولو كان تجريديا، على حساب صحيح المنقول، وجنح بمفهوم العقل إلى الهوى و الانطباع الشخصي، الذي لا يسانده تجريب عملي، و لا دليل حسي. وبين الفعل ورد الفعل، وظهرت حماسة واندفاع دون احتياط، وسادت ثنائية الأسود المرفوض جملة وتفصيلا، والأبيض المقبول جملة وتفصيلا.

لقد أثار المعتزلة قضية خلق القرآن، في سياق ردودهم على الملاحدة والنصارى، عندما قال يوحنا الدمشقي: إن المسيح غير مخلوق، لأنه "كلمة الله"، وكلام الله غير مخلوق، فرد عليه المعتزلةبأن وصف عيسى بأنه " كلمة الله" مجاز، لاحقيقة، وكذلك القول بأن القرآن كلمة الله أيضا مجاز، فساقتهم المبالغة في التنزيه، إلى مزالق التأويل الذي أوحى بالتعطيل.

وكان المأمون أعلم ملوك بني العباس،في الفقه والحديث، والفلسفة والعلوم، وأكثرهم ترجمة للعلوم، وأكثرهم حبا للمناظرة والنقاش، وقد راق له قول المعتزلة، منذ نعومة أظفاره، قبل أن يصل إلى سدة الحكم.

وكان أيضا واجدا على أهل الحديث، المتحفظين على الترجمة وجلب المعارف، لا سيما أنهم وقفوا مع أخيه الأمين وعمه إبراهيم المهدي، عندما خرجا عليه، من أجل أنهما لايقولان بخلق القرآن،على أنهما أقرب إلى الفسق والتجبر والجور والجهل، وهو أقرب إلى العلم والعدل والعقل.

وكأن المأمون يريد أن يفرض عقيدة أو مذهبا للحكومة، يقوي به صف الموالين، ويفرزهم عن الفقهاء والمحدثين المعارضين، الذين جلب له تأييدهم أخاه وعمه، مزيدا من الاضطراب السياسي.

وكان الإمام أحمد بن حنبل يدرك أن الفتنة سلطانية، ولذلك لم يحمل المعتزلة أوزارها، فسامح كل الذين آذوه إلا المأمون، مشعل حربها.

ولكن من بعده أوحوا بأن المؤامرة مؤامرة اعتزالية، وذلك تعميم غير دقيق.كما دلل على ذلك الدكتور فهمي جدعان، في كتابه(المحنة).

ولم تكن الفتنة خاصة بالمعتزلة، فقد أدارالمأمون امتحان القضاة؛بواسطة قاضي القضاة: يحيى بن أكثم، وهو سني، وشارك فيها عبد الرحمن الشافعي، قبل أحمد بن أبي دؤاد المعتزلي.

وكان كل من يشغل منصبا حكوميا، يقوم بتنفيذ تعليمات السلطان، وهذا أمر طبيعي في قضاء وإفتاء لا استقلال لهما عن الحكومة، وأن يجرم القضاة والمفتون خصوم الحكومة، ويقبضوا ثمن كل تجريم ترقيات وأعطيات.



ب مبالغة في الفعل أنتجت مبالغة في رد الفعل:

من حق المعتزلة أن تثير سؤالها في رواق وأوراق ، ولكن لم يكن من اللائق بها أن تعطيه حجما كبيرا في مؤلفاتها، وليس من اللائق بها أن تشغل الرأي العام بها في المجالس والمساجد والأسواق.

ولكن أعظم خطأ ارتكبته المعتزلة أنها استجابت لا ستدراج السلطان، فاستخدمها سلما لمآربه وأحابيله، عندما وافقه بعض شيوخها على جعل القول بخلق القرآن؛ مسطرة تقاس بها الإيمان، ويمتحن بها القضاة والعلماء والأعيان، ثم جرتها المبالغة في الانجرار إلى فخ السلطان، فوافقته على التكفير والتبديع أولا، ثم وافقته على العنف والقمع المادي.

فاستدرج المأمون والمعتصم المعتزلة إلى التنكيل بخصومه السياسيين، عبر سؤال فكري، واختصر حزبه السياسي، برنامجه الفارق بين محازبيه ومخالفيه، بسؤال، كالفخ المنصوب: هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟.

خسر السلفيون في عهد المأمون، وخسر المعتزلة في عصر المتوكل، ولم يكن هذا ناصرا مخلصا للسنة، ولا ذاك مخلصا للعقلانية، كلاهما مخلص في بناء قلعة الاستبداد، ولذلك ابتعد الإمام أحمد عن المتوكل، ولم يغترر بما أبداه من تظاهر بنصر للسنة، ولكن تلاميذه شربوا المقلب، كما شربه المعتزلة من قبل.

وكانت خسارة المعتزلة أكبر، عندما ضربت فكرة حرية الإرادة، أول مبدأ أصلته في مذهبها، بمشاركة المحسوبين عليها في إجبار الناس على اعتناق رأي لم يقتنعوا به.

اهتمام الفريقين بهذه القضية أكبر دليل على أن أولوية العدل والشورى والحرية، لم تتغلغل في الثقافة الاجتماعية، على الرغم من أنها فكرة إسلامية، بل ظلت فكرة نظرية هشة، لم تترسخ لتنتج فكراً مدنيا عمليا، بسبب الداء المزدوج الكسروي الصحراوي، ومضاعفانه من سفسطة ورهبنة.

وراعى الإمام أحمد بن حنبل;أيضاً أمراً آخر،هو أن هذه المسألة باب إذا انفتح على مصراعيه؛ تدخل منه المنهجية الاعتزالية، التي بنيت على الميتافيزيقا اليونانية، فوقف ذلك الموقف. لأن المعتزلة، أوحت بالعقل المتجرد من التجريب و الحس، حاكماً على الشريعة، عندما أكثرت من تأويل النصوص التي لا تستجيب لهذا العقل التجريدي الذي لايفضي إلى عمل، و ليس العقل العملي والسياسي.

لقد جر المأمون الناس إلى فتنة، وكلا الفريقين بالغ في فكرته، فالعقل ليس بحاكم على الشريعة ولا بمحكوم، لأن الشريعة نور من الظلمات، ولكن العقل هو العينين اللتين يرى بهما الإنسان النور، فالشريعة رسالة إلى العقل نفسه، و العقل البشري هو المتلقي لجميع الرسالات، فكيف يكون حاكما أو محكوما، وإنما المحكوم هو الهوى.

لقد حاول الإمام أحمد إذن مقاومة مساوئ تيار علم الكلام، ومساوئ المنطق اليوناني، كي لا يكون أساسا للمعرفة الإسلامية،عندما رفع شعار القرآن غير مخلوق.

وعادة ما يكون المنادون في التجديد مبالغين، يكون المدافعون أيضا مبالغين، ولذلك رد السلاح الكلامي الذي قال، القرآن مخلوق أداة للانتصار، فقال (القرآن غير مخلوق) أي أنه رد الفكر الاعتزالي بسلاحه، فاستل من المنظومة الاعتزالية أدوات نقضها، وهذه وجهة نظر معتبرة.

وعلى كل حال فالإمام أحمد وجيله كان يجسد في موقفه من خلق القرآن، صورة واحدة من مواقف وحركات سلفية، تشكل معالجة آنية، تفهم في سياقها الاجتماعي، ممثلا لونا من ألوان السلفية الاجتهادية وهي حركة فكرية، ولدها الصراع الثقافي، فأجوبتها محددة بأسئلة مطروحة.



ج-ما العبر لنا في العصر الإمبريالي:

ينبغي اليوم أن لا نخلط بين ثلاثة أوجه في نشاط شخصية متعددة الجوانب كالإمام أحمد بن حنبل, رحمنا الله وإياه:

-مارواه فقد كان معياريا عندما ألف المسند, وانتصر للمحدثين، لقد كان أحد حفظة النص الكبار، وهذا موضوع ذكرناه في أكبر إنجاز سلفي عباسي.

-وما رآه، في ما بنى منه تلاميذه مذهبا فقهيا.

-ما رآه وسجله تلاميذه في مدونات العقيدة، وهو جواب سؤال ماثل، ثار في عصره ومن الصعب أن نحكم عليه بمقاييس عصرنا، ومن الصعب أن نقدر العلاقة بين الفعل ورد الفعل، في أجواء زمن متقدم، وليس هدف البحث ذلك، إنما الهدف أن نقارب العبر التي قد تفيدنا اليوم في عصر الإمبريالية الغربية:

الأولى: بأن المنهج السلفي؛ يقرر أن السنة الواضحة، هي ما كان عليه النبي صلى الله علية وسلم، أي ترك هذا النقاش جملة وتفصيلا، فالسنة إذن هي ما قال الإمام أحمد وغيره قبل حدة الصراع: القرآن منزل وكفى. الأولى أن يتمسك الإمام أحمد بما كان يقوله قبل المحنة: القرآن منزل وكفي كما فعل مالك وأحمد بن نصر الخزاعي، وآثر ابن عبد البر. لأن القول بخلق القرآن أو عدمه؛ لا يستند إلى نص قطعي صريح ولا إلى برهان عقلي، فهو اجتهاد ظني، في مسألة لا يترتب على كثرة الجدل فيها عمل.

الثانية: لا أولوية للتركيز على الغيبيات الظنية، التي ليس لها أولوية، في وقت تعاني الأمة المستضعفة،من الاستبداد والجور. فإذا كان الفقهاء سيدخلون السجون ويتعرضوا لضربات الأسواط والأسياف، فإن قيام أعيان الأمة ولا سيما العلماء والفقهاء بدعوتها إلى إلزام الحاكم بشروط البيعة على الكتاب والسنة: العدل والشورى أولى وأحرى.

الثالثة: من الضروري أن تتعرف الأمة على المنطق والفلسفة والكلام, والترجمة العلوم والمعارف، مهما كان لذلك من سلبيات، فإنها مؤقتة، فلولا فضل المنصور والمأمون، لما نبغ نوابغ الإسلام في الطب والكيمياء والجبر والفلك والهندسة.

الرابعة:النضال في سبيل الدفاع عن حرية الاجتهاد في الرأي والتعبير جزء من العقيدة:الإمام أحمد يدرك أن القول بأن القرآن غير مخلوق، إنما هو رد اجتهادي نبع من حرية الاجتهاد،وليس مسألة قطعية، يستند فيها إلى شعاره المعلن: "ما أنا عليه وأصحابي". ولكنه جسد قاعدة شرعية جليلة، هي حرية الاجتهاد، واعتبر دخول السجن في سبيل الدفاع عن الرأي من الجهاد، من أجل مقاومة سلطان يفرض اجتهاده أو تقليده على الناس، ويولى من قال برأيه القضاء، ويجبر عليه المحدثين والفقهاء.

الخامسة:من الواضح أن الإمام أحمد، وإن لم يشارك مالكا وأبا حنيفة والشافعي، القول بالخروج على السلطان المستبد المتغلب، كان معنيا بفكرة العدالة، شجاعا يقول كلمة العدل أمام السلطان الجائر.

وهو أيضا من أكثر العلماء إنصافا لأهل البيت رضي الله عنهم، وأكثر الناس ثناء على علي رضي الله عنه وآل البيت، فقد رسخ التربيع بعلي، أي اعتباره رابع الخلفاء الثلاثة، وقد كان التربيع مجال جدال في عصره، حتى شدد النكير على من لم يربع بعلي، واستثمر ماناله من شهرة ومصداقية في ترسيخ فضل علي، وهو أكثر المحدثين رواية لفضائل علي، كما في كتابه ""المسند""، مع أنه كان عباسي الميل السياسي.





9= الشقيقان المتنازعان على الميراث

أ-صورة الإمام أحمد بين رسم ابن الجوزي وابن تيمية:

أحمد بن حنبل إمام عظيم, والأئمة العظام يتعلق الناس بأقوالهم ومواقفهم، ويصوغ التابعون من أقوالهم ومواقفهم، بل قد يصوغون من شوارد أقوالهم ومواقفهم العابرة؛ مذاهب واتجاهات, فالخميني ذكر (الوطنية), فاتخذ قوميو إيران منها مستندا لمذهب سياسي، وذكر فلسطين فجعلها الإسلاميون قاعدة في عملهم، وذكر الحرية فاتخذها الإصلاحيون سندا. الشخصيات العظيمة تتعرض إلى إعادة انتاج، بين الفرقاء، و كل فريق يدعم اتجاهه بالإحالة إليها، سواء كان معتمدا مستندا، أم معتضدا مستشهدا، و هذا أمر طبيعي في علم الاجتماع المعرفي.

وقد ظهر أحمد بن حنبل على مسرح المعارضة السياسية، اكتسب سمعة وذكرا، واستثمر تلاميذه وأتباعه ثباته زمن المحنة، وما منحه ذلك من جاذبية جماهيرية.

كان الإمام أحمد يتكلم في المناسبات, ولكل مقام مقال, وكان يتكلم في أحوال الغضب والرضا, والاندفاع والانكماش, والنشاط والفتور وعلى الرغم من أن الإمام أحمد أكثر العلماء تحذيرا لتلاميذه من أن يكتبوا عنه، لأنه كما ذكر يقول رأيا اليوم وقد ينقضه غدا، ولكن التلاميذ لم ينتهوا، فقد كتبوا كما متجانسا وغير متجانس، ونسبوا إليه أقوالا ومواقف وأحكاما على من حوله، بالرفض أو التحفظ أوالقبول.

حتى أظهروه بصورة من التناقض، فلاتكاد تجد له رأيا واحدا في المسألة الواحدة، بل وبنوا من أقواله مذهبا فقهيا رابعا، واكثر من ذلك استثمروا اسمه في بناء مذهب في أصول الدين، صاغوه مبتعدين عن منهجه، كما بين أبو الفرج ابن الجوزي.

ولا يتوقع أن يكذب عليه التلاميذ، على الرغم من صعوبة إثبات ما نسبوه إليه، وفق المنهج النقدي, ولعل كلا منهم كتب مافهم لا ما سمع وكرر ما إليه يميل، و لعل الرواة زادوا وحذفوا، ولذلك جاء مذهب الإمام أحمد في فقه الفروع؛ أكثر المذاهب اضطرابا في تعدد الأحكام، وتناقض الروايات، فله قولان في كثير من مسائل الفقه، بل أقوال في منهج الفقه أيضا، وله تناقضات غير قليلة, ولذلك لا يستغرب أن نجد له في بعض مسائل الأصول قولان.

ولم يكتف التلاميذ بما نسبوه إليه بل زادوه إضافات وتراكمات من عندهم، وكما استدعوا ما نسبوه إلى أحمد من أقوال، لبناء مذاهبهم، والدفاع آرائهم، بذلك بل استدعوا جميع رموز السلف الأموي والعباسي الذين سبقوه واستدعوا مجايليه.



ب-السلفية العباسية تتحول إلى مذهب يصادر مرجعيته :

عبر الزمن كرس المنتسبون إلى أحمد بن حنبل، مفهوم السلفية خاصاً بهم،وربطوا مفهوم السلفية بالفكر الذي نسبوه إليه أو بنوه عليه، أو صاغوه، واستبدوا بمصطلح السلف الصالح،

وصار المنتسبون إليه فريقان:

فانتسب إليه الأشاعرة, وصاغوا مذهبهم معلنين الانتماء إليه، واستقلوا باسم فرعي جديد هو الأشاعرة, وأيدهم علماء كثيرون كابن الجوزي، و ظهر فيهم الغزالي و الشاطبي.

وجاءت صياغة التيار الثاني عبر ابنه عبدالله وتلميذه الخلال، ورسخها ابن تيمية, اختص ذلك التيار باسم بالحنابلة.

وكلا الطرفين حاول احتكار السنة والجماعة والسلفية في حدود رؤية نسبها إلى أحمد بن حنبل، وحول شيخوخه من كواكب سيارة في مدار القطعيات، إلى أقطاب يدور حولهم الإسلام، وهي منهج قائم على, ولكن السنة والجماعة والسلفية, وتطبيقات نبوية وراشدية، ومعالم لأصول لفقه كل ذلك، كشف عنها الأحناف والشافعي قبل أحمد, وهي تسعهما معا.

وقد راوح عديد من العلماء بين التيارين، فلم يلتزموا أحدهما، كابن جرير الطبري وابن حزم.

وكلا الفرقتين انتسبتا إلى أحمد بن حنبل، كما ذكر ابن الجوزي في كتابه "دفع شيه التشبيه بأكف التنزيه" فالأشاعرة الذين يميلون إلى المجاز، في بعض آيات الصفات، يذكرون أنهم يقولون بقول الإمام أحمد، إذفسر قول الله تعالى "وجاء ربك والملأ صفا صفا"، فقال معناها: جاء أمر ربك، ويعتبرهم ابن الجوزي الأولى بالانتساب إلى الإمام أحمد، ومنهم البيهقي وابن عقيل، والذهبي والرازي، والشاطبي وابن حجر العسقلاني، و الغزالي والعز بن عبد السلام، والباقلاني والنووي.

والآخرون الذين أنكروا المجاز في آيات الصفات، يعتبرهم ابن تيمية الأولى بالانتساب إلى الإمام أحمد، كعبد الله بن أحمد والدرامي، وابن خزيمة والبربهاري وابن بطة، والقاضي أبو يعلى والهروي، ومقدسيون وحرانيون آخرون.

وكأي متنازعين على الميراث؛ ثار بينهما صراع مرير، وكفرت كل فرقة الأخرى، طوال العصر العباسي، ومن أشد معاركها وطيسا، ما ثار بين ابن تيمية والأشاعرة.

اختلافهما برهان آخر على أن السلفيات العباسية ليست قطبا، بل كواكب تدور في مداره.

ج- فروق بين شقي التوأم الحنبلي:

السلفية (التيمية) اهتمت بالدعوة إلى ترك التقليد والاجتهاد، وكان رموزها ، أكثر دعوة إلى روح الاجتهاد، وأكثر اهتماما بالجهاد، وتعرضا للسجون والاضطهاد، كابن تيمية وابن القيم، وعلى الرغم من أنهم مذهبيون متشددون في القضايا الغيبة الاجتهادية، فهم متسامحون-في الجملة لا بالجملة-في قضايا الشهادة والفقه العملي، قد حملوا على الالتزام بالمذهبية الفقهية، واعتبروها بدعة في الدين. وقد نص ابن تيمية على أنه لا يجوز للإنسان أن يلتزم مذهبا فقهيا محددا لا يأخذ فتاواه إلا منه، فدعوا إلى اللامذهبية.

ولكنهم أكثر من غيرهم تهميشاً لشق العقيدة المدني، فهمشوا شروط إقامة الدولة المسلمة، ولا سيما الشورى ولوازمها، فضلا عن علوم التقنية والصناعة والاختراع، والمعارف والعلوم، ولذلك نرد أن يظهر في البيئات الحنبلية؛ نابغون في علوم الإنسان والطبيعة والرياضيات والفلسفة والطبيعة والكيمياء والاجتماع والنفس، ماعدا ابن النفيس، ولذلك نشروا في العصر الحاضر، ميلا إلى الابتعاد عن دراسة هذه المجالات، ولا يكاد ينتشر فكرهم في بيئة؛ إلا وهمشت التكنولوجيا، بصورة يمكن أن يقال إن هذه السلفية، أقرب إلى الفهم الصحراوي للإسلام.

وكانوا أكثر حرصا على محاربة مظاهر الشرك في العادات الروحية كالطواف حول الأضرحة والقبور، وحرموا بناء المباني على القبور، وحرموا الصلاة على القبور، وحرموا الاستغاثة بالأموات، فهم أكثر تخليصا للدين من أدراك الشرك.

وكانوا ظاهريين حرفيين في آيات الصفات، فقالوا إن الله تكلم القرآن بأصوات، ومالوا إلى إنكار المجاز فيها، وبدعوا الذين قالوا بالمجاز من الأشاعرة، كالغزالي والجويني، والبيهقي وابن الجوزي، والبغدادي والرازي. وتبادلوا التهم، يصفونهم خصومهم بالحشوية والتشبيه، وهم يصفون خصومهم بالتجسيم والتعطيل، ولهم حروب فكرية تطول حول تفسير قوله تعالى (ويبعثك ربك مقاماً محموداً)، وحول (الرحمن على العرش استوى)، وكلهم يدعي الانتساب إلى مالك وأحمد بن حنبل، والحنابلة التيمية أكثر الفرق المنتسبة للسنة، هجوماً على الفرق الأخرى، ومبالغة في ذمها، وأكثرهم هجوما على الشيعة الإمامية والإباضية كثيرا.



د-كيف بنى تلاميذ أحمد مذهبين كل منهما ينبذ الآخر

واحتكروا المفهوم فتحولت من منهج أساسه: النص في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، إتباع سلف الصحابة: في أصول قطعية لا ريب فيها، إلى صياغة وتفريعات اجتهادية، فيها مجال للاتفاق و الاختلاف، صاغها الحنابلة الأوائل، محاولين في صياغتهم استخراج نظريات من القرآن والسنة، للإجابة على الأسئلة المثارة، والتحديات الوافدة.

وقد حدث لبس كبير في هذا الجانب، تحول فيه أتباع أحمد من المنهج الذي أعلنه و حاول رسمه جيل متعدد الرموز والميول، من مالك إلى أبي حنيفة إلى الشافعي، تحول إلى مذهب فكري تحكمه توجهات وأقوال تنسب إلى أحمد بن حنبل، وشرح ذلك يطول، ويجده المعني به في كتب التاريخ والعقائد كتاريخ بغداد لابن الخطيب، لكن الإشارة إلية ضرورية.



10=لكي لا ننشغل اليوم عن الاتفاق على الأساسيات والأولويات

بالشقاق على الثانويات



أ-أثر السياسة المتفرعنة والمتصحرة في تأجيج الصراع:

المسألة هي لون من ألوان الصراع بين الشعب والحكومة، فهي قضية موقف، كما قال حسين مؤنس ((إن مسألة خلق القرآن ليست ذات بال، لكنها مظهر من مظاهر الصراع بين التيار الشعبي المتلبس بالدين، والسلطة الرسمية التي لبست لبوس الدين))، (عالم الإسلام:54).

وسر رواج رأي الإمام أحمد بن حنبل في مسألة خلق القرآن، ليس اقتناع عامة الناس بقوله، لأن القول بخلق القرآن، كالقول بعدم خلقه يستند إلى مقدمات فلسفية، لا يدركها أغلب المثقفين فضلا عن عموم الناس معرفيا، بل لسببين:

الأول: أن الإمام أحمد رجل بسيط غير معقد الكلام، ذو ورع وزهد ظاهر، قريب من العوام، بعيد عن الحكام.

الثاني: لا ريب أن المأمون أقل جورا من أمثال الأمين والمعتصم، ولكنه لا يخرج عن نمط ولاة الجور، وأن عموم الناس دائما مع كل عالم شجاع، يقول رأيه أمام أي سلطان جائر، فالناس "وقفت إلى جانب الإمام أحمد، ليس لأنها تدرك المعنى الدقيق لعبارته، فضلا عن أن تلتزم بتأييدها، بل لأنها تكره ولاة الجور، وتحب أن تتحداهم"(عالم الإسلام :54).

ولقد كسب ولاة الجور، الذين يغيرون جلودهم-حسب التيار العام-، وخسرت قضية العدل والشورى والحرية.

وكانت خسارة السلفية كبرى، لأنها تحولت من جهاد واجتهاد سياسي،شهد آخر مشاهده رموزهم الثلاثة:أبو حنيفة ومالك و الشافعي؛ فصارت قرب إلى التساهل تجاه قضية العدل والشورى، فقد انتسب إلى الإمام أحمد تيار مهادنة حكام الجور والأمر الصبر، وترك مقاومة الظلم، والاكتفاء بالدعاء لحكام الجور بالهداية.

فضلا عن الخروج إليه، وهذا الاتجاه مسألة مقبولة لو قصد تجنب الصراع المادي، ولكنها غير مقبول حين يتسع لتهميش مبدأ الاحتساب على السلطة، و لرفض مبدأ التغيير السلمي، عبر الكلام والتجمع.

ومذهب المعتزلة -أحرى بأن يخيف استبداد السلطة-، فهو مذهب المناداة بحرية الإدارة والنقد، وقد درج رجاله على ممارسة النقد،كما في نقدهم الصحابة والتابعين، فهم لم يتركوا حادثة أو شخصية مهمة، إلا خاضوا فيها تحليلا وتصويبا وتخطئة. واعتاد التلاميذ على نقد شيوخهم، كما نقد النظام أبا الهذيل العلاف ونقد الجاحظ النظام.

وهم إفراز القدرية التي تقول بحرية الإدارة، كمعبد الجهني، الذي كان في صفوف ثورة ابن الأشعث،

والعقلية النقدية أخطر على الحكام المستبدين من أي فكر آخر، فقد ورث المعتزلة الثورة على حكام الجور من شيوخهم القدريين، ومن سلف التابعين المقاومين، كأهل الحرة والحسين بن علي وأصحاب ابن الأشعث. وقد خسروا خسارة أكبر وأخطر، وبددوا كل هذا التراث، عندما لعب المأمون بعقول بعضهم، وسكت الآخرون عن اللعبة، ولو ابتعدوا عنه لكان ذلك هو مقتضى ما نادوا به، من مباديء العدل والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.



ب-لكي لا نعمم تجارب في غير حقلها :

أجل كان للإمام أحمد مبرر واضح، أن ينشغل بالصراع، وذلك مقبول أن يستمر عقدا من الزمن، أو خمسين سنة، ولأنهم كانوا أمام إشكال حاصل، وسؤال ماثل، وهم أدرى بواقع زمانهم وإمكانهم، وترتيبهم لأولوياتهم، وإن كنا نرى أن جو القهر يدفع الناس إلى الخلل في ترتيب الأولويات، وينبغي أن نعتذر للآتين من بعده، الذين ظلوا يتناحرون أكثر من خمس مئة عام، لأنهم عاشوا في مناخ اختلال، استدرجهم إلى هذا الجدال.

ولكن نقول للذين يعتبرون هذا الكلام من مسائل التوحيد من المحافظين اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة، إنه ليس لهذه الأبحاث أي قيمة عملية، وإذا وزناها بميزان المنهج السلفي الذي أعلنوه: "ما أنا عليه وأصحابي"، طاشت في الميزان، وإذا وزناها بميزان "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، لم نجدها في سننه ولاسننهم.

واستمرر الأمة ألف عام في تدابر وتناحر حول الأسماء والصفات،؛ وحول سؤال خلق القرآن نفيا وإثباتا؛ دليل على غيبة وعي الأمة.

وينبغي للمثقفين من جميع التيارات، سواء أكانوا ملتزمين أم غير ملتزمين، أن يحذروا من التحالف مع السلطان الجائر، سواء من أجل نشر مذهبهم أو من أجل إقصاء خصومهم، بل ينبغي أن يكونوا في صف الشعب المستضعف، مدافعين عن كرامته وحقوقه، فهذا هو لب القضية.

فهاهم المعتزلة الذين روجوا للعقلانية والتفكير العلمي، وللإرادة والحرية، يجبون أهم فكرة نادوا بها.

وهاهم السلف العباسي الصالح الذين يستدرجون مئات السنين إلى معركة غير ذات أولوية، وليس لها أي قيمة عملية، في مجتمع يعاني من الحكم الجبري الجائر، وهم يعرفون أن الإسلام إنما لفسطاطه عمودان: الصلاة والعدل، ولا ينكرون كيف قاوم الفقهاء التابعون جور السلطة وفسادها.

لا ينبغي أن ينشغل الفقهاء عن الأولويات السياسية، ولا فقه عند أي فقيه غير مسيس، لا يتفاعل مع الرأي العام.

مبادئ السياسة الشرعية العشرة ووسائلها ، أولى من ما عداها ، في توجيه الرأي العام وتفعيله. في الجو المقهور تختلط الأولويات، وتسيطر العواطف على المواقف.

المناخ قد يفرض على الإنسان تصرفا مناسبا حسب إمكانه وزمانه، ولو نظرنا المسألة المناخ لقلنا من دون استثمر الإمام أحمد هذه الجموع التي وقفت لتكتب مايتفوه به، عن سؤال خلق القرآن أو التي تراصت على شكل دائرة حول بيته، ولو استثمر تلاميذه من بعده هذه الجماهير التي خرجت خلف جنازته، في مطالبة الحاكم بشرطي البيعة على الكتاب والسنة: العدل والشورى، لكان ذلك هو الأولى، لأن العدل أول مرهم لعلاج الشك والجدل والانحراف والزندقة.

من أجل ذلك فمن الغلو ؛ أن يشبه السلفيون العباسيون موقف الإمام أحمد مع المأمون؛بموقف أبي بكر أمام المرتدين، مستندين إلى مقولة رجل مضطرب المواقف، كعلي بن المديني.

فأبو بكر جاهد من فرق بين شقي العقيدة المدني و الروحي، جاهد عن فرق بين الصلاة و الزكاة. جاهد من أجل بقاء مبدأ التكافل الاجتماعي، ومن أجل الحفاظ على قوة الدولة الناشئة، ومن أجل حماية الإسلام؛ في مهده الجزيرة العربية، من التفكك والضياع، تلك من مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها العشرة.

و لكن موقف الإمام أحمد يمكن تثمينه في باب حرية الاجتهاد في الرأي والتفكير وهذا الموقف ضروري ينبغي فيه الصبر حتى الاستشهاد، لا يجوز فيه المجاراة والسكوت، إنه شجاع مجتهد مجاهد صدع برأيه، ورفض قيام الدولة بقسر الناس على وجهة نظر لم يقتنعوا بها.

و لعل الإمام أحمد بن حنبل، كان مضطراً لإعلان أن القرآن غير مخلوق، فلم تكن القضية في خلق القرآن أو عدم خلقه، القضية هي رفض الجبر الفكري، ومنع السلطة،من أن تفرض اجتهادها الفكري على الناس. هذا هو جوهر المسألة، لأن الفكر لا يفرض بالسوط ولا بالسيف، الفكر يحارب بسلاح من منظومته، هو سلاح الفكر.

فالدرس الذي ينبغي تثمينه اليوم، وإن لم ينتبه إليه تلاميذه ويثمنوه، أن الحكومة عندما تفرض فكراً وتلزم الناس بمذهب فيه خلاف معتبر، من دون تقرير ممثلي الأمة وعرفائها ونوابها؛ أنما تمارس ضربا من ضروب الإكراه والقمع الديني.

إن ما يبدوا من نقص في اطروحات الفقهاء ليس ناجما عن نقص ورع ولا اجتهاد ولا إخلاص، يرجع في معظمه، إلى نقص الثقافة السياسية تنظيرا وتطبيقا،.

للمحافظون اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة؛ لم ينتبهوا إلى أن الفقيهاء غير المتسيسين منذ صدر العصر العباسي لم يقصروا ، ولكن ضعف الحس السياسي، أحدث في عمومهم (قصورا) منهجيا في مراعاة الأولويات، فأضعف من جهودهم،وأبعدهم عن ابتكار الآليات والوسائل، وغيم مفهوم (نظام) العقيدة، وتكامل شقيها المدني والروحي، فبدد كثيرا من الطاقات.

ومن أجل ذلك فإن ما لهم من نفع مقدور مشكور، و من تخلل جهده القصور فهو معذور، واستحضار هذه القاعدة مهم أمام كل بحث في الصياغة السلفية للعقيدة والسياسة والتربية والثقافة.

وهذا لا يبرئ الحنابلة من أنهم حملوا الناس على آرائهم عندما وصلوا إلى السلطة أيضا بالإكراه والقمع.





11= ابن تيمية: آراء متميزة في شق العقيدة السياسي والحضاري وتركيز على الروحي

أ-تحرير شق الدين الروحي من الخرافات الغيبية:

ابن تيمية كان مجددا تجديداً معياريا، عندما حارب الخرافات المخلة بالشق الروحي من التوحيد.فحرر مفهوم السنة من بدع التبرك بالأموات ،والتوسل بهم والاستغاثة ، والطواف حول قبورهم.وكان مجدداً تجديداً معياريا، عندما رفض الغلو في التصوف والتشيع.

كان كثير الفائدة عندما حارب نقص الفاعلية الاجتماعية، ورسوخ الخمول والاستسلام عبر المنظومة الدينية، ويعتبر مجدداً تجديدا عظيما، عندما انتبه إلى ما في الاستغاثة بالأموات، من انحراف عن السنة، وهاجم معظمي القبور والطوافين عليها. فتجديده الأكبر في محاربة الخرافات الغيبية.

وكان سلفيا ثاقبا عندما أدرك أن لا تعارض بين النقل والعقل، وسبك قاعدة "النص الصريح لا يخالف العقل الصحيح"، وعندما رفض مصطلح المصالح المرسلة، رافعا شعار: لا مصلحة مرسلة لم تذكرها الشرعة، ولكن ذكر المصالح، إما أن يأتي مفصلا أو مجملا.

ولكنه كان يقدم وجهة نظر مرجوحة عندما يمدح معاوية بن أبي سفيان،فمعاوية رضي الله عنه-مع ماله من فضل في شق العقيدة الروحي-، أعظم أهل عصره إخلالا بعمود فسطاط الإسلام الثاني:العدل، عندما أهدم الحكم الشوري، وأقام الملك عضوض، ولكن ابن تيمية تأثر بروح عصره، الذي ذكا فيه الصراع، التي فاستدرجته روح العصر إلى معمعة صراع واختلاف، كان من عوامل التدابر والتكافر،عندما صارع الأشاعرة والشيعة الإمامية. ومن الصعب على متأخر أن يدرك الظروف التي أحاطت بمتقدم، عندما رتب أولوياته، لكن ليس من الصعب على المتأخر؛ أن يدرك أنه لا ينبغي إعادة إنتاج هذا الجو المتدابر المتناحر.

وكانت فيه حدة وشده، دفعته أحيانا إلى المبالغة في التبديع والتكفير، كما ذكر تلميذه الذهبي.



ب-بين الفعل ورد الفعل:

من أصول المنهج السلفي الراشدي، ترك تكفير الأشخاص المعينين إلا بعد إزالة الشبه،وتعريفهم بأنهم خالفوا الدين، ولكن السلفيين العباسيين تكافروا، وغلا بعضهم في التكفير، فقد كفر بعضهم أشخاصا معينين من دون ضوابط التكفير، كابن عربي وابن سينا، وتكفير بعض مقولات الأشخاص كمقولات ابن عربي صواب منهجي، بصرف النظر عن صحة وجهة النظر وفسادها، أما تكفيرهم بأعيانهم، فخطأ منهجي لأن للتفكير ضوابط لم يتحرها المبالغون، وبالغ السلفيون الحنابلة كغيرهم من الفرق في التكفير، وبالغ التيميون في التبديع، فبدع بعضهم بعضا، وبدعوا أئمة من أعلام السنة، كابن خلدون والشاطبي والغزالي، وقد فتحت مبالغات ابن تيمية الباب، للإمام محمد بن عبدالوهاب، عندما أغرق فكفر من طاف حول القبور أو تبرك بها، وزاد على ذلك فاستحل دماءهم.

ركز ابن تيمية في صياغة العقيدة علي جانبيها الغيبي، و في صراعه مع الباطنية والصوفية والفلاسفة، كان يحاول الإجابة عن سؤال فرض نفسه على المناخ الاجتماعي،وحكمه على الفرق-وإن اشتد-كان حكما على أناس موجودين، ومن أجل ذلك للمحافظون اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة؛ أن ينتبهوا إلى أن أحكامه على الشيعة الإمامية، وعلى النصيرية، وعلى طوائف أخرى؛ إنماهي أحكام على قوم معينين، بناء على ما رأى وقرأ من أفعالهم ومقولاتهم،وأنه لا ينبغي اليوم إطلاقها، على أحفاد لم تصدر منهم مقولات وأفعال، وأن مقياس التكفير حدده علي بن أبي طالب، وعليه الاعتماد، وتابعه عمر بن عبد العزيز، والمحدثون وبهم يحسن الاستشهاد والاعتضاد. وما عداه يعتذر له ولا يعتذربه.

لم يكن متأنيا في الحكم على خصومه، لأنه كان فارساً محارباً، والفارس في جو الصراع، لا يكون على قدر كاف من الموضوعية، في كل فكر وفعل مارسه، كما أشار محمد البهي

وفي أتون الصراع السني الشيعي، الذي أريقت فيه الدماء، وانشحنت النفوس بالأهواء؛ لم يستطيع بأن ينفك من مناخ الصراع، ولا من المؤثرات الشامية، وهي بيئة يصعب فيها إنصاف علي رضي الله عنه، وآل البيت، بينما يسهل كيل المديح لمعاوية رضي الله عنه، ولابنه يزيد وللأمويين، دون ميزان، على خلاف البيئة التي عاش فيها الإمام أحمد بن حنبل.



ج-الأجوبة الخاصة بحقلها لا ينبغي تعميمها في كل الحقول:

وينبغي أن نتذكر إن تركيزه على الجانب الغيبي من العقيدة، في ردوده، كانت نتيجة فهمه روح عصره، ولقد حاول أن ينهض بالأمة، حسب قدرة الأفراد، وحسب النظام المعرفي السائد، وأنه أخطأ وأصاب، فليس رسولا معصوما بالوحي.

وهناك فرق بين مسلك الكوكبة الأولى من السلفية العباسية كالشافعي وأحمد، الذين تجاهلوا علم الكلام والفلسفة والمنطق، ومسلك الغزالي ونحوه وابن تيمية خاصة، الذين رغم ذمها الفلسفة والمنطق كتبا العقيدة بمصطلحاتهما، ولذلك صار فهم كتبها صعبا، على من لم يطلع على علم الكلام.

ولا ينبغي للمحافظون اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة؛ أن يقرروا رسائله، على أنها متون تعايمية جامعية، ابن تيمية رحمنا الله وإياه جل جهوده، كسائر فقهاء تلك العصور، عندما يكتب في شق العقيدة الروحي و الغيبي.

ولذلك فإن تقسيمٍات عديدة له في شق العقيدة الروحي إنما هي اجتهادات، أبرزها تقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام، توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، ووضع مسألة الأسماء والصفات ، في أقسام التوحيد اجتهاد ووجهة نظر معتبرة، ولكنها مبالغة، جر إليها أتون الصراع المذبي، ومنأجل ذلك فإن تخليص صياغة العقيدة من إشكالها أولى، وهي لا تلزم كل من امتطى المنهج السلفي، والصراع فيها ثانوي غير أولي.

صياغة ابن تيمية للسلفية الحنبيلة، في شق العقيدة الروحي لمذاهب الحنابلة في كتاب (التدمرية)، ونحوه كانت أيضا إجابة عن الأسئلة المثارة، في البيئة الزمنية والمكانية هناك، وما في الجو الثقافي من فرق إسلامية وغير إسلامية، وما في المستوى الثقافي من تركيب وتعقيد. لقد تصارع ابن تيمية والأشاعرة، في قضايا الأسماء والصفات، وتعرض للأذى والنفي والسجن، وأنفق الجميع قدراً كبيراً من الأوراق والأوقات، ولكنه الحصيلة العملية لهذه الجهود، ليست على مقدار الجهود.



د- أثر المناخ في معالجات ابن تيمبة:

ابن تيمية كان مجاهدا مناضلا، وكان فارسا لا يشق له غبار، وعاش في عصر اضطراب سياسي وفكري واجتماعي، وليس من طبيعة الأمور أن يسلم من الغبار، ومن خلال صياغته أنطقه قوم كثير بما لم ينطق، ولم يلاحظوا أنه يغضب ويحتد ويشتد، كما ذكر تلميذه الذهبي، فيقع في مبالغات لا تنسجم مع منهجه، الذي أعلنه مرارا، وكرسه في كتاب العقل والنقل.

ولكنه-ولعل ذلك للاستقواء على خصومه-بالغ في التعصب لأمثال أفكار الخلال وعبد الله بن أحمد والبربهاري، فناقض منهجه، فجاءت له أفكار ، تندرج في ما أسميناها إغفال مبدأ الأولويات، فشارك في معارك الخلافات والصراعات، في أمور اجتهادية غيبية، ظلت تتناقش في عالم الغيب، أكثر من تناقشها في عالم الشهادة. وهذا جعلها تكتب ألوف النسخ، في ما يخلخل السلام الاجتماعي والوفاق، فكفر بعضها بعضا، وقمع بعضها بعضها .

وجارى فرقا عقدت على الناس فهم العقيدة، عندما رد عليها بمصطلحات كلامية، لايسير في غاباتها إلا متفلسف.





12=الإمام محمد بن عبد الوهاب:

صورة سلفية صحراوية: لتعادلية العدل والصلاة

أ-صياغة شعبية للعقيدة:

كان الإمام محمد بن عبد الوهاب فقيها سياسيا عمليا، جدد شقي العقيدة الروحي والسياسي معا، حينما صاغ أبجديات الإسلام صياغة سهلة مبسطة، مخلصة من التعقيد الذي حفلت به المتون العباسية، ونقحها من آثار علم الكلام، ومن السفسطة والبلبلة، وجانب التجريد الذهني، وآثر التطبيق العملي.

صياغة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كانت بسيطة سهلة، تناسب المستوى الشعبي من الناس، وتجيب عن بعض الأسئلة الشعبية المثارة في البيئة الصحراوية المحدودة.

وهكذا فإن كل مجدد يعيد صياغة العقيدة، بالكيفية التي يستدعيها الجو الثقافي والاجتماعي، وذلك هو أساس نجاح الأفكار، لكن هذه الصورة اجتهادية، ليست هي الأصل، ولا ينحصر المنهج السلفي بها، بل هي إحدى الكواكب السيارة، حول قطب المنهج السلفي، من أجل ذلك لا تصلح لكل عصر ومصر.

ابن تيمية هو المجدد الأول في تبديع الاستغاثة بالأموات، ولكن ابن عبد الوهاب شدد النكير حتى وصل إلى التكفير.

والوهابية أكثر الصياغات السلفية –قبل عصر الإمبريالية الغربية- حرصا على تصفية شق التوحيد الروحي من شوائب الكفر والشرك البدع ، ولكنها أكثرها مبالغة في التبديع والتكفير.

فقد شددت الوهابية في تصفية التوحيد من الشرك فبالغت في التبديع والتفكير، وأدخلت أموراً من الكفر والشرك الأصغرين، في عداد الكفر والشرك الأكبرين.

ولذلك فإنه تجاوز ابن تيمية، فابن تيمية عندما حارب الخرافات الروحية بدع وغلظ، ولكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أفرط فكفر، وشبه المتوسلين بالجاهليين، وليس من الإنصاف، أن يُكَفَّر قوم يتجهون إلى القبلة خمس مرات في اليوم، ويقولون إياك نعبد وإياك نستعين.

ب-كل مجاهد مجتهد يخطئ ويصيب:

والمصلح الفكري فضلا عن السياسي لابد أن يقع في أخطاء، بل إن الأنبياء المعصومون عن الكبائر، يخطئون ولكن يتنزل عليهم الوحي بالإنكار و التنذير، فإذا كان الإصلاح فكريا وسياسيا معا، فإن الأخطاء أكثر، وكل حركة إصلاحية، لا يمكن أن تكون بدون أخطاء ولم تكن الوهابية هي الاستثناء،لأن الحماسة لإصلاح الوضع المختل والفاسد، تقترن في كل حركة إصلاح بأخطاء ثانوية في صياغة الفكرة، أو في تطبيقاتها. ولعل الصحراء طبعتها بالميل إلى القسوة والعنف والتزمت فنحت منحا متشددا عند التطبيق.

والحكم النهائي هو درجة التغيير نحو الصلاح والنجاح، وهذا أمر قد تحقق للوهابية بقدر كبير جدا.

ومحمد بن عبد الوهاب كان معياريا، عندما طبق أفكار ابن تيمية، فحارب خرافات العقيدة الروحية . وكان معياريا واقعيا، في شق العقيدة المدني. عندما أدرك أن إقامة الحكم العادل من فروض الدين، وليس بغيا على دولة عثمانية غارقة في الظلم و الاستبداد. وكان معياريا، عندما كتب الجانب الروحي من العقيدة بلغة تخاطب الرأي العام سهلة ميسرة، بعيدة عن الجدال في الأسماء والصفات. وكان يقدم وجهات نظر عندما يرجح في الفقه. ولكنه كان نسبيا عمليا عندما نادى بالواقعية السياسية، فالمجتمع القبلي الصحراوي، لا يحتمل في تلك العصور أن ينتج دولة شورية.

أراد ابن عبد الوهاب إقامة العدل من خلال نموذج المستبد العادل، لأنه كغيره من المصلحين بعد الخلافة الراشدة؛ لم يثمنوا العلاقة بين العدل والشورى والتعددية والحرية والروح المعرفية، ،فكان تجديده مرحليا آنيا، يناسب مرحلة من مراحل مجتمع الجزيرة العربية الصحراوي.

ومن أجل ضعف هذه القيم في ثقافة المجتمع، لم يبدأ الناس بإقامة هياكل وإجراءات وآليات لتفعيلها، كالتجمعات الأهلية مدنية وغير مدنية.

هذه الشروط من القيم الإنسانية المشتركة بين الأمم المتحضرة، ومن أوليات العقيدة الإسلامية المعتبرة، ولكن المجتمع العربي عامة ومجتمع الجزيرة على العموم، والنجدي على الخصوص، متأثر بالطبيعة الصحراوية والمزاج الصحراوي، فلم يكن للدعوة الوهابية اهتمام بالعلوم والمعارف، ولا بالأمور التقنية، ولم يكن لها معرفة بطبيعة المعادلات الدولية،



ج- أقرب صورة سلفية للتوازن:

والإمام محمد بن عبد الوهاب رحمنا الله وإياه، أدرك العلاقة بين عمودي فسطاط العقيدة الروحي و المدني، وأدرك أن قيام الناس بالفرائض الروحية لا يكفي لإقامة الإسلام، وأن لابد من الجمع بين إقام العدل وإقام الصلاة، وإقام العدل يحتاج إلى دولة شورية، والدولة الشورية طريقها غير معبد في الصحراء، والدولة القبلية قد تكون عادلة، ولو في حدود دنيا: و لو كانت مستبدة، والصحراء لا تنتج تكتلات مدنية، فلن تنتج إذن حكما شوريا، فأدرك أن صحة الأفكار شيء آخر غير صلاحها، وأدرك علاقة صلاح الأفكار بقدرتها على الإثمار، فنجاح البذور الفكرية مرتبط بصلاحيتها للزرع في الحقل الاجتماعي.

وكان مثقفاً دينيا عمليا أي سياسياً، أو راسخا في العلم؛ حسب إشارة القرطبي إلى اشتراط البصيرة السياسية، في مفهوم الرسوخ في العلم. وأدرك أن انتخاب الحاكم لا يتحقق في المجتمع الصحراوي إلا من خلال القبيلة.

لم يكن ابن عبد الوهاب عالما كبيرا كابن تيمية أو ابن حنبل من رموز الفكر السلفي العباسي القدامى، ، بل ولم يكن أعلم من بعض معاصريه كأخيه سليمان، فضلا عن علماء في الأحساء والحجاز، ولكنه أعظم عقلا سياسيا، كان مفكرا سياسيا عمليا.

لم يكن عالماً بالمفهوم التقليدي للعلماء، الذين تكثر محفوظاتهم ومعلوماتهم ومدوناتهم، ويشيع فيهم جانب الاستظهار، بل كان مفكراً دينيا سياسيا صاحب أفكار عملية طابعها الإبتكار وحسن الإستثمار.

شكل خلطة دواء وطبخة غذاء، عالج بها أمراض الصحراء،واستثمر اسمي الأحمدين:ابن حنبل وابن تيمية،ومدرستهما، ولم يأخذ مبالغاتها في قضايا الغيب الثانوية الظنية، ولا في إهمالها العدل، ولا قولهما بعدم الخروج، بل خرج على الدولة العثمانية، لأنه أدرك أن إقامة الحكم العادل من فروض الدين الكبرى، وأن الحاكم إنما ينصب لإقامة العدل، فغذا أخل بوظيفته، فكيف تجب طاعته.ولكنه لم يقتصر على أفكار ابن تيمية ولا المدرسة الحنبلية بل انتقى منهما ومن غيرهما، وأحسبه ألم بفكر ابن خلدون، وهو أكثر من رموز السلفيات قبل عصر الإمبريالية الغربية بصيرة سياسية، أو لعله عرف ما هو الدور الذي إذا قام به نجح.



د-الدولة لا تكون قفزا فوق تضاريس المجتمع:

ولقد هداه الحس السياسي، إلى التحالف مع الأمير محمد بن سعود، فأقام لشق العقيدة الروحي الفكري مظلة سياسية، فتزاوج شق العقيدة السياسي بشقها الروحي، فأنتج سلطة مدنية، فأراد أن تكون قوة العضلات السياسية، في خدمة قوة الأفكار الروحية وقد نجح في ذلك إلى حد ما، ولاسيما في الدولة السعودية الأولى

ولم يكن عالماً طوباويا، يقفز فوق الخريطة الاجتماعية، في مجتمع بدوي، مغلق على نفسه تتحكم فيه العوائد القبلية والعشائرية، ويفتقر إلى الحد الأدنى من الرشد والنضج الاجتماعي، الذي لابد منه إقامة دولة شورية، ولذلك استطاع تقديم صيغة متوازنة بين شقي الروحي و المدني، فلا ملة من دون دولة.

ومحمد ابن عبد الوهاب كذلك، عالج جوهر التحدي، وهو تحد صحراوي بدوي إقليمي، بتأسيس خطاب روحي يثبت بقيام بنيان مدني، يعالج الخلل الصحراوي، بأفكار بسيطة،وبآليات بسيطة، دون أن يقفز فوق الخريطة الاجتماعية، لم يختصر مسألة السياسة بنصيحة الحاكم، كما فعل حمائم الفقه السياسي في صيغته العباسية منذ أحمد بن حنبل، ولم يختزلها بالقفز فوق الجغرافيا البشرية، كما فعل الخوارج، وإنما وضع صيغة واقعية نسبية لعلاقة الملة بالدولة.

ابن عبد الوهاب أدرك في المسألة السياسية،أمرا لم يدركه سابقون كثير، ولعله ألم بفكر ابن خلدون الذي يقول" دعوة دينية من دون عصبية لا تتم"و"عصبية من دون قيم تفضي إلى الهرج"فالخلافة الراشدة، لا تنبت إلا في مجتمع راشد، والرشد هنا سياسي، أي رسوخ الأعراف السياسية الناضجة.

وهذا الرسوخ لا يستقر إلا في مجتمعات نضجت فيها قيم المجتمع المدني، وتبلورت فيها مؤسسات أهلية مدنية اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية ومهنية، وبناء هذه الثقافة يستغرق أجيالا، والمصلح الديني الذي لا ينطلق من فهم موهوب أو مكسوب، لعلم الاجتماع السياسي، لن يصل إلى نجاح يذكر، مهما أوتي من علم، ومهما أوتي من حماسة وإخلاص، ومهما أوتي من جاذبية شخصية.

و ما لقيته الدعوة الوهابية من انتشار في العالم الإسلامي، لم يكن بسبب صحة أفكارها في جانب العقيدة الروحي، بل بسبب تفعيل شق العقيدة المدني السياسي، ونزعة الاستقلال، فالنجاح السياسي للدولة السعودية، حمل السلفية الوهابية على جناحيه ونشرها، ولولا الحامل السياسي لما انتشرت الأفكار.

الوهابية كانت أول صورة سلفية بعد السلفية الأموية توازن، بين شق العقيدة الروحي و المدني. وهذا هو أهم ما فيها، و لقد استطاعت إقامة مفهوم الدولة على المواطنة إلى حد ما، في مجتمع قبلي متحارب، وزراعي متقاطع.

لا يدرك فضل الوهابية على الجزيرة العربية ولاسيما بلاد نجد، إلا من عرف الفوضى السياسية، وما اتصل بها من جوع وفقر وأمراض، في ذلك الزمان.

د-ماالعبر المستخلصة من الصورة السلفية الوهابية:

وسلوك الإمام محمد بن عبد الوهاب،واقعي وجيه عندما آثر مشروعية إنجاز الحاكم، على مشروعية وصوله إلى السلطة بطريق(الانتخاب)، لأن المجتمع الصحراوي لا يحتمل أن ينتج نموذج حاكم منتخب.

ولكن تصرفه- قولا وعملا- غير وجيه ولا مشروع، ولا يجسد معيارا سلفيا،عندماركن إلى نموذج""المستبد العادل""، ولم يخط أي خطوة يحاول بها ربط (العدل) بـ(الشورى).

وتصرفه- قولا وعملا- غير وجيه ولا مشروع، ولا يجسد معيارا سلفيا، عندما أنتج دولة مذهبية، لاتقر بالتعددية ولا بالحرية والتسامح والتعايش، وفوق ذلك لاتنهج أي شورى.

وفهذا النموذج قد ينجح-في مجتمع صحراوي، ولكن نجاحه محدود حينا من الدهر، ولا يستقر ولا يستمر، فضلا عن أن يقيم أمة متحضرة غلابة. لأن الأمن فيه يقوم على القهر والسيف والعنف، لأن نظرية المستبد العادل، تنطوى تطبيقاتها ، على عناصر اختلالها، خلال مالا يزيد عن ثلاثة أجيال.



ج=السلفيات المواضي وقضايا العدالة والعمران



13= الإنجاز السلفي العباسي الأكبر:

إعلان المرجعية وتدوين نصوصها

المصباح في زجاجة ومشكاة

أ- المصباح: حفظ النص/:تدوين مصادر الملة/

السلفية: هي المناداة بفهم مصباح القرآن والسنة، من خلال صفاء زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة.

وهذا التعريف يشير إلى ثلاثة عناصر:المصباح/التطبيق/سنن الله البشرية والطبيعية.

فالعنصر الأساس يحدد أن السلفية هي تحكِِِِِِِِِيم النص القرآن والسنة، ومدونات مصادر الحديث والتفسير والسيرة، الإسلام النصي، الذي لم يتأثر بالمؤثرات التاريخية،بعد الراشدين.

من أجل ذلك عني السلفيون العباسيون؛ بحفظ مصادر الملة، فدونوا الأصول من تفسير القرآن، ورواية الحديث والسيرة النبوية والراشدية. فالمدونات السلفية عنيت بتصحيح الحديث والسيرة وتدوينها،وساقت من أقوال الصحابة وسيرهم ومواقفهم ما يكفي لاستنباط الأحكام في شق العقيدة الروحي والمدني معا.

وهذا أهم عمل قام به السلف العباسي الصالح، فدونوا مادة أصول المعرفة الدينية. وحفظوها من الضياع، وهي وظيفة جليلة ظاهرة لا خلاف عليها،

ومن هؤلاء (أحمد بن حنبل مثلا) فالإمام أحمد بن حنبل (في كتاب المسند) يقدم حديثا أي في الأصول ينبغي اعتمادها، (مادامت أحاديث صحيحة، في اعتبار المحدثين). ثم ظهرت في تدوين الحديث مجموعة الصحاح: لمالك والبخاري ومسلم وابن خزيمة وابن حبان والمقدسي، وهي أصح الكتب، التي التزمت بشروط الحديث الصحيح، وتجنبت إدخال الضعيف، وإن لم تخل من أحاديث ضعيفة وأخرى موضوعة.

وأصحاب السنن، إنما جهدهم الأكبر في تدوين السنة،

وفضل السلفيين العباسيين الصالحين الذي لا يجاريهم فيه سابق ولا لاحق، هو جمع أصول الدين والملة، كالحديث والتفسير والتاريخ والمغازي. و لكن هذا التدوين لم يكن من دون أخطاء، و الأخطاء تصدر من الأنبياء، فكيف نستغرب صدورها من الفقهاء و المحدثين.

و لكن ينبغي عدم التعميم، فغالب ما جمعوه صحيح في الجملة، أو يعضده صحيح غيره،أو لا يخالف أصلا شرعيا، وهم في مرحلة تصفية أولية وجمع، ولم يكونوا في مرحلة تصفية نهائية وفرز، فما اتبعه رواد التدوين، هو ما أمكن في ظل ظروف الاختلال السياسي.



ب-لكي لا يصبح القرآن حمال أوجه/ المصباح في زجاجة:

فكيف يقرأ نص القرآن والسنة؟، وما فيه من إجمال يحتاج إلى تفصيل، أو أصل يحتاج إلى تفريع، أو مبدأ يحتاج إلى آليات ووسائل؟.

وضمان ذلك أن يوضع المصباح في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، فالزجاجة تمنع من أن يكون القرآن والسنة نصا مفتوحا، تعبث به رياح الجهل والأهواء التي قد تعصف بنور المصباح،لكي لا يكون القرآن حمال أوجه، والسلفيون في كل زمن، يرددون الحديث الشريف (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين).

وعلى الرغم من أن الحديث على كل حال؛ فيه مقال وفي تصحيحه جدال، كما ذكر حسان عبد المنان، فإن اتباع سنة الخلفاء الراشدين يتحدد بتطبيقهم القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وتفصيلهم ما أجمل، وبيانهم ما التبس، وابتكار وسائل لتنفيذ القواعد، وكل حديث يأمر باتباع أي أحد غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنما هو مقيد بهذا التوجيه.

بذلك يتحدد منهج فقه الكتاب والسنة، -أيضا-حسب فهم الصحابة، وفهم العرب الفصحاء وأساليبهم، دون تقعر يخرج بالكلام عن مستوى فهم العادي من الناس، كما قرر الشاطبي في الموافقات. لأن القرآن نزل بلغة العرب

هذا الضابط عبر عنه الشافعي عندما قال " السنة حاكمة على القرآن". وقد عبرنا عنه بأسلوب الزجاجة التي من خلالها يتلألأ مصباح القرآن بصورة أقوى أكثر.

وأكد رواد السلفية والسنة والجماعة العباسيون الأوائل؛ على أن السلف-الواجب الإقتداء بهم- هم الصحابة السابقون والتابعون بإحسان-قبل الخلاف-وأن السلفية هي الرجوع إلى نص الكتاب والسنة، من خلال تطبيقهما النبوي والراشدي.

ومن أجل ذلك أكد رواد السلفية عبر العصور أن السلفية التي يجب بها الاقتداء، هي سلفية هي ما كان عليه النبي والصحابة السابقون ما أي قبل الصراع والاختلاف والأهواء، سلفية ما قبل العصر الأموي فضلا عن العباسي.

ففي ذلك الماضي الجميل، كان ضوء مصباح القرآن، يشع من خلال زجاجة النبوة، كانت تزيده لمعانا، وترد عنه رياح الأهواء.

وكانت لعموم الصحابة السابقين عقول سياسية بازغة، تدرك مشكاة سنن الله الاجتماعية، وحقائق علوم الإنسان والطبيعة، وتزيل اللبس عندما يصبح النص-عند حدثاء الإسلام- حمال أوجه، و هذا ما أدركه عمر عندما دون الدواوين، وأدركه الصحابة في طاعون عمواس: الحجر الصحي.

وأدركه علي بن أبي طالب، من أن ضرورة الحفاظ على عروة الإسلام الكبرى الحكم الشوري ، ولم يدركه من خذله أو نازعه أوقاتله، أو هجن مذهبه، وهذا ما أكده عموم الفقهاء، من أن تصرفاته السياسية؛ بينت السنة النبوية، وهذا ما أدركه عموم فقهاء السلف الأموي، والسلف من مخضرمي العصر الأموي والعباسي، الذي عبر عن منهجهم ابن تيمية بأنه "مذهب للسلف قديم".

وبذلك يتبين أن من زعم قال أن الإمامة الشورية العادلة ليست من أصول العقيدة،التي يجب لأجلها الجهاد والاستشهاد،محجوج بما لزمه أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، في المواقف الصعبة، التي تشيب لهولها الولدان.

فلو لم تكن وحدة الأمة والعدل من أصول الدين؛لما قاتل أبوبكر المرتدين.

ولو لم يكن الحكم الشوري من أصول الدين، لما خاض الخليفة الراشد الرابع، ومعه جمهور المهاجرين والأنصار، ثلاث معارك طاحنة، ولترك السنة من أجل تخاذل بعض كبار الصحابة، ولاعتزل الشأن العام، كسعد بن أبي وقاص وأضرابه. ولاستسلم لتيار القبلية والبداوة، كما فعل ابنه الحسن ومن معه.

وبذلك نفرق بين مفهوم الجماعة في النموذج الشوري، ومفهوم الجماعة في النموذج الجبري العضوض، وندرك أن عام الجماعة الذي كال له بعض المؤرخين والفقهاء المديح و الثناء؛ إنما هو عام رسوخ نمط االملك العضوض، عام نشوء البدعة الكبرى في شق الشريعة المدني، عام نقض إحدى عروتي الإسلام: الحكم الشوري والصلاة.

وبهذا وذاك يصبح المتشابه من النصوص وحمال الأوجه صريحا محدد الدلالة، أما في العقل المتصحر الجديب، فصار النص مفتوحاً، وصار حمال أوجه، كما قال الخليفة علي بن أبي طالب، لأنه أخرج عن ضابطه (التطبيق) النبوي والراشدي.



14=للمجددين صور مضيئة وللمقلدين صور باهتة

أ- عندما تكون للعلماء الكبار أخطاء كبرى :

لم يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، أن العلم المجرد من الإرادة والعزيمة؛ إنما هو من أسباب الهزيمة، ولو كان علماؤه من كبا النوابغ والحفاظ.

فالمجتمع المقهور والمتخلف ينتج عباقرة ونابغين، ولكنهم-في الغالب-يستسلمون للمناخ، فينكمشون أو يتشاءمون أو يتمردون تمردا سلبيا، على شاكلة ابي العلاء وعبد الله القصيمي.

وأغلبهم يطوعهم القهر والتخلف فيصبحون من حراسه، وهم قديبهرون الناس ببلاغتهم وجدلهم، وتآليفهم وذكائهم ونبوغهم، ولكنهم حين عاشوا في وسط ثقافة اجتماعية غير ذكية، لا يمنعهم ذكاؤهم من أن يكونوا سدنة منهج معرفي وتربوي؛ يروج ذهنية الرهبنة والصوفية المنقمعة والقامعة، التي تفصل الخلاص الذاتي عن الخلاص الاجتماعي والخلاص الروحي عن الخلاص المدني، والخلاص الأخروي عن الخلاص الدنيوي.

ولا يمنع تخصصهم الدقيق من أن يخطئوا في المنهج أو الموضوع أو كليهما معا، ولا من أن يصبحوا وهم يشعرون أو لا يشعرون حراسا لقلعة الاستبداد والجور والقمع والفساد والإحباط، طوعا أو كرها، فيقدمون فقها كسرويا أو صوفيا منقمعا أو صحراويا متهورا للإسلام، ويحصرون الدين في نطاقه، فيصعب على متحري النهوض اليوم إنتاج فقه مدني، يحل مشكلات المجتمعات الحديثة، إذا استسلم إلى توصيفهم، وبنائهم المعرفي.

ب-لكي يحرق أتون الخلاف شموع العقل والإنصاف:

من أخطر الأمور الشائعة، في التفكير العربي؛ كراهية النقد ومحاسبة النفس، وإنصاف الآخرين. ومن أجل دفاعنا عن نفوسنا نخلط أنفسنا بآبائنا وشيوخنا وأصدقائنا، وتنفلت من عقالها منا حساسية شديدة من نقد شيوخ وآرائهم.

إننا بذلك نقدمهم ملائكة لا يخطئون. متناسين أن البشر كلهم خطاءون، وأن الأنبياء أنفسهم وإن كانوا معصومين عن الإخلال بالواجبات أو غشيان المنكرات، يخطئون في الاجتهاد- ولا تكون عصمتهم إلا بالتسديد والتنبيه، والقرآن شاهد بذالك. ومن أسوء الأمور أن يكون دورنا؛ هو تبرير أخطاء الفقهاء، ومحاولة إظهارها بصورة الصواب، بدلا من إظهارها ومحاولة الاعتبار.

وينبغي أن نذكر أن هذا العاب، ظاهر في تفكير المحافظين اليوم على الصياغة العباسية في عهد الإمبريالية الغربية، ثمة غمط للفرق الإسلامية الأخرى؛ ومالها من فكر صالح أوعمل فالح.

آيتان في كتاب الله هما ميزان الإنصاف عند الاختلاف، فالله يحذرنا من غمط المخالفين:" "يا أيها الذين آمنوا، كونوا قوامين بالقسط شهداء لله، واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون" (المائدة:8)، ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لاتعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى"ويحذرنا من كتم الشهادة على الموافقين، والعلم يدعو العلماء إلى أن يكونوا شهداء على الناس".... ولو كان ذا قربى" فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

لا يمكن أن نكون أسوياء فضلا عن أن نكون دعاة أو مصلحين، مادمنا لاننصف الآخرين، لكي لا نحصر نصرة الإسلام بمذاهبنا، فالإسلام قضايا غيب وقضايا شهادة، وأركان صلاة وأركان حضارة، وللنافع فضله الاجتماعي والسياسي،ولو خالف مجتهدا في قضايا غيب ظنية، مادام في قضايا الشهادة قد أفاد الأمة فقد أصاب السنة في هذا الجانب.

فلا بن سينا في الطب، ما لم يستطع عالم ديني أن يسد مسده، رغم ما شان فكره من انحراف ، ولابن رشد في بداية المجتهد جهد صالح مشكور، وإن يكن حاول في كتبه الفلسفية أن يجعل الفلسفة اليونانية إطاراً للشريعة.

وللأشاعرة فضل في تأصيل العلوم، وبناء المنهجية العلمية، ولا سيما في أصول الفقه والعقيدة، فضلا عن غيرها من العلوم.

وللمرجئة والشيعة الإمامية، جهود خيرة في الدعوة إلى الله، فقد أسلم على يديهم نفر كثير.

أما المعتزلة فهي أكثر الطرق تصديا لشبه الملحدين والوثنيين . وللغزالي في هدم الفلسفة التجريدية من الداخل فضل عظيم، ولابن تيمية في هدم الفكر الدخيل جهد كبير، ولابن خلدون علم سامق، لم يسبقه إليه سابق، ولم يلحق به حتى اليوم من المسلمين لاحق، في بيان سنن الله الاجتماعية والسياسية.



ج-صياغات وحركات تتحرى القطب وليست هي إياه

المصلحون والأحرار في كل مكان وزمان، تحدوهم الأشواق، إلى النماذج العليا، ويرومون المعالي، ولكنهم عند التطبيق يجدون تضاريس الطريق الوعرة، فيتراوح عملهم بين الالتزام بما طمحوا إليه، وبين ما يستطيعونه، وما تلجئهم ظروف الممارسة إليه.

وهذا أمر معروف في الأشياء الصغيرة والكبيرة، كإدارة مدرسة أو هيئة أو وزارة، بل وحتى في خطة تأليف كتاب، ولذلك قالوا عن ابن خلدون إنه في مقدمته رائد كبير، لكنه عندما طبق نظرياته، لم يكن بارعا، بل كان مؤرخا عاديا.

وعندما يعلن فرد أو فريق أن سيجعل مصباح القرآن والسنة له قطبا، فإن هذا الهدف عظيم، ولكن المناخ الذي يعيش فيه الفرد أو الفريق أو الجماعة أو حتى الدولة؛ ليس بهذا التبسيط، بل حتى في كتابة تفسير أو جمع أحاديث.

وقد طرح التماس للحضاري على سلفنا العباسي الصالح، أسئلة ومشكلات، كان لابد لهم من الجواب والجدال والصراع عليها، دفاعا عن الملة والأمة، وفي أي معركة يثور الغبار، وتظهر الحماسة.

وكل مصلح فإنما هو متوتر ثائر، فيه صفات الحدة والشدة, ولذلك فإنه من ضيقه بالتيار السائد؛ يبالغ في أهمية فكرته, وقد يتطرف في ترسيخها وتركيزها, وقد يغفل في سبيل التركيز عليها؛ أموراً أساسية أخرى، وقد يتحدث عن مخالفيه بلغة غير هادئة، وقد يخدش غرورهم واستبدادهم الثقافي،فيعلن أنهم جهال أو فسقة كذبة، وقد يسيء الظن بنياتهم، وقد يستخدم العنف المادي والمعنوي، فيبالغ في التبديع والخوين والتكفير.

وإذا كان المصطلح ثائرا سياسيا, فإن الثورة لها أخطاء واستثناءات لها سياقها، ولها أحيانا فظائع غير مشروعة, ولا عادية في سلوك البشر. والذي يقرأ تاريخ الثورات في الغرب والشرق، يشاهد كما من الفظائع، لم تتجسد في فكر تلك الثورات، و إنما هي أخطاء في الممارسة والسلوك. من أجل ذلك فإن أهل الحماسة لا يكادون يهدأون ويحلمون، إلا عندما يستقر الإصلاح وينتشر، أويتجاوزون عنق الزجاجة.

في كثير من الأحيان يستبد بنا الإعجاب بالمصلحين, فنخلط بين صلاح الأفكار والأشخاص، وفي غمرة الحماس نغلو،فنغفل عن أخطائهم، الناتجة عن سماتهم النفسية، أو عن ضغوط البيئة, أو عن مبالغاتهم في التركيز على ما يحتاج السياق إلى المبالغة فيه، ونعد هذه الأمور تجديداً معيارياً, وهذا مزلق خطير.

ولكن كثيرا من أتباع الحركات الإصلاحية؛ لا يلاحظون أن هذه الأخطاء ، من عوارض الاتجاه السلبية، بل ربما حسبوها سمات إيجابية من جوهر الاتجاه، فيمتدحونها.

وهذا ما وقع فعلا لبعض أتباع الإمامين أحمد بن تيمية والإمام محمد بن عبد الوهاب،عندما اقتنصوا غلوهما في التكفير والتبديع، واستباحة دماء الناس، بناء على ذلك، خلافا للقاعدة الشرعية، التي نص عليها المصباح، في زجاجة التطبيق النبوي نفسه، وقال بها جمهور الفقهاء:حصر السلاح بدفاع الطغيان أو العدوان.

وكثير من كارهي الحركات الإصلاحية؛ لا يلاحظون ذلك أيضا، فيركزون على هنات هينات أوغير هينات، وينسون المصالح الكبرى، من أجل مفسدة صغرى، وينسون الطبيعة الاستثنائية للثورات والحركات والدعوات.

إن شدة الشوق إلى الكمال، لا تمنع من العثراث، و عين الناقد بصيرة، ولكن يده-لو كان في مكان المصلحين-قصيرة، بل ربما كان أقل منهم بعشرات الأمتار. لكن هذا لاينبغي أن يصد الناس عن التفكيك والنقد، عندما يتناول الأشياء والأفكار. لأننا نظلم أنفسنا ونظلم مجتمعاتنا ونظلم الحقيقة العلمية، و نظلم رواد السلف الصالح عندما نغفل عن جوانب القصور، فالتاريخ يقرأ للاعتبار والادكار، لا لترتيب منازل الناس في الجنة والنار. ولا بد لنا إذن من الملاحظة والنقد، ومعرفة جوانب الخطأ والصواب، وأسبابهما ونتائجهما، قدر الحول والطاقة.

أما التركيز على نقد الأفكار الذي يمتزج بنقد الأشخاص؛ ففيه مزالق وعثرات كبار وصغار، لللأسباب التالية:

الأول: الفرق بين راكب السيارة وقائدها، فكثير منا يلوم محتسبا أو مصلحا، فيقول: قصروا إذ لم يفعلوا كذا وكذا، وننسى أن مشاهد التمثلية، يستطيع أن يقترح على الممثلين والكاتب ما يشاء، ولكنه عندما يصعد على خشبة المسرح، يدرك معنى "السهل الممتنع".

والراكب في السيارة، يلوم سائقها ويقترح عليه، ولو أمسك المقود مكانه، لأدرك الفرق بين القول والفعل.

الثاني: أن الناس اعتادوا على القسمة الثنائية، فإما أن يكون الإنسان أبيض ناصعا، أو أسود كالحا، فيذم الناس هذا الرمز أو ذاك، ويطعن بعض الناس في دين الرمز ونيته، ويطعن آخرون في عمله، وعرضه وفضله.

لأنهم يرسمون صورة مثالية للمحتسب والمصلح، ويتصورون أن الله لن ينفع بإصلاح، إلا إذا كان مبرءا من الأخطاء كافة فكرية أوعملية. ويفترضون سلامتهم الدعاة التامة؛ من الأخطاء الشائعة، في الحقل الثقافي والمناخ الاجتماعي، ولايكادون يدركون أن السلف العباسي الصالح،من البشر ، والبشر مهما كان لهم من ورع وعلم وحماسة وإخلاص، و لا يسلم من وقوع الأخطاء، حتى الأنبياء ، ولا عصمة لهم لولا توجيه السماء، فما بالك بالعلماء و الفقهاء.

الثالث: للمصلحين مواقف إبداع وبطولة، ينبغي أن نثني على تلك المواقف، لكي تبقى القدوة الحسنة، ولكي يجد الناشئ في سلفه مواقف حية، من طاقات الاجتهاد و بطولات الجهاد.

من أجل ذلك تبدو خطورة تركيز الضوء على الجوانب المعتمة، في رموز الفكر والإصلاح ونترك الجوانب المشرقة.

الثالث: روح العصر: فمن المهم الدقة عند البحث التاريخي، ولكن انتقاء العبرة عند المعنيين بالإصلاح أهم منها.

الرابع احتياجاتنا: نحن اليوم محتاجون إلى الحفاظ على الهوية، من دون أن نفرط بشروط الحكم الشوري، وسنظلم أجيالنا ومستقبلنا، عندما نمرر أو نبرر الأخطاء أو الأغلاط الكبيرة.

فللسلفيات العباسية أخطاء قد تكون عامة في الحقل الاجتماعي والتعليمي والسياسي عمت بها البلوى، أوخاصة هي من طبيعة البشر، سواء في علم الشريعة أو في علوم الإنسان والطبيعة.

ليس مهما أن يقال: أخطأ السلفي فلان، ولكن المهم المهم أن يقال لمن يريد إعادة الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والثقافة، إننا بحاجة اليوم إلى صياغة جديدة تركز على الأساسيات الأولويات؛ وتعالج الأخطاء الشائعة اليوم، في عصر الإمبريالية الغربية، لا في العصر العباسي.

الخلاصة إذن أن السلفيين في كل عصر لم يدعو الناس إلى ترك القرآن والسنة، والأخذ بأطروحاتهم وكتبهم، فهم يصرحون أنهم يدورون حول قطب وهاج، وأن السلف هم الذين عايشوا المصباح في الزجاجة والمشكاة، ولكي تنضبط السلفية بأنها بوصلة تشير إلى نجمة القطب، تتقرى بها الأجيال التوابع: خطى الجيل السابق من صحابة العصر النبوي والراشدي السابقون، هكذا نادى بها السلفيون الأمويون.



15=الإسلام طائر حلق في السديم

فمن قص جناحيه؟

أ-شاعرنا محمود غنيم يرسم صورتنا الشاحبة:

ينبغي أن لا ننسى أن سبب سقوط حضارتنا أمام الغزوين التتري والصليبي هو الإخلال بقاعدة "العدل أساس الملك"، وليس بقاعدة"الصلاة عماد الدين" بالقيم المدنية، هذا الإخلال الذي تساهلت به ومررته عالصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة

هو أهلكنا ولم يشفع لنا تضخم الشطر الروحي على حساب المدني، لم تسقط بغداد بسبب الإخلال الشطر العقيدة الروحي كالصلاة والدعاء والصيام.

بل بالإخلال بشروط إقامة الحكم العادل التي أهمها بقيم المجتمع المدني الحرية والعدالة و المساواة والكرامة والتكافل و الاحتساب على السلطة والتعاون من خلال التجمعات الأهلية المدنية، التي كانت حامل الدعوة الإسلامية، لقد حلق الإسلام على يدي أجدادنا الأولين بجناحي العدالة والحرية، وعندما نتفت الروح الصحراوية والكسروية الجناحين؛ صرنا كما قال محمود غنيم:

أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد؛ × تجده كالطير مقصوصا جناحاه



ب-الفكر الأوربي اليوم غير اليوناني بالأمس:

التحدي الماثل أمامنا خطير وكبير، ليس الفكراليوناني, ولاماتأثر بمناهجه، ولا بعض أفكار أهل القبلة، فتلك أفكار ومذاهب وحركات، كانت قضاياها أساسية بالأمس، يبد أن بعضها اليوم مات, و بعضها صار ثانويا لا يسيطر على الوسط الإسلامي، الذي انشغل بقضايا أساسية أخرى.

فنحن اليوم أمام تحديات العلمنة التي امتطت ظهر الحداثة السياسية والمدنية ومعطياتها، وهذه الحداثة ليس لها علاج شاف،في صيدلية الغزالي والجويني والأشعري ، ولا في صيدلبة ابن تيمية وابن القيم، ولا في صيدلية محمد بن عبد الوهاب، بلا ولا في صيدلية الشاطبي. ولا في السلفيات العباسية القديمة التي لم تكتو بتيار التحولات الكبرى في العصر الحاضر. وكل نجاحات الماضي البعيد أو القريب نسبية، ولاسيما الفكر الذي لم يصطدم بالحداثة السياسية والمدنية، واللبرالية والعلمانية، فليست لها صفة التعميم في كل زمان ومكان.

إن جوهر التحدي الذي نعاني منه اليوم ، ليس شغبا بدويا، ولا إخلالا بالجانب الروحي من العبادات، كالصلاة وذكر الله والدعاء،ولا انتشارا لخرافات الاعتقاد، كالذي واجه ابن تيمية وابن عبد الوهاب. بل هو تحد حضاري مادي تقني مدني،فيه من التحديات،أنماط مركبة، تشكل أنساقا متكاملة متشابكة، فيها من المغريات والمعطيات، ما ينتهك حرمة بيوتنا وأسواقنا،ومدارسنا ودواويننا، ومساجدنا ومجامعنا. وهو يستهدف روح الأمة وكيانها المادي والمعنوي.ونحن ننساق إليه طوعا عبر الإغراء والاحتواء، أو مسوقون إليه كرها عبر الضغط والقمع، ولا يمكن أن يرفع المسلمون كابوس القهر والقمع الجاثم على صدورهم، إذا لم يطاولوه بفكر عملي بديل، بيدأ ببناء الفقه السياسي الدستوري.



ج- تجيير السلف الصالح لتهميش منظومتي إسلام الدولة العدل والعمران:

لم يتنبه المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة، إلى عمق الكارثة التربوية، التي هزمتنا أمام الإمبريالية الغربية اليوم، كما هزمتنا أمام الغزو التتري والصليبي بالأمس.

صارت لافتة السلف الصالح؛ تشكيكا بكل جديد، وصارت رفضا لقيم المدنية والحضارة، وشروط إسلام الدولة، ومبادئ السياسة الشرعية ووسائلها العشرة، التي نادى بها الإسلام، قبل أربعة عشر قرنا، كالحرية المسئولة والعدالة والمساواة والكرامة والشورى النيابية،وسائر قيم المجتمع المدني والتجمعات الأهلية ولا سيما المدني، بل وصارت تجهيلا بمفهوم المجتمع الأهلي نفسه، باعتباره علمنة وفصلا للدين عن الدولة، وشر الجهل ما يرتدي رداء العلم، ونحو ذلك من الآراء المضللة، التي حاولت كشفها في كتيب: (الطريق الثالث: الدستور الإسلامي منقذا من الحكم الصحراوي المفرط بالحقوق والحريات والعلماني المفرط بالأخلاق والهوية معا).

وصار تحقيق التوحيد مبنيا على أمور ظنية أو ثانوية، تسل فيها سيوف القمع والوأد، فتقتل حيوية الإنسان، وتفتك بالسلام الاجتماعي، تحت عنوان محاربة البدع.

وهيمن فهم السلف الرواد العباسيين على الصياغة، سواء أكان هذا الفهم يعالج أمورنا أم لا يعالجها, فجاءت الصياغة نزاعة إلى التجريد وتطبيق شيء آني، صيغ في عصر ما، وثُبَّتَ على أنه معياري صالح لكل عصر ومصر، تحت شعار" ماأنا عليه وأصحابي"، " ( أصله حديث رواه الترمذي وأبو داود والحاكم )، وكأن السلف العباسي الصالح، هم الصحابة السابقون الراشديون.

وبكثرة انصباب هذه المؤثرات؛ تحول الذهن الإسلامي المستقبلي، إلى ذهن ماضوي أدار عقارب الساعة إلى الوراء، يحاول تجميد فهم الإسلام وحبس روحه في قالب لحظة عباسية، ويعلن اتباع السلف الراشدي قبل الاختلال والاختلاف، وهو في تنظيره وتطبيقه؛ إنما يتبع السلفيات العباسية التي نسجت في ظلال الاختلال والاختلاف، والقمع والطغيان.

وصارت السلفية غفلة عن سنن الله الاجتماعية والطبيعية المطردة، التي سير الله الكون عليها، وأمر الناس بالحركة، من أجل الحصول على البركة المودعة في الأرض، لكل من عمل عملا عمرانيا صالحا، كما قال تعالى"باركنا فيها للعالمين"، وصارت روحا غيبية تنتظر بركة الله الخارقة، معفاة من بركة السعي والحركة.

وصارت السلفية روحا بدوية صحراوية، تعلن كراهية التقنية والتنمية، وتزوَرُّ عن حقائق العلوم التطبيقية والتقنية، وتلعن الفلسفة والمنطق التجريبي، من دون أن تفرق بين منطق أرسطو ومنطق بيكون، وكل هذا الجهالات العريضة، والبداوات الساذجة، والترهات والخرافات، تقدم تحت لافتة السلف الصالح.

وصارت السلفية تبريرا أو تمريرا، للإخلال بشروط إسلام الدولة والمجتمع العشرة،(تفصيلها والبرهنة عليها كتابي: العديلين والجناحين) وغفلة عن أن العدل والشورى ولوازمها كالحرية والتعددية من أصول الدين.

وصارت الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة

عند جميع الفرق التي تقمصتها؛ منهجا يكره التفكير العلمي، ويشيع الجمود والتقليد، ويئد كل نبض جديد، لأن السلف الصالح لم يقل به، وباسم السلف الصالح كم قتل فكر عملي صالح كثير.

ومن الإخلال بالشريعة، غفلة كثير من الناس، عن نموذج الإسلام الصافي، الذي عليه الرسول الكريم والرعيل الراشدي القويم، وانتسابهم إلى آراء وأفكار عديدة، تشكلت عبر الزمن، في مذاهب يحدد فهم الوحيين بها، مع أن الطبيعي أن يكون الحقل الراشدي هو النموذج الذي يقاس عليه، وأن تكون أقوال جمهور الصحابة السابقين وأفعالهم؛ ذات مستوى فذ من المرجعية والمعيارية،ليس لأنهم صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لأنهم أيضا عاشوا في الحقل النبوي والراشدي، أي حقل تطبيق الإسلام النموذجي، وذلك لم يتوافر لأفراد ولا لمجموعات من بعدهم.

فأعمال السلف الصالح أمويا وعباسيا وأقوالهم، ليست هي المعيار الذي يقاس به الإسلام، فالمقياس الذي عليه الاعتماد هو بسلطة النص: مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطيبق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، وهو أصل السلفية، وصورتها النموذجية، هي العهد الراشدين وماعداها صور دقيقة أو باهتة، متكاملة أو جزئية، متوازنة وغير متوازنة، صحراوية ومدنية، تقاس بالمقياس، وليست هي المقياس،وإنما هي اجتهادات لم يكن أهلها ذوي (تقصير)، ولكن المناخ العام ذو (قصور)؛ قصر بهم عن بلورة منظومة متسقة،فنظروا إلى الدين كعقد منثور لا منظوم، فهي اجتهادية لا يحتج بها أو يستدل، بل يستدل لها، لأنها ليست أدلة بذاتها، وتصويبها وتخطئتها واختيار ما يناسب فيها، إنما معياره مقاصد الإسلام الكلية القطعية، وهي مبادئ محكمات واضحات، حددتها الأدلة النصية والمستقرأة معا، حسب ما قرر الأصوليون كالشاطبي في الموافقات .

وإذ بعد الناس عن المنبع، صاروا يحتجون أحياناً بأقوال بعض السلف – بعد الراشدين- أو أعمالهم، التي تخالف أحياناً مقاصد الإسلام وروحه الكلية التي حددتها الأدلة القطعية، واستحسان هذه الآراء، من دون فحص وتأكد; من أنها هي السنة النبوية، يدخل في مفهوم البدعة، التي يميل فيها الناس إلى ما يرون، ويرون حسب ما يهوون، فيستحسنون آراءهم وأهواءهم، دون أن يتذكروا أن أي تفريع، حتى ولو كان على نص صريح صحيح، يشترط لصحته أن يكون منسجماً مع الروح العامة للشريعة، وما عدا ذلك فهو بدعة، وإن كان التفريع عند العقل المجرد من الوحي حسنة، كما قال الإمام مالك: »من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه سلم خان الرسالة، لأن الله يقول »اليوم اكملت لكم دينكم« فما لم يكن يومئذ دينا، لا يكون اليوم دينا (الاعتصام:1/65).

الخلاصة أن اجترار تراث جو القمع والظلم أو صل ثقافتنا السياسية والمدنية إلى مأزق.

د-البيدر الاجتماعي هو ميزان صلاح الفكر الديني:

وقد يقول قائل :لم تبدئ القول وتعيد، وتزعم أن القدامي لم يقدموا لنا فكرا كافيا نواصل عليه التجديد، ويورد نصا للشاطبي أو القرافي، وآخر لابن خلدون أو ابن فرحون، وثالثا لابن حزم أو العزبن عبد السلام، ورابعا لابن تيمية أو ابن القيم، وخامسا للفخر الرازي أو النيسابوري، وقد يقتنص مقالة في كتاب، وهذا تساؤل وجيه، ولكنه غير صحيح، على المستوى المعرفي، فضلا عن المستوى الاجتماعي، وهو المجال الذي نتساءل فيه.

عندما نتحدث عن قصية الإصلاح الاجتماعي، فلا ينبغي أن نهمش السياسيي، فإن القضية أعمق وأصعب من أن تنحصر بالكلام عن وجود نص لكاتب أو كتاب أو فكرة عابرة عند مؤلف تيار، ، فكم من شذرات فكر إصلاحي، ولكنها تند في بطون الكتب، كما تضيع شذرات الذهب في أكوام الرمال.. فالإصلاح ينبغي أن يستوعب أمورا مهمة على مستوى الفكر والعمل:

الأول: أن يتجلى فكر الإصلاح في نسق معرفي(أي بنية معرفية متماسكة) أي أن تكون التصورات الإسلامية بنية تركيبية، ذات ترابط عضوي.

وذلك لا يكون إلا بتوصيف جديد للعقيدة،-يخرجها من ضيق وجمود التوصيف العباسي والمملوكي- ولعله ينجلي بقسمها-للتفهيم والتوضبح- ركنين: شق مدني عموده العدل وشق روحي عموده الصلاة، من أجل بيان شروط إسلام الدولة والمجتع، وبناء نظريات ونظم، كنظرية المفهوم الدستوري للحكم .

الثاني:أن يكون الفكر الإصلاحي تيارا ثقافيا عاما، في عديد من الكتب، وعند عدد من الكتاب، وإن لا فإن الاتجاه الإصلاحي يوئد سراعا، فكم كتاب في أصول الفقه انتشر في جامعاتنا، كروضة الناظر، بينما خمل كتاب (الموافقات للشاطبي)؟، وكم من كتاب في التاريخ انتشر،كتاريخ ابن كثير وخملت مقدمة ابن خلدون؟، وكم نسخة تطبع المطابع من تفسير ابن جرير وابن كثير ونحوهما، هل تقارن بتفسير المنار لمحمد عبده ورشيد رضا.

الثالث: أن تنتقل الأفكار من عالم (التصورات) إلى عالم (التصرفات) الاجتماعية الشائعة، أي أن تترسخ فتتجسد في قيم سلوكية، فأساس نجاح أي مفهوم علمي إصلاحي ، أن يتغلغل في الوجدان الشعبي، وأن يقوم السلوك، لأن الذي يوجه مسار النهر الاجتماعي، إنما هي الأفكار التي يعتنقها الجمهور، لا الأفكار الرائعة في بطون الكتب ورؤوس العلماء أي أن مجال تقييم جهود الفكر المبذول، هو ما في البيدر الاجتماعي من محصول.

وميدان الحكم على الأشياء بالوجود والعدم، إذن هو القيم والمعايير، التي تحكم السلوك، وميدان الحكم على السلوك هو الظواهر الاجتماعية، تلك هي الحقيقة البسيطة.



16=لكي لا نضع الصور بديلا عن الأصل/ لكيلا يصادر المقيس مقياسه: توحيد الأسماء والصفات نموذجا

أ-الانشغال بتوحيد الأسماء والصفات/وقضية القرآن مخلوق أو غير مخلوق ليس مقياسا سلفيا:

إن الخوض اليوم في عصر الإمبريالية الغربية.في تفصيلات إجتهادية في مسائل الأسماء والصفات، غير مشروع أصلاً، فليس من سلامة العقيدة أن نؤلف آلاف الأوراق، ونثير مئات المناقشات، ونتقاطع ونتخاصم و نتبادع و نتكافر، حول حديث النزول"ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة، فيقول هل من سائل فأعطيه؟".

وليس من سلامة العقيدة أن نتشاجر اليوم في عصر الإمبريالية الغربية ونتفارق ونصبح فرقا متدابره، ولا أن نتكافر و نتقامع: هل ينزل بذاته أم ينزل بعلمه؟ فالغرض من الحديث ظاهر، وهو أن نقوم فنسال الله أن يعطينا من فضله، لا أن نكثر الجدل، في ليس تحته عمل، فهذا هو التفكير العلمي العملي، فمنهج أهل الكتاب والسنة ، هو صريح الكتاب والسنة، الذي جسده سلوك الجيل الراشدي.

فليس من سلامة العقيدة أن نتعادى و نتكافر ونشوشر الرأي العام: هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟، أهو حديث أم قديم، ونحو ذلك من النقاش الذي جعلته الفرق العباسية مسطرة قاست به إيمان الناس بالملمترات، وهو بحث غيبي لا يدركه أكثر الناس، ومصطلحات و مقاييس تولد التيه والتجريد والترف والخواء.

إن العلامة على سلامة العقيدة اليوم في عصر الإمبريالية الغربية بل أن نترك نقاش طبيعة القرآن، ونفكر ما هي وظيفة القرآن، فنحن مطالبون بالوظيفة المتيقنة، لا بكشف الطبيعة المظنونة، بتنفيذ مضمون الرسالة، لا بتحليل أشكال أوراقها ومدادها، مطالبون بالسعي إلى تجسيد توأم التوحيد القطعي المتيقن: شقه الروحي وشقه المدني السياسي وبمراعاة ذلك ننجو من التعطيل والتحريف.

فالكلام في طبيعة القرآن مخلوقا أم غير مخلوق، ليس من منهجا سلفيا، إنما هو اجتهادات حركات انتسبت للسلفية، السلفية أصل هو النص/المصباح، وصورة نموذجية في العهد الراشدي، وما عداها فإنما صور نسبية، طبخات وخلطاات حسب الأمكنة والأزمنة وما فيها من أزمات. (سلفية) السلف الراشدي السابق من الصحابة الراشديين هي الصورة المثلى.

:"مسألة الخلاف في كلام الله سبحانه، -كما قال الشوكاني- وإن طالت ذيولها؛ وتفرق الناس فيها فرقا؛ وامتحن فيها من امتحن من أهل العلم، وظن ظان أنها من أعظم مسائل أصول الدين؛ليس لها من كثير فائدة، بل هي من فضول العلم، ولهذا صان الله سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم عن التكلم فيها"(إرشاد الفحول:1/98).

وما رأيت لفقيه أعقل من هذا الكلام، ولو شاء لقال: إن معركة خلق القرآن؛ ليس لها محصول يناسب الجهد المبذول، بل إن الانجرار إلى استدراجها؛ يدل على ضمور الوعي السياسي، لأن شروط وأركان إسلام الدولة، أولى بهذا الحراك.وهي أعظم الدلائل على أن الناس-في زمان القهر- قد يفرغون طاقاتهم ويستدرجون وينجرون ويجرون الآخرين إلى ما لا طائل تحته، إلى الإخلال بالأولويات.

قابل هذا الرأي العملي الحصيف بنمط من المحافظين على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والثقافة؛ يقول: لنا اليوم في عصر الإمبريالية الغربية :أجمع السلف على أن القرآن مخلوق، ومن قال خلاف ذلك فهو كافر. وبنمط آخر يقول: أجمع السلف على أن القرآن غير مخلوق ومن قال بخلقه فهو جهمي كافر.

وليس من سلامة العقيدة في عصر الإمبريالية الغربية.أن نتكافر أو أن نتبادع في تفسير قوله تعالى"وجوه يومئذ ناضرة، إلى ربها ناظرة"، وهل نرى ربنا رؤية معنوية أم حسية، بل العقيدة السديدة ؛ أن نعمل عملا صالحا يدخلنا الجنة، فإذا دخلناها فتلك الحسنى وزيادة.

فإذا عملنا بالمقصود من الآية أو الحديث ، فهذا هو المطلوب في خطاب التكليف ، ومن فهم منها شيئا حسيا أو معنويا وراء مقصد خطاب التكليف، فقد اجتهد بما هو غير مطلوب شرعا،واجتهاده يلزمه ولا يلزمنا، وليس استنباطه مهما لا يتم التوحيد إلا به.

و من علامة العقيدة السديدة؛ ولا سيما اليوم في عصر الإمبريالية الغربية أن يكون المؤمن كيسا فطنا، فيحترس من المجادلين السفسطيين المتقعرين والمتفيهقين، الذين يستدرجون الناس إلى الثانويات، أو ينشغلون بما يبدد طاقتهم، أو يصرفون حماستهم لصراعات جانبية، تخل بوحدة الأمة تحت شعار التوحيد، ينبغي أن يقول لهم: هذا النص الإلهي الكريم أو النبوي الشريف جاء ليطالبنا بأمر، فعلينا أن ننفذ الأمر المطلوب، فهذا هو المقصود الصريح من النص الصحيح، وهو التوحيد السديد، وما سواه من القول فضول، وينبغي أن يشغلنا إتقان العمل عن التفيقه، هذه هي طريق السلف الراشدي الصالح، وهم النموذج الذي لا يشطبه أي سلفي لاحق.

والخوض في تلك الصفات عندما يبعد عن مقامات نزولها، ويخرجها من سياقها اللغوي والاجتماعي غير مشروع أصلاً.

وهناك سؤال مهم: أي فرقة تزعم أنها الفرقة الناجية، وتعلن شعار (ما أنا عليه وأصحابي)، عليها أن تثبت لنا أن النبي وأصحابه، جلسوا يثيرون هذه القضايا.

إن المصطفى فصل أموراً صغرى، في آداب الأكل واللباس و النظافة، فكيف إذن يترك أموراً، تعتبرها الصياغات العباسية والمملوكية والعثمانية للعقيدة، جوهرية أساسية، وتعتبرالإخلال بها بدعة كبرى بل كفرا، وتعتبر الصراع بين الفقهاء على أساسها، أولى من توحدهم لمطالبة السلطان الجبار الدكتاتور، بالالتزام بشرطي البيعة: العدل والشورى.

ب- ترتيب الأولويات:لكي لا يخل توحيد الأسماء والصفات بتوحيد الأمة:

فيالك من أمة تذهب جهود نوابغها في اليوم في عصر الإمبريالية الغربية جدليات ظنية لا تنتهي، وليس لها مردود عملي، وهم يرون ميزان العدالة مكسورا، و الظلم فاشيا والعدل مطمورا، والحكم الشوري مقبورا،وفكر النهوض بالأمة مهجورا، فيشغلهم الكلام عن عدل الديان، و يتركون جور السلطان، و يشغلهم الشقاق على عذاب القبر، عن الاتفاق على عذاب الفقر، ويقودون العامة للصراع على مالا يفهمون، وعلى ما يفرق الأمة أشتاتا.

فأضاعوا مالهم من قدرات، في عداوات ومصارعات. أجل لا شيء أهم من تحقيق التوحيد، ولن يتحقق التوحيد-عندهم- إلا بتوحيد الأسماء والصفات، ولا يتحقق توحيد الأسماء والصفات إلا بهذه المعارك والخصومات.

وتوحيد الأسماء والصفات نظرية ابتكرها السلف العباسي الصالح رحمنا الله وإياه ووسعوها،من أجل الإجابة على الأسئلة التي أثيرت في صدر العصر العباسي.ومن المقبول اعتبارها صالحة في زمن المأمون والمعتصم، عندما ثار غبار الفلسفة اليونانية والهندية ونحوهما، وأثار تمازج الأجناس وتداخل الثقافات سؤالها.

ولكن اجترارها طوال العصور، ورفع علم الشقاق بضعة قرون؛ يدل على عدة مساوئ:

أولها: خلل في منهج التفكير الديني، وعجز عن التأصيل والتصفية، بعد دهور من التعرف والمحاكاة والاقتباس، وإن لا فكيف يستمر الصراع منذ عصر الشافعي حتى عصر ابن تيمية؟، من دون أن تحسم الأمة الخلاف في هذه القضية.

وثانيها: فضلا عن أنه يدل على سيطرة روح الجدل في أمور ليس عليها مدار العمل، يدل انفصال الفكر الديني عن المجتمع، وبعده عن توجيه الناس إلى حسن التدبير، وهذا نابع من ضعف الوعي السياسي.

أنه يجسد غفلة عن كليات الشريعة و مقاصدها، أو عن منهج القرآن، في توجيه الناس، فالله طلب منا أن نتآلف للعمل، وتلك (وظيفة القرآن)، لا أن نغرق في وحل جدل لإدراك (طبيعة القرآن).

ولو حذف توحيد الأسماء والصفات كله من أبحاث العقيدة، لما أخل بصحة العقيدة، ولسدت الأمة منبعاً من منابع الشقاق، فما سموه توحيد الأسماء والصفات؛ إنما أفضى إلى تفريق الأمة إلى طوائف و جماعات أشتات، فهو أجدر بأن يقال للمحافظون على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والثقافة؛ الذين يعيدون إنتاجه اليوم في عصر الإمبريالية الغربية، إنه "تفريق الأسماء والصفات"، ولو صح كل ما قالوه، كانوا قدغفلوا إلى أن ضرب الوحدة بالتوحيد، خطأ منهجي في الدعوة، قاله هارون لموسى "يا ابن أم إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل و لم ترقب قولي".



17=مجتمع الاختلال يبدد طاقات النوابغ والمصلحين إلا النادر

أ-مجاراة مجتمع الاختلال ينتج تقديما للثانويات على الأساسيات الخلاف السلفي المعتزلي:

العقيدة هي أصول الدين، فهي كل شيء أساسي، تبنى عليه الثانويات، وهي كليلت الدين، التي تبنى عليها الجزئيات، وهي ثالثا قطعيات الدين الثابتة بالنص، من خلال رؤية مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة، الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، فكل شيء غير أساس، فهو من الفروع، وإدخاله في علوم أصول الدين خلاف المنهج، وكل جزئي فإدخاله في الكليات خلاف المنهج، وكل شيء غير قطعي فإدخاله في مفهوم العقيدة خلاف المنهج. وبهذا التحديد يكون من أنكر العقيدة كافرا.

ومن المفيد –في هذا المقام-فرز أمرين مختلطين:

الأول: ينبغي احترام السلف العباسي والمملوكي والعثماني الصالح-رحمنا الله وإياهم-،والاقتداء بروحهم في الإخلاص لله والتجرد من حظوظ النفس العاجلة، والورع ومراقبة الله في السر والعلن، وبعدهم عن مداهنة السلطان الجائر، وحرصهم على استقلالهم المالي، لصيانة استقلالهم الفكري، وتقديرهم وإحسان الظن بهم.والحذر من ذم أشخاصهم والقدح فيها فذم الأشخاص والقدح فيهم ليس من سنن الدين و لا العلم، وتجنب تكبير أخطائهم. و أن نعذر الماضين الذين عاشوا في مناخ اختلال، واستدرجهم إلى هذا الجدال.

الثاني: ينبغي أن نقسم رموز االسلف العباسي والمملوكي والعثماني الصالح إلى مجددين ومقلدين. وأن المجددين منهم، كانوا مجاهدين أحرارا، كالأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد محمد بن عبد الوهاب وحسن البنا؛ وأنهم في صياغاتهم أدرى بإمكاناتهم ومشكلات زمنهم وترتيب أولوياتهم منا. وأما مقلدوهم كعبد الله بن أحمد والخلال والبهابرتي وسهل بن عبد الله التستري، -غفر الله لنا ولهم-فلا عبرة بهم.

فأقوال المجددين من السلف العباسي والمملوكي والعثماني الصالح رحمنا الله وإياهم وأفعلهم قد تكون صالحة لزمنهم، فهي خلطات دواء وطبخات غذاء، في إبراز عناصر يستدعيها زمن دون آخر.

ومن أجل ذلك لا يلزم أن تكون صالحة لزمننا.

الثالث:ولو صلحت أفكارهم لما جاز أن يكون عليها المعتمد، وإنما يستشهد بها ويعتضد، فلا يجوز الاقتداء التام بأي إنسان، سواء أكان السلف العباسي والمملوكي والعثماني الصالح، عدا النبي صلى الله عليو وسلم، كما شدد ابن تيمية الإنكار، بل كفر من قلد أو اتبع إماما، في كل أموره,

فالانقياد التام لا يكون لغير مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة،والاقتداء التام لا ينبغي أن يكون لغير إجماع الجيل النبوي والراشدي.

ومن أجل ذلك ينبغي وزن أفكار اللسلف العباسي والمملوكي والعثماني الصالح بميزانها الذي احتكمت إليه مصباح القرآن والسنة في زجاجته ومشكاته. ولا بأس من نقد أفكارهم وأعمالهم، تخطئة وتصويبا، فذلك منهج حميد من سنن الدين والعلم، ولكن ينبغي والاقتصار على الجراحة الضرورية لسلامة الجسد، في كل تشريح. والحذر من تكبير أخطائهم.

ومن السنة أن نعرف أن الحكمة ضالة المؤمن، فنقول للذين يسلمون لعلماء السلف العباسي من دون مناقشة، إن أكثر اجتهاداتهم في شق العقيدة ليس لها قيمة عملية، بل و لاسيما، وإذا وزناها بميزان السلفية الذي أعلنته:"ما أنا عليه وأصحابي"، طاشت في الميزان، وإذا وزناها بميزان"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، لم نجدها في سنته ولا في سننهم. و إنما هي معالجات و قتية لإشكالات بادت و باد أهلها.

نؤكد هذا لكي لا ينحصر مفهوم السلفية وجهات نظر ثانوية أو غير عملية أو غير ذات أولوية، عند الحنابلة في صياغة ابن تيمية،أو عندهم في صياغة الأ شعري، سواء في عالم الغيب أو علم الشهادة.فالسلفية إصلاح روحي ومدني معا، السلفية أصل هو النص/المصباح، في زجاجته ومشكاته، وصورة نموذجية في العهد الراشدي، وما عداها فإنما صور نسبية، طبخات وخلطاات حسب الأمكنة والأزمنة وما فيها من أزمات. وهي تخليص التوحيد من أوشاب الإلحاد والاستبداد معا.دعوة إلى التحرير والعدل، فمن لم يسر في هذا السبيل، لم يدرك منها اللباب.

عندما نقول بأن السلف الصالح هم الصحابة الراشديون, نكون أمام حقائق إسلامية مطلقة, أما عندما نكون أمام صيغتين منتسبتين إلى الإمام أحمد، نكون أمام نظريات نسبية, ولنتذكر أن كلتا الصياغتين –التيمية والأشعرية-تدور في مدار سياسي واجتماعي وجغرافي, منخفض تأثرت به و تأثر بها.

ولذلك ينبغي الحذار، من اتخاذ الصياغة العباسية الفكر الديني العباسي للعقيدة ولأصول فقه الكتاب و السنة، مسألة قطعية، لكي لا نجعلها مسطرة معيارية، في كل عصر وفي كل مصر، نقيس بها إسلام الناس. ونتخذها أصلا مسلما به لبناء فكر مدني وسياسي إسلامي، في عصر الهيمنة الغربية.

لا يمكن بناء فكر مدني وسياسي إسلامي ، يعيد للعقيدة نظامها المتمزق ويجدد ثوبها المتهلهل، إلا بالعودة إلى سراج الكتاب في زجاجته ومشكاته

إن وطيس الخلاف بين الفرق جر إلى احتكار مصطلحات لا يجوز لأي فرقة احتكارها، كمصطلح التوحيد، ذلك الذي جعله المعتزلة عنوان فرقتهم"أهل التوحيد والعدل".

كما جر بعض رموز التيار السلفي العباسي إلى تركيز بحوثه وندواته وصراعاته، في جزئية الأسماء والصفات, تلك الجزئية التي ضخمت باجتهادات ظنية، اعتبرت في ما بعد، قسما أساسيا، من أقسام التوحيد الثلاثة.

فماذا أفاد الأمة ذلك الصراع المرير حول هذا الاختزال المستمر لـ(التوحيد)، الذي حمل المبالغة في التكفير والتبديع؟، صراع لم يزد الأمة إلا مزيدا من الصداع، ومزيدا من البلبلة والأوجاع، فلم يقدم فكراً علميا ولا أولويا ولا قطعيا, إنما هو ظنون تفر من اليقين إلى التخمين.

ب-نقد على نقد/ منطق الفعل ورد الفعل

لم يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، أمورا صارت بديهية في علم الاجتماع المعرفي، وهي أن كل الحركات الإنسانية، -ماعدا الانبياء- تخضع إيغالا واعتدالا، لمنطق الفعل ورد الفعل، فلا يمكنك أن تعرف سر إحجام الشعبي أو ابن أبي العز بعد الإقدام ، حتى تعرف أنهما جربا فأخفقا فيئسا، ولا يمكنك أن تدرك مبالغة أحمد بن حنبل أو ابن تيمية في التكفير والتبديع، حتى تطلع على هجوم خصومهما عليهما.

ولا يمكن أن تتفهم مبالغة الإمام أحمد، بالاعتداد بالحديث الضعيف في كتابه »المسند«، وقول الصحابي والتابعي، وتقديم العمل بهما على الرأي، إلا إذا تبينت أن ذلك كان في سياق الرد على إغراق المعتزلة في منهج العقلاني، الذي بالغ في في نقد كل حديث يرى أنه يخالف القرآن أو العقل أو العدل.

وكما بالغ المعتزلة في الانتصار لما سموه العقل، بالغ السلفيون العباسيون في تقديم النقل، ولو كان ضعيفا.

وهذا التصرف من الإمام أحمد إنما جاء رفضا للمبالغة في تقديم الرأي، لكن هذا لم يمنع من سلامة الجمع في الجملة.

لكن المحدثين من بعده استقروا على استبعاد الحديث الضعيف. وقرروا أن الحديث الضعيف-حسب اصطلاحهم -لا يجوز نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا العمل به أصلا كمانبه ابن تميمية , وفي كتب السنة من الأحاديث الصحاح , مايغنى عن الركون إلى الضعاف .

و من المهم أن نتذكر أن تخوفهم من تسرب كعقلانية التجريد والجدل البيزنطي، التشكيكية. وإغراقهم في الحذر جرهم إلى الإغراق في العناية بالرواية، عناية قللت في أحيان قليلة من الدراية. في نقد المتن، ولا سيما في أحاديث السياسة.

وقد جر تقديم الرواية المطلق على الدراية، إلى شحن كتب العقيدة بله التاريخ والمواعظ، بطائفة غير قليلة من الأحاديث الضعيفة والموضوعة أيضا، وذلك كان له أثر خطير في وأد التفكير العلمي والعملي، وإبعاده عن المحضن الديني.

. وإن تراوحت بين التقليد والتجديد، وإن شاب أفكارها أو تطبيقاتها، شيء من القصور أو التقصير، كما نرى في بعض مواقف السلف العباسي الصالح وأقوالهم.وإن لم يستطيعوا الالتزام بشعارها في بعض أفكارهم ومواقفهم، لظروف خارج إرادتهم ولاسيما في ترسيخ شروط إسلام الدولة العشرة.

ومناداتهم بأصل معياري، يضبط فقه الكتاب والسنة. لكي لا يفضي ذلك إلى هز الثقة بكتب الحديث. وحديث الفرقة الناجية "" تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال ما أنا عليه وأصحابي".

ولكي لا تطفئ عواصف العواطف والأهواء وتقلب المناخ ؛مصباح حقائق القرآن والسنة وينبغي وضعه في زجاجة تطبيقات النبوة والراشدية)، لتفصيل المجمل وبيان وسائل المبادئ، ينبغي فك الالتباس بين المرجعية التي هي المقياس، الذي أعلنه السلف الأموي والعباسي الصالح:"ما أنا عليه وأصحابي"، والحركات والدعوات المقيسة، فكل يوزن عمله بمدى التزامهما بهذه المرجعية في مواقفه وصياغته، كي لا يؤدي الخلط إلى تنزيل الهامش الشارح منزلة النص المشروح، وإعطائه العصمة، فيفضي إلى وضع العالم المتميز، في منزلة الرسول المعصوم بالوحي.

وليست مذهبا عباسي محددا، ولكنها معالم لبناء صياغات ومذاهب ومعالجات.

شغلوا الناس بتوحيد العدل والمساواة ومن يظنون أن كتب العقيدة التي ألفت في عصور الاستبداد تجسد السلف الصالح الراشد. وتذكير للناس أن ، و ليست أيضا حركة محدودة بفكر عباسي معين. ثم بعد ذلك يختلف المجددون عندما ينشئون فكراً إسلامياً جديداً. لأن المسألة مسألة صياغة، سواء أكانت لصياغة أصول العقيدة أو فروعها.

هذا هو الأصل في مفهوم السلفية، ليست مذهبا محدداً، بتجارب عباسية أو مملوكية أوعثمانية ولا اتجاها منغلقاً على رموز معينة، إنها بوصلة للوصول إلى حقيقة الشريعة، وحقيقتها أنها إسلام بلا مذهبية. والقول بأنها مذهب يلزم منه أن يحتكر السلف العباسي الصالح مفهوم السلفية.

نحن اليوم أحوج ما نكون إلى تذكر أن السلفية بوصلة تشير إلى قطب وليست القطب نفسه، هذا التصور ينبغي ترسيخه، لأن التحديات أكبر، واتجاهات التجديد أكثر، وتجاوز الأصول صار أخطر، وعجز الصياغات والمعالجات العباسية صار افظع، بذلك تصبح سلفية المصباح والمشكاة هي نجمة القطب وبوصلتها.

ليكون أساسا للعقيدة والثقافة: إن تقديم الثانويات على ، و الغفلة عن لصياغة العباسية للعقيدة على امتداد القرون، اختلطت فيها أفكار تجديد ودراية، بأفكار تقليد ورواية، فلم يكن منتسبوها بدرجة واحدة من الاقتدار، على إجابة سؤال التحدي، ولم يكونوا بدرجة واحدة في مستوى استلهام الكتاب والسنة، ولم يكن رموزها بدرجة واحدة من الرسوخ في العلم، ولم يكونوا بدرجة واحدة من القدرة على تجديد الدين. للعقيدة والتربية والثقافة الإسلامية.

إن ثقافتنا تشكو من إفرازات أمراض المجتمعات المقهورة،وقد تضاعف هذا المرض اليوم فصارت العلة علتين.



18= كل تجديد بشري يئول إلى تقليد

فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم

أ- جدلية الصراع:

في الصراع بين القديم والجديد؛ هناك شيئان متناقضان يتصادمان، وكل من المتصارعين يلبس عدة المحارب، ومن المستبعد أن يكون هادئاً، ولذلك يجنح عن الاعتدال، فليس رسولا معصوماً، لا يفعل إلا حقا، ولا يقول في حالة الغضب، إلا كما يقول في حالة الرضا.

والاضطراب في بداية الصراع طبيعي، إن اصطدام رافدين في حوض نهر واحد، يحدث في اضطرابا في النهر وصخبا، ثم ينساب الماء في النهر رقراقا سلسا، بعد أن كان ساعة الاصطدام متموجا مضطربا.

وقد أشار ابن تميمة إشارة ذكية، في كتاب العقل والنقل، إلى أثر الصراع بين الفعل ورد الفعل، في إنتاج ثنائية الأبيض الناصع المقبول جملة وتفصيلاً،والأسود الكالح المرفوض جملة وتفصيلاً، فالذين أثبتوا الصفات بالغوا حتى جسموا، وأو غل بعضهم حتى أنكر المجاز، وكانت مبالغتهم رد فعل تيار راقت له الفلسفة اليونانية التجريدية، وأرادها أطاراً لفهم القرآن والسنة، فبالغ في التنزيه فجره ذلك إلى النفي والتعطيل، فبالغ أولئك في الإثبات، حتى وقعوا في التشبيه والتمثيل، وبالغ في الاعتداد بالعقل والتجديد، فبالغ أولئك في النقل والترديد،حتى آل بهم ذلك إلى التقليد، وإلى الاعتداد بالأحاديث الضعيفة، بل والموضوعة في إثبات الصفات .

هناك حقيقة معروفة في تاريخ الصراع الثقافي، فكل صراع بين حدين، ينتج موقفا ثالثا متوسطا بين المذهبين، ولذلك فما أن يثور الصراع بين مغالين في المحافظة، ومغالين في التجديد، حتى يتوالد منهما موقف ثالث جديد، فالصراع بين القدرية والجبرية في العصر الأموي، له أيضا سببه من التماس الحضاري، فالقول بالجبر يخدم الخضوع للجور والاستبداد، و يبرر ذلك بألف دليل ودليل، تحت عناوين الصبرعلى ولاة الجور؛ ولو أكلوا أموالنا وضربوا ظهورنا، لأن الحاكم ظل الله في الأرض، فالله هو الذي ولاه علينا، فحسابه على الله، وعلينا الصبر على جوره، وانتظار الفرج، بالدعاء، وانتظار لطف الله الخارج عن الكسب، وقد تمخضت عن الصراع الصيغة الشائعة:الإنسان مسير ومخير معا.

والصراع بين المحافظين والمجددين في الفلسفة والمنطق، تمخض عن تهذيب المنطق وعلم الكلام عند الأشاعرة، الذين كانوا فرسان أصول الفقه.

ب- التجديد علاج وباء أو وإعادة توازن نظام الغذاء:

التجديد نوعان: غذاء لابد أن يستمر به الناس، فعناصر الغذاء –إذا كان الناس يطبقونها-لا يمكن أن يقال في يوم من الأيام،إنه يجب تجديدها، وإذا أهملوها ينبغي تذكيرهم بها. وهو علاج أمراض يتطلب خلطة دواء، تركز بعض عناصرها، وتعيد ترتيب الأولويات، حسب المقياسين المهمين: الأساسي ومعالجة الأخطاء الشائعة.

فإذا شفي المريض صار تكرار الدواء نفسه تقليدا، لأن لا يحقق نفعا، بل ينتكس بالجسد.

إن أي حركة في التجديد الديني جاءت بعد عصر الراشدين قديمة أو حديثة، إنما هي صياغة أفكار فرعية، أو تطبيق برامج، أو إبراز عناصر مغيبة، وهي إجابة عن أسئلة ثقافية واجتماعية، ثارت في تلك البيئات، ولها حظوظ من الصواب وحظوظ أخرى من الخطأ، لأنها عندما تركز على بعض الأمور المغفلة؛ تهمش أمورا أخرى، لأنها اجتهاد بشري، وحظها من النجاح والإخفاق بقدر روحها العملية، والمناخ السائد ومعرفة زارعيها بالمواسم، والمحصول الذي يحتاج إليه الناس، و كل حركة إصلاح، هي تجديد نسبي للدين، لا يتناول الثوابت، ولكنه يتناول المتغيرات، ولا يتناول كليات الشريعة لا مقاصد ها وروحها حتما.سواء أكان حركة فكرية أم حركة اجتماعية سياسية، وهو ضروب لعل أهمها سبعة:

الضرب الأول: جلاء ما انطمس من نظام العقيدة في شقها الروحي أو المدني أو كليهما معا، كالقول بأن الحكم الشوري ركن من أركان الدين العظام، يعادل فريضة الصلاة.

الضرب الثاني: بناء فروع على الأصول، كبيان مبادئ السياسة الشرعية العشرة. ، كالمناداة بـ(المجتمع المدني الإسلامي)، وتجمعاته الأهلية، ولا سيما المدنية،كالنقابات والروابط والجمعيات، بصفتها الوسيلة المثلى اليوم لتعبير الأمة-على المستوى الشعبي- عن سلطتها وسيادتها وقوامتها، على كل من يحكم باسمها، وقيامها بحراسة استقلال القضاء، وحراسة مجلس النواب، عن اختراق السلطة التنفيذية.

الضرب الثالث: إيجاد وسائل(أي إجراءات)، تضمن تنفيذ المبادئ المعطلة، بفقر الوسائل، مثل(نظام الدستور الإسلامي)الذي تضمن إجراءاته شروط إسلام الدولة والمجتمع العشرة، كضوابط استقلال القضاء العشرين،وتوافر محكمة عدل العليا في الدولة، وتوافر ديوان للمراقبة والمحاسبة القضائية، مرتبط بالقضاء العام، وتوافر هيئة ادعاء عام، يشرف عليها القضاء، وإن ارتبطت بالسلطة التنفيذية،وإنشاء مجلس نواب بصفته آلة لتطبيق مبدأ شورى أهل الحل والعقد الملزمة.

الضرب الرابع حلول مشكلات جدت، كفقر الدول الإسلامية التقني.

الضرب الخامس: التذكير بأصول الإيمان والعمل الصالح، بنبذ بدع خيمت، سواء أكانت في شعائر التوحيد الروحية،كبدع الطواف حول قبور الأموات، أم شعائر التوحيد المدنية، كبدع الطواف حول قصورالطغاة.

الضرب السادس: التذكير بمنهج فقه القران والسنة، وتجديد ثوب الثقافة، صياغة الفكر الصالح، آليات و فروعا، بأشكال ولغة قريبة من أفهام الناس.

الضرب السابع: التجديد الفعال سياسي اجتماعي، بإنتاج العمل الصالح، الذي يساعد الناس على فهم تلك الأصول والعمل بها، وللناس أحوال متغيرة، ولهم في كل حال حاجة أو إشكال أو سؤال، ولأن الجديد بالأمس قد يصبح فكرا تقليديا اليوم، عندما لا تحتاجه الأمة. أو عندما تحتاج إلى التركيز على إجابة أسئلة لم يثرها التجديد بالأمس.وإنما يذكر الثقافي، لأنه يمهد له.

ب-لمفهوم تجديد الدين أربعة مجالات:

العناصر الأربعة في كل تجديد

وكل مصلح مجدد يخطو في التجديد خطوة أو خطوات، ويظل في أعماله الأخرى عاديا, منغمسا في مايرين على مجتمعه من عادات.

وكل مصلح عندما يجدد تختلط في تجديده عنصران:معياري مطلق هو أساس الإصلاح في كل زمان ومكان، وهو صريح الإسلام وصحيح الحكمة، ونسبي آني عالج به مشكلة قائمة، ومن العنصرين تتكون خلطة التجديد.

وتتداخل أربعة خيوط في نسيج الصياغة والتطبيق: الأساس المعياري وهو فكر صحيح، والفكر الاجتهادي وهو ثلاثة أقسام:

الأول:ما هو صحيح معياري، يصلح لكل زمان ومكان، لأنه توصيف صحيح للكليات التي نطق بها الكتاب والسنة، كما في أغلب مفاهيم أصول الفقه التي أبانها السلفيون العباسيون-في الجملة لا بالجملة-، وكما في مفهوم المصالح المرسلة عند ابن تيمية، و كما نظريتي المقاصد والنظام في الشريعة، عند الشاطبي، و هذه الأفكار الثلاثة، ينبغي أن تكون الشغل الشاغل اليوم، لدعاة السلفية المدنية المنادين بأركان إسلام الدولة الخمسة.

الثالث:وما هو صحيح نسبيا، ولكنه غير دقيق أو غير شامل، أو يركز على عناصر ثانوية، ولكنه يناسب التطور المعرفي، ويناسب البيئة التي صيغ لها، لأنه يجيب عن ما فيها من إشكال أو سؤال أو احتياج، كالتركيز على بحوث علم الكلام، وحصر الفقهاء مقاصد الشريعة في خمسة أشياء، وتركيز العلماء على جانب العقيدة الغيبي و الروحي، وتركيز الغيبي في الظنيات.

والرابع فكر أو عمل اجتهادي خاطئ، ناتج عن قصور علم أو تجربة، أو عيوب شخصية أو ضغوط مناخية، كشعار الكف عن ما شجر بين الصحابة، وتهميش شق العقيدة المدني على متن الروحي. والميز بين العناصر الثلاثة الأخيرة صعب، والمصلحون و دعاة القسط مهما كبروا لا يخلون من الخطأ في الرأي، ماعدا الأنبياء المسددين بالوحي.

ينبغي أن نسأل أولاً عن مدى تناسق التطبيق مع الصياغة، أي مع الأفكار، ثم نسأل ثانيا عن صحة الأفكار أي نسأل عن اتساق الفروع بالأصول.

لكي يتبين لنا أن الاجتهادات يؤخذ منها ويترك، فإذا حاول منتسب إلى السلفية، كعبد الله بن أحمد: أن يلغي أبا حنيفة رفضنا قوله ، وعددنا ذلك زلة كتاب أو لسان ، أو كبوة جواد ، وما قاله عبد الله ابن أحمد: نزنه ونغربله بمنهج السلف العباسي أنفسهم، فمن منهج السلف نفسه ننبذ ذم أبي حنيفة، وهكذا في الأمور الكبرى، التي تفرضها علينا اليوم الحداثة والعلمنة، والعولمة والهيمنة.



19= التقليد الأعمى يحول المنهج المفتوح إلى مذهب مغلق

( ويستقر في غيبة الحرية والتعددية والشورى)

أـ-السلف العباسي الأول مجدد ولكن لأزمنته:

في العصر العباسي، صاغ سلفنا الصالح العقيدة، مركزين على الشق الروحي الغيبي، معتمدين على حديث جبريل الشهير،((الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ، واليوم الآخر، والقدر خيره شره)) وحديث جبريل ليس على إطلاقه، ففي صورة الإسلام جوانب أخرى، وقد حدد حديث جبريل جانب التصور من شقه الروحي، والآيات والحديث والتطبيق جسدت شق التصرفات، روحيا ومدنيا. واختصار الإسلام بهذه الصياغة يجسد اختلالا في نظام العقيدة، لأن الإسلام نظام يعتمد على عمودين: مدني و روحي، و لكنهم معذورون، لظروف شرحناها مراراً.

وهم على كل حال صاغوا بهذا الشق الروحي من العقيدة بأسلوب يناسب أسئلة عصرهم، حاولوا فيه أن يجيبوا على الأسئلة التي أثارتها الثقافات الأجنبية الوافدة، وإن لم ينجحوا في الخلاص من أوشابها ، فكانت لهم حركات مباركات، وصفت بـ"السلفية"، إذ أعلنوا أنهم يلتزمون بصفاء الكتاب والسنة، و قالب تطبيقها العهد النبوي والراشدي، ورغم أن إعلان الانتساب إلى تلك المرجعة؛ لم يحل دون أخطاء كبرى منهجية وأخرى موضوعية، في صياغة العقيدة، ولكن المهم في ذلك الآن، هو أن نتذكر أن الصياغة كانت جوابا لأسئلة فغرت أفواهها، وتحديات أشرعت سيوفها، ومعطيات معرفية لابد من امتطائها.

ب-حلول خاصة ببيئات كانت وبادت:

والسلفيات العباسيات حركات مباركات، على مسرح الأفكار والحياة، امتدت إلى ما شاء الله، ولكن السلفيين رجال اجتهدوا في ما بين أيديهم، وما لم يقل سلفيو اليوم: أولئك القدامى رجال ونحن رجال، فلن يفلحوا في تجديد الدين، و لا إلى النهوض على أساسه.

فقد كانت صياغتها تنظر إلى تحديات قائمة، ومن أجل ذلك اعتبر البوطي السلفية حركة سادت فبادت.

والفروع والأعمال والأقوال السلفية العباسية، هي تراث بشري، تأثر بما لدى الأفراد والجماعات من حماسة وتهاون، وتشدد وتساهل، وموائمة بين الظروف العامة والخاصة. فالأساس الثابت لها هو النص و منهج فقهه، أما الحركات والصياغات، فهي علاجات متغيرات، لزمن ومكان ما.

فالكف عن ما شجر بين الصحابة، شعار نادى به عمر بن عبد العزيز، في مناسبة خاصة، وهذا أقصى ما يمكن صدوره من حاكم أموي، درج منذ نعومة أظفاره على سماع لعن علي، وليس متوقعا منه أن يسب مؤسس الحكم الأموي. فهو قانون نسبي آني مقبول في مقام معين، ولكنه غير لازم ولا دائم. أما أن ينادى به معيارا من مسلمات للعقيدة, ويوضع ضمن فقراتها، وكأنه من قطعياتها، أو من أصولها الكلية، فذلك أمر غير سليم، لأنه لا يصح معياريا،فهل يجوز لنا أن نكف علم السياسة عن ماشجر بين الصحابة؟، إن هذا بمثابة حماية للجهل السياسي.

وقد أدرك ابن تيمية، فدخل في خضم ما شجر بين الصحابة، وخاض خوضا دون احتياط، بكتاب (مناهج السنة) لأن المحذور زال، ولكنه رغم ذلك يقول في الواسطية، إن الكف عن ماشجر بين الصحابة، من منهج أهل السنة والجماعة.

على أن محصول شعار الكف عن ماشجر بين الصحابة؛ هو تأبيد الجهل السياسي, ووضع حاكم مستبد مغتصب كمعاوية عديلا لحاكم شوري منتخب كعلي.

وكذلك الفلسفة والمنطق والكلام، حذر منها الأوائل، بيد أن الغزالي وابن تيمية دخلا فيها، لأن جوهما تطلب الخوض فيها، وعلماء الأصول في آخر المطاف يعدون المنطق من العلوم الضرورية للدين، كما ذكر الغزالي، وكما فعل ابن تيمية.

فما للسلفيات العباسية من تراث وأفكار وحركات؛ إنما هي محاولات إجابة للأسئلة المثارة، وهي في غالبها مسددة الخطوات، في علاج أدواء بيئاتها، ولكنها-كأي عمل بشري- لا تخلو من عثرات، ولم تنتج كلها من داء التبعيض، هذا أهم سبب يجعلها لا تكفي أساساً لعلاج أدواء العصور الحديثة.

وأسلم ما فيها منهج فقه الكتاب والسنة وفقه المقاصد، في بنايته عند الشاطبي والشوكاني، وهو قادر على أن يساعدنا على بناء نظريات في المنهج نفسه، نقاوم بها الضغط الحديث، أما الصياغة العباسية لها، التي عاشت قبل صدمة الحداثة واللبرالية والعلمانية؛ فغير قادرة على ذلك، من أجل ذلك ينبغي أن لا نخلط بينهما.

فالمرجعية هي الكتاب و السنة، في مشكاة التطبيق النبوي والراشدي، و هي التي دون السف العباسي الصالح، وأهم معالم مادتها و منهجها، هي المرجعية، هذا ما اتفقت عليه حركات التجديد، وحركات التقليد.

والفرق بين حركات التقليد والتجديد، أمران

الأول: مدى الالتزام بالمرجعية، وكل حركة إصلاح لم توازن بين شقي العقيدة المدني والروحي، فقد أخلت بنظام الإسلام، لأنها لم تفطن أن شروط إقامة الأمة العشرة، كشروط إقامة الصلاة كلاهما من أصول الدين.

الثاني: في مسائل التفريغ، واستخراج النظريات والآليات، وفي صياغة هذه الأصول، فالسلفيات تصوغ مسائل العقيدة، حسب طبيعة السياق الاجتماعي، متفاعلة معه. كما فعل السلفيون في صدر العصر العباسي، وكما فعل أحمد بن تيمية، وكما فعل محمد بن عبد الوهاب، وكما فعل دعاة السلفية المدنية منذ إعلان الدستور العثماني 1292هـ (1876م).

أما المقلدون فيكررون صياغات أنتجت لعلاج مشكلات غابرة، ويثبتون عليها عندما يقلدونها صفة السلفية، وينتزعون الوصف بالسلفية من سياقه، والسلفية في الثريا و هم في الثرى، ويرددون ما كتب المجددون ومقولاتهم، كابن تيمية أو ابن عبدالوهاب، والشاطبي والغزالي. دون أن يدركوا أن تلك السلفيات كواكب دوارة، حول قطب المرجعية، ولا يدركون أن لكل عصر حركة سلفية، إنما يظلون يهمشون ويشرحون، أو يلخصون وينظمون تلك المسائل.

السلفيون المقلدون يعيدون الصياغات العباسية، فيجترون أفكاراً وصياغات، فقدت ارتباطها بالحاضر، و أفكارا تجسد الإخلال بنظام الدين. من أجل ذلك يبذلون جهودا كبيرة، ولكن النتائج ضحلة قليلة، فيصبحون كالمسافر المنبت، لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى.

أما السلفيون الأحرار فينادون بالعودة المباشرة، إلى القطب الثابت، فيحاولون أن يتفاعلوا مع الواقع، و أن يستوعبوا الوقائع والنوازل، وأن يدركوا التحدي الماثل، يونانيا أو سلطانيا أو علمانيا أوافرنجيا أو أمريكيا، ثم يحاولون أن يسهموا في تقديم المخارج والبدائل.

و قد ظهر تيار السلفيين الأحرار الحداثى، في مقالات و إشارات لدعاة الإصلاح الديني كمحمد عبده و الكواكبي و الأفغاني و خير الدين التونسي وسيد قطب والمودودي ومحمد المبارك و كعلال الفاسي، والطاهر بن عاشور و محمد قطب وحسن البنا زمحمد الغزالي و القرضاوي.

وقد ظهر تيار السلفيين الأحرار القدامى، في ماكتبه أحمد بن حنبل ومجايلوه في الرد على الزنادقة والمبتدعة، تجديداً فكريا، لأنه كان جوابا لسؤال ماثل، وتحد هاجم، وإشكال قائم، فلم تكن مقالاتهم تخاطب الأشباح، ولا تخطب في المقابر. وجاء من بعده وتغيرت أحوال المجتمع، ولكن السلفيين المقلدين لم يدركوا للتغيرات، فالتزموا ما كتبه الإمام أحمد وكأنه شرع منزل، فتحول التجديد بين أيدي الجامدين من التلاميذ إلى تقليد مترهل.

كل تجديد يرتبط اعتباره تجديداً بالمشكلة الواقعة، فإذا نشر في المكان أو الزمان الذي ليست فيها المشكلة فإنما نشره تقليد، وناشره مقلدن وإن كان قائله مجددا.

وكل إصلاح إسلامي يتسم بأمرين، الأول: النجاح في علاج الوباء بأسلوب عملي، الثاني:تركيب خلطة الدواء من صيدلية القرآن والسنة، أي أن يكون الحل منطلقا من الالتزام بالمرجعية: النص الكتاب والسنة ومنهج فقهه، على أن يقرأ النص في مشكاة التطبيق النبوي والراشدي،وصحيح علوم الإنسان والطبيعة، فإذا لم يكن الإصلاح ملتزماً بهذين الشرطين فهو غير سلفي إن لم نقل إنه ليس إسلاميا، وإذا لم يعالج الداء أو يؤسس للعلاج فليس بإصلاح و لا تجديد.

ولا فائدة لنا اليوم من عديد من ما صاغه العباسيون، من نظريات واجتهادات، في شق الإسلام المدني، لأن الذي أنتجها مناخ اجتماعي سالف،فكانت محاولات لعلاج مشكلاته لا مشكلاتنا، ولكل عصر معطيات وتحديات، تفرز تجديدا في الدين يحل الإشكالات،

لأن مرور الزمن يحول كل نشاط إلى هبوط، وكل تجديد إلى تقليد، وكل حركة حية مرنة تتحول عبر الزمن على هامدة رثة متزمتة.

ولكن هذه الحقيقة الاجتماعية على بداهتها؛ لم يدركها المتمذهبون بمذاهب، جعلوها قالبا حديديا للعقيدة، و لم يلاحظوا أن تلك السلفيات التي همشت شروط إقامة الأمة العشرة، قد تهاوت منذ إعلان الدستور العثماني، حوالي سنة 1300هـ و أن حرب الخليج الثانية قد أصدرت شهادة و فاتها سنة 1410هـ (2000م) وغاب عن المحافظين على الصياغة العباسية ، أن تلك السلفيات غير قادرة على أن تنتج خطابا يعالج المشكلات الجديدة. وأنها -إذن- لا تختزل الدين، ولا تحدد آفاق الدعوة إلى الله. وأنها على كل حال؛ ليست ميزانا يوزن به الكتاب والسنة، فلا يقرآن إلا بعيون السلفي العباسي الصالح.







20=كيف نجدد ما يحتاج إلى تجديد

من دون قطيعة رموز السلف العباسي الصالح

أ-الحذرمن القطيعة والانقياد الأعمى معا:

إن تحقير جهود المصلحين السالفين، والنظر إلى عيوبهم،عبر النظارات المقعرة،والزوايا الحادة، والدعوة إلى شطب إنجازاهم من ذاكرة الأمة، ليس خصلة محمودة لا في الدين ولا في العلم، فالإنصاف يقتضي الإعتراف بدور الآخرين.

لكن تحديد صورة الإسلام النموذجية، بتجربة في زمان أو مكان سابق، أو تحديد النجاح بإعادة إنتاج نموذج ناجح، في معطيات وتحديات معينة، أو في مناخ وتضاريس متميزة، يحتوي على نظرة اختزال متجمدة،تقدس الأشخاص، وتظنهم تجسيداً كاملاً للأفكار، وتخلط بين المبادئ والأشخاص، وتمنع الأذهان من الحيوية اللازمة، لفهم ذواتنا وفهم من حولنا،فضلا عن فهم الإسلام.

والإسلام لايمكن أن يختزل في الأشخاص، ولا في الصياغات المحدثة، بعد عصر الراشدين.

ومن الضروري اليوم أن تتفتح الأذهان،من أجل ابتكار آليات وأفكار; تنجح في مطاولة التحدي، فالذهن كمظلة الطيار، لايمكن أن تعينه على النزول إذا لم تنفتح، وكذلك مظلة الماشي أثناء هطول الأمطار، لا يمكن أن تقيه الأمطار إلا إذا انفتحت.

ومن أجل ذلك فلابد أن نستمد روح الطموح، التي تغلغلت في شخصيات المصلحين، وتتأسى بها للاستشهاد و الاعتضاد، من السلفيين الأموي والعباسي الصالح والناجح، روح حرصهم علي فهم الحقيقة الدينية، وروح تعمقهم في الحقيقة العلمية، وروح إدراكهم الحقيقة الاجتماعية معاً، فبالحقائق الثلاث، كان ماكان من نجاح،وهذا يعني أن لا نحدد النجاح، في أوعية تجارب معينة.



ب- نقد التراث لايكون إلابروح الولاء والانتماء:

كيف تكون العلاقة بيننا، وبين رموزنا الفكرية والدينية والثقافية، التي أسهمت في بناء المجموع التراكمي للعقيدة والتربية والثقافة الإسلامية، في مختلف العصور؟ هل تكون علاقة تسفيه وتكذيب، وطعن وهجاء، ولوم وتقريع، وإنكار وجحود، وقطيعة معرفية وتربوية،كما هو لسان الحال أو المقال ،من غلاة التجديد و بعض المندفعين فيه؟.

أم علاقة مبالغة إغراق في الإطراء والمديح؟، وتبرير كل خطأ، وعلى اعتبار أن الأصل أن نخطيء و يصيبوا، وأنهم خير منا جميعا تقوى وورعا، وعقلا و علما، ولذلك يجب علينا أن نقصر فهم الدين على منظارهم، وأن لا نجتهد في أمر إلا من خلال أبصارهم ، وأن لا نقول بشيء جديد، إلا بأثارة من علمهم، وأن لا نسلك طريقا لم نجد عليه آثار أقدامهم، ناقلين مقولاتهم ومرددين معالجاتهم، كما هو التيار الديني الشائع المحافظ على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والثقافة الإسلامية،اليوم، الذي لم يركز على سؤال الحرية والتعددية والشورى.

أم أنه لابد من تصحيح ، مفهوم العلاقة بيننا وبين سلفنا العباسي الصالح، لتكون علاقة علمية موضوعية، وكل علاقة علمية فهي نقدية، أي علاقة نقد ومناقشة، لا علاقة تقديس وتسليم، فلا نتخذهم مرجعية، بل شواهد يعتضد بها.

علاقة مراجعة وتمحيص، لا يتهيب الإنسان من أن يخالف غيره إذا ملك الدليل، ولا يتهيب التلميذ من أن يقول لأستاذه: كتابك غير مفهوم، ولا يتهيب المريض من أن يقول لطبيبه: طبك لم يشفني رغم تقديري لإخلاصك وعلمك.

إن المبالغة في التعظيم مرض نفسي اجتماعي، ينتج عن طبيعة المجتمع مقهور، يفضى إلى تقزيم الذات، وتعظيم الماضين، وهو أسلوب احتماء عاطفي، يحاول الحفاظ على الهوية، في عصر الهيمنة الغربية، وهو نبيل الدوافع والنيات والمقاصد، ولكنه عاطفي الوسائل والمناهج.

لا ريب أن للمعلمين والمرشدين والآباء والمفكرين، من الحُداثَى والقدامى تعظيماً واحتراماً وتقديراً. فاحترام جهودهم، شعيرة من شعائر الإنصاف، التي تهدي إليها الفطرة والطبيعة، فضلا عن هداية الشريعة. وبرهم وإحسان الظن بهم سنة حميدة في الدين.

ومن المهم إذن إحسان الظن، وترك الخوض في النيات والمقاصد، فلكل مجتهد من الأجر نصيب، حتى ولو أوقعه الاجتهاد الشرعي، في أخطاء منهجية أو موضوعية، كما نبه ابن تيمية والغزالي، وينبغي التخلص من تصويب البصر وتصعيده على الجوانب الخلفية، أو من خلال الزوايا الحادة، وينبغي ترك الغيبة والنميمة والأحقاد، ونبش الجثت والرفات، التي قد ترتدي رداء الأكاديمية والبحث العلمي والإصلاح.

والتقدير والإجلال الشخصي، وإحسان الظن بالآخرين، وتلمس الأعذار لهم، حق من حقوق الناس عامة، وللمؤمنين حقوق خاصة، وللعلماء والمثقفين حقوق أخص.

ولكن ينبغي بعد ذلك، أن لا نخلط بين تقدير الأشخاص والأعمال، وهما أمران تعودنا على الخلط بينهما، في علائقنا العلمية والاجتماعية، أي ينبغي فصل التقدير الشخصي، عن التقدير الموضوعي.

ففي الاحترام الشخصي نعجب بصلاح الشخص الذاتي، ونيته الحسنة،وإخلاصه وحماسته، وعفته وزهده واستقامته، ونشاطه وحيويته، أما في الوزن الموضوعي، فنعجب بالأعمال الناجحة والنتائج الصالحة، والأفكار العملية. لأنها هي الحكمة التي تؤخذ من أي شخص، وهي علامة الذين آمنوا، لأنهم "عملوا الصالحات".

وعند دراسة الأعمال والأقوال، ينبغي أن يشكر الجيل اللاحق الأجيال السالفة، ويثني عليها، ويذكر محاسن موتاه، ويبرز فضائلهم وفواضلهم .

و ينبغي أن لا يركز على أخطائهم، إلا في مناسبات معينة،تهدف إلى إيضاح الحق الملتبس، مع ضرورة الإشارة إلى الأجواء التي عاشوا فيها، والضغوط التي ألجأتهم إلى بعض الاتجاهات، أو الأخطاء أو النواقص، لأن استخدام معايير حديثة، لمحاسبة الماضين؛ إخلال بالمنهج العلمي الموضوعي،ولا يمكن تطبيق آليات منهج حديث بأثر رجعي، على أناس كان لهم آليات ومناهج وسقف معرفي، لا يمكن أن يحلقوا فوق أفقه، هذه مسألة علمية.

وهناك مسألة اجتماعية، لأن المبالغة في نقد الماضين؛ ترسخ قطيعة مبيرة، بين سلف الأمة وخلفها، تنجرح فيها الذات الاجتماعية، عبر تهديم رموزها الفكرية، فتسقط الأسوة الحسنة في الأمة، لأن التراث جزء من مكونات الشخصية القومية للأمة.

ومن أجل ذلك ينبغي تجديده بروح الولاء والمحبة والانتماء، ولابد إذن من الإشادة بخلاياه الحية، أثناء استبعاد خلاياه الميتة.

ج-محاولة لمعرفة الخطإ والصواب

من حق أي محافظ اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة أن يقول إن الحنابلة أصابوا، عندما تحدثوا عن (الفوقية والعلو) في مثل قوله تعالى(الرحمن على العرش استوى) فالنصوص التي تدل على أن الله في السماء كثيرة وافرة، ولا يمكن في سياق الكلام العربي تأويلها على العلم، أما حديث النزول فالمقصود في الحديث الحث على قيام الليل.

ولكن ينبغي أن يقال للمحافظين اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة: والكلام في أن الله ينزل بذاته أو لاينزل ، وأن ذلك يناقض الفوقية، لا طائل تحته ولا يترتب عليه عمل. ولم يثره السلف الراشدي الصالح، فالبحث فيه غير مشروع أصلا.

و من حق أي محافظ اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة أن يقول أصاب الأشاعرة عندما فسروا العين بالرعاية، في قوله تعالى ((ولتصنع على عيني)) واليد في قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم"، وقوله تعلى"يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" وقوله "على مافرطت في جنب الله" , وقول الرسول صلى الله عليه وسلم يضحك رينا ... وقوله "بين أصبعين من أصابع الرحمن" فطبيعة السياق اللغوي، تجعل هذا التفسير هو المراد،وقد مدح الله الصالحين، من "أولي الأيدي والأبصار"، ولم يكن المراد إثبات العيون ولا الأيدي، بل إثبات الإرادة والحكمة, ولا يمكن أن يفهم المتمرس بالبيان العربي؛ أن المراد بمثل هذه النصوص، إثبات يد ولا عين ولا ساق , فضلا أن يقول بعضهم أن لله عينين اثنتين.

ولكن ينبغي أن يقال للمحافظين اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة: ما فائدة الانشغال بالتصويب والتخطئة، في قضايا تاريخية، تلك أمة قد خلت لها ما كسبت، كانت تجيب عن أسئلة ماثلة، وإشكالات قائمة، واجتهد الحنابلة عندما تجاوزوا المعنى الأساسي المقصود إلى معنى أضافي، هو إثبات يد ورجل وعين وجنب وقدم لله، وحدا الأشاعرة التنزيه فاجتهدوا عندما تجاوزوا المعنى الأساسي المجازي إلى النفي، وكل في اجتهاده راعى نوازل زمانه حسب إمكانه، عندما دخل هذه المضائق، واجتهادهم لا يلزم أحدا، الدفاع عنه إن كان صوابا، ولا نقضه إن كان خطأ، لأنه ليس لست له أولوية، وليس سؤالا مثارا، فالأسئلة اليوم هي الشيوعية والعلمانية والقومية والوطنية والإمبريالية.

ولكن ينبغي أن يقال للمحافظين اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة: لماذا نخرج اليوم عن المعاني الأساسية المقصودة في السياق، التي يفهمها جمهور الناس، من خلال سنن العرب في الكلام.

ولماذا نشغل طلاب الجامعات وجماهير المجالس والمساجد، ونجرهم إلى الخوض في أمور لا تدركوها، وفي مالا طائل تحته، ولا يترتب عليها عمل.

لماذا يستدعي المحافظون اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة، الخلاف في توحيد الأسماء والصفات, والتصارع المرير حول هذا المفهوم الجديد، والتكفير والتبديع، ويغرقون الناس في شقاق وصراع؛ لا يفيد الأمة إلا مزيدا من الصداع، ومزيدا من البلبلة والأوجاع، وهم أول من يعلم أنه لا يقدم فكراً علميا ولا أولويا ولا قطعيا, إنما هو ظنون تفر من اليقين إلى التخمين.

نؤكد هذا لكي لا تختلط السلفية منهجا هو نجم القطب ؛بآراء واجتهادات خلافية، عند الحنابلة في صياغة ابن الطحاوي،أو عندهم في صياغة الأشعري، سواء في قضايا ظنية ثانوية اجتهادية، استبدت باسم العقيدة.

ولذلك ينبغي أن يحذر المحافظون اليوم-في عصر الامبريالية الغربية-على الصياغة العباسية للعقيدة من أن يجعلوها مسطرة ، يقيسون بها إسلام الناس، ويتخذونها أصلا لبناء فكر إسلامي يقاوم العلمنة والفرنجة.

ليس من الضروري أن يكون دعاة السلفية الموازنة، بين الإصلاح الروحي والسياسي، في عهد الإمبريالية الغربية؛جزءا من معركة قبل ألف عام، حول قضية خلق القرآن ولا حتى حول مسألة الأسماء والصفات برمتها، وليس من أضروري أن نصوب أشعريا ولا من الضروري أن نخطئ خلاليا أو تيميا، ولكن من الضروري أن نقول للجميع: كلكم سلفي أصيل، والسلفية تسع الجميع، فلا تضيقوا على أنفسكم ولا على الآخرين.





21=مرض زمنهم القديم و أمراض عصرنا الجديدة

هل هما متشابهان؟

أ-لكل عصر معطيات وتحديات:

و المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، لم يلاحظوا مسألة مهمة، ولا سيما في هذه الفترة العصيبة من حياة الأمة، لأن ثقافتنا اليوم تشكو من أمراض المجتمعات المقهورة وإفرازاتها،وقد تضاعف هذا المرض اليوم فصارت العلة علتين:

المرض القديم: فقدان الحرية والكرامة والعدالة والتعددية، عندما سلب الحجاج وسلالته كرامة الأمة وحريتها وقرارها، وتصرف فيها تصرف الولي الظلوم، باليتيم، عن أمرين:

المرض الجديد: هاجس الخوف على الهوية، من دول غربية، تريد بنظامها الحضاري زعزعة الثقة بالذات القومية بالصدمة الحضارية، وما جرته من اختلال في اتزان النفوس، أدى إلى احتقار كل أهلي موروث، وتعظيم كل وافد جديد، عند أغلب النخب، وإلى التمسك بالموروث، عند عامة الناس، ولا سيما النخب الدينية، دون ميز بين مصباح الكتاب والسنة، وما علق به من تأويل وتحريف، أظهر نماذجه كتب التفسير.

لم يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن المتغير لا بد أن يتغير،لأنه مرتبط بالحركة الاجتماعية للبشر، إذ يحتاج الناس إلى صياغة دينية متغيرة، تواكب حركة التغير الثقافي والاجتماعي والحضاري.

ولم يدركوا أن الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة إنما كانت جواب سؤال، أو إزالة إشكال، أو التصدي لتحد فكري هاجم.

إذا تغيرت الأسئلة والمشكلات والمعطيات، فلابد من أن تتغير الأجوبة والحلول، ولا تكون الحلول مشروعة؛ إلا بالعودة إلى صيدلية القرآن والسنة، من أجل تركيب الدواء وتركيزه، ومن لم يدرك الوقائع الجديدة التي تطرح أسئلة جديدة، فلن يمنع الرياح الشمالية من أن تسفو عليه التراب.

نسي الأتباع المقلدون أن أساتذتهم المجددون أنشأوا فكرا أجابوا به عن الأسئلة المثارة في مطلع العصر العباسي، لأن السلفيات العباسية انحصرت في شق العقيدة الروحي أولا، ثم ركزت على الشق الغيبي ثانيا، من إلاهيات ونبوات وغيبيات، وربما حصرها بعضهم بجزيئات الغيبيات الظنية ثالثا، كإثبات الصفات و الرؤية، وإنكار القول بخلق القرآن (انظر:الزنيدي:51).

لم يدرك الأتباع المقلدون هذه الحقيقة، ولذلك صاغوا العقيدة صياغات ظلت طوال القرون مثار فتن بين المسلمين، في أمور ظنية اجتهادية غير عملية،قوامها الجدل العريض في صفات الله وأسمائه:هل القرآن مخلوق أم غير مخلوق؟، هل لله يد وعين وأذن؟ وهل له ساق وقدم وأصابع؟.

ومن المقبول أن يستمر الجدل في هذا السؤال خمس سنين، أو حتى خمسين سنة، أما أن يستمر الجدل خمس مئة سنة، والشعوب تعاني من الفقر والظلم والاستبداد، فذلك خلل فظيع في سياق الأولويات.

ب=لو اطلع رواد السلفيات الأحرار على تلاميذهم اليوم ماذا سيقولون ؟

ترى لو أن الأحرار من رواد السلفيات العباسية والمملوكية والعثمانية الذين جددوا صياغة العقيدة والفقه،في العصور السوالف، ، بعثوا من مراقدهم، وظهروا على تلاميذهم في زمان الأمبريالية الغربية؛ ألا يقولون لنا: أيها القوم! لقد اختلف عصركم عن عصورنا، فبيننا وبينكم قرون، والناس أشبه بزمانهم،منهم بآبائهم وأجدادهم.

أفلا يقولون: لقد درسنا التحديات التي كانت في عصورنا، واستخرجنا لها الأفكار والآليات المناسبة حسب اجتهادنا، وركبنا من صيدلية القرآن والسنة، أدوية ووصفات، تحاول علاج الوباء الذي أمامنا، فإذا نجح علاجنا لزماننا، فلسببين:

الأول: أنه شخص الداء المستجد، و الثاني: أنه استل من صيدلية الكتاب والسنة، خلطات علاجية يمتزج فيها الثابت و المتغير، بنسب عملية لا تقطع الوشائج بين صحة الأفكار، والنجاح في الحقل الاجتماعي.

ألا يقولون لنا: إذا أردتم أن تنجحوا، فشخصوا التحدي الماثل أمامكم، وركبوا له الأدوية المناسبة، حسب المعطيات، ولا تظنوا أن علاجاً قدمه أحمد بن حنبل أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، ونحوهم ومن قبلهم ومن بعدهم أيضا; صالحاً لكل وباء.

ألا يقولون لنا: قد ظهرت لديكم بدعُُ جديدة،وأنواع من الشرك والكفر الأكبر والأصغر عديدة، فعالجوها قولاً و عملا معا، وخلصوا الناس من براثنها، وخذوا من صيدلية القرآن الكريم والسنة، علاجاً لأمراضكم، ولا تظنوا أن العلاج الذي وضعناه، في القرن الثاني عشر أو السابع أو الثالث: صالحاً لكل زمان ومكان، أو صالحاً لكل مريض، فلكل داءٍ دواء، ومن جَهلَ ذلك لم يكن طبيباً.

ج-التلاميذ والأتباع عندما يستثمرون أساتذتهم لصناعة مذهب:

المشكلة ليست في رواد السلفيات العباسية والمملوكية والعثمانية، الذين أعلنوا أن صياغتهم محكومة بمعيار، وأعلنوا أن السلفية المحتذاة، هي المصباح في الزجاجة والمشكاة.

بل المشكلة في التلاميذ الذين لا يتصورون أن ذالك الرائد أو ذاك، كان مجددا في حدود زمانه ومكانه وإمكانه، وأن أقواله وأفعاله وصياغاته اجتهاد، وليست هي الميزان ولا مقياس، إنماهي موزون ومقيس. التلاميذ الذي حبسهم فرط الإعجاب عن النظرة النقدية؛ أمثال هؤلاء اليوم هم الذين حولوا السلفيات التي فرطت بمبادئ السياسة الشرعية ووسائلها العشرة إلى ميزان, يزنون به الإيمان، فاعتبروا الصياغات العباسية صالحة لكل زمان و مكان، فدفعهم ضيق الأفق، إلى إعادة إنتاج الصياغة القديمة.

وقد ساعدت المحافظين على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، عدة عوامل على ترسيخ الخضوع لفرعنة سلالة الحجاج القديمة وهيمنة الغرب الحديثة، وأهمها النفط الذي شجعت مضخاته دور النشر و المطابع، من أجل التعلق بالأجداد والتشبث بالبيت القديم ، فنشطوا في نشر المخطوطات والمطويات، تحت عناوين (كنوز التراث)، وعناوين السلف الصالح، والسنة والجماعة.

وأعادت تيارات الفكر الديني المحافظة على الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة الإسلامية؛ ولا سيما خلال العصور المملوكية والتركية؛تشكيل الأئمة السابقين، على الوجه الذي يعضد آراءها.

وأكثر من اختلف الناس في آرائه الإمام أحمد بن حنبل، على الرغم من أنه نهى تلاميذه عن كتابة فتاواه وآرائه، لكن تلاميذه كتبوا عنه وأكثروا، وقدموا شخصيته العلمية بصورة مضطربة متناقضة، ففي كثير من المسائل له قولان، حتى في أصول الفقه.

بل إن ذلك وصل إلى صياغة الجانب الغيبي من العقيدة، فقدمه تلاميذه المختلفون ظهيرا لهم؛ في اتجاهين مختلفين، فقد ادعى مذهبه الذين ركزوا على إثبات صفات المخلوق للخالق: كالوجه والعين واليد والساق، كما فعل ابن تيمية وابن خزيمة والبربهاري. كما قدمه ظهيرا لهم؛الذين كزوا على ماسموه تنزيه لخالق عن صفات المخلوق: والذين اعتبروا الوجه والعين واليد والساق؛ تعبيرات مجازية عن الكل والقدرة والكرم والهول، كالأشعري وأبي الوفاء ابن عقيل، كما بين ذلك ابن الجوزي.

والذي لايدرك السنة يتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم، يجلس كل يوم يعلم الصحابة هذه السفسطة فيقول: إن لله وجها ويدا وعينين وصدرا وساعدا وفخذا وساقا وقدما وجنبا،وإن معناها كذا(على رأي البربهاري)، أو كذا وكذا (على رأي الأشعري).

وجاء المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية فاعتبروا اجتهادات الجيل السلفي العباسي الصالح وإضافات العصور المملوكية والتركية؛ هي الأصل، فلم يروا الشريعة إلا بعيونه، ولذلك أوجبوا على الناشئة، أن لا تفهم الأصول إلا كما فهمها ذلك الجيل، في مسائل العقيدة خاصة.

فادعى كل من الأشاعرة والتيمية أنهم الصواب، وعتبر الفرقتان المنتسبتان للإمام أحمد بن حنبل؛ أن ما قاله ابن حنبل هو الأصل، على أنهما أعادا إنتاج الإمام، ولذلك صارا فرقتين، وأضافتا إلى ماقال الإمام شروحهما وتفريعاتهما، واعتبرتا ذلك هو قول السلف الصالح، واحتمتا بهذا المصطلح: السلفية وبالإمام أحمد، وأعلنتا الالتزام بالأصل، ليكون راية لنشر ماسمي بمذهب (الأشاعرة)، أومذهب (الحنابلة)، ودفاع عن الغزالي ضد ابن تيمية، أو ابن تيمية ضد الغزالي.

بل هناك ما هو أخطر من ذلك، وهو أن المقلدين يضيفون إلى تعصبهم لأساتذتهم أيضاً، بما لهم من صواب وخطأ، وآني ومعياري، أنهم يعيدون تشكيل أساتذتهم تشكيلاً بخلاف الأصل الذي كانوا عليه، من أجل الاحتجاج بهم، عبر تكبير بض آرائهم وتصغير أخرى، وعبر انتقاء بعضها وطمس أخرى.

دون ملاحظة أن تلك الصياغات في زمنها، ربما كانت ناجحة وتجديدية، في حدود معطيات وتحديات عصورها، ولأن أي فكر تجديدي، إنا هو طبخة غذاء وخلطة دواء، إذا أعيد إنتاجها جملة وتفصيلا، لعلاج أدواء مكان أو زمان مغاير، تصبح تقليدية، لاسيما و جميع السلفيات المحافظة، قد أخلت بنظام العقيدة المتوازن.

نحن اليوم أحوج ما نكون إلى تذكر أن السلفية بوصلة تشير إلى قطب وليست القطب نفسه، هذا التصور ينبغي ترسيخه، لأن التحديات أكبر، واتجاهات التجديد أكثر، وتجاوز الأصول صار أخطر، وعجز الصياغات والمعالجات العباسية صار افظع، بذلك تصبح سلفية المصباح والمشكاة هي نجمة القطب وبوصلتها.

ليكون أساسا للعقيدة والثقافة: إن تقديم الثانويات على ، و الغفلة عن لصياغة العباسية للعقيدة على امتداد القرون، اختلطت فيها أفكار تجديد ودراية، بأفكار تقليد ورواية، فلم يكن منتسبوها بدرجة واحدة من الاقتدار، على إجابة سؤال التحدي، ولم يكونوا بدرجة واحدة في مستوى استلهام الكتاب والسنة، ولم يكن رموزها بدرجة واحدة من الرسوخ في العلم، ولم يكونوا بدرجة واحدة من القدرة على تجديد الدين. للعقيدة والتربية والثقافة الإسلامية،







22= أهمية فك انحباس المقياس السلفي بالصياغة العباسية للعقيدة /لكي تصادر السلفيات العباسية مسطرتها

أ-مسلسل الإضافات السلفية :

أهم ما وقع فيه المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية وأنهم يمزجون-في سذاجة معرفية- بين نصوص القرآن الكريم، وفهم السلفي العباسي. فتنتقل قداسة النص المشروح إلى الشرح والشارح، فيكتسب الكتاب الشارح قداسة النص المشروح، فلأنه تفسير للقرآن أو شرح للحديث، يكتسب عند الناس تقديرا خاصا، كما أن لصاحب الوزير والأمير مكانة، أجل من مكانة صاحب البقال والحلاق.وبذلك تم تقديس آراء الأوائل لا على أنها اجتهادات يجوز فيها الخلاف، بل على أنها هي مقتضى النص الصريح.

.كان من أعظم أسباب رسوخ اختلال (نظام) العقيدة المتوازن اليوم؛ أن التمذهب والتعصب الذي أفضى إلى إدخال اجتهادات الفقهاء العباسيين، في منزلة القطعيات وإجماع العصر الراشدي، على أن أغلب مثار النزاع في جانب العقيدة الغيبي كان مسائل لا تستند إلى دليل قطعي.

فوقع اللبس بين السلفية: القطب، وكواكبه الدوارة حوله ، لأن التيارات المحافظة اليوم على الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة، لم تفرق بين السلف الراشدي الصالح، وبين من جاؤوا بعده، من من عاشوا في عصور جدب وتقليد.

من مفارقات التقليد؛ أن الأجيال التالية التي أعلنت شعار عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ((عليكم بمن سلف))، إنما وظفت عبارة ابن مسعود توظيفا أخرجها عن إطارها العملي.وكان السلف –في معيارابن مسعود- هم الصحابة السابقون والتابعون بإحسان، عهد الشيخين أبي بكر وعمر.وكان الموضوع سياسيا: وهو وجوب تولية الأكفاء، وحفظ بيت مال المسلمين.

ثم دخل في مفهوم السلف عهد الخلفاء الراشدين.عند جيل الحسن البصري، والشيخان عثمان وعلي بذلك جديران، لأنهما من الخلفاء الراشدين.

ثم اتسع مفهوم السلف، فأدخل جيل مالك وأبي حنيفة والشافعي.فيه كل الفقهاء الأمويين المجتهدين المجاهدين.

ثم أدخل جيل أحمد بن حنبل فيه أمثال مالك وأبي حنيفة والشافعي، ونحوهم من الذين أجازوا الخروج على السلطان الجائر بالسلاح. ووصف ابن حجر، وابن تيمية مذهبهم بأنه "مذهب للسلف قديم".

ثم أدخل جيل عبد الله بن أحمد والخلال فيهم أحمد بن حنبل، بل عدوه عمدة السلف، ولعله أشهر من رفض الخروج على السلطان الجائر بالسلاح، من يمكن اعتبارهم أصحاب مذهب جديد للسلف، في مسألة الخروج .

فلما صاغ جيل أحمد ما صاغ من أمور في جانب العقيدة الغيبي، صار الموضوع غيبيا، وصارعند أتباعه هو محور السلف الصالح.

وأضاف ابن تيمية مصطلحا جديدا لأقسام التوحيد سماه توحيد الأسماء والصفات، فجاء المحافظون على الصياغة العباسية للعقيدة؛ في العصور المملوكية والعثمانية فأدمجوه في العقيدة واعتبروا ابن تيمية محور السلفية، وهكذا صارت السلفية إسفنجية بلا لون ولا شكل محدد، تتكون من إضافات وتعديلات لاتنتهي.

ب-كيف انحبس المفهوم السلفي بمعالجات أحمد بن حنبل، التي رواها ابنه عبد الله وتلميذه الخلال:

وأحمد بن حنبل أكبر علم تحول-رغما عنه المنهج المفتوح إلى مذهب مغلق- ، عندما أعاد إنتاجه اليوم المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية لعدة أسباب:

السبب الأول: أنه أشهر فقيه رفض إملاءات السلطة، واحتفظ بحرية رأيه في مسألة خلق القرآن، فكان من نتائج جهاده في سبيل حرية رأيه، أن الناس سلموا باجتهاده في صياغة العقيدة.

السبب الثاني: أنه صاحب أكبر مدونة في الحديث، ضمت مئة ألف حديث.

السبب الثالث: أن المحافظين على الصياغة العباسية؛ ركزوا على دور السلف العباسي الصالح مدونا الحديث وواضعا منهج أصول فقه الكتاب والسنة، وهذان محل إجماع في الفكر السني، وهما داخلان في النص وأسلوب فهمه، وكأنهم أدمجوا ما رواه رعيل أحمد بن حنبل من نصوص بما رآه في صياغة العقيدة .

السبب الرابع: أنهم لم يدركوا أن صياغة العقيدة كانت إجابة لأسئلة ثارت في عهد المأمون، فكانت صياغة نسبية، وليست أجوبة لوقائع كل زمان ومكان.

السبب الخامس: لم يدركوا أن المسائل التي جرى فيها النقاش لم تستند إلى أدلة قطعية.

السبب السامس: : لم يدركوا أيضا أنه ليست لها أولوية-حتى في عهد المأمون- على مطالبة الحاكم بإقامة شرطي البيعة: العدل والشورى.

السبب السابع: ضمور التفكيرالنقدي: فلم يضعوا المسطرة لتقييم تلك الاجتهادات والصياغات، ليحكموا هل جاء المقيس على قالب المقياس، وليدركوا مدى دقة الالتزام بالمقياس، ليفرزوا ما وافق المقياس، من ما زاد عليه أو نقص عنه، ولكنه ناسب المناخات، وما فيها أخطاء تطبيق أو تنظير، بل صارت تلك الممارسات هي المسطرة، وعندما رفعوا شعار السلفية اختلط الأمران المقيس والمقياس.

فصارت الصياغة والحركات هي السلفية، وجيرت جميع الرموز السلفية القديمة، لخصوصية مذهب اجتهادي عباسي محوره مسألة الأسماء والصفات.

السبب الثامن: لم يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية تراكم الأخطاء والإضافات، في جانبي التطبيق و التنظير، التي ما وقع فيه منتسبو السلفيات العباسية، من بعد عصر أحمد بن حنبل، كعبد الله بن أحمد بن حنبل وابن بطة والبربهاري.وهي أخطاء ومبالغات نمت بل دلت على عن غفلة أو عجز أو تهاون أو ضيق أفق.

السبب التاسع: لم يفرقوا بين المعنى العام للسلف الصالح، وهو الورع والاحتساب والاجتهاد، والمعنى الخاص، الذي هو انقياس الأفعال فكرا وعملا، وفق مقياس: ما أنا عليه وأصحابي، فأدخلوا فيهم شخصيات وأنماطا، لم تستطع التحرر من طابع الشخصية المقهورة في مناخ الفرعنة، كعبد الله بن سهل التستري، والفضيل بن عياض، رووا لها أقوالا في التربية وعلم الاجتماع السياسي، وكأنها من أنماط القابسي و ابن خلدون.

ب- لكي لا تصبح الكواكب الدوارة هي القطب:

وهكذا انساق المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، إلى تثبيت نظام رهباني أمي سياسيا، يستخذي لفرعنة الحجاج وإمبريالية الغرب، ويسود المجالس والمدارس، ويتحول في المواسم إلى موعظة يومية تلقى في المساجد، وتؤلف على إيحاءاته كتب في التربية والسلوك، تثبت مفاهيم العزلة والخمول والفردية، في الثقافة الشعبية.

وابتلع الناس هذا الثقافة, عبر مواقف ومقاولات ,تلوي جيد النص الصحيح الصريح؛ بعشرات من التأويلات الهشة التى حولت الدين إلى عجائن لدائن؛ بين أنامل التقاليد الخاملة تكيفيه وتحجمه، وتصغر قيمه المدنية وتكبر الروحية، وتحرف مقاصده القطعية، وتأول نصوصه الصريحة، حتى يكون جبة على مقاس ذهن ذهن صوفي قابع، تلتف في عباءة عقل صحراوي جامح.

وبالغ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية فإذا بهم يتخذون من سلفنا العباسي الصالح واسطة بينهم وبين مصباح الكتاب والسنة، فلا يقبلون أن يفهم الناس منه ما لم يفهموا، ولا يقبلون أن يراه أحد إلا بعيونهم، ولا يكادون يحاكمون الأفكار والبرامج والمناهج، إلى النتائج، بل يكتفون بشعار: من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، ومادام الأجر مرجوا، فإن محاكمة النيات بالنتائج أمر غير وارد. إنها مشكلة المصلحين عندما يكونون غير متسيسين.

ولم يقفوا خلال مئة عام من بداية ظهور المطابع والمدارس، لتقييم نتائج هذه المتون العباسية والمملوكية، التي اكتسبت انتشارا في أسواق النشر، أوالتي اكتسبت احتراما أكاديميا، ككتب الكلام، وكتب الفقه والقانون، وكتب علوم القرآن وشروح الحديث، وكتب الوعظ والأخلاق والتفسير والتصرف، وكتب التاريخ والأدب والقصص الشعبي والأمثال.

ومن أخطر الأمور أن يجر تقديس القرآن والحديث، إلى تقديس صياغات البشر الشارحين والمفسرين، الذين صاغوا العقيدة والثقافة. إن ذلك يعني أن يكون لهم حق مطلق، في احتكار فهم الدين، واحتكار الحقيقة، والاستحواذ على تمثيل سلف الصحابة السابق الصالح، وإعادة تشكيل الجيل السلفي العباسي الرائد كما يريدون، وتوظيفهم في المشاريع الفكرية التي يشتهون.





23=/ لئلا يستخدم المفهوم السلفي مظلة للخطاب الديني المحرف الذي صار حارسا مقدسا للاستبداد والتخلف

أ- كيف ضحوا بالعدل من أجل إقامة الصلاة:

لعل أهم عيوب الذهنية السلفية، المحافظة على الصياغة العباسية في عهد الإمبريالية الغربية، أنها هونت من عمود العدل خوفا على عمود الصلاة،

صار السلفيون المحافظون على الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة والتربية، في عصر الإمبريالية الغربية؛ سببا رئيسيا من أسباب خذلان الأمة، واستشراء الاستبداد والهيمنة الغربية، لأنهم أعادوا إنتاج خطاب ديني محرف، صار حارسا مقدسا للاستبداد والتخلف، فقدموا توحيدا روحيا رهبانيا، ركزوه على محاربة الطواف حول الأولياء في القبور، وأقلموه على الطواف حول الطغاة في القصور.

وقدموا السلفية، فقها سياسيا اضطراريا، يقول بطاعة السلطان الجائر مادام يقيم الصلاة، ولو سرق الأموال وضرب الظهور، ووالى الإمبريالية الغربية، وصار طرفا في منظومتها العسكرية والإعلامية والتربوية.

وصاروا يمتشقون من الفرق السلفية العباسية ورموزها أسلحة، للطعن في مبادئ السياسة الشرعية العشرة، فيضربون حقوق الأمة وحقوق الإنسان بحقوق السلطان، وينكرون سلطة الأمة وسيادتها على السلطان، وينكرون مبادئ استقلال القضاء، ويزعمون أن القاضي وكيل عن السلطان لا عن الأمة، ويعتبرون قيم المجتمع المدني علمنة، وأن التجمعات الأهلية ولا سيما المدنية فتنة، وافتئاتا على السلطان، ويبيحون تعذيب المتهم، ويقرون انتهاك حقوق الإنسان، ويرفضون وسائل الحد من الاستبداد، كتوزيع السلطات، ويزعمون أن الفقهاء هم أولو الأمر، وأن الشورى معلمة لا ملزمة.

ويسمون السلطان بولي الأمر، ويزعمون أنه أدرى من الأمة بمصلحتها، وأن الله هو الذي ولاه، وهو الذي يتولى حسابه، وأن علينا أن ندعو له بالهداية، وأن لا نجاهد جوره واستبداده، مادام يقيم الصلاة، وأنه إنما سلط علينا بسبب ذنوبنا، وأن صبرنا على الذل والفقر والهوان في الدنيا، مهر نيلنا السعادة في الدار الأخرى.

ولكي لا يخرج أحد من هذا الإطار،الذي كسر عمود العدل، متوهما أن التضحية به ضرورية لإقامة عمود الصلاة، تمادى العباسيون الجدد؛

بل نشطوا في إعادة ما كتب علماء العصر العباسي، من كتب العقيدة والوعظ والتفسير واتخذوا من متونهم منهجا تربويا، ولم تدرك أن المعالجات السلفيات العباسية-على أفضل افتراض- كانت حركات إصلاحية آنية،إن لم نقل إنها حتى عن روادها الذين يمكن اعتبارهم مذهب السلف الجديد، هي التي هونت من قدر العدل، الذي هو أساس الملك، وهو أحد عمودي الملة، عندما نسبت إلى النبي صلى الله عليه وسلمن أقوالا غريبة، كالقول بالصلاة خلف الإمام الجائر، والصبر على ولاة السوء ما أقاموا فينا الصلاة، وطاعة الحاكم ولو ضرب ظهرك وسلب مالك، ولم تفلتر أمثال هذه القوال، من خلال معياري نقد المتن والتعارض والترجيح.

لم يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن أهم من أسباب ضعف الإصلاح الديني، خلال العصور الغابرة والحاضرة، أن أغلب حركات الإصلاح، لم تبدأ برأس الدواء:الإصلاح السياسي.

ب- لئلا ينحصر فقه مصباح القرآن والسنة بنظارات عباسية:

وعندما تحدث مشكلة، لا يتصور هذا المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية بسبب روحهم المقلدة لها حلاً، إلا من خلال نظارات السلفيات العباسية وأطروحاتها.وصارت هذه التراكمات نظارة سميكة، مكونة من بضع طبقات، لابد أن يلبسها كل واعظ وموجه وفقيه ومصلح.

فاشترطوا أن لا يفهم الكتاب والسنة، إلا كما فهمها السلف العباسي؛ وهو شرط غير صحيح، فليس من شروط فهم القرآن والسنة أن يقرآ بعيون عباسية،والخطاب القرآني "أفلا يتدبرون القرآن" خطاب عام للأمة، ولم يقل الله إن التدبر خاص بالسلف العباسي الصالح، وإن دورنا هو أخذ ثمرة تدبرهم، لا في شق العقيدة الروحي، فضلا عن المدني ولا في سننه الاجتماعية والطبيعية.

أجل من الضروري اشتراط منهج السلف الراشدي الصالح-الذي أعلنه السلفيون العباسيون الصالحون - أساسا للفهم،لأنه هو منهج فهم الكلام العربي؛ الذي وصفه اللغويون والبلاغيون.

أما التزام الناس بكثير من اجتهادات السلف العباسي الصالح –بعد ذهاب دواعيها-فهو من لزوم ما لا يلزم، ولقد جنى كثيراً على الفكر الديني، لأنه يدمج الاجتهاد وهو من قبيل الرأي الظني، في النص القطعي ، ويجعل الاجتهاد الظني البشري شيئا قطعيا، وبنزل الرأي منزلة الوحي، وبجعل الفكر النسبي فكراً مطلقا.

ومنهج فقه الكتاب والسنة الذي وصََفه السلف العباسي منهج تجديد عتيد، ولكنه وصف للنص وليس نصا ليس عليه من مزيد.لقد اجتهدوا في تنظير ما طبق السلف الراشدي في فقه الكتاب والسنة، ولكن توصيفهم لشق العقيدة المدني والسياسي؛ وتوسعهم في الاجتهادات الغيبية ليس وحيا معصوما، فماكتب الشافعي في الأصول، من الأسس القيمة في فقه الكتاب والسنة، ولكن ليس من الصحيح أن يقال: لا ينبغي لغيره أن يبدئ فيه ويعيد ، وليس من الصحيح أن يقال إن ما كتبه ابن تيمية ومن قبله في صياغة العقيدة، هو الصياغة التي لا ينبغي لأحد أن يصوغ خلافها.

عندما ندرك أن السلفية منهج فهم للنص، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، وحقائق علوم الإنسان والطبيعة، وأن ذلك هو الأصل والمعيار، وأن السلفيات اللواحق والسوابق حركات تجديد فكري واجتهاد وجهاد سياسي، نستطيع أن نطالب كل من ينتسب إلى السلف الصالح بصحة النسب، ونستطيع أن نفتح العيون على ما يقع فيه كل البشر من البون بين المنهج والتطبيق، والقول والفعل، لكي لا نتصور السلفيات العباسية معياراً للإسلام.

ج- من أجل إنهاء القطيعة بين الفقه المتمذهب ومصباح الكتاب والسنة:

ومن مساوىء التمذهب أنه يجعل الناس نصوص المتون المختصرة براهين مسلمة ، فإذا سئل بعضهم عن البرهان قال :ماقاله صاحب الكتاب الفلاني ،وهكذا لم يعد البرهان هو القرآن ولا الحديث ، بل ولا أقوال التابعين بل أقوال أئمة المذاهب من المتقدمين ، ثم أقوال المتأخرين ، الذين قلدهم متأخرو المتأخرين ، في كتبهم المختصرة ، التي لاتكاد تجد في المتن الواحد منها بضعة أحاديث ، بل تقرأ بعضها (كزاد المستقنع)، الذي صار وشروحه، و أمثاله كتابا تعليميا في المدارس والجامعات السعودية وغيرها. فلا تكاد تجد آية أو حديثا .

ومن الطبيعي أن لا تنتج هذه المختصرات ، إلا ذهنية إمعية، تقلد من دون دليل، وأن تكون منغلقة على الماضي،وأن تفتقد الحيوية والمرونة .

ولما استمرأ الناس التمذهب ، استمأروا كتابة الفقه وفق أفق ضيق ، يلتزم بالمذهب ، بل وجدنا كل مذهب يحاول أن يحدد له أصول فقه ، ويحاول أن يكون له منهج في الفقه السياسي ،أو على الأقل كتابة مستقلة ، والإ فما الفرق بين كتابي أبي يعلي والماوردي في(الأحكام السلطانية)، وأحدهما ناقل عن الآخر. إذ إن المنافسة بين الحنابلة والشافعية، جرت إلى أن يكون لكل من المذهبين كتاب يعتمد في الفقه السياسي، و لو كان أحدهما ولعله أبو يعلى الفراء، ناقلا من الماوردي. الفرق بين الكتابين هو المذهبية.التي تحول المذهب إلى مدينة، كاملة المرافق لا تحتاج لفكر لغيرها.

فتحولت كل مذاهب، إلى حصن عالي الأسوار ، يحبس فيه الطلاب، فلا يرون من الإسلام إلا هذا المذهب، الذي يكرسونه في حلقات المساجد ، أو في قاعات المدارس ، أو في حلقات المجالس.

وهكذا ترك الناس الينبوع ، وجروا خلف الجداول والفروع ، وشيئا فشيئا اغتربوا عن الكتاب والسنة ، فوقعوا في بدع التقليد وبدع التأويل ، لأن من لم يستضئ بمصباح الكتاب والسنة في زجاجته النبوية والراشدية، ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة؛ ضاع ووقع في الضلالة، و إن أراد الهداية.

و من آثر آراء الرجال من دون ذلك المصباح وقع في البدع، وهو لا يدري ، كما قال الرسول ص : »إياكم ومحدثات الأمور ،فإنها ضلالة ، فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ «. .

من أجل ذلك.قال المعصومي » إن الأخذ بأقوال الفقهاء ; بمنزلة التيمم ، يصار إليه عند عدم الماء .. ، فكيف بمن عدلوا إلى التيمم ، والماء بين أظهرهم أسهل من التيمم«:

كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء بين ظهورها محمول

بل إن الأولى أن لايقبل الناس رأي أي عالم ، حتى يصحب رأيه بالدليل ، فيعرضوا رأيه على مصباح الكتاب والسنة ، فما وافقهما فهو مقبول ، وماخالفهما فهو مردود ، لأننا مطالبون باتباع الشارع ، وبذلك قام الدليل، ولم يقم دليل على أقوال الفقهاء ، لأنها ليست أدلة مستقلة، بل هي آراء تحتاج إلى الأدلة .

ولأن تعويد الناس على أخذ رأي أحد ، غير ما روى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، إنما هو تعويد للذهن على الفقه الاستظهاري ، الذي جعل الذهن وعاء معلومات ، ولم يجعله زند مهارات .

لأن إحالة الذهن إلى التقاعد ، هي العاهة التى أصابت الأمة في خلاياها ، فلما تدمرت الخلايا ، سرى الداء إلى سائر الأعضاء .

إن الأمر غير جلل عندما يكون خلافا في مسألة من شق العقيدة الروحي، فسواء جهر القارئ بالبسملة أم لم يجهر، لكن الأمر جلل عندما نأتي إلى سياق الأولويات، في شقها المدني، عندما تكون النتيجة، هي التضحية بالعدل ما أقام الإمام فينا الصلاة، ونحو ذلك من المقولات، التي ضربت قطعيات القرآن والسنة، بالأحاديث الموضوعة والضعيفة والشاذة.





24-المحافظون على الصياغة العباسية

قدموا أفضل خدمة للإمبريالية وهم لايشعرون

أ-قدموا الإسلام نصا ماضويا :

لم يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، مدى ارتباط حركة السلفيات العباسية بمواقف فكرية؛ أمام الفرق العباسية، في جدل الفعل ورد الفعل، بل عزلوها عن سياقها، ونظروا لها نصا لا يتأثر بزمانه ومكانه، واستمر تأثير هذه المواقف على صياغة الفكر الديني، حتى بعد زوال هذه الفرق وأفكارها، فصار الذي يقرأ الفكر الديني؛ حائرا أمام فكر كان في زمن غابر تجديدا، ولكنه في عصرنا صار تقليدا، لإنه يناقش فرقا طواها الزمان، وصرنا مطالبين بأن تكون لنا خلفية معرفية عن هذه الفرق البائدة، لكي نفهم العقيدة.

وصرنا لا نرى في متون العقيدة إلا كلاما عن الماضين، وخلافا وشقاقا في أمور لا نكاد فهمها، ولا نكاد نحتاجها، وصارت تغرس فينا ميلا إلى التشنج والتقوقع، وميلا آخر إلى الغلو في التبديع والتكفير، وإعجابا نرجسيا بالذات الفردية والجمعية، من دون أن تقدم حلولاً للمشكلات التي نعاني منها، التي أساسها ثنائية الفقر والقهر، بل نرى فيها أنه يجب أن نصبر على ظلم الحكام ما أقاموا الصلاة، لكي يجهزنا سلالة الحجاج لقمة سائغة في أفواه حيتان المحيط الأطلسي.

من أجل ذلك ينبغي أن نعذر العلمانيين واللبراليين واليساريين عندما يحكمون على الإسلام بالتخلف، ويعتبرون الإسلام نصا ماضويا، غير قادر على مجابهة التحديات في عهد الإمبريالية الغربية، مادمنا نقدم لهم صيغ السلفيات:العباسية والمملوكية والعثمانية مسطرة معيارية للإسلام، في صياغة للعقيدة والثقافة لا توازن بين شقي العقيدة الروحي والمدني، وبين شروط إقامة العدل وشروط إقامة الصلاة.

نسيت السلفيات المحافظة على الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة اليوم؛ أن الفكر البشري يعيش في تواصل وتراكم، فلا يمكن حبسه في لحظة عاشها أحمد بن حنبل أو غيره، أمام الفكر اليوناني، كما لايمكن اختزال العلاقة بأوريا، بروح الحروب الصليبية. لأن الشيء الثابت في عادات الناس و أعرافهم، هو التغير.

ونسيت التيارات المحافظة على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن إعادة إنتاج السلفيات العباسية؛ حلولا لكل زمان ومكان؛ إنما هي انكفاء على الذات، أمام رياح الحياة، وموقف نكوصيا، لا يملك القدرة على الاقتحام. وإحالة إلى الماضي، تصور خواءاً فكريا، يمثل غياب التفكير العلمي، تجاه التغيرات الكبرى في العالم الحديث.

ب- قدموا أفضل خدمة للعلمنة:

هذاه الصورة الكئيبة التي قدمها المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ باسم السلف الصالح، هي التي استثارت كثيرا من الباحثين الذين هاجموا السلفية ، من اللبراليين والإسلاميين العلمانيين، كعبد الله كالجابري والعروي، وجابر عصفور، وأبو بكر حاج حمد، لقد أزعجهم أن الخطاب الديني المستمسح بالسلفية، خدم الاستبداد والتخلف، أكثر من ماخدمهما الخطاب الخوارجي والشيعي والزيدي والمعتزلي.

تلبست الحركات السلفية العباسية والمملوكية والعثمانية؛استحوذت على صورة السلف النبوي والراشدي، ولم تنتج فكرا ولا عملا، ينبثق من معنى"ما أنا عليه وأصحابي" فاستدعى خطابها هجوما شديدا على الإسلام نفسه، لأن كثيرا من الباحثين لم يفرقوا بين الإسلام والصياغة العباسية، ولا بين الأفكار والأشخاص، ولا بين المقلدين والمجددين والأحرار من السلفيين.

من أجل ذلك نادى باحثون كثير بأن السلفية إنما هي حركة تاريخية، لاينبغي إعادة إنتاجها، بسبب خلطهم بين السلفيات العباسية،(التاريخية)، وجوهر السلفية وهو اتباع النص المحكم، كالبوطي وراشد الغنوشي.

السلفيات (التي اكتفت بإقامة الصلاة عن إقامة العدل)في عهد الإمبريالية الغربية؛ خلطت بين(الثابت) الذي يجب أن يتوفر، في كل حركة أو دعوة إسلامية، لكي تعد صحيحة التأسيس وهو الأصول، وبين المتغير الذي داخل هذا الثابت ، وهو الصياغة والتفريع والوسائل، وعندما قلدت لم يفصل بينهما، وعندما هاجمت مخالفيها لم نتبه إلى إمكان درء شبه كثير من المخالفين بهذا الفرز.

د-وأخيرا : أفسدت الصياغة العباسية التعليم:

وعندما جاء عصر الهيمنة الغربية، وأنشئت المدارس المدنية، نشطت تيارات فكرية دينية مستنسخة النظام المعرفي الإسلامي بعد الراشدين، -حسب الصياغة العباسية- الذي يهمش القيم المدنية على متن الروحية، ولا يعنى بالحياة المدنية والسياسية، فأعادت إنتاج نظام معرفي عجز عن النهوض بأهله، فأنشئت مراكز لتدريس القرآن والتفسير، والحديث والعقيدة والفقه، في هياكل جامعات (إسلامية) تارة، وكليات (شريعة) تارة ثانية، ومدارس (دينية) تارة ثالثة أخرى.فكرست مفاهيم الدين المختلة، التي استقرت في العصور الوسيطة.

التيارات المحافظة على الصياغة العباسية اليوم ؛ ظنت أن الصياغات القديمة كافية لحلول المشكلات عصر الهيمنة الغربية ، فأغرمت كثير من المؤسسات الدينية، بتقرير كتب التراث العباسية وتكرارها، وكأنها نهاية إبداع العقول، فوقفت هذه الثقافة سدودا جبارة، أمام الإبداع الذي تتطلبه أسئلة الحداثة وتحديات العلمنة، فضلاً عن قوى الهيمنة، واستلاب العولمة.

وقدم المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية ؛ كتبهم وأفكارهم ومناهجهم، حافلة بالبلايا التي ذكرناها من قبل، لكي تكون برنامجا نموذجيا للتعليم الديني. لو وازنوا بين منهجهم ومنهج الجيل الأول السلف الراشدي الصالح ، لاكتشفوا ميلهم إلى التنظير والتجريد، تحت لافتة الحرص على التوحيد، وميلهم إلى التنظير العلمي، الذي لايفضي إلى تطبيق عملي.

لأن علم السلف الراشدي؛ كان تقنيا عمليا، لأنه نشأ في مناخ الحرية والعدل والشورى والقوة ، أماعلم السلفيات العباسية الذي بعثوه من قبره؛ فقد كان تجريديا نظريا جدليا،معلومات يغلب عليها الإغراق في التنظير، والإخلال بالأولويات، وتبعيض الدين، والتراكم الرملي والتكرار والاجترار، والتحفيظ والتلقين، وتقل فيها المنهجية والتفكير العلمي، لأنه صيغ في ظلال القمع والظلم والجب. ونسوا أننا في عصر الهيمنة الغربية، بحاجة إلى العودة إلى صيدلية القرآن والسنة.

لم يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن السلفيات العباسية، ومن بعدها خلال العهود العباسية والمملوكية والعثمانية صاغت الفكر السياسي، صياغة مثالية متعالية على الواقع، وكأنها أمام إمام راشدي للدولة، دون أن تجدد في فقه الوسائل، ما يضمن تحقيق المقاصد، عندما يصبح رشد الحاكم نادرا، لا يتجاوز 3% من عمر الدولة المسلمة.

وقد فاضطرها هذا التعالي إلى إنتاج حلول من فقه الضرورة،وأوضح مثل لذلك القول بأن القاضي وكيل عن الحاكم، وأن الحاكم أدرى بالمصلحة، وأن إمام المسجد نائب عن الحاكم، فأسهمت في خمول الأمة، و أفرزت عشرات من الأفكار والنظم، التي تدل على غبش في تصورها طبيعة الحياة الإنسانية، وخريطة الواقع الاجتماعي وتضاريسه المعاشة، وخلط بين مقاصد الدين الثابتة ، ووسائلها المتغيرات، ولا سيما بين مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها،وتكبير للأمور الصغرى، وتصغير للأمور الكبرى.

ومن أجل ذلك لم تثمن مبدأ الفصل بين السلطات، ولا تحديد سلطة الحاكم، ولا مبدأ سيادة الشعب على الحكومة، ولا قيمة التجمعات الأهلية ولا سيما المدنية، في صيانة الحكم عن الانحراف.





ج-الداء عم جميع الفرق العباسية فهل في إحدى صيدلياتها لنا من علاج؟

أين الحرية الفطرية أم الحقوق ، هل نجدها في تيارات الفكر الديني العباسي والمملوكي والعثماني التي لم تكتف بتهميشها، بل شاركت حكام الجور في وئدها. تلك القتيلة التي ينبغي أن نسأل معيدي إنتاج الصياغة العباسة: بأي ذنب قتلت؟.

وحتى المعتزلة الذين نظروا للعدل والحرية، عاث بهم داء القمع الصحراوي الكسروي فأغروا حاكما فاضلا كالمأمون، فوسم حكمه بسمات القهر والقمع الفكري. وعندما استقرت ثقافة الحكم الجائر الكسروية الصحراوية، صار القمع طابع المناخ، لذلك صارت العدالة ثانوية، فهمشت شروط البيعة الشرعية على الكتاب والسنة، ولا سيما شرطي العدل والشورى، على متن شروط الصلاة والطهارة.

تيارات الفكر الديني العباسي، والمملوكي والعثماني من جمبع الاتجاهات ، أخلت بمنهج فقه الكتاب والسنة –في عمود العدل-إخلالا كبيرا، لأنها كانت تعيش في مناخ ثقافي وسياسي قامع، ولذلك لم تر من شمس الإسلام، إلا بقدر ما سمح به الضباب المخيم، كانت شاشة الخلفية المعرفية والاجتماعية مشوشة بأشباح الصحراء والفرعنة والرهبنة والسفسطة المسيطرة على الحياة، من أجل ذلك فهي معذورة مأجورة، إن شاء الله، أما نحن فغير مأجورين ولا معذورين، إذا ظللنا نردد ما قال أجدادنا من دون تفكير.



25=احتجاج سدنة الاستبداد والتخلف

بأخطاء السلف العباسي الصالح العابرة لضرب الإصلاح السياسي يستدعي إعلان أخطاء الصياغة السلفية العباسية :

أ=مرض التعلق بنموذج متعال عن الواقع عطل الوسائل الواقعية

وكان دعاة السلفية الموازنة بين إقامة العدل وإقامة الصلاة في هذا العصر عصر الهيمنة الغربية، كالكواكبي وحسن البنا وسيد قطب ومحمد المبارك، يبينون شمول العقيدة، ولا يجدون ضرورة لتفكيك الصياغة العباسية، أخذا بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن استشراء السلفيين المحافظين على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية اليوم، يدعو إلى الانتقال إلى الجدال بالتي هي أحسن، من خلال علوم العقيدة والفقه والمقاصد وأصول الفقه والسياسة عموما والسياسة الشرعية خصوصا.

من أجل بيان أن الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة والتربية، صورة سلفية مقيسة وليست هي السلفية المقياس.

وأننا في عهد الإمبريالية الغربية؛بحاجة إلى صياغة جديدة للعقيدة والثقافة، تركز على شروط إسلام الدولة العشرة: كالحرية والهوية والقوة والعدالة والمدنية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد.

واقتنص المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية ؛ أقوالا للأئمة ولرموز لإشاعة اليأس في الأمة السلفية، واستدعوا نصوصا عابرة لأحمد بن حنبل والشافعي ومالك وابن تيمية والجويني وابن القيم وابن قدامة والقرطبي وعبد الله بن سهل التستري وابن رجب وعبد الله بن أحمد، ولم يفطنوا إلى أن أقوال السلفيين ليست حجة على نص القرآن والسنة.

فالسلفيات الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية، ليست هي المرجعية، وإنما هي حركات وصياغات ومعالجات تنتسب إلى السلفية، فأقوال رموزها وأفعالهم تساق للاستشهاد بها والاعتضاد، وليست هي السلفية نفسها التي عليها الاعتماد، فالسلفية التي عليها الاعتماد هي نص القرآن والسنة، وهو مصباح يتجلى ضوءه في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة.

الثاني: أن السلفية هي تحكيم نص القرآن والسنة، وهو مصباح يتجلى ضوءه في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، فليس نصا معزولا عن الواقع، أو حمال أوجه مفتوح.

أن هناك أفكار عديدة قال بها بعض رموز السلفية العباسية، ليست الخوض فيها محط إجماع رواد السلفية العباسية الأوائل، كمعركة:القرآن مخلوق أوغير مخلوق، أو القول بأن آيات الصفات غير الصريحة مجازية أو حقيقية لا مجاز فيها.

ونسي المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن من الخطأ العملي، أن تقدم كل الاجتهادات السلفية أشعرية وتيمية ووهابية ؛ على أنها هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، لأن لها من الآثار والمواقف والأولويات، ما لا يجسد الشعار السلفي: ماأنا عليه وأصحابي، ونسوا أن من الخطأ أن تقدم تلك الاجتهادات، طوال العهود العباسية والمملوكية والعثمانية، على أنها المحجة البيضاء، التي لا يزيغ عنها إلا مبتدع،

وحيث إن السلفية المعيار هي نص القرآن والسنة، وهو مصباح يتجلى ضوءه في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، ينبغي وزن أعمال السلف العباسي والمملوكي والعثماني الصالح بهذا المعيار، فليس ميزان السلفية ما قال أحمد بن حنبل أو الأشعري، ولا ما قال ابن تيمية أو الغزالي، ولا ماقال محمد بن عبد الوهاب أو سيد قطب، بل الميزان هو قال الله وقال الرسول، قال الصحابة السابقون، كما قال ابن القيم نفسه:

العلم قال الله قال رسوله× قال الصحابة هم ألو العرفان

وفي هذه المقالات دفاع عن المفهوم السلفي وعن السلف العباسي، الذي استتثمروه لا فتة لهوان الأمة، ووأد كرامتها وحريتها، أمام القوى الإمبريالية. ولكن المقصود الأساس، هو بيان أن الإسلام هو أساس نهوضنا.إذا تجاوزنا الصياغات التاريخية، وعدنا إلى نص القرآن والسنة، وهو مصباح يتجلى ضوءه في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة.



ب-لكي لا تصبح السلفية توحيد الأسماء والصفات:

ما قيمة وميزة التأكيد على الفصل بين المقياس والصور، التذكير بأن التطبيق النبوي و الراشدي هو المرجعية والميزان، وأن السلفيات التوالي إنما هي كواكب توابع، تدور في مدار؟، هناك ميزات و أسباب مهمة.

أولها: لكي لا نجعل نص القرآن والسنة نصا مبهما، لا يفك مكنونه وإبهامه إلا بعيون نفر من الجيل السلفي العباسي الصالح، الذي تأثرت أفكاره وانحبست مواقفه ومعالجاته وصياغاته؛ بالأفق السياسي والاجتماعي والمعرفي العباسي.

مثال بسيط على نصب هذا الميزان أن للرعيل السلفي العباسي الصالح أخطاء ليست قليلة، ألجأتهم إليها أحوال الاختلال الاجتماعي والاستبداد. أنه لا يمكن أن يقال لكل الذين خاضوا في صفات الله كالكلام، من للرعيل السلفي العباسي الصالح، من من جمدوا على ظاهر النص، ولو كانت طبيعة الكلام العربي تقتضي المجاز، أو من من أسرفوا في التأويل، أو من من آل بهم التنزيه إلى التعطيل، إن رأيكم أفضل و أسلم وأحكم من السلف النبوي والراشدي ، بل ينبغي أن يقال إن ما قلتم اجتهاد يثمن في بابه وسياقه وزمنه ومكانه، ولكن اعتباره مسطرة للعقيدة في كل زمان ومكان، إلزام بما لا يلزم.

و لكي يتبين للناس أن مرجعية ابن تيمية ونحوه في ما سموه توحيد الأسماء والصفات هي فقه الصحابة، فإذا قال سلفي معتزلي(معتدل)عباسي أو غير عباسي،إن القول بخلق القرآن من أصول الاعتقاد، أو قال سلفي حنبلي إن القول بعدم خلق القرآن، من أصول الاعتقاد، قلنا: هذا سؤال يسعنا ترك الإجابة عنه، كما وسع الصحابة، فلماذا تجعلونه مسطرة تقيسون بها الإيمان والكفر.

ج-لكي لايصبح المصباح نصا حمال أوجه

وميزة أخرى مهمة لا يعيرها كثير من الناس التفاتا؛ هي أن ننتبه إلى أثر الإطار السياسي والسياق الاجتماعي والثقافي في إنتاج الأفكار والمواقف وترتيب الأولويات والاهتمامات، وأن الإطار السياسي الراشدي كان حاضنا، التكامل والتجانس، وأن مواقف الصحابة إذن كانت أقوالا و أفعالاً، محمية بإطار الحكم الشوري ، الذي هو حقل تطبيق الإسلام النموذجي، فضوء المصباح قوي، يزيده قوة انحباسه في مشكاة العهد النبوي تحديدا، جعلته فقه توازن و اختيار، تصد عنه الزجاجة رياح الأهواء.

في العهد النبوي والراشدي كانت الحرية، فلم تحفل حياتهم بأقوال الضرورة ومواقفها، ولم تتأثر أفكارهم بجو الحكم الجبري الجائر، الذي خلخل الأفكار، فآل إلى خلخلة نظام العقيدة، عندما سلب الناس ضبابه القدرة على تحديق الأبصار، وسلبها اضطرابه القدرة على التوازن، وأفقدها خوفه صلابة الأفكار، ولم يكن العلم في الحقل الراشدي مترفا ولا فارغا، وإن كان غير كثير ولا دقيق، فإنه بروحه العملية كبير جليل.

وميزة أخرى وهي أن كل منتسب إلى الإسلام يدعي أن مرجعيته هي الكتاب والسنة، سواءا أكان غاليا كالخوارج، أم محكما الهوى القاصر في الصريح الورود والدلالة من الشريعة، و لو سمي هواه عقلا، ناسيا أن العقل هو ما استند إلى التجريب و الحس والبرهان، أما ما استند إلى الحدس، فقد يداخله الهوى ونقص الخبرة وأمشاج من المس وهواجس النفس، كقدامى المعتزلة، ومدرسة نجم الدين الطوفي، ومعيدي إنتاجها من غير المتبصرين بأصول فقه الكتاب والسنة، وهؤلاء يسوقون الآيات والأحاديث، ويغرون الناس، وليس لكل الناس قدرة على النظر والبحث، وضبط التنظير بجيل النموذج، كوضع السراج في مشكاة، يركز الضوء ويقويه.

لكي لا يصبح القرآن نصا مفتوحاً للتأويل الفاسد، عند المترهبنين، الذين يعيدون تشكيل نصوص الشريعة، لتشكيل سلفية متدروشة، تفصل شروط إقامة الصلاة، عن شروط إقامة العدل وإسلام الدولة والمجتمع العشرة، وشعارها"إمام ظلوم خير من فتنة تدوم"، أو شعار"الصلاة خلف الإمام الجائر"، فتسقط من كتب العقيدة مبدأ العدل عموما وعدل الحكم خصوصا، وهو أساس صلاح الأفراد والجماعات والدول.

وميزة أخرى لكي يتبين للناس أن مناهج التربية والتعليم التي جرى عليها الرعيل السلفي العباسي الصالح، لم يكن فيها الحصاد ، بقدر الجهد المبذول ، وأبرزها منهج تعليم القرآن الكريم، الذي تحول عبر الأجيال إلى منهج تخدير وتنويم، وتغن بالأصوات وترنيم، ولم يستطع إنتاج كوادر الإدارة والقيادة، التي أنتجها منهج تعليم القرآن في العهد النبوي و الراشدي، كما فصل الباحث ذلك في كتيب"تعليم القرآن الكريم:منهج الصحابة أم منهج التابعين؟".



26=تطبيق ميزان:"ما أنا عليه وأصحابي" على الصياغة السلفية العباسية للغيبي من شق العقيدة الروحي/ الفرق بين ما رأوه وما رووه

أ- الصوغ العباسي العقيدة ركز على الإلحاد الغيبي:

لسنا هنا في ميدان تقييم تاريخي، بل في مجال تقييم ما ذا نحتاج إليه من تلك الجهود المبرورة المشكورة المأجورة بإذن الله.

كان أكبر نشاط للسلفية العباسية؛ بعد تدوين نصوص المصباح ومسرحه النبوي والراشدي ، في صياغة الجانب الغيبي من شطر العقيدة الروحي، لأنها جنحت إلى التوسع في الروحي، والاختزال في المدني،

وتأثرت كتابة العقيدة على مر العصور، بالصياغة العباسية، فعانت من اختلال نظام العقيدة، وهذا هو أهم الأسباب، التي جعل تيارات السلفيات الحديثة المتوازنة، التي ركزت على أن العدل أساس قوة الأمة الملة.؛ ينأى في ما صدر عنه من أبحاث عن اعتماد تلك الصياغة، ولقد كان تيار السلفية المدنية، يعاني عنتا من التصريح بذلك، ولذلك سمى سيد قطب كتابه (التصور الإسلامي) ولم يسمه(العقيدة)، مع أنه عالج مسائل أساسية في العقيدة.

لقد صاغ الجيل الرائد من العلماء العباسين؛ صياغة آنية لعلها ناسبت أولويات تحديات زمنهم: اتسمت بأمور، لعل أهمها ثلاثة أمور:

الأول:أن تجيب العقيدة على الأسئلة والتحديات والإشكالات التي طرحها امتزاج الأجناس وتماس الثقافات. وحيث إنهم يعيشون عصر قوة الدولة الإسلامية؛ لم يكن هاجسهم ما يشغلنا اليوم من التركيز على مبدأ: العدل أساس قوة الأمة والملة.

الثاني: صاغوها من خلال منهج علم الكلام، واستوعبوه استيعابا مدهشا، واستطاعوا عبره تنظيم الأبحاث والرد على الفلاسفة الملحدين، وعلم الكلام علم كالعلوم الأخرى؛ لا يذم لأن أحدا أساء استعماله،فهو علم محايد(انظر في أصول الحوار:طه عبد الرحمن:68)، ولكنه علم لا يناسب صياغة العقيدة في كل حين.

الثالث: تأثر صواغ الشريعة بالخلفية المعرفية، وما شفت عنه من ضغوط المناخ الكسروي الصحراوي، فلم يثمنوا شروط إقامة الحكم العادل فوأدوا الحرية وهمشوا شئون شق العقيدة المدني فهمشوا العمل المدني الصالح كالتقنية والاقتصاد على متن القيم الروحية.

ولم يجرؤ من بعدهم في عهود شيخوخة الحضارة ورسوخ التقليد، على محاولة تفكيك الصياغة العباسية للعقيدة، وكشف إمدى خلالها بنظام العقيدة.

وبعد انقضاء المعركة ومرور الزمن، تكرس مفهوم العقيدة في هذه الأجوبة، الغيبية والروحية فتحولت (العقيدة) الشاملة في نص القرآن والسنة وحقل تطبيقهما النبوي والراشدي؛ إلى بحوث غيبية تجريدية جافة، همشت الشهادة على متن الغيب، وخاضت في ركزت التوحيد في غيبيات ظنية، صكت لها مصطلح (توحيد الأسماء والصفات)، وكفرت من لايؤمن بهذا التوحيد وقمعته.

ولم تنتبه الحركات السلفية المعاصرة المحافظة على الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة والتربية؛ في عصر الإمبريالية الغربية، إلى ما في تلك الصياغة، من إخلال بنظام (العقيدة) في المنهج والمادة والروح.

إن علينا اليوم أن نحتكم إلى الأصل: وهو نص القرآن والسنة في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، لكي لا نستدرجنا شعارات (كالسلفية) إلى مصادرة الإسلام،ولا سيما في شق العقيدة المدني والسياسي.

ولكي ندرك أن السلفيات بعد العهد الراشدي؛ إنما هي معالجات و حركات و دعوات مباركات، ولكنها ليست هي الإسلام الصالح لكل زمان و مكان، ولكي نعرف ما نأخذ من الصياغة العباسية وما نترك، فهناك أمر أنجزته السلفية العباسية، لا يشاركها فيه أحد، هو تدوين الحديث، وأمر أنجزته وشاركتها في إنجازه وبلورته فرق أخرى كتيارات الاعتزال المتأخرة هو منهج فقه الكتاب والسنة؛ هذا المنهج الذي بني على استقراء الكتاب والسنة، وتطبيق سيرة المصطفى والراشدين.

هذا المنهج هو البوصلة اليوم التي تهدينا إلى هذا المنهل الصافي،لكي لا نخرج عن مدار الدين، فالكوكب الذي ينفلت من مداره لن يجد غير الهلاك.

أما المشاريع أو البرامج والمعالجات والصياغات السلفية العباسية؛ فإنما هي حركات لها سياقها التاريخي، ولكل منها دور مرحلي، لا ينبغي تكراره أو اجتراره في كل مرحلة. والدين ليس محددا بحدود فهمهم، وتطبيقه ليس مؤطرا بأطر بيئاتهم.

الصياغة السلفية العباسية لعلم التوحيد؛ صياغة نسبية ومعينة لنا إن فرزناها، وانتخبنا خلاياها الحية وتجاوزنا الميتة، ومعيقة إن قلدناها وطبقناها بحذافيرها.

وهذا يتطلب منا جميعا، أن نتجرد من الخصومات القديمة، وأن ندرك أن جوهر كل حركة أو دعوة يتسمى بالسنة أو السلفية؛هو ثلاثية النص مصباح القرآن والسنة في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، لا الفكر لا الفرق ولا المذاهب، ولا الصياغات والاجتهادات.

و للسلفيين العباسيين الأوائل فضل كبير؛ في محاولة إبعاد المنهج التجريدي اليوناني، عن أن يكون إطارا لفهم القرآن والسنة، وفضل كبير في لجم تيارات الزندقة والخروج عن النص، لقد قامت بدورهم في المحافظة على روح الإسلام الأصلية، ومدافعة ألوان البدع والمحدثات، وهذا دور انتهى بإنتهاء التحدي، فالتحدي ظاهرة عباسية، أفرزها تيار الاعتزال الذي بدأ مغاليا في العقلانية ، كما يقول محمد عمارة ""أشاع الفكر الفلسفي في العقيدة واستهان بالنصوص"" (موسوعة الحضارة:2/383) (الزنيدي:138).

لقد انبهر المعتزلة و اهتزت رؤسهم، عندما اطلعوا على تراث اليونان، فاختل في أذهانهم الميزان، و لم يدركوا الفرق بين العقل التجريبي والحسي والبرهاني، الذي أرشد إليه القرآن، و العقل التجريدي و الحدسي الذي استند إليه اليونان في خريف فكرهم.

ولكن من الإنصاف أن لانضيق من الاعتراف بأن الجو العباسي القامع، أغطش الرؤية السلفية في بعض الجوانب، وأن رد هجوم المعتزلة، دعاها إلى التقليل من العقلانية السياسية، وحذف شروط إقامة الدولة العادلة من مدونات العقيدة، ومصادرة محور العدالة،من أجل محور الصلاة، فانتقلت شروطها من أصول الدين إلى فروعه،

الصياغة السلفية لشق العقيدة الروحي في مجال الغيب، ركزت على المشكلات التي طرحها غلاة المعتزلة والقدرية والزنادقة والوثنيون، كما في الكتاب المنسوب إلى أحمد"الرد على الزنادقة".

من أجل ذلك لم يكتب العباسيون عن الطواف حول القبور-رغم حضوره- ولاعن التمسح بالأشجار والأحجار، لأن سؤال القبور لم يكن جوهر النقاش، ولعله لم يكن بارزا، على شكل ظاهرة اجتماعية.

وهذه القضايا ليست مجال الجدال اليوم.من أجل ذلك دعت السلفيات الحديثة المتوازنة إلى الاكتفاء بالنصوص القطعية، وترك أي اجتهادات من قبيل الرأي لا تفضي إلى عمل، مجالا للمعارك الفكرية، والتوازن بين محوري العدل والصلاة.

ب- عين الرضا عن كل عيب كليلة

و لكن الصياغة السلفية العباسية ترتيبا للغيبي من شق العقيدة الروحي إنما هي معالجة لإشكالات كانت فزالت، ولكن الزعم بأن الصيغ العباسية للثقافة الإسلامية، هي -وحدها- هي السنة, إنما هي غفلة عن مؤثرات الزمان والمكان، وتعميم لنموذج معالجة محلي أو آني، ووضع له في خانة المرجعية، وإدراج للوسائل والصياغات المتغيرة، في بوتقة المبادئ الكلية الثوابت.

لقد عقدت الصياغات العباسية على الناس فهم التوحيد، عندما صاغت التوحيد بمصطلحات كلامية، لا يسير في غاباتها إلا متفلسف، ومثل هذه الصياغة ينبغي أن تطرح اليوم، ولو رفعت فوق كتبها لافتة السلف الصالح، والسنة والجماعة، لأن هذه الصياغة، عندما تقدم اليوم حلولاً لتحديات العلمنة و العولمة و الأمركة و الأوربة لن تحل مشكلة.

و هي فكر يكثر الجدل في مالا يترتب عليه عمل، تخالف مقتضى الشعار الذي أعلنته "ما أنا عليه وأصحابي"، فالنبي وأصحابه طبقوا العقيدة نظاما تكامل شطراه الروحي و المدني معا، وتوصيفات الفرق العباسية، معتزلة وشيعية، وأشعرية وحنبلية؛ أخلت بهذا النظام، ولكنها معذورة، لأن السياق السياسي القامع، جرها إلى هذه المسالك، وبين الفعل ورد الفعل انطفأ الاعتدال.

والكلام في الصياغات السلفية العباسية لمسائل العقيدة طويل، وتقييمه وتقويمه يحتاج إلى تفصيل،(قاربته مقالات كتب المصباح والعديلين والجناحين)، وخلاصته أن إجمالهم في الجانب الغيبي من شق العقيدة الروحي لاغبار عليه، ماعدا ما خرج به بعضهم عن النص الصريح القطعي، إلى تفصيلات اجتهادية ظنية،غير عملية ولا ذات أولوية، كما نبه الشاطبي والشوكاني.

وينبغي أن يتذكر المحافظون على تلك الصياغات اليوم-في عصر الإمبريالية الغربية- هذه الأمور لكي لا نضرب الاتفاق على الأساسيات بالاختلاف على الثانويات

فقد كان المناخ العباسي منتجا للأحقاد والاتدابر والتباغض-كشأن كل حكم قمعي-فكثرت خلافاتها، في أمور اجتهادية، وثار الصراع بينها في أمور اجتهادية غيبية، ظلت تتناقش في عالم الغيب، أكثر من تناقشها في عالم الشهادة. وهذا جعل التيارات المتشددة تكتب ألوف النسخ، في ما يسيء إلى السلام الاجتماعي والوفاق، فكفر بعضها بعضا، وقمع بعضها بعضها، واستثمرها الاستبداد، في اللعبة:فرق تسد، فصار كل فريق يغلب يقمع مذهب غيره.

على كل حال هم يجتهدون ويخالفون أحيانا من قبلهم، ومن حق من بعدهم أن يدلي بدلوه، وكلمة أبي حنيفة هي النبراس، عندما ليم على مخالفة بعض التابعين: "نحن رجال وهم رجال"، هذه الكلمة التي يمكن أن نستنبط منها بسهولة: وكل من أدوات الاجتهاد علما وعملا من الخلف رجال. ويمكن أن نستنبط منها أن السلفية بوصلة تشير إلى نجمة القطب: الذي هو المصباح والمشكاة، وذلك نجم ذو بوصلة مفتوح لكل من ملك أدوات الاجتهاد علما وعملا

وفهم هذه الأصول والتفريع عليها، ليس وقفا على سابق دون لاحق، والرسرل صلى الله عليه وسلم يقول "رب حامل علم إلى من هو أوعى منه"، ويقول ما معناه: "أمتى كالغيث الماطر، لا يدرى الخير في أوله أم في الآخر".





27= الصراع مع الفرعنة و الثقافة الأجنبية أنهك السلفيات العباسية

أ- القلعة القامعة سياسيا لا تنتج إلا فكرا محاصرا:

كان السلف العباسي الصالح، حريصا يعيش في مناخ سياسي قامع، اضطره إلى أن يقصر إبداعه على الرواية، فركز على تدوين النص/المصباح ومسرح تطبيقه.

ولا بد أن نفرق اليوم بين ما رووه وبين ما رأوه، لكي لانتصور صياغتهم للعقيدة والثقافة والتربية مسلمة لاشية فيها، فقد ألجأهم مناخ القمع إلى إلى وضع شروط عدل الدولة وإسلامها العشرة، في إيط إسلام الفرد المدنية وإبط إيمان الفرد والغيبية.

كما نجد ذلك واضحا في كتاب السنة للبربهاري، والطحاوية للطحاوي، وهم مثل غيرهم من الفرق؛ لم يستطيعوا تنقية كتب التفسير (كالقرطبي و ابن جرير و ابن كثير) من الخرافات و الترهات، والآراء الهشة والانطباعات الرخوة، التي لا قيمة لها في ميزان صحيح علوم الإنسان والطبيعة.

وكان ثمة جدل أكثره عقيم حول العقل والنقل، فلا السلفيون حددوا النقل بأنه الصريح من المصباح الذي ثبتت صراحته في الزجاجة أو المشكاة، ولا المعتزلة حددوا العقل بأنه صحيح علوم الإنسان والطبيعة، ولو فعلوا ذلك لكفى الله المتنازعين شر الجدال.

فليس للفلاسفة، بله المعتزلة امتياز احتكار العقل، مفهوم العقل في العصر العباسي لم يكن دقيقا، فالعقل المسلم به هو صحيح علوم الإنسان والطبيعةوهو الحسي والتجريبي والبرهاني، أما كثير من هرطقات الفلاسفة، فإنما هي أوهام الأهواء، لاسيما ونماذج العقل، عند أمثال ابن رشد، إنما هي تقليد ونقل واجترار للفكر اليوناني التجريدي وتكرار، ليس عليها أثر النقد فضلا عن الابتكار، فليس كل ما نسبوه إلى العقل معقولا، وإن ادعوا العقلانية، لأن العقل مفهومه إنما هو بوصلة، كما شهد القرآن، ولذلك تأتي مرادفاته النظر والتفكير والإبصار والتذكر، ولكنه بوصلة برهانية حسية تجريبية، وليس بلبلة تجريدية، ولا فرملة صحراوية.

ولعل من المفيد لنا اليوم أن نفرز بين المعياري والنسبي في الصياغة السلفية لنتأمل ما حافظ عليه، فإن حافظ على مبادئ وكليات قطعية ثابتة، فالمحافظة عليها واجبة،

وإن حافظ على أمور طبيعتها التغير بين الأجيال، أولم يفرز من الوقائع والنصوص ماهو مطلق عن ماهو نسبي، وماهو من الوسائل من ماهو من المبادئ، لنكتشف أن رأي مالك في رفض توحيد وتدوين أحكام القضاء، اجتهاد غير صحيح، وإن كان مالك معذورا و مأجورا بإذن الله.

وأن نفرز ماهو قطعي ثابت من مبادئ الدين، من ماهو اجتهاد فردي لصحابي، ولوكان راشديا، عندما نكون أمام قول الإمام مالك لمن سأله عن معنى الاستواء: »الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب"، فهذا هو منهج السلف الذين نزل بينهم المصباح، أن يشغلهم العمل عن الشقاق والجدل، في الكلام عن الأمور الغيبية التي لم تفصلها النصوص، ولا يترتب عليها عمل.

ولكن جبه السائل أو ضربه أو إهانته، إنما هي معالجة فردية انطباعية، كما في بقية قول مالك للرجل الذي سأل عن الاستواء" السؤال عنه بدعة،أخرجوه عني فإنه رجل سوء".ولعل مالكا أراد اتباع عمر بن الخطاب لما ضرب صبيغا، عندما سأل أسئلة منكرة.

ولكن عمر رضي الله عنه كان في بداية التماس، وقد اجتهد في إغلاق هذا الباب، ولكن هذا الباب لم ولن ينغلق بسيوف ولا رماح، لأن الفكر لا يحارب بسلاح من خارج منظومته، فكيف سنقنع الناس بفكرنا، إذا كنا سنقول للسائل: أنت مبتدع، أو أنت رجل سيء، حكمنا فيك أن تضرب بالجريد و النعال-كما ينسب للشافعي-. وليس تصرف عمر ولا مالك ولا الشافعي قاعدة شرعية من قواعد الدعوة لكي نتمسك بها باسم السلفية،

بيد أن صياغة العقيدة والثقافة في منحاها الصافي، الذي جسده الرواد كالشافعي و محمد بن الحسن، تمت في ظلال الصراع، ومناخ التوتر و الاستبداد السياسي والفكري، وفي مناخ خلفية معرفية وحضارية محدودة، فغلب على كتابها أسلوب الدفاع عن (القلعة المعاصرة)، فجاءت صياغة حذرة من الاختراق.

ولذلك سمات ينبغي الفطنة لها: منها أنها ركزت على جانب فكر الرواية فقلت عندها الدراية،إذ إن انعزال الفكر عن صخب الحياة الاجتماعية و السياسية، أفقده الحيوية والمرونة والاستفادة من المعطيات وحلول التحديات، كما أنه ظل مسكونا بهاجس الحذر من كل شيء، يتصل بالسلطة أو العقلانية،-وهو في ذلك معذور- لأن السلطان كان جبارا جائرا، ولأن مفهوم العقل كان يونانيا، من أجل آلت به كراهية العقلانية اليونانية، إلى الإزراء بالعقلانية جملة وتفصيلا مع أن القرآن قرر أن العقل هو أساس الهداية من الضلال، فهمش العقل العملي والتجريبي والحسي ، ولذلك لم يكن لرموزه -بعد العراك المعتزلي/السني سبق في الإبداع المعرفي.

بدأ هذا التيار الصافي برسالة للشافعي، ولكن رموزه شغلهم تدوين الرواية، عن جانب التأمل والإنتاج والدراية، ومتأخروهم عايشوا شيخوخة الفكر والحضارة، فلم يستطيعوا إنتاج فقه مدني ولا سياسي كاف.



ب-استطاعوا-بعزلتهم وتدوينهم النص- منع الفرعنة من أن تتشرعن:

و لم يكادوا يخرجوا عن دوامة ردود الفعل إلا قليلاً، لأن الموجات التي اندفعت عليهم، أقوى من طاقتهم، ولأن أوائلهم لم يستوعبوا علوم الإنسان والطبيعة التي جدت موضوعاتها ومناهجها عليهم، فلا نكاد نجد فكراً عقلانيا عميقا، قبل الغزالي وابن تيمية وابن خلدون والشاطبي، فلم يكن لهم نشاط كاف للتأسيس المعرفي.

كما أن الاتجاه الصافي لم يستطع أن يكون حضنا اجتماعيا، تنمو فيه قيم الحياة المدنية، والروح الجماعية، والحيوية والتفكير المنطقي، والمعرفة التطبيقية، فضلا عن شروط إقامة عدل الدولة وإسلامها العشرة.

ومن خلال استعراض مذاهب أسماء النابغين في الفلسفة والكيمياء والطب والرياضيات، ندرك هذه الحقيقة.

ولذلك ظل أكثر رواد السلفية العباسية محافظا، يناقش الأفكار بأسلوب القلعة المحاصرة، وغلب عليهم الحذر من المعرفة الجديدة، ولذلك كثر فيهم التحذير من الجدل ومن علم الكلام، ولم يكن مسلكهم تطبيقا معياريا لقاعدة شرعية و لا موقفا نقديا معرفيا، لأنه هذه الثقافات لن يتوقف جريانها عبر أسلوب القلعة المحاصرة، بل عبر أسلوب "ادخلوا عليهم الباب"، وهذه المسألة التي يثير بعضنا اليوم حولها الجدل، من بديهيات علم الاجتماع المعرفي.

ومن أجل ذلك فقد تلونت الثقافة الأصلية أيضاً بهذه الروافد.

ولأن مصباح القرآن والسنة، لم يوضع في مشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة؛ صار العالم والفقيه يسشتهد بالقرآن والحديث، ولو كان ذلك لإنكار كروية الارض، أو لإنكار حقيقة الكيمياء، أو الإثبات أن التفكير مركزه القلب لا الدماغ، فظهرت فجوة متوهمة بين علم الشريعة وعلوم الإنسان والطبيعة، وانتشرت الأحاديث والآثار والأخبار الضعيفة والموضوعة، والأساطير والخرافات والترهات،التي لم تسلم منها مدونات العقيدة، فضلا عن كتب التفسير.

مؤثرات ضخمة الآثار؛ حاصرت التيار الصافي، فجعلته غير قادر على صياغة فكر متسق عميق، يشكل منظومة معيارية، يمكن أن تعتبر منارة للأجيال اللاحقة، فأصبح التيار السلفي، كغيره من التيارات عندما يؤصل أو يفرع، متأثراً بها إن شعر وإن لم يشعر.

وهذه المؤثرات امتصتها الثقافة الإسلامية وليس من السهل فرز صوابها عن عوارها، رغم محاولات كثير من العلماء السابقين، في علم النحو كمحاولات مدرسة الكوفة، وفي علم البلاغة كمحاولات عبد القادر الجرجاني، وفي علم المنطق كمحاولات الغزالي، وفي علوم العقيدة كمحاولات ابن تيمية، وفي علوم الاجتماع كمحاولات ابن خلدون، وفي علوم أصول الفقه والمقاصد كمحاولات القرافي والشاطبي.

هذه الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة، إذن محاولات لتوصيف الإسلام واللغة والمجتمع، ولكنها ليست فكرا معياريا متسقا مكتملا، ولذلك ينبغي علينا فحصها اليوم معرفيا، تصحيحها معرفيا و إعادة نظامها المختل منهجا، من أجل تأسيس فكر تربوي يحل مشكلاتنا ويلبي احتياجاتنا ويقاوم الضغوط والتحديات النازلة، ويستجيب للمعطيات المعرفية والتقنيات الواقعية.

كل هذه الروافد مازجت الثقافة الإسلامية الصافية، رغم حرص روادها على حفظ السنة، وعلى نقاء الحديث من الوضع والتحريف، بنقل قراءات القرآن الكريم، لكن هذا الجهد لم يستطع إيقاف موجة الفساد السياسي ولا التأويل الفكري، ولكنه استطاع أن يحول دون اكتسابهما مشروعية، عندما شكل الرواد الأوائل وعاءاً ناقلا حافظاً للإسلام، وهذا يكفيهم فخرا.





28=أكبر إخفاق في السلفية العباسية وصورها الحديثة اليوم:

غمط منظومتي العدل والعمران كالحرية والتعددية والتقنية

/البدعة الكبرى التي دست في متون العقيدة

أ-السلفيات العباسية وشروط دولة العدل والشورى:

لم يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ أهم إخفاقات الصياغة السلفية عباسية ومملوكية وعثمانية؛ وهو صياغة العقيدة السياسية، الذي كان نتيجة اختلال التوازن بين شق العقيدة الروحي والمدني عامة والسياسي خاصة.

ومن أجل ذلك لم يثمن هؤلاء شروط إقامة عدل الدولة وإسلامها العشرة، ومبادئ السياسة الشرعية، ووسائلها المعتبرة في كل دولة متحضرة،التي أهمها:

1-سلطة الأمة وسيادتها وقوامتها على الحكام، وكونها ولية أمر نفسها، وكون الحكام والقضاة وكلاء عنها لاعليها، وضرورة وجود وسائل تضمن هذه المبادئ، كتوزيع سلطات الدولة، وتواجد مجالس منتخبة وأجهزة مراقبة ومحاسبة.

2- وضرورة بروز كيانات في المجتمع الأهلي وفي الدولة لأهل الحل والعقد تجسد كون الأمة مرجعية الحاكم.

3-وحدة الأمة المسلمة العقيدية واستقلال هويتها الثقافية، وإن تعددت وحداتها السياسية.

4-حفظ الحقوق الفطرية الإنسانية، التي عرفتها الطبائع، وأكدنها جميع الشرائع، والمواطنة القائمة على حرية التفكير والتعبير والتجمع والتعددية والتسامح

5- والتعاون على البر والتقوى،

6- الروح العملية والعقلانية والمعرفية والتقنية.

7-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،روحيا ومدنيا

8- التزام الأسلوب السلمي في حل أي صراع داخل الأمة.

9- الاحتساب على الحكومة/الجهاد السياسي لإزالة الطغيان الداخلي وإلزام الحاكم بشرطي البيعة: العدل والشورى.

10-وإقامة العلاقات الدولية على السلام والبر والقسط، وحصر الجهاد العسكري برد العدوان،فالجهاد في الإسلام إنما هو ضد العدوان والظلم، لاضد الكفر. (انظر تفصيلا في كتاب(جناحين حلق بهما الإسلام).

ب- السكوت عن أئمة الجور والتبعية للإمبرياليةما أقاموا الصلاة

ومن أجل ذلك لم يلحظوا الخلل الأكبر هو في شق العقيدة السياسي، عندما همشوا أركان إقامة الدولة العادلة العشرة، في إبط أركان إسلام الأفراد الروحية والغيبية، بسبب ماران على الخلفية المعرفية من أوشاب الصحراء، والرهبنة والسفسطة والفرعنة. تلك الروافد الأربعة التي كدرت نهر الإسلام الصافي.

ولم يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن منهج الفقه الحرفي، وضباب الصحراء والفرعنة والرهبنة والسفسطة، أسهم في التهوين من قدر الإمامة الكبرى، ونتج عن ذلك أن السلفيات العباسية لم تبين أن العدل عديل الصلاة، ولم تثمن أثر العدل في بقاء الأمة وزوالها، فلم تعط شروط عدل الدولة وإسلامها قدرها.

ومن أجل ذلك لم يقدم المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أفكارا أو وسائل تحقق مقاصد الإسلام السياسية، وتسهم في لجم الاستبداد الداخلي، الذي كشف الأمة اليوم للإمبريالية الغربية، فلم يثمنوا الدستور واستقلال القضاء، ولم يرشدوا الشعب إلى أن التفريط بالعدالة، كالتفريط بالصلاة، هذا بمثابة كفر روحي بواح وذاك بمثابة كفر سياسي بواح، وكلاهما يتطلب جهادا سلميا واحتسابا.لأن هذه القضايا كانت غائبة عن الوعي في العصر العباسي، ولأنهم أعادوا إنتاج فكر لم يستقرئ أسباب سقوط بغداد تحت سنابك التتر.

ولا بد للناس اليوم من استقراء سر سقوط الأمة تحت سنابك الإمبريالية الغربية. وهذا يدعو دعاة النهضة من السلفيات الحديثة التوازن، لكي لا تجعل الهوية نقيضا للحرية؛ ولا ترى التضحية بالعدل على مذبح الأمن، ولا ترى أن وظيفة الحاكم محصورة بإقامة الصلاة، لكي تتنازل عن العدل والمساواة.

وهذا يتطلب تعميقا وترويجا لمواصلة نحت خطاب النهضة الذي بدأه روادها، كالأفغاني و وخير الدين التونسي والكواكبي و محمد عبده و شاه ولي الله الدهلوي، ومحمد رشيد رضا و حسن البنا و سيد قطب و محمد الغزالي و القرضاوي وعبدالمجيد الزنداني، ومحمد أبو فارس نحوهم.

ويتطلب أن يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ مدى اختلال (نظام) العقيدة وتوازنها، وأنه لم يكن فرديا ولا محصورا برعيل ولا تيار ولا فرقة، بل هو وتيرة العصور بعد الخلافة الراشدة، وقد رسخ في الفكر الديني، منذ أن أطل بعنقه عند فشل حركات الإصلاح السياسي والعسكري، في العصر الأموي وأناخ بكلكله منذ العصر العباسي.

ب-نتيجة السلفيات المحافظة على الصياغة العباسية:أمية سياسية وتبعية للغرب:

ولا زال المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ غير مدركين أن الإسلام لا يتحدد بفكر السلف العباسي الصالح، ولا يتحدد بهذا الموضوع ولا بهذه الصياغة، التي تكرست أجوبة وحلولا لبيئات ماضية.

ولذلك تقف التيارات المحافظة على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أمام قضايا العصر في مواقف غير عملية، فهي إما رافضة جملة وتفصيلا، عبر فقه سد الذرائع و ذلك مؤد إلى الانتحار، وإما مائعة عبر فقه الضرورة وذلك مؤد إلى الانبهار، وفي كلتا الحالتين تقدم حلول ترقيع وتلفيق.

ولا بد من التذكير بنظام العقيدة المتوازن، لكي لانضرب القيم المدنية، التي محورها العدل، الذي هو عديل الصلاة، الذي أكده مصباح القرآن والسنة وزجاجته ومشكاته.

ينبغي أن نتذكر أن سلفنا( العباسي الصالح ومن احتذاه) -رحمنا الله وإياهم- لم يرسخ لنا خطابا دينيا، يقدر العلاقة بين العروتين الأمانة أو الحكم أو العدل وعروة الصلاة، اللتين صرح بهما الحديث الصحيح، ومن أجل ذلك لم تقدرالقيم المدنية حق قدرها،ولذلك لم ينشأ في البلاد التي سادت فيها السلفيات المحافظة على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية محضن اجتماعي، يرعى القيم المدنية لا عدلا ولا عمرانا،ويرسخ أنها خيوط أساسية في نسيج الإيمان.

انقلب الهامش على المتن، فحل (الرأي) محل الوحي، وحلت الهوامش والحواشي والشروح، محل الصريح النص الصحيح، و ضربت كليات الدين بجزئياته، و ضربت كلياته القطعية بالنصوص المجتزأة من سياقها.

والتبس في الصياغة العباسية، وماهو رأي سياسي أو مدني فطير أو متخلف لاينبغي التسليم له، بماهو وحي صريح صحيح يجب التسليم له.

من أجل ذلك صار من الضروري؛ ضبط رؤية مصباح الكتاب والسنة بزجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة آيات الله الصحيحة في ظواهر المجتمعات والطبيعة، و آيات الله الصحيحة في ظواهر المجتمعات والطبيعة، لا تناقض آيات الله الصريحة في نصوص الشريعة.لأن مصدر الحقيقتين واحد، كما قال تعالى"قل كل من عند الله، فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثا"، كما برهن ووضح ابن تيمية في كتابي الرد على المنطقيين والعقل و النقل.

الفكر السياسي الديناصوري، هو نقطة الضعف الكبرى في صياغة السلف العباسي لصياغة العقيدة، هو الذي مهد سقوط سد مأرب،العقل السياسي غيم في ثقافتنا الدينية، فصارنا كلما ازددنا تدينا ازددنا بالسياسة جهلا ، فصدق علينا قول المعري:

الناس صنفان: ذو دين بلا عقل وآخر عقل لا دين له

وهؤلاء معذورون في ما اجتهدوا فيه، لأنهم اجتهدوا حسب استطاعتهم أولاً، واجتهدوا لعصرهم ثانيا، ولم يقل أحد منهم: اتخذوني أو كتابي مرجعية في القرن الخامس عشر، ولكنا اليوم لسنا معذورين إذا ظننا أن تقرير كتبهم وآرائهم ومقولاتهم، وتصيد الشوارد من مقولاتهم، سيبني لنا فكرا نهوضيا، نقاوم به أعاصير الهيمنة والعلمنة الأطلسية.



29= السلفيات المحافظة في العصر الإمبريالي على الصيغة العباسية: تواجه نتيجة فساد المنهج/الجدب الحضاري /تقبل ظلم الحجاج افضى إلى التبعية لقيصر أيضا؟

أ-لكي لاتجير المفهوم لتبرير ا الجدب الحضاري:

لم يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية كيف حل التفسير والشروح والفروع، محل الأصول في التفكير الاجتماعي، وجرى انقلاب على المتن، شيئا فشيئا، رويدا رويدا، فتسللت البدع في شرايين الأمة، كالماء تحت التبن، فمن خلال الشروح والتفاسير، وجرى لي النصوص، لتنطق بأهواء وانطباعات، رهبانية وبدوية وفرعونية وسفسطية.

إنه خلل كبير وخطير في صياغة العقيدة والثقافة والتربية، ليس قضية كتاب أو كاتب دون آخر، ولا قضية اتجاه ينتسب للعقل، دون اتجاه آخر ينتسب للنقل.

إنه اختلال عام سرى في الفكر الديني، وأنتج ما نراه من ثقافة دينية شعبية خاملة سياسيا، مجسدة على المسرح الاجتماعي؛ أنواعا من السلوك الراكد، الذي لا يثمن التكتل والتعاون، في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

عندما يتحدث أحد عن صياغة التراث الديني العباسي، ينبض ببعضنا هاجس الخوف على الدين، وهو هاجس مشروع، لأنهم يجدون من ينادى بالقطيعة مع التراث والدين، ولكن هذا الهاجس إذا سيطر علينا عمينا عن التفرقة بين نص الشريعة المطهرة والتفسير العباسي.

ومن أجل ذلك غلب على التيارات الدينية المحافظة على الصياغات السلفية والعباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية الاضطراب، والميل إلى النزاع والشقاق، والنزوع إلى التجريد والتنظير، والبعد عن فهم الواقع وتحليله، وضمرت فيها الروح العملية المستقبلية.

وشاع الفقه الحرفي الظاهري، ومحاولات حلول المشكلات وتلبية الحاجات الحديثة، بل وبناء الحياة الحديثة، على نماذج وأنماط اجتماعية وثقافية عباسية بائد

وأشاعوا الحرفية لأن السلفيات العباسية أكثر الفرق تطبيقا لمنهج الاستدلال الحرفي في فقه الكتاب والسنة،

والمظهرية في فهم الدين.

-وغلبت على أفكارهم المحافظة والتشدد تجاه المستجدات.

وغلب عليهم انتقاء النصوص التي تعضد هذا اتجاهها واعتبارها هي الإسلام.

وضرب ضرب الاتفاق على اليقينيات بالاختلاف على الظنيات الغيبية

ونسوا أن جوهر السلفية: إسلام بلا مذهبية:

ونسوا أن مقتضى لفسطاط التوحيد عمودان إقامة شروط العدل و إقامة شروط الصلاة

وتناسوا أن ينبغي أن نستشهد بالسلف العباسي نعتضد لاأن نجعلهم مرجعية عليها نعتمد ؟

ولم يفرزوا بن سلف نبوي راشدي عايش المصباح والزجاجة وسلف احتذاهم ونسوا أن سلفية المصباح والزجاجة/هي نجمة القطب والبوصلة/ وأن السلفيات العباسية وما بعدها توابع دوارة.

ونسي الذين يعيدون إنتاج الصياغات العباسية؛ أنهم يوحون للناس بأنه في غمار معركة عباسية، كانت قائمة قبل ألف سنة؟، فيجمعون الأنصار، وينبشون مادفنته العصور، ويقفون خطباء في المقابر، يناقشون قوماً ماتوا، وطويت معهم آراؤهم، ويتركون أسئلة الميزان والإحسان والعمران، تلك الأسئلة الكبرى التي يطرحها تحدي العلمنة و اللبرلة و العمولمة الأطلسية، فاغرة أفواهها، دون أن يدركوا دورهم أمام غزاة كونيين، يهددون ثقافتنا وحضارتنا، بأدوات غزو فتاكة؟.

ويطرحون قضايا ومعارك الفرق العباسية وغيرها، وكأنها لازالت حية تتحرك، ويقفون عند حدود الأطر التي أطرتها، في حلول المشكلات، وفي الاقتصاد والسياسية، وفي طرائق التعليم وفي اللباس، وينفصل انفصالاً عن العصر الحديث.

فهم يعيش في الماضي أكثر من الحاضر، ويحتمون بالماضي، كلما لفحتهم رياح الحاضر. ويحاولون بعث الماضي، دون أن يلاحظوا علاقة البنية الثقافية بالاجتماعية وما فيها من تغيرات كبرى.

وعقد المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية على الناس فهم العقيدة، عندما قرروا في مدارسهم كتبا صيغت بمصطلحات كلامية، لايسير في غاباتها إلا متفلسف، ومثل هذا الفكر ينبغي أن يطرح، ولو رفع فوق كتابه لافتة السنة، لأنه خالف مقتضى الشعار الذي أعلن.

ومن الضروري أن يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ أثر تقديس آراء العلماء السابقين، الذين لم يثمنوا العدل والشورى، في شيوع الجمود والتقليد، فقد أوحى التقليد المتلبس بالسلفية، بإمكان تنصيب شيوخ عاشوا في القرن الثاني أو الخامس أو نحوه، مرجعية ذات سلطة معنوية مطلقة، تمارس وصاية على أجيال الأمة، وكأن شيخاً من قبره يتحكم بالأحياء، عبر إدارة أزرار الريموت.

إن من أخطر الأشياء، أن نتصور الفقهاء مخولين بالتوقيع عن رب العالمين، لأنهم أولياء الله الذين يحددون ما يريد، فالله لا ينيب أحداً بالتوقيع عنه، إلا نبي مرسل، يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم....

وفي عهد الإمبريالية الغربية؛ كيف يستطيع المحافظون على صياغة التراث العباسي، تقديم أدوية من صيدليات علماء العصور الماضية، وأغذية من ثلاجاتهم، لتحديات الحداثة السياسية والعلمنة، والعولمة والهيمنة والفرنجة، وكيف يصوغون فقها سياسيا ، تنهض به دول إسلامية حديثة، وهم لا يثمنون –أولا يدركون-مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها، كسلطة الأمة، وسلطة مجلس النواب، واستقلال القضاء، والفصل بين السلطات، والتجمعات الأهلية ولا سيما المدنية.

وما من سبيل أمام الأمة من أجل بناء حياتها عن الإسلام؛ إلا بالعودة إلى فقه القرآن والسنة؛ إلا بخلع النظارات العباسية، وتأمل مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة. والاستشهاد بالتراث وأقوال العلماء السايقين، دون اعتبارهم مرجعية عليها المعول والاعتماد.

فقد ظلم المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية العقيدة كثيراً، عندما حصروا الدين بالمحافظة على صياغات سابقة سلفية، حصروا العقيدة بها، أو كونوا سلفيات انتقائية. ظهر فيها خط التقليد على التجديد، وخط القمع والعنف على الحوارية واللطف، وخط الانزواء على الانفتاح.

وظلموا الإسلام والأمة كثيراً عندما حصروره في تجربة سلفية اعتبروها قطب الإسلام، فصار كل سلفي، يعلن السنة والرجوع إلى الكتاب والسنة، وهو يقدم فكرا يعاني من اختلال التوازن، لا يختلف الناس في صحة إعلان هذا الاتجاه من حيث الإجمال، ولكل المشكلة في والتفصيلات والتطبيقات:

وظلموا العقيدة، عندما أدمجوا فيها اجتهادت بعض المتأخرين، التي أخلت بنظام الإسلام، وقدموها وكأنها دين لا يجوز أن يعبد الله بسواه.

وظلم المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية العقيدة عندما ظنوا بعض أن التزام بعض آراء السلف الصالح في فهم آيات شق العقيدة الروحي، شروط لصحة الإسلام، وكأن فهم القرآن والسنة، حق خاص محصور بعيون السلفيات العباسية وحدها حتى في علوم الإنسان الطبيعة و النفس كالاجتماع والتربية والتاريخ والحضارة والفلك والجغرافية، مع أن السلفيات العباسية الصالح؛ لم ينشئ علما يذكر في هذه المجالات.و تلك من مصادرة للذهن البشري.

وظلموا العقيدة عندما قدمت على أنها جدل لفظي في ثانويات غيبية، حصر بها مفهوم العقيدة، وتهميش للعمل المدني الصالح، وظلمت العقيدة عندما قدم الالتزام به على أنها رفض لكل جديد، وأشد الظلم هو ما يأتي من مَن يتوقع منهم النصرة:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة × على المرء من وقع الحسام المهند

لماذا يعتبر المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية اليوم مقلدين؟: لأنهم لا يدركون أن السلفيات العباسية حركات مباركات، تحركت في عصرها، وليس مذاهب محددة، بل هي منهج. وأن السلفيات العباسية أخلت بـ(نظام) العقيدة، اجتهادات السلف العباسي, لم يكن لديها تصور واف لهذا النظام الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن من حولها إلى مذهب فقد اجتهد في حدود إمكانه وزمانه ومكانه

أما من ألزم الناس بصياغة رموز كوكبة السلفيات الصالح المجددين؛ كابن حنبل وابن تيمية، فقد هلك وأهلك الناس، لأنه صادر بها (نظام العقيدة) المتوازن. و لأنه فرض تقليدهم واتخاذهم بوابات لا يدخل الإسلام إلا عبرها، وعيونا لا يرى الدين من دونها، وحصر طريق صلاح الأمة اليوم بذلك.

د- من الاستسلام للحجاج أفضى إلى الاستسلام لقيصر:

.كثيرون من المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ رفعوا شعار الالتزام بالكتاب والسنة، وصلاح الشريعة لكل زمان ومكان، ولكن لأنهم يعزلون فقه المصباح عن زجاجته ومشكاته؛ لا يكادون ينجحون في تقديم فكر إسلامي؛يعالج المرض العربي الداخلي: الاستسلام للمرض الداخلي الحجاج،(التفريط بالحرية والكرامة)،فضلا عن علاج الاستسلام للمرض الخارجي:قيصر(التفريط بالهوية واستقلال الشخصية). التيارات التي استسلمت للحجاج، أثبتت قدرتها على التعايش مع الإمبريالية الغربية

إنهم من خلال الفكر الهلامي، يعلنون لنا صباح مساء، أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأن سبب تأخرنا هو الإخلال بالدين، لكنهم من خلال الإنتاج الفكري، لا يبينون الأشياء التي أخللنا بها من الدين، ولا يقولون لنا إننا أهملنا أركان عدل الدولة وإسلامها العشرة، ولا يصرحون لنا أن أهم فريضة دينية أهملناها هي فريضة(الحكم العادل). ولا يكتبون لنا ما يدل على وعيهم ضمانات ووسائل الحكم العادل، التي جربتها الأمم فشفيت من أمراضها.

وليس لدى كثير منهم إلا الكلام الهلامي المكرور، الذي انشغل بالكتابة والتأليف والجدال، عن التخطيط والإيثار والتضحية والعمل والنضال. إن هذه الظاهرة أحد إفرازات ثقافة الثرثرة والكلام، إنها إنتاج رباعية البدونة والفرعنة والرهبنة والسفسطة، وهذا الفكر يعلن بلسان الحال: الدين ليس منفصلا عن السياسة فحسب، بل منفصل عن الحياة.

لم يدرك المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية أن تعلقهم بالصياغة العباسية للفكر الديني، ليس محافظة على الإسلام ، بل نتاج الاستسلام للقيد ونتاج الإحباط المتراكم، ونتاج التشبث بصورة الجد المرحوم، وتعليقها على الجدار، وكتابة قصائد ونقائض عن الأحساب والأنساب. نتاج روح قابعة نزاعة إلى تقديس القديم.

ولم يدركوا أن أفدح الأخطاء أن يكسو الصياغات العباسية أردية السنة النبوية المطلقة من دون فحص، فهذا خلل مركب، لأنه خلل علمي ديني معا، لأننا بذلك نتخد من صياغة "السلفي العباسي الصالح"، نموذجا معرفيا متكاملا، لا يجوز تجاوزه، ونجعلها إطارا حديديا، صياغة جامدة مغلقة، تختزل الإسلام.

لوأدركوا منزلة العدل في الشريعة؛ لقدموا صورا حية لنظام العقيدة المتوازن ، ولأشاعوا أدبياته ووسائله، وصاغوا خطابا يثبت شروطه وأعرافه، ويحدو الأمة إلى الإيثار والحيوية والاحتهاد والمبادرة والابتكار، والنضال والجهاد والاحتساب والتضحية والاستشهاد، من أجل الدفاع عن مصالح الأمة، ومن أجل مقاومة الطغيان الداخلي، قبل مقاومة العدوان الخارجي.

ولو قلمت الأمة أظفار الحجاج، لصدت هجمات التتار والغزو الصليبي بالأمس، ولسلمت اليوم في عصر الإمبريالية الغربية من الاستلاب، من أجل ذلك نحتاج اليوم إلى تصحيح نظام العقيدة، وهذا هو التجديد الذي تحتاج الأمة إليه اليوم، أشد الحاجة.



30= النرجسية والعصبية للمذهبية/تجليات المجتمع المنقمع:

أ-مقلدو الصور العباسية صادروا بها الأصل الراشدي وهم لا يشعرون:

أساء مقلدو السلفيات العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية إليها لأنهم يتعصبون لمتونها وشيوخها، عندما ينحبسون في قمقم صياغة إمام قديم، أويعيدون تشكيله وفقا لأهوائهم، للتعبير عن شجون حاضرة، وهذه المسألة معروفة في علم الاجتماع المعرفي؛ بتأويل الرمز الماضي. وينسون أن السلفيات منذ صدر العصر العباسي حلول مؤقتة لزمانها و مكانها، لا تصلح صياغتها لعصورنا لأنها أخلت بـ(نظام) الدين المتوازن.

بل إنهم أسياءوا إلى السنة نفسها، وهدموا الاتجاه الذي توهموا أنهم يبنونه، بل إنهم أساءوا إلى الإسلام نفسه، عندما اختزلوه بصياغة السلفيات العباسية، وعندما حاولوا الإجابة عن الأسئلة الحديثة المعاصرة، بمتون الصياغة العباسية وهي أجوبة لأسئلة غابرة، وأساءوا إلى جهود رواد الصياغة العباسية، عندما قدموا للناس ما وقع فيه بعض الرموز من أخطاء و أغلاط، على أنها هي ما كان عليه النبي وأصحابه، فجعلوا الصياغة في مرتبة الكتاب والسنة، واعتبروا القول بغير ذلك كفرا أو بدعة ورفضا للصريح من الوحي.

لم يلاحظ المحافظون على الصياغة العباسية، أنها كانت لزمن غابر، ولم يلاحظوا المناخ السياسي والاجتماعي الذي عاش فيه فقهاء الإصلاح الديني السالفون، وما فيه من قمع لقيم المجتمع المدني ووأد للحرية والكرامة والعدالة والمساواة و التعددية، و ما فرض عليهم ذلك المناخ، من خيارات وأولويات، وتفسيرات وتأويلات، وآليات ونظريات، حاولوا أن يجايهوا بها التحديات.

ب- تغليب الخلاف على الوفاق من تجليات القمع السياسي:

يلاحظ موظفو السجون كثرة تنازع السجناء، مهما كان بينهم من ألفة ومهما كان لهم من هدوء أعصاب خارج السجن. ويلاحظ المربون أن شدة قمع الآباء تجعل الأبناء كثيري التصارع والحدة في ما بينهم.

لكن كثيرا منا لايكاد يطبق هذا المسبار، عندما يقرأ تناحر الفرق الدينية، خلال العهود العباسية والمملوكية والعثمانية. بيد أن ذلك أمر طبيعي، فمناخ القمع السياسي، أورث الفكر الديني إغفال التسامح، وكثرة الخلاف وحدة التدابر.

والناس في دولة الاستبداد، يسيطر عليهم سلام ظاهري، لكن النفوس تنشحن بالأحقاد، تماما كالسجناء في العنبر، يكثرون التخاصم، ويحولون رد فعلهم على الساجن القاهر، إلى زملائهم المقهورين في الزنازين.

وصياغة سلفنا العباسي الصالح-رحمنا الله وإياهم-، للعقيدة والثقافة تأثرت بمناخ الاستبداد الكسروي السياسي، فغلت في التبديغ والتكفير،بسبب سريان داء القمع الصحراوي الكسروي السياسي إلى الدين،وتمازج في غالب الأحوال، فأفرز القمع السياسي، خطاب قمع ديني محرف، تصفى تحت لافتته المعارضة، وتضطهد الأقليات.

فتكافر السنة والشيعة في مسألة الإمامة، وتكافر المعتزلة والسنة,في الأسماء والصفات، واتخذ الفريقان من مسألة خلق القرآن ميزانا، لأهل الجنة والنار، وشاع الغلو في التبديع والتكفير، ومنذ معركة خلق القرآن، شاع التشدد والتعصب في التمذهب.

ومن أجل ذلك نكرر مرارا: لا يمكن أن ينبت في مناخ الاستبداد السياسي؛ أي صلاح ديني ولا اجتماعي لا تربوي ولا تعليمي، ولا اقتصادي ولا صناعي ، ولا معرفي ولا تقني.

ج-تقديم الرؤية المذهبية-من خلال التفاسير والشروح- على أنها الإسلام الذي لا يزيغ عنه إلا هالك:

وفوق ذلك دست الفرق العباسية ، من معتزلة سنة حنابلة أو أشاعرة؛ و شيعة آراءها ومسائل الصراع بينهما وبين الفرق الأخرى، في شروح الحديث والتفسير، ومررتها-في أحيان كثيرة- من دون بيان الخلاف، فجاءت اجتهادا تها في فهم القرآن والسنة، كأنما هي الحق التي لا يزيغ عنه إلا هالك.

وفوق ذلك أوحت للقراء بأن آراء غيرها؛ إنما هي بدع كبرى أو مكفرة، من خلال قانون غريب في علم المنطق، هو إلزام القائلين بما يراه الناقد (لازما) لأقوالهم ، أي فحوى القول، ثم إصدار أحكام، على شخصه وسمعته وعلمه ودينه.

ورغم أن الإمام أحمد يقول" من ادعى الإجماع فقد كذب"، فقد أكثر اللاحقون من ادعاء الإجماع على اجتهادا تهم، أو أنها قول الجمهور، أو أنها صريح القرآن والسنة، أو أنها قول الأئمة المحققين، أو أنها مذهب الأئمة الأربعة.

أشد عيوب تيارات الفكر الديني العباسية؛ أنها توهم قراءها وأتباعها، أنهاهي الإسلام الصريح الصحيح، وأنها هي المحجة البيضاء، التي لايزيغ عنها إلا هالك، وأنها هي الفرقة الناجية التي كان عليها المصطفى وأصحابه،من خلال رفع شعار الكتاب والسنة، ولكن حقيقتها أنها رؤية اجتهادية، أي مسائل خلافية، فيها خلاف معتبر لمسائل غيبية أكثرها يعتمد على أحاديث آحاد، وأغلب ما مناكفاتها في ما لا يترتب عليه عمل.

وهي لا تفرق بين ما هو صريح القرآن في السنة، وما هو آراء شيوخها وعلمائها، وهي قد زاد هذه المنهج الحرفي في فقه النصوص، وتزداد هذه النزعة إيغالاً، عندما توحي لمن يقرأ أن فهم السلفيين العباسيين هو القرآن والسنة. فتعتبر الصياغة العباسية، لعلوم التوحيد و السياسة والقضاء، هي الإسلام الذي لا يزيغ عنها إلا هالك، وذلك يعني أنها تعبر عن سذاجة معرفية.



د- احتكار الفرقة الناجية:

الإسلام له حدود قطعية، أجمع عليها أهل القبلة، من خرج عن أساسي صريح صحيح منها كفر، ما لم يكن متأولا تأويلا يسمح به الكلام العربي، سواءا أكان بعيداً مرجوحا أو فاسداً. ومن خرج عن ثانوي صريح صحيح ابتدع.

ومن أطرف مسائل الصراع، ما دار حول حديث الفرقة الناجية إذ جالت تيارات الفكر الديني العباسية؛ حول حديث الفرقة الناجية، وكل يدعي أنه الفرقة الناجية، ويعدد الفرق السبعين، ونسي الناس أن بلوغ الفرق السبعين-إذا صح منطوق الحديث- لا يكون إلا في نهاية المطاف، عندما يرث الله الأرض ومن عليها،وأن الحديث لا ينص على أمة الإجابة، بل قد يقصد به أمة الدعوة، وأن أهل القبلة جميعا هم الفرقة الناجية، وإن لا فكيف تكون أمة محمد صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة؟، إذا كان لن يدخل الجنة منها إلا واحدة من سبعين فرقة من الأمة المسلمة؛ وإذا كان لن يدخل الجنة إلا إحدى الفرق أي الحنابلة أو الأشاعرة أو الزيدية, أو الإباضية أوالشيعة الإمامية أوالمعتزلة .

وفي كل تيارات الفكر الديني العباسية نرجسية غير عملية، عندما تتخذ مثل هذا الحديث ، مرزبة لضرب كل رأي يخالف رأيها، وتزعم أن فريقها هو الفرقة الناجية، و أقرب توجيه لهذا الحديث من أحاديث الوعيد، التي تتضمن التحذير من مخالفة السنة، ولا يؤخد بمنطوقها الصريح، والدخول في النار هنا لايلزم منه التخليد، فقد ثبت ثبوتا قطعيا، في الأحاديث الصحيحة المتواترة المعنى: ""من قال لا إله إلا الله دخل الجنة""، وقد ذكر ابن تيمية رحمنا الله وإياه هؤلاء الغافلين، بأن من عين الفرقة الناجية قد تألى على الله.

ولكن ابن تيمية نفسه،-غفرالله لنا وله- رغم ما تستفيد الأمة من من أفكاره البازغة؛ لم ينج هو ولا غيره من المبالغة في التكفير والتبديع؛ لأن المبالغة كانت وباء معرفيا ساد المناخ العام، تجليا وإفرازا طبيعيا للقمع والاستبداد السياسي، فالاستبداد جرثومة كل فساد، كما يقول الكواكبي.



31= التخندق في نفق التمذهب صادر مرجعية الكتاب والسنة:

ثم رسخ الانغلاق والتدابر

أ- اختلاف الصحابة واختلاف المتمذهبين :

التعصب للمذهبية، من مساوىء التربية الدينية المنغلقة، في جو الاستبداد السياسي،حينما ترك الناس الكتاب والسنة ، وصارت مرجعيتهم قول الإمام مالك أو أحمد،أو الشافعي أو أبي حنيفة .

وصار اسم إمام المذهب يتردد في مقولاتهم ، أكثر من تردد اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، وصارت أقواله تتردد أكثر من أقوال اللَّه ورسوله ، وصارت كلمة المالكية والحنابلة والشافعية والحنفية،تتردد أكثر من كلمة الصحابة .

كما صارت أقوالهم،تتردد في المتون والمختصرات والشروح،أكثر من أقوال الصحابة .

وصارت عبارات : إمامنا وإمامهم ،ودليلنا ودليلهم ، لوازم في هذه العصبية

فإذا قيل لم كل هذه الاختلافات،قالوا كما اختلف الصحابة من قبل. واختلاف الصحابة يمتاز عن اختلاف المتأخرين بالسمات التالية :

هناك خلاف بين الصحابة السابقين والصحابة التابعين لهم.و الصحابة التابعون يسعون إلى أن يكونوا من التابعين بأحسان، والإتباع بإحسان يتحدد بأن على الصف الثاني ، أن يقتدي بالصف الأول، في الاعتماد على القرآن والسنة.

الخلاف بين الصحابة كان خلافاً على فهم نص القرآن والسنة، وكانت الأحاديث لديهم طرية، لم يختلط موضوعها بصحيحها، ولم يصل إليها تحريف الرواة واختلافهم. وكانوا يرون مصباح الكتاب والسنة، في مشكاة التطبيق النبوي والراشدي.

والأصل عند الصحابة هو القرآن والحديث، وتطبيبق الرسول، أما اختلاف أهل المذاهب، فإن المذهب عندهم الأصل، لأن بعضهم قد يجد الحجة، من الكتاب والسنة تؤيد مذهباً آخر، فيدعها لأنها خلاف مذهبه، وكأن مذهبه هو الدين، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكأن المذهب الآخر دين منسوخ، كما قال أحد العلماء.

ومادام الفقيه لا يحرر المسألة، إلا من خلال أقوال علماء المذهب، فقد قيد الدين بفهم علماء المذهب، وحدد الحقيقة الدينية سلفا، من خلال منظار مذهبي، وصار دور العالم المذهبي هو التبرير والاحتجاج لمذهبه.

كماقال ولي الله الدهلوي)في التفهيمات الإلية( عن أهل التقليد: إذا بلغهم حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعملون به، وإنما يقولون:عملنا على مذهب فلانٍ لا على الحديث، وإمامنا أعلم منّا، فهو لم يتركه إلا لوجهة نظر له، ويزعمون أن كل حديث لم يأخذ به إمامهم منسوخ «أو مجروح، أو مؤول، أو غير صحيح .

»بل إنهم يطعنون بأئمة المذاهب الآخرين، وينسبون إليهم الجهل، ونسوا أن الحديث جمع بعد هؤلاء الأئمة الأربعة رحمهم اللَّه«وكأن منهجية اختلاف الصحابة،مثل منهجية مذاهبهم ، ويرون أن اختلاف المذاهب محمود،كاختلاف الصحابة. و اختلاف الصحابة طبيعي، لأنه اختلاف أمام فهم النص، أو أمام عدمه . فهو اختلاف اجتهاد ، يسوق كل منهم حديثا رواه ، أو حدثا رآه ،ولا تكادأن تجد لأحدهم قولين متناقضين، في مسألة واحدة.

عندما حكمت المذهبية ، تكرست القطيعة بين الفقه المتمذهب وفقه الكتاب والسنةكما أشار الألباني في مقدمة كتاب (الصلاة)، فذكر أن سبب تأليفه الكتاب ، كثرة اختلافات المذاهب ، وكون معرفة ذلك على وجه التفصيل ، تتعذر على أكثر الناس حتى على كثير من العلماء ، لتقيدهم بمذهب معين .

ثم قال : »وقد علم كل مشتغل بخدمة السنة المطهرة جمعاً وتفقهاً . أن في كل مذهب من المذاهب سنناً، لا توجد في المذاهب الأخرى ، وأن فيها جميعاً مالا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من الأقوال والأفعال ، وأكثر ما يوجد ذلك في كتب المتأخرين.

إنها إذن نتيجة التعصب للمذهبية ; خطيرة فظيعة،لأنها كرست القطعية المعرفية ،بين فقه الكتاب والسنة، وفقه المذهبية. أعلنها الألباني: في جميع كتب المذاهب ما لا يصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من الأقوال والأفعال!!!.

ولذلك قال ابن القيم - رحمه اللَّه - عن هؤلاء إنهم » قد أقروا على أنفسهم بالتقليد المحض من جميع الوجوه ، فإن ذكروا الكتاب والسنة يوماً ، فعلى سبيل التبرك والفضيلة ، لا على سبيل الاجتهاد والعمل ، وإذا رأوا حديثاً صحيحاً مخالفا لقول من انتسبوا إليه ;أخذوا بقوله ، وتركوا الحديث ، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً; وغيرهم من الصحابة رضي اللَّه عنهم ;قد أفتوا بفتيا ، ووجودوا لإمامهم فتياً تخالفهم ، أخذوا فتيا إمامهم ، وتركوا فتاوى الصحابة قائلين : الإمام أعلم بذلك منا، ونحن قلدناه ، فلا ننتعداه ، ولانتخطاه ، لأنه أعلم بما ذهب إليه منا«.

وإن تعجب فعجب أن يعد الترجيح بين روايات المذهب اجتهاداً . ولكن لاعجب فالاجتهاد نال مفهومه ما نال مفهوم الفقه من الركود .

وهذا ليس اجتهاداً ،هذا انتقال من تقليد إلى تقليد، فهؤلاء المجتهدون المذهبيون، يكتفون بالتصوير والنماذج ،والتحرير والتقرير والتلخيص و الشرح، والترجيح بين روايات المذهب.

ب-تجيير أئمة المذاهب لنظريات وأفكار جديدة:

ولما كان الفقه، لا يكونات إلا بأثارة من علم الدين، ولما كان للسابقين من الصحابة، فضل مبين، فقد حاولت الفرق في الفروع والأصول، تستندت دعم مذهبيتها إلى (السلف الصالح) تحتج به، وتستثمر سمعته وزعامته، ولو ضربت فكره الأساسي بالفروع التي نسبتها إليه.

وهكذا بني الأحناف ثلثي المذهب، فليس للمؤسس الإمام أبي حنيفة إلا الثلث، وبنى الحنابلة من إحدى الروايتين أو الثلاث أو السبع عن الإمام أحمد ابن حنبل من محدث إلى فقيه، مذاهب محددة.وأبو حنيفة وأبو عبد الله لم يكتبا، بل حذرا من الكتابة، فهما كسائر أئمة المذاهب، الذين حذروا طلبتهم من التزام أقوالهم

قال أبو حنيفة : لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه ، وقال ليعقوب : ويحك يا يعقوب ، لا تكتب كل ما تسمع مني ، فإنني أرى الرأي اليوم وأتركه غداً ، وأرى الرأي غدا وأتركه بعد الغد .

ولكن التلاميذ كانو ا معجبين بشيوخهم ،يرون أنه لا يمكن تجاوزهم ، ولايرون أنه يمكن أن يصعدوا على أكتافهم ، ليروا آفاقا أوسع .

لقد نصح أبو حنيفة تلاميذه أن لايكتبوا ،ولكنهم كتبوا. كما نصح أحمد تلاميذه أن لايكتبوا . ولكنهم كتبوا ، فأساءوا إلى شيوخهم ، عندما قدموا آراء متناقضة تفتقد المنهجية ، ونسبوها إليهم ،

ولذلك قال الإمام ابن حزم رحمه الله:» إن الفقهاء الذين قُلِّدوا مبطلون للتقليد، وإنهم نهوا أصحابهم عن تقليدهم، وكان أشدهم في ذلك الشافعي«.

وهكذا فكم شيخ من شيوخ التجديد الأحرار؛ يبتلى بأتباع يترعرعون في عصور الجدب والقمع، فيحملونه أفكارهم، ومن أجل ذلك وجدنا لعدد من أئمة المذاهب آراء متباينة متناقضة .

وبناء على القواعد الأصولية،ينبغي أن يكون أحد الرأيين المتناقضين قديما، والأخر جديداً،أوأن يكون أحدهما حكما ثابتاعاما،والأخر فتيامتغيرة (شخصية)،أو أن يكون أحدهما صورة والأخر صورة أخرى.

أما يكون له رأيان متناقضان في الأصل والصورة،فذالك خلل من التلاميذ الذين نقلوا،إن أعفينا الشيخ من التناقض . وعلى كل حال فالنقيضان يتساقطان،كما لو أحدا قال وهو يوصف منزلاً: إنه غرب المحطة،ثم قال مرة أخرى إنه شرقها فالصواب واحد،وهو إن المنزل شرقها أو غربها، أما القائل فإنه لا يكون له رأي في السألة ينسب إليه.

ولو أن التلاميذ لم ينقلوا إلا من كتب مكتوبة ، لأحسنوا إلى إمامهم وإلى الأمة .لأن العالم عندما يكتب ،يفكر ويدلل ويحلل ، ويراجع ويهذب ، ويزيل التناقض في المادة والمنهج .

ج- أثر التمذهب في ضبابية المفاهيم و المصطلحات:

ترى ألم تكن كتابة التلاميذ مجالس شيوخهم الشفوية خطأً منهجياً ?،لأنها جمعت في المسألة الواحدة أكثر من رأي. و الذهن ينسى ، ولذلك يكون للأستاذ رأي في مجلس ، ثم ينقضه في مجلس آخر.ويستحضر آية أو حديثا في مجلس ، وينساها في آخر، ويمر بلحظة صفاء وإشراق في حال ، ويمر بلحظة فتور في حال أخرى.

من الخطأ المنهجي إذن تسجيل آراء الأئمة ،في المجالس الشفوية ، فليسوا رسلاً لا ينطقون عن الهوى ، وهذه البلبلة التي تجدها اليوم ، هي نتيجة أسلوب التلاميذ ، في تسجيل آراء الشيوخ ، ولذلك وجدنا آراءاً متناقضة ، تناقضاً غريبا عجيبا ، يدل على خلل منهجي.

عندما ساد العصب الذهبي، كثرت البلبلة،واضطربت المفاهيم،كما قال ولي الله الدهلوي :»وهذا أمر جعل الحكم ... ]في القضية الواحدة[يتضاربُ ويختلف بين الوجوب والحرمة ، والكراهية والندب والإباحة ، مما لايتصور أنْ ينزله اللَّه سبحانه وتعالى القائل : » ولو كان من عند غير اللَّه ، لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً « ولذلك صَرّح أحد العلماء بأن هؤلاء الأئمة ، لو جاءوا اليوم لرجعوا عن كثير من آرائهم ، بعد أن جمع الحديث وصحح.



32= دولة الاستبداد والمافيا القبلية والصحراوية: وظفت المذهبية والطائفية لطاعتها

أ-عندما مهدت المذهبية الفكرية للدولة المذهبية:

وقد دشنت العصبية المذهبية، ضيق أفقها بالصراع الشرس، الذي شوه الجو الروحي للمساجد، وثارت عنجهياتها في الأمور الصغيرة، ومن يقرأ تاريخ بني العباس، يعجب لتقاتل الناس حول الجهر بالبسملة في الصلاة، أو حول أمور غيبية، لايستطيع أحد الطرفين أن يأتي بنص صحيح صريح يبرهن به صحة رأيه، وكل منهم يعزو ماله من رأي إلى منهج الصحابة، دون أن يدرك المتدابرون أن الصحابة كانوا يختلفون ولكنهم يصلون خلف إمام واحد، ولم يكن لأي فريق سياسي أو اجتماعي مساجد معينة.

فمن يسر بالبسملة صلي منهم مع من يجهر ومن يرى استحباب رفع اليدين مع من لايرفع . ومن يرى نقض الوضوء بمس المرأة مع من لايراه . ومن يرى التوضؤ من لحم الجزور مع من لايراه . ويصلون خلف إمام واحد، ولايستنكف أحدُُُُُ أن يصلي خلف الإمام لخلاف مذهبي، بل إنهم يصلون خلف أي إمام حتى ولو كان فاسقا، بل يصلون خلف الإمام حتى لو كان مبتدعا.

أما الناس في عهود التخلف ، فقد صار كل أهل مذهب فرقاً . فصرت تجدُ في المدينة الواحدة لكل مذهب مساجد، لا يصلي بعضهم خلف بعض.

حكى المعصومي في كتابه » هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين من المذاهب الأربعة « إنّ رجالاً من اليابان أرادوا أنْ يدخلوا في الإسلام ، فقال لهم أهل الهند : أسلموا على مذهب الإمام أبي حنيفة ، لأنه سراج الأمة ، فقال أهل جاوة : يلزمُ أن تكونوا شافعيين .

فلما سمع اليابانيون كلامهم تعجبوا وتحيّروا ، وصارت مسألة المذاهب سداً في سبيل إسلامهم ، وسألوا المعصومي كيف يسلمون? وماعلاج الداء ? وطلبوا بيان الحقيقة، فكتب لهم رسالة نفيسة ، سخر فيها من رعاة المذهبية ودعاتها، وقال عنهم : »لو دخل الإسلام رجل ولايدري بما يأخذ ، ولاأي المذاهب و الكتب في الأصول والفروع يعتمد ، لصعب علينا إقناعه ، بأنّ هذا هو الدين القيم دون سواه، وبأن كل المذاهب على اختلافها شيء واحد، وإنما حدث ذلك ، لأن المذاهب تحولت إلى أديان

افتقدت أغلب التيارات الدينية ;الحس السياسي والاجتماعي ، الذي يربط عقيدة التوحيد بالوحدة أيضاً ، ولم تدرك أن الإسلام لم يأمر بشيء بعد التوحيد; كما أمر بالانسجام ، وتآلف القلوب ، ولم ينه عن شيء بعد الكفر، كما نهى عن الشقاق والتحارب والتباغض .

فصارت الخلافات المذهبية ، حطبا جاهزاً، توقد به نيران الفتن والعداوة والتدابر والتناحر بين المسلمين، حتى رأى بعض المسلمين بعضاً ، شراً من اليهود والنصارى .وبذالك أعاد المسلمون إنتاج الغلو في الفكر والفعل، الذي دشنه الخوارج; وهم لا يشعرون.

وقصة واصل بن عطاء مع الخوارج مشهورة ، عندما خرج إلى البرية مع نفر من أصحابه ، فأقبل عليهم الخوارج ، وعلم أصحابه أنهم لا محالة مقتولون ، فأقبل عليهم فهدأ خواطرهم وقال دعوهم لي ، ثم أقبل على الخوارج : فسألوه : من أنتم فقال:إخوانكم من المشركين، يستجيرون بكم، فرحبوا به و قرأوا عليه شيئا من القرآن ، ثم أرادوا الانصراف ، فقال :لا، بل أبلغونا أطراف المدينة حيث نأمن، أليس كتابكم يقول » وإن أحد من المشركين استجارك ،فأجره حتى يسمع كلام اللَّه ، ثم ابلغه مأمنه « ففعلوا !!(الكامل للمبرد) .



ب-القمع هو سر فساد الدولة العربية القديمة والحديثة:

والحاكم المستبد أكثر البشر عرضة للغرور، لأنه يجمع بين المال والشهرة والسلطة، وهو كأي إنسان يمكن أن تسكره خمرة السلطة فيطغى، ويتصور كل من يدعوه للعدل مشاغبا مقلقا، فإذا اجتمع قصر نظره مع قصر نظر حاشية لا تدرك السياسة, أو قصر نظر فقهاء لا يدركون نتائج الأمور؛ زجوا الدولة بالفتن والقلاقل، تحت شعارات دينية براقة,كالجهاد والاجتهاد، وقمع أهل الزيغ والفساد.

والنتيجة هي الاضطهاد, الذي يصبح اجتماعيا، فإذا الفرق الأخرى, تئن تحت وطأة التفرقة، فيصبح أهلها مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة أو الرابعة، وإذا بالأحقاد تنفجر في لحظة من اللحظات, وإذا بالمقموعين يلتمسون خلاصهم من كل من يلوح لهم به، و لو كان عدوا أو كافرا، كالإفرنج والتتار، وبالفقهاء والمؤرخين السذج يحملون تلك الفرق ورموزها, انحلال الدولة وسقوطها من دون أن يدركوا أن السبب هو القمع، قمع الحرية والتسامح، وأد التعددية فكرية وسياسية.

لعل هذه قصة دور ابن العلقمي -إن صح أن له دورا- في سقوط بغداد, على أيدي التتتار، وكم سقطت دول بسبب سوء التعامل السياسي, مع الأقليات والطوائف، بل كم جر الفقهاء المنغلقون والسذج ، دولا صغيرة، إلى سوء العلاقات مع دول كبيرة, باسم قمع البدع, أو الولاء والبراء، فإذا بالدول الكبرى; نقضي على الدولة الصغيرة, قضاء مبرماً وتحولها إلى أطلال، والسبب غفلة الفقيه و الأمير عن الحنكة السياسية، وعن مبادئ الشريعة السمحة في التعددية، لعل هذه هي قصة سقوط الدولة السعودية الأولى1233هـ .

السلوك القمعي صحراوي فرعوني، ضد المجتمع المدني الإسلامي، إنه يمزق المجتمع,ويمزيق الدولة، ولذلك فإن العقائد القمعية, تتساقط من على مسرح الحياة تباعا، سواء لبست لبوسا دينيا أو قوميا, أو شيوعيا أو وطنيا أو علمانيا.

لأن ضيق الأفق فكر غير عملي، وهو ضد مفهوم المجتمع المدني، ضد الحقوق الشرعية للأفراد والجماعات

ج-القمع وفي لمنهجه لذلك يرتد حتى على منتجه:

ومن أجل ذلك فإن الفكر القمعي يؤدى في نهاية المطاف إلى الصراع بين أهله أنفسهم والفكرالقمعي يجر منتجيه إلى التقاتل والتناحر, فيقتل بعضهم بعضا, حتى ينقتلوا بسيوفهم أكثر من ما ينقتلون بسيوف خصومهم, كدأب الشراة الخوارج في قديم الزمن، وكدأب الشيوعيين من بعدهم، في أفغانستان واليمن، وكدأب عدد من الفرق الإسلامية, شوهت مفهوم الجهاد والسنة، حتى صكت من فكرها أسلحة قضت بها في نهاية المطاف على نفسها.

ما من دولة استسلمت للعصبية المذهبية الضيقة، ورفضت التعددية الفكرية والتسامح إلا وجدت نفسها في نهاية المطاف ;ضحية من ضحايا قمعها،.

فالقمع مبدأ، المبدأ وفي لمنهجه وطبيعته، وليس وفيا لا لرموزه وشخوصهولا لمنتجه.

و لذلك فإن رموز المذهبية الأحادية في نهاية المطاف، يشربون من الكأس التى صنعوها لخصوصهم، ورفاق القمع هم إخوان الشاعر:

و إخوان تخذتهمو دروعاً # فكانوها و لكن للأعادي

وخلتهمو سهاما صائبات # فكانوها ولكن في فؤادي





33= الدولة المذهبية المحاصرة

قامعة داخليا مقموعة خارجيا:

أ- السياسي المتفرعن المتغلب واستثمار التمذهب:

أكثر المذاهب الإسلامية الدينية، خرج من رحم الصراع الاجتماعي والسياسي، ومن أجل ذلك تشكلت بنية المذهبية، على فكرة القلعة المحاصرة، وصاحب القلعة المحاصرة، يلجؤه الحذر والحس الأمني، إلى إلغاء الآخرين وقمعهم،خوفا من تسلل أفكارهم إلى قلعته..

وأكثر المذاهب الإسلامية أيضاً أحرز انتشاره، عبر وقوف زعمائه موقف معارضة حكم قائم، فاكتسب فكره التشدد والتخندق ، وانحرم من الواقعية، وأغرق في نبذ الآخرين، عبر مظلة التكفير والتبديع.

و ينزلق أهل السياسة، في إغراءات المذهبية،; يضطرون إلى الانقياد إلى ضيق أفق المذهبية الفكرية، لأنها تقدم لهم مبررات قمع خصومهم دون هوادة. لأن بنية العصبية الفكرية، حديدية أحادية حدية،ليس فيها أنصاف حلول; فالناس إما أهل سنة وإيمان معها، وإما أهل بدعة وكفر ضدها.

والسياسي لا خيار أمامه إلا القبول بما هو مطروح في الساحة، فليس أهل الساسة أدوات إنتاج فكري، إنما يستثمرون الإنتاج الفكري، لإنتاج سياسي، ويجدفون في بحره، حسب مايتوافر لهم من سفائن.

ولاريب أن العصبية المذهبية، قد تفيد الدول حين نشؤئها وقد يستثمر السياسي المذهبية للإصلاح الاجتماعي والمدني حينا من الدهر، وقد يصبح السياسي انتهازيا فيستخدم المذهبية في تقديم المصالح الآنية على المصالح الاستراتيجية، والإخلال بالعدالة الاجتماعية وحقوق الناس.

ولكن استسلام السياسي، لضيق أفق الفكر المذهبي، وقمع التعددية الفكرية يسوق بالدولة في نهاية المطاف إلى حتفها، وحتف الفكر المذهبي الأحادي معا، لأن الأحادية المذهبية انبنى نسقها، على أسلوب القلعة المحاصرة، و انبنى على فكرة القطيعة الاجتماعية، فانحرم من التسامح تجاه الطوائف والأطياف الأخرى فيقمع المذاهب الأخرى، لأنه من دون فكر مرن، يستوعب الفسيفساء الدينية والاجتماعية.

وقد يصل أصحاب المذهب المتعصب إلى السلطة، من دون فكر عملي للإدارة السياسية، وهذا يؤدي في النهاية،إلى أن تكون العصبية المذهبية; سبب سقوط الدولة واضمحلال المذهب، ومن يقرأ تاريخ الدول في العصور الوسيطة،لن يجد صعوبة،في استخلاص هذه العبرة.

من لوازم قمع التعددية الدينية فقدان السلام الاجتماعي،في النسيج الاجتماعي ، عبر أساليب الإقصاء الاجتماعي باسم الدين. و انتضاء سلاح التفسيق والتبديع و التكفير، ومهما يكن لهذه الأساليب من المبررات العلمية على المستوى النظري، فإن صورها التطبيقة الشائعة، تدل على جهل يقدم باسم العلم، وغلو يستساغ باسم الدين. وضعف حس سياسي واجتماعي، لا يراعي ضوابط إنكار المنكر.والدليل على ذلك تفرق الأمة، وضرب وحدتها، باسم التوحيد.



ب- عندما تلقى العصبية المذهبية خصومها

في جحيم الدنيا والآخرة معا:

لقد وسعت المذهبية خلال العهود العباسية والمملوكية والعثمانية مفاهيم البدعة والكفر ، وحاول كل فريق أن يلقى خصومه في نار الدار الآخرة. مستدلا بمثل الحديث» ستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار ، إلا واحدة قالوا: من هي يارسول اللَّه?قال : من كان على ماأنا عليه وأصحابي « ، وظلت كل الفرق تدعي أنها هي الأحق بالانتساب إلى الاسلام ، وأنها هي الواحدة المعنية بالدخول إلى الجنة.

على أن الحديث من أحاديث الوعيد، التي تفيد التحذير والترهيب، من الافتراق والاختلاف،ولايلزم من منطوقها تكفيرأحد من أهل القبلة .

ولذلك قال الغزالي رحمه اللَّه في (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) »أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان باللَّه ورسوله وباليوم الآخر وماعداه فروع .واعلم أنه لاتكفير في الفروع أصلاً . إلاّ أن ينكر الإنسان أصلا، علم عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر «.

وابن حزم يدعم هذا القول في الملل والنحل ، فيقول »ذهبت طائفة إلى أنه لايُكفر ولايُفسق مسلم ، بقولٍ قاله في اعتقاد أو فتيا . وأن كل من اجتهد في شيءٍ من ذلك ، فدان بما رأى أنه الحق ، فإنه مأجور على كل حال ، فإن أصاب الحق فأجران ، وإن أخطأ فأجر واحد« وقوى ابن حزم هذا الرأي بنسبته إلى عدد من كبار الفقهاء فقال : »وهذا قول ابن أبي ليلى ، وأبي حنيفة والشافعي،وسفيان الثوري وداوود بن علي،رضي اللَّه عنهم أجمعين . وهو قول من عرفنا له قولاً في هذه المسألة من الصحابة رضي اللَّه عنهم «

ورغم ظهور تيارات علمية ، تحررت من الالتزام بالمذاهب الأربعة ، فإن روح المذهبية سيطرت عليها في بناء آرائها ، وفي النظرة إلى مخالفيها، وهذايدل على خلل في المعرفية:غاية ومسارا،نتج عنه (الوثوقية) الشخصية، وادعاء القدرة على التكلم باسم الإسلام والمسلمين ، بل ادعاء التوقيع عن رب العالمين.

فحصروا الإسلام في مذاهبهم، فالإسلام هو مذهب كذا وكذا، ومذهب كذا وكذا هو الإسلام، كما قال أحدهم:

أنا حنبلي ما حييت فإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا

ويلزم من ذلك أن من لم يكن على مذهب كذا وكذا فليس بمسلم، وتجد رجل المذهب، يقدم فكرة المذهبي، على أنه المالك لحقيقة كما قال احدهم: من استحل شيئا خلاف مافي هذا الكتاب، فإنه ليس بدين الله بدين، وقد رده كله، كما لو أن عبداً آمن بجميع ماقال الله ورسوله، إلا أنه شك في حرف، فقد رد جميع ماقال الله وهو كافر« (شرح السنة للبربهاري :10).

وهذه الوثوقية هي ما ملأ كتب التراث بغمط المخالفين وتكفيرهم ، وعدم ضبط مصطلحات البدعة والكفر ، ضبطاً شرعياً متسامحا، حسب ما قرر الغزالي وابن حزم والشاطبي، من حيث التنظير فضلا عن التطبيق ، ولذلك لا تكاد تجد عالما لم يُكَفِر أو يُكَفَرَّ، و لا تكاد تجد عرضا لم يمزق ، تحت راية الذب عن الشريعة.

وذلك يدل على خلل فظيع بين سماحة الشريعة وتنطع العقلية المذهبية ، وخلل آخر بين النيات الحسنة،والنتائج والسيئة، وخلل أفظع بين الفكر والممارسة،وخلل بين الفكر الديني وحسن السياسة.

وأسلوب القلعة المحاصرة، حول المذاهب إلى جنسيات، حتى أصبح التزاوج بين أهل المذاهب; في بعض الفترات المظلمة أمراً محذوراً، كما ينسب إلى أحد الأحناف-بعد أن تحول الفقه الحنفي من فقه رأي وسعة أفق إلى فقه تقليد و ضيق أفق-:لا بأس أن يتزوج الرجل المرأة الشافعية، قياساً على الكتابية ،(أي اليهودية والنصرانية)، إذن لايجوز أن يتزوج الشافعي حنفية ، عند هذا الشيخ، قياساً على أن الكتابي لايسمح له أن يتروج مسلمة !! ، فكيف لوسئل هذا الشيخ ، عن حكم تزاوج أهل القبلة ، من السنة والشيعة؟.

وفي المدينة المذهبية صار التزاوج بين المذاهب أمراً محذوراً أيضاً. فلبعض فقهاء عصور الانحطاط فتاوى، تمنع تزاوج السنة والشيعة، بل بين المذاهب الفقهية السنية كالشافعة والحنفية، فهل تراكمت الإضافات حتى صار المذهب دينا، ولذلك فإن غالب الدعاة إلى الإسلام، عندما يدعون إلى الإسلام من منظار مذهبي، "يتنافسون بينهم ويتصارعون حتى يحبط بعضهم جهود بعض، ويزيدون الراغبين في الإسلام حيرة"(كما قال المعصومي)، وكم انفق المسلمون من أموال، وكم أهرقوا من دماء، في سبيل نشر المذهبية على أنها الإسلام الوحيد الذين لن ينجى من النار سواه.



34= القمع مفسدة للمجتمع والدولة معا

أ-المالك الحقيقة والوصي على الخليقة:

الاستبداد لم يكن مرضا سياسيا فحسب، بل هو مرض داخل الذهن العربي، في أغلب تجلياته، خلال العهود العهود العباسية والمملوكية والعثمانية فكرتين مخلتين بالانسجام الاجتماعي,

الأولى: أن يقدم الانسان نفسه بأنه المالك للحقيقة,

و الثانية: أن يقدم نفسه بأنه الوصي على الخليقة ثانيا.

وكان العصر الأموي عصر شقاق بين المذاهب والطوائف, بسبب السياسة الأموية، التي إنما هي إفراز طبيعي لحياة المجتمع البدوي الكسروي، الذي يفتقد قيم المجتمع المدني و هياكلها الشعبية الأهلية، وهيكلها الحكومي. الذي يقوم على توزيع سلطات الدولة. و لذلك صار من الطبيعي أن تقوم الحياة السياسية على القمع والعنف, وإلغاء الخصوم وتقديم أمن الدولة, على حساب أمن المجتمع، وكون الدولة هي الحكومة، وتجسد الحكومة هي شخص الحاكم، وأن أمن الدولة هو أن يأمن الحاكم وأسرته وقبيلته، وتقديم مفهوم الأمن الاجتماعي على أنه الأمن البوليسي القائم على الخوف والعنف، الذي يحول الناس إلى قطيع, عليه أن يسمع ويطيع, وأن ينفذ واجباته, ويؤجل نيل حقوقه إلى الدار الآخرة.

ورغم ماحصل من استقرار ظاهري, واستمرار محدود, فقد كانت الدولة الأموية, حبلى بجنين فنائها الوشيك فالعدل أساس الحكم لا الظلم والجور، والجور هو مولد العنف.

هذه الحقيقة فطن لها عمر بن عبد العزيز الحاكم الأموي، فكاد أن يستل من الخوارج ومن الشيعة, دوافع مالهم غلو أو إيغال,أو تمرد اجتماعي أو فكري, ناتج عن الاغتراب , الناتج عن الفوضى الثقافية والاجتماعية، ولكن لم يفطن لها حاكم أموي آخر إلا لماما، ولكن عمر لم ينجح في إقامة عدل مستمر، لأن إصلاحاته لم تكن علاجا مؤسسيا، بل كان علاجا شخصيا يعالج ظواهر الداء و مضاعفاته، دون أن يستطيع معالجة جوهر الداء نفسه. وهو الاستبداد، الذي لا يزول إلا بقواعد الحكم الشوري.

لكن عمر على كل حال كان شذوذا على قاعدة الانتهازية السياسية, التي نمذجها عدد من بني أمية وبني العباس , ولم تكن تلك الانتهازية سياسة, بل هي دلالة على ضعف في الفكر السياسي همش مصاد الرياح، التي تضمن العدالة، وهي الحرية والشورى والتعددية وتجمعات المجتمع المدني الأهلي. وفقدانها أفضى إلى أضرار كبيرة على الدولة والمجتمع.



ب-بين الدهاء الصحراوي والمدني

صاحب الانتهازية قد يكون على حظ من الذكاء والدهاء ، ولكنه دهاء بدوي فرعوني، لا يفيد الدولة بل يستنزفها، ورغم ذلك يسمونه في ثقافتنا دهاءا سياسيا، وهو أبعد ما يكون عن السياسة، إنه انتهازية وأنانية، الدهاء السياسي هو الذي يحفظ الدولة بصفتها مؤسسة ضخمة، الدهاء السياسي هو الاستراتيجي , الذي يدرك أن كوابح الاستبداد والجور، وهي جوهر السياسية.

والدهاء السياسي هو الذي يدرك أن التمرد الاجتماعي والتيارات الفكرية الغالية؛ ليست شجرة منبتة متسلقة؛ لا جذور لها ولا تربة؛ فيمكن اجتثاثها بمسحاة أو قدوم، فيدرك أن لها علاقة بـ(اختلال المعايير) الاجتماعية، أو أنها حصيلة التناقض بين القيم الثقافية النموذجية التي يؤمن بها الناس، والمسرح الاجتماعي والسياسي، الذي يخنقها ويرفضها.

ويدرك أن هذه الأمور ظواهر و إفرازات، لا بد أن تظهر، وأن الحنكة هي تركها معرضة للهواء والشمس حتى تنضج، ويدرك أن المياه التى تغذيها تنبع من بيئة الظلم والجور، وأن الرياح التى تمدها بالهواء؛ هي مؤثرات حضارية أجنبية، هبت على الأمة من جميع الجهات، التي ورث المسلمون ملكها، ولابد أن تتأثر الأمة بهذه الثقافات الجديدة, من سريانية ويونانية, وهندية وفارسية.سواءا شاءت أم أبت.

و ظواهر التململ والتمرد الاجتماعي، لا ترد إلا بالشورى والحوار والتسامح والتعددية.

ومن ما زاد ألسنة اللهب طولا; أن الأمويين اعطوا الروح الشيعية خاصة والدينية عامة, ما زادها توهجا واتساعا، باستخدام القمع والعنف، و الظلم وظهر ذلك بقتل الحسين بن علي رضي الله عنه، واستباحة أعراض نساء الأنصار والمهاجرين في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكما اضطهدوا المهاجرين والأنصار, اضطهدوا غير العرب من الشعوب التي حكموها.



ج- التبادلية بين العنف الفكري والسياسي:

السياسة الأموية هي سبب جوهري لنشوء الغلو الفكري،

كان العباسيون -في الجملة-أكثر إدراكا لطبيعة امتزاج الأجناس، في بوتقة الأمة العربية الإسلامية الجديدة ولذلك طال عمرهم، و علماؤنا ومثقفونا الأوائل-في الجملة-كانوا أكثر إدراكا لهتين الحقيقتين, ولذلك صار الفكر والمناظرة بين الفرق الاسلامية, طابع الحياة الثقافية والدينية في العصر العباسي، -رغم ما تخللها من توتر وعنف، فنما الفكر في وسط ثقافي أقرب إلى المتسامح، تحت أشعة الشمس ونسمات الهواء.

إذا أدرك المثقفون الفصل بين ما هو سياسي وما هو ثقافي, استراحوا وأراحوا، ونضج الفكر واعتدل, وإذا خلطوا بين الأمرين هلكوا وأهلكوا, أهلكوا أفكارهم ومذاهبهم أولاً, وأهلكوا المجتمع ثانيا, وإن أهلكوا خصماءهم ضمنا.

وإذا أدرك السياسيون طبيعة إقامة السلطة استطاعوا الفرز بين أمور شتى، ففرزوا بين النشاط الفكري, الذي يبري الأقلام، والنشاط العسكري الذي يبري السهام، وسمحوا للناس بالتنفس، و أتاحوا شيئا من التعددية الفكرية والاجتماعية، والسياسية.

وعرفوا أن الفتنة الفكرية; لا تهدأ إلا بالحوار وسلاح الكلمة.فاستطاعوا نزع شوكة الغلو من الفكر، كما فعل على بن أبي طالب رضي الله عنه, عندما انتدب ابن عباس لحوار الخوارج,ولم يبدأهم بحرب, ولا اعتقال ولا تضييق, حتى مدوا أيديهم إلى السيوف.

بل يستطيع الحوار والتسامح أن ينزع الشوكة من غلاة الفكر، الذين تحول غلو فكرهم, إلى ما يسمى فى الفقه بالجريمة السياسية, كما فعل عمر بن عبد العزيز مع الخوارج.

و الظواهر الفكرية لا ترد إلا بالنقاش والحوار، فالفكر لا يحارب بسلاح من خارج منظرمته، ومنظومة الفكر هي العلم والمعرفة، وسلاحه هو البرهان والحجة، وآلاته هي الألسنة والأقلام، و أجواؤه هي التسامح والحوار والتعددية، و قبول الآخر كما هو والتعاون معه من باب أن المواطنون شركاء، لا عبيد أتباع، خلف سادة طغاة.وميدان معركته هو المجالس والنوادي والمساجد والمجامع.

وإذا عرف حملة العلم حدود ما هو حق طبيعي، ينبغي أن يتسامح فيه، وأن تتم معالجته بالرفق واللين، عالجوا سلبيات الحرية والتعددية بإيجابياتها، وإذا غفلوا عن ذلك ، دفعهم الخلاف العلمي, إلى القمع والعنف، وضربوا خصومهم بتهم سياسية، فأساءوا إلى الفكر و الدين والعلم, واستدرجوا السلطان واستدرجهم، في لعبة تبادل المنافع والمصالح، فضعف الطالب والمطلوب.

كيف فاتت هذه البديهية فرقة تدعو إلى الحرية والعدل والعقل كالمعتزلة؟. فأستدرجت السلطان إلى وأد الحرية و التعددية.

وإذا جهل السلطان حق الناس في التعددية الفكرية والسياسية، افتقد الحس السياسي, فأراد تقوية الحكم بما هو إضعاف له، وقدم الانتهازية السياسية، والأمن البوليسي، والقمع والعنف على أنه الدهاء، وانجر إلى سعايات العلماء والمثقفين, ومن خلفهم، من ذوى الرأي غير المستنير، الذين يقدمون جصومهم; على أنهم مجرمون سياسيا أيضا، فافتقد السياسة الحكيمة، فكيف فاتت هذه البديهية السياسية حاكما مستنيرا كالمأمون.

كيف فاته أن من حسن السياسية, أن يفطن السياسي للمتنازعين الذين يشكو بعضهم بعضا, ويدعونه إلى قمع خصومهم، ولا ينبغي له قمع التعددية الفكرية، فالسياسي لا ينبغي أن يحلق في سقف منخفض، فليس كل صواب في عالم الفكر, هو صواب في عالم السياسة, لصاحب الفكر والعلم, أن يخطأ ويصوب, حين يجتهد ويفكر, فيخطئ ويصيب, فله أجر إن أخطأ وأجران إن أصاب، و لا صواب في أحادية فكرية، فمنهج الحوار والتسامح، هو الصواب المنهجي، الذي تولد في أحضانه الأفكار النيرة البانية.

أما السياسي فليست المسألة بهذه البساطة، فالتأثيم والتثويب مسألتان أخرويتان، حسابهما أخروي خاص، ولكن الخطأ السياسي, حسابه دنيوي عام، فقد يؤدي الانغلاق والقمع الفكري إلى كوارث اجتماعية، وقد يثير حفائظ الناس، أو يجعل الأمة قطيعا مطيعا، لا يفكر ولا يعمل, خوفا من الخطأ في الكلام، كالذي يمشي في الظلام، يتوقف خوفا من العثار.

والذى ينبغي للسياسي أن يدرك أن الفكر عندما يظهر غاليا أو معتدلاً، إنما هو إفراز اجتماعي, للقمع والجبر أحيانا، وإفراز حضاري للامتزاج الحضاري مع الثقافة الأجنبية حينا آخر، ومع مجتمعات لها خلفياتها الدينية والعرقية و الحضارية.

وعلاج هذا هو تنشيط الفكر الناقد، ودعم البحث والحوار، ودعم السعي الحثيث إلى الترجمة، باستيعاب العلوم حينا آخر، كما فعل المهدي العباسي، حينا وكما فعل المأمون العباسي أحيانا كثيرة.



35= التعصب والتمذهب

أنتج منهج تربية الخضوع: (تربية القطيع)

أ- اشتق الفقه من الفهم فأصبح تلقينا وتقليدا:

عندما ساد التعصب للمذهبية ، صار الناشئة يربون على الالتزام بالمذهب ، ويحفظون مسائله أكثر من تحفيظهم أدلتها من الكتاب والسنة ، وينشأ الناشيء وهو يكرر أسماء علماء مذهبه، أكثر من تكرار أسم أي صحابي، ومن أجل ذلك فلا عجب أن يكون إعجابه بهم في العقل الباطن أشد ، و أن قبوله منهم أكثر.

ومن أجل ذلك فلا عجب ، أن ينظر إلى أتباع المذاهب الأخرى، نظرات الريبة والشك ، وأن ينغلق ذهنه عن سماع الرأي الآخر، فضلا عن التسامح بوجوده، ولو كان اجتهاداً معتبراً مشروعاً ، ولا غرابة أن يؤدي ذلك إلى القطيعة بين أصحاب الملة الواحدة .

وهذا التعصب ليس اجتهاداً ، وليس موالاة للأفكار والاجتهادات ، إنه هو إلا موالاة للأشخاص ، ولو كان للأفكار ، لما وجدت أهل البلد يجمعون على الأخذ عن إمام معين ، ويتركون الأئمة الآخرين ، ولما وجدت الجماعات تقتصر على أربعة مذاهب ، وتترك العمل والفتوى ، بأقوال علماء كبار آخرين ، كالبخاري وعبد اللَّه بن المبارك ، وسفيان الثوري ، وسعيد بن المسيب والحسن البصري.

وقد أثمر ذلك ثماراً مرة، منها أن الناشيء لا يكاد يتذكر من غير أهل مذهبه إلا المساوىء والمخازي، فينسى الدارس أن الحنابلة والأشاعرة، والمعتزلة والخوارج والشيعة، يلتقون في أكثر المسائل الأصولية والفروعية، ويلتقون في سنن من الدين صريحة لا ينبغي إغفالها،ولا سيما في أركان إسلام الدولة.

ولما أغرق العلماء في التنظير، وتكونت المذاهب على شكل العمائر الناطحات السحاب، لم يكن من الممكن لطالب العلم والعالم أحيانا إلا أن يقلد المذهب، لأنه لا يستطيع أن يستحضر الحقيقة، في مئات المسائل، وعشرات الأدلة والنصوص والاعتراضات في كل مسألة، إلا عبر أقوال علماء مذهبه ومواقفهم، فلم يستطع أن يكون كدوار الشمس، الذي يدور مع الضوء حيث دار، بل أصبح كالمحجبة في الهودج التي لا ترى إلا ما هو أمامها، حيث لا تلتفت ذات اليمين أو اليسار، فهي مكفية، لا تبحث عن الطريق، و لا ترى إلا ما يريد صاحب الهودج أن تراه.

ومن أجل ذلك جاءت عند الفرق المتمذهبة، كراهية جدال المخالفين، وتقدم ذلك باسم الالتزام بالدين، واكتسب مصطلح الجدل سمعة سيئة، لأن قناعات طلاب العلم، تبني على التقليد والتلقين، لأن المذهب أصبح أشبه ما يكون بالقلعة المحاصرة، التي تمنع التسلل وتتمنطق بالحذر والارتياب.

فتشكلت الذهنية المغلقة، التي لاتسمع إلا من شيخ معين، ولا تنظر إلا من خلال ثقب ضيق.

وبناء على منطق القلعة المحاصرة; استلت نظريات قمع الرأي الآخر ووئده، وصارت محاربة كتب الرأي الآخر، فساعد ذلك على ضعف المنهجية في العلم، وضعف الروح المعرفية.

ب-المذهبية تغلق الأذهان وتفتك بالحرية والتسامح:

ورغم ما لعلمائنا الأفاضل في العصور العباسية والمملوكية والعثمانية؛ إخلاص وصبر وتضحية، في مواقفهم السياسية، ولكننا في مقام تقييم نتائج الموقف سياسيا في إطار قضية الحرية، فإن نتيجة منطق القلعة المحاصرة؛ هي أنهم بنوا المنهج المعرفي، في ظل الحصار، فكانت أكثر المسائل الاجتماعية، مسائل غير عملية في التعايش مع الحياة، ومن أجل ذلك حرموا من الخبرة الاجتماعية الناتجة عن التجربة، فجاء الفقه مركزا على (التقية( و(الضرورة)، وهذا جانب، وصار التفريع في شق العقيدة المدني، يقدم وفق تداعى الحوادث،من دون الانطلاق من صورة(نظام).فكأن المنظر الأصولي ساكن في بيت، وكلما ازداد أولاده وأحفاده، أضاف للبيت غرفة أخرى، من غير نسق هندسي عام، قبل مباشرة البناء. فصار بناء الفقه وحدات عشوائية تعاني من التفكك و التشرذم.

و لأن الناس يكرهون حكم الجور والجبر، نظروا إلى كل من يعارض السلطة نظرة إجلال واحترام، ولا ريب أن مناضلة الإنسان في الدفاع عن رأيه موقف كريم، حتى لو لم يكن للمعارض، رؤية سياسية أو فقه سياسي نير، يوصف بالبطولة والإخلاص والحماسة من الناحية الأخلاقية، ولكن لا ينبغي أن ينظر إلى المعارضة ، على أنها تفرز الصواب، فمهما كان تقديرنا للتضحية; لا ينبغي أن نظن باذلها الفرد الملهم، المحتكر الصواب، المالك للحقيقة، ولكن الناس خلطوا بين قوة القلب، وقوة البصرة والفكر.

واكتسبت رموز كثيرة من المذاهب، شهرتهم من خلال المعارضة، دون أن يفرز اللاحقون البصيرة السياسية، ليفحصوها مجردة من ظلال الإخلاص والتضحية بالعلم والمصداقية الاجتماعية جانبا،.

ولما كان الفكر المعارض، يستبد به منطق العزلة، شلت حراكه العزلة، عن النمو والمبادرة والابتكار، فصار مجرد احتجاج، لا يقدم بدائل، ونما عبر رموزه، التزمت والتشدد في الدين، لأن الضيق النفسي، الذي ينمو في شخصية الشعب المقموع؛ يتحول إلى مذهب منغلق.

الدليل على ذلك أن الشخصيات المعارضة، نجت عندما ابتعدت عن فساد السلطان الجائر؛ ولكنها لم تنشئ فكرا عمليا، يسهم في الوصول، إلي وفاء الدولة والأمة بشروط إسلامها المعتبرة.

وزاد الطين بلة أن البيئات الاجتماعية المنغلقة وغير المفتوحة، تميل إلى النسق الاجتماعي الواحد، وتكره التعدد في الألوان، فاللون واحد، والطعام واحد،والصحراء جافة قاحلة، والمرائي لا خضرة فيها ولا ظلال، والطباع تميل إلى الجفاء والخشونة،فينشأ الفكر أكثر انغلاقا، حتى نصل إلى الفقه البدوي.

ج- سيطرة التقليد:

وقد يحتج المتعصبون للتمذهب بأنّ العامي يجوز له التقليد ، لأنه لا يستطيع الاجتهاد، وعلى هذا اعتراضات:

الاعتراض الأول : أنّ الذين يحفظون كتب الفقه ومختصراته المذهبية، ويلتزمون بها، أكثرهم طلاب علم .

وهناك فرق بين تفقيه العامي بالكتاب والسنة ، وبين تلقينه الأحكام ، الأول : هو الفقه الشرعي ، والثاني: هو الفقه الذي ينشر التعصب والانغلاق .

ولكن المنهاج التعليمي ،عندما حفظ الدارس المتن بدون الدليل، جعله عامياً في طريقة تفكيره فهذه الكتب أنتجت مقلدين في لباس مجتهدين ،وأميين في لبوس متعلمين، وعوام في لبوس خواص.

الاعتراض الثاني : لو جاز للعامّي أن يقلد ، فهل يجوز له أن يقلد إنساناً بعينه? قال الدهلوي: » لقد صح إجماع الصحابة والتابعين، وتابعيهم بإحسان من السلف الصالح، على المنع من أن يقصد إنسان إلى قول أحدٍ بعينه ، فيأخذ بجميع أقوال أبي حنيفة ، أو جميع أقوال مالك ،أوجميع أقوال الشافعي ، أو جميع أقوال أحمد أو غيرهم ، وعلى أن من لم يعتمد على ماجاء في الكتاب والسنة، فقد خالف إجماع الأمة كلّها ، واتبع غير سبيل المؤمنين ، وهذا يؤدي إلى أن لايكون الرسول هو المتبع ، لأن من رأى غير الرسول أولى بالاتباع ، فقد وقع في عبادة العلماء والأئمة « .

وهذا يوقعه في الورطة المخالفة للشريعة ، التي بينها الحديث الصحيح ،الذي رواه عديّ بن حاتم رضي اللَّه عنه ، أنه سمع النبي ص يقرأ قوله تعالى : »اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللَّه « قال : »فقلت : يارسول اللَّه ! إنهم ماكانوا يعبدونهم ، فقال : أليسوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه ، وإذا حرمّواعليهم شيئاً حرمّوه ، قال فقلت : بلي قال : قتلك عبادتهم « فمن يتعصب لواحدٍ معينٍ غير رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،ويرى أنّ أقواله هي الصواب الذي يجب اتباعه ، دون الأئمة الآخرين فهو مخطىء .

لايسوغ لعامي ولالمثقف ، أن يأخذ أحكام دينه بدون دليل ، بل عليه أن (يتبع) الذي يقنعه بالدليل ، لكي لايعطل عقله الذي وهبه اللَّه ،ليعرف الحلال من الحرام.

سئل ابن تيمية عن المتمذهب بآراء إمام معين فقال: من زعم أن قول هذا الواحد المعيّن ، هو الصواب الذي ينبغي اتباعُه ، دون الإمام الذي خالفه يكون جاهلاً، بل يكون كافراً والعياذ باللَّه . بل شدد ابن تيمية النكير على هذا الاتجاه(كعادة التيار الشائع في ثقافتنا الإسلامية العباسية، الذي استجاز قتل دعاة البدع) فقال: » من أوجب تقليد إمامٍ بعينه استتيب وإن لا قتل ; لأنّ هذا الإيجاب إشراك باللَّه في التشريع ، الذي هو من خصائص الربوبية « .

بل لايصح للعامي مذهب ومثله طالب العلم المقلد، ولو تمذهبا ، لأنَّ العامي والمقلد لامذهب لها ، كما قال ابن القيم ، لأنّ الذي يتمذهب هو الذي إذا سلك سبيله; سلكه عن معرفةٍ واستدلالٍ .

إن تعويد الناس على التقليد والتلقين،جرا الأمة فقدان الحيوية الذهنية، وفقدان الحيوية الذهنية ،هو المسمار الأول في نعش أي حضارة،لأنه يفضي إلى شلل الحركة والفاعلية في المجتمع

الاعتراض الثالث:هب أنه جاز للعامي أن يقلد في شق العقيدة الروحي والغيبي، لأن أكثر مسائله مجمع عليها، وبعض مسائله المفصلة؛ لا يضر فيها الخلاف، كالجهر بالبسملة، والوضوء من لحم الجزور، كيف يجوز له أن يقلد في شقها المدني والسياسي، الذي جر التقليد فيه إلى تحريم الحلال وإباحة الحرام كالظلم والجور، وهي أمور بديهية، معتبرة في كل دولة وأمة قوية متحضرة، لا تحتاج إلى مفت ولا فقيه.

الاعتراض الرابع: هب أن تقيد العامي بمذهبه صحيح، لم لم يعلم التسامح؟، لكي لاتثير العوام الفتن، حول المسائل، كالجهر بالبسملة في الصلاة، كما وقع ببغداد، في أواخر العهد العباسي.



36= العبودية السياسية كرست التعليم التلقيني المثبط

أ-العمارة المذهبية:

كان الناس في العهدين الراشدي والأموي يفقهون القرآن و الحديث من خلال مشكاة الحقل النبوي والراشدي، فكانوا يفهمون المخطط الفكري،(نظام الإسلام) من خلال المبنى الاجتماعي والسياسي النبوي والراشدي ، وكانت أقوال الصحابة في ما بعد تكتسب دقتها ومنهجتها وانسجامها في إطارهذا الحقل، حتى بعد زوال الحكم الراشد، كانت صورة النظام ماثلة في العيون، ومن أجل ذلك اشترك فقهاء العصر الأموي في ثورات سبع، من أجل إعادة شروط إسلام الأمة والدولة، وكانوا يتبعون أقوال التابعين ، والتابعون وفقهاء العصر الأموي كانوا يتحدثون ويفتون، منشدين إلى وأمامهم صورة حكم الرشد الماضية، ومتضايقين من صورة حكم الجور الحاضرة، ولم تختلط الصورتان في أذهانهم، فكانوا أقرب إلى الصواب في ما يقولون ويفعلون.

ولما جاء العصر العباسي، رسخ حكم الجور وتقلبه الفقهاء على أنه حكم اضطرار، فتمازجت الصورتان، وأنشأوا في شق العقيدة المدني أحكاما كثيرة، من فقه الضرورة، وتضخم شق العقيدة الروحي، وسيطر على اهتمامهم، لأنه كان المجال المسموح به، وصارت أقوال الصحابة كما صارت نصوص الحديث أيضا، تروى في المدونات من دون إطار وسياق، ينبثق من (صورة النظام)فأمكن التأويل والتحريف والتصغير والتكبير، لاسيما وقد درج المحدثون كالبخاري على حذف المناسبات.

ثم ظهر أئمة المذاهب في مطلع العصر العباسي، وكانوا أحرارا مجاهدين، ولكن تتابع الإخفاق السياسي؛ ألزمهم مضائق فقه الاضطرار، فاتبعهم الناس. ومنذ عصر الرشيد والمأمون بدأ ينشأ فقه الاضطرار الذي نظر إلى سيطرة الملك العضوض، على أنها حقيقة اجتماعية، لا مجال لتفنيدها دينيا، في جيل أحمد بن حنبل، ثم رسخ ، مبنية على استقرار سيطرة المتغلب وشيوع الظلم، الذي أفرز كثرة اللصوص والسراق والفساد، فأنشأوا أحكاما جديدة، نالت من حقوق الإنسان وحقوق المتهم فاتبعهم من بعدهم، ورسخت المذاهب الفقهية منذ مطلع العهد العباسي، واكتمل بنت منظوماتها المخلة بشروط إسلام الدولة والأمة السياسية، ولم يكن أمام المتأخرين في عهد شيخوخة الحضارة العباسي إلا الاتباع، فضلا عن من بعدهم في العصور المملوكية والعثمانية، ثم جئنا نحن في عهد الإمبريالية الغربية؛ فقلدنا المتأخرين ، فصرنا نهاية هذه السلسلة، وهكذا أصبحنا كمن ينظر إلى الشيء ، من وراء نظارة ذات بضع عدسات.

و نشط أتباع كل مذهب ، في تأليف مختصرات وشروح، لم تتجه إلى القرآن أو الحديث مباشرة، إنما عُنيت برأي إمام المذهب ، وكأن الإنسان سيسأل في قبره: على أي مذهب من المذاهب الأربعة أنت ? أحنفي أم شافعي أم حنبلي أم مالكي ?

وأصبح لكل مذهب أصول وفروع ، فأصبح الانسان يقرأ كتب الفقه المتمذهب، فلا يكاد يجد آية ولاحديثاً ، بل رأي إمامنا الفلاني،الذي يساق بألفاظ تلغي روح الممانعة، كالإمام الأعظم ، وإمام المذهب، وشيخ الإسلام وحجة الإسلام والإمام المبجل.

وظل مسلسل الإضافات، ينمي نزعة الاستقلال المذهبي، حتى تصور بعض العلماء، أن المذاهب كالمدائن، فبني كل مذهب الفقه بناء مذهبيا منغلقا متعصبا، يوحي بأنه دين مستقل، ولذلك لا عجب أن تجد حتى الأمس القريب، في المسجد الحرام، رمز وحدة المسلمين، طوائف الناس أشتاتا، وكل طائفة لا تصلى إلا خلف إمامها،حسب المذاهب السنية الأربعة.

ولا غرابة إذن أن تجد المذاهب في المدائن، لكل مذهب مدارسه ومساجده وأوقافه، وأن تجد-أيضا- أهل المهجر من المسلمين، وقد حملوا مذهبيتهم، إلى أوربا وغيرها، فتفرقوا شتى، وصرفوا أموالاً كثيرة، من أجل أن يكون لكل مذهب أيضاً مساجده ومدارسه، ولقد أحسن بعض الفقهاء الوعاة صنعا، حينما قرروا جواز أن يصلي المسلم خلف أي إمام من أهل القبلة، سواء كان مبتدعاً أم غير مبتدع، سواء أن كان حسن السيرة أم سيئها. ولكن كثيراً من المعتصبين لا يقبلون.

وأصبح الانتماء إلى المذهب أساسيا ، وكأنه جزء من النسب ، الذي ينبغي أن يثبت في حفيظة النفوس ، فيقال فلان بن فلان الشافعي التميمي ، وفلان بن فلان الحنبلي النجدي ، وفلان بن فلان المالكي المراكشي، وأصبحت تجد هذا التعريف، على طرر الكتب ودففها.

وفي ظل الصراع والتفتيت الاجتماعي، تحول كل مذهب، إلى منطق القلعة المحاصرة، التي يستبدبها الحذر من مكائد الأعداء، ولذلك تحاول أن تحقق الاكتفاء الذائي، من اللباس والأثاث والغذاء، ولذلك تجد في كتب العقيدة وهي كتب في أصول الدين، مسائل فرعية، وما سجلت في كتب الأصول إلا رغبة في التميز عن الأعداء، وبهذا نفهم إدراج بعض علماء العقيدة، مسألة المسح على الخفين، في متون أصول الدين.

منطق القلعة المحاصرة:

ونشط كل قوم في الثناء على إمامهم وتأليف الكتب في مناقبه، وكأنه الملهم المسدد للصواب وحده ، وأطروا فقهاء مذهبهم . فتجد كتباً في تراجم الحنابلة، وأخرى في تراجم الشافعية والمالكية . وكأن هؤلاء يتميزون عن أولئك . بل قد تجد همزا ولمزا للآخرين ، بل قد تجد غيبة ونميمة ، وأحياناً قد تجد هجاء وإقذاعا.

وفي سياق أدب المديح والذم، جاءت الأقاصيص والأخبار، ومايحتمل ومالايحتمل، ودخلت الأساطير، ودخل الجن والجمادات، في الإشادة بالموافقين، وذم المخالفين. وتلونت الأخبار بالمذهبية، فأدى ذلك إلى تضيعف ثقاة، وإلى توثيق ضعاف، وارجحن ميزان الحرج والتعديل، وضاعت الحقيقة التاريخية، في خضم اتهام المخالفين في سيرهم وعلمهم، بل وفي عقولهم وأديانهم، والاعتذار للموافقين، والغلو في أقدارهم.

وحفلت كتب الطبقات والتراجم، بكم غير قليل من هذه الموبقات. وفي ظل لافتة القلعة العاصرة، أصبح لا صوت يعلوفوق صوت المذهب، ودخلت العقلية الشعرية في دراسة الدين، وصار الناس قمسين موالون وغير موالين، وجاء منطق الفعل ورد الفعل، "نكفر كل من يكفرنا« فتحول الهدوء والدقة العلمية، إلى هيجان شعري خطابي. وامتلأت الساحة الإسلامية بالصراعات، ولذلك نجد أن الخلاف في الجهر بالبسملة أو الإسرار، يؤدي إلى التنافر والتدابر.

إنه ليس المطلوب من الناس أن لاتختلف عقولهم واجتهادتهم فاختلاف الأئمة رحمة، كما ذكر عمر بن عبدالعزيز، والاختلاف والاجتهاد حق من حقوق الإنسان والمسلم مطالب بأن لايعتنق رأيا، وأن لا يتجه في عمل إلا بالاقتناع. ولكن ينتظر من الدعاة ومثقفي الدين أمران:

الأول: التقليل من قدر العمارة المذهبية، لكي لا يرتبط الناس بأشخاص محددين، وينظرون إليهم على أنهم النظارة التي يجب لبسها، وكأنهم مصدر التشريع والإلهام، وترك التشقيق المذهبي، الذي يعمي عن الحقيقة العلمية، والحذر من تحويل المذاهب إلى مدائن، كاملة المرافق، بإنشاء أصول فقه خاصة بالمذاهب، وترك كتابة مؤلفات ملتزمة بالفقه المذهبي.

الثاني: التسامح مع المخالفين، وبث روح التعادن والتآلف بين المسلمين، والحذر من تجيير الخلافات الفكرية، لخلافات اجتماعية، تمزق النسيج الاجتماعي في الأمة. للعلماء الأجلاء من علماء المذاهب في العصور المختلفة من الأعذار مانعرف وما لانعرف، ولكن الشيء الذي ينبغي لنا أن نعرف، أن هذا المذهبية باطلة شرعاً، وأن من التزم بها فقد أقدم على عمل شنيع فظيع، وأن ترسيخ التقليد والعصبية، أسهم في الانحطاط السياسي، وجمد الذهن والإبداع الاجتماعي، وأن ماللسابقين فيه معذرة، لنا عنه منذوحة، وأن الاقناع بأي فكرة، إنما سبيله الاستدلال بمصباح الكتاب والسنة، في مشكاة العهد النبوي والراشدي.

.مطلوب أمر ثالث، وهو مراعاة الأولويات، والحذر من أن يمنع الخلاف في القضايا الثانوية والفرعية والجانبية، من الاتفاق على المسائل الأساسية التي هي شروط قيام الأمة والدولة، التى ينبغي أن يتفق عليها المسلمون، مهما كانت مذاهبهم وطوائفهم .



37= نتائج تلبس النزعة الصحراوية بالإسلام/

التوجس الديني من علوم:العقلانية والمنطق والفلسفة والتقنية



أ-عجز الخطاب الديني المحرف عن إنشاء وسط تترعرع فيه التقنية والاختراع:

من أهم مظاهر قصور الصياغة العباسية؛ تهميش أركان الإسلام الحضارية والسياسية على متن أركانه الروحية: فلا تجد من ثمن الجانب السياسي والحضاري والعمراني، فأدخله في أركان العبادة، بل لا تكاد تجد من حلل مسائل الاجتماع والنفس والسياسة، تحليلا علميا موضوعيا.

ولم تصغ التيارات الدينية العباسية وما بعدها خطابا قادرا على احتضان علوم الإنسان و الطبيعة، بحتة أو تطبيقية بل لقد حقرت علوم العمران.

والسلفيات أكثر الفرق وأداً لعلوم الطبيعة والإنسان، والتفكير العملي والصناعي والتقني، كما في أقوال الغزالي في مقدمة المستصفى وابن الحاجب وابن قدامة.

ولإنها متأثرة بالروح الصحراوية، صارت غير معنية بإنشاء وسط اجتماعي، يحتضن علوم العمران، فلا تكاد تجد سلفيا عباسيا في أسماء المختزعين والنابغين، في الفلك والرياضيات والطب والعلوم، ولا المنطق والفلسفة، إذا استثنيت ابن النفيس.

بشعار المحافظة على الأصول الإسلامية، همشت المكتسبات والمنجزات الإنسانية، عندما توجس منها أكثر الفقهاء لأنها دخيلة أجنبية، ولم تكن دخيلة على الإسلام الذي بعث رسوله ليتم مكارم الأخلاق، إنما هي دخيلة على الروح الصحراوية، والخوف من سلبيات المنطق والفلسفة؛ دفع النزعة الصحراوية إلى الانغلاق على الذات، فردت ما صح من أصول الفلسفة والمنطق والطب،والكيمياء والفلك والنجوم، وقد أشارابن تيمية إلى هذه الملاحظة في أحد كتبه.



ب- الموقف من الترجمة والثقافة صحراوي بقناع إسلامي:

ومن ذلك آراء و مواقف شائعة, دشنها الفكر العباسي, تحذر من الترجمة والثقافة الأجنبية, وتشكك في دين الحكام العباسين الذين رعوها كالمأمون فضلا عن نوابغ المترجمين و رواد العلوم التي توجسوا منها فسموها الأجنبية أو الدخيلة.

تصورت السلفيات العباسية؛ أن الثقافة والأمة قلعة محاصرة، فرفعوا منها الأسوار، وشغلوا الرادار، وحركوا قرون الاستشعار، التي لا تفرق بين طائرة موالية ومعادية، فجاءت السلفيات ذات نسق دائري مغلق، تتصور فكرها كيانا معقما نقيا، لا يمكن أن تتسرب إليه جراثيم الواقع التي تشكل فيه، سواء أكانت الجراثيم أهلية كالصحراوية أم أجنبية كالكسروية (انظر السلفية: عبد الرحمن الزنيدي:111).

وحملت السلفية العباسية؛ على رعاة الترجمة كالمأمون، وشككت في دينهم، فلم تدرك أن هذه الترجمة حتمية اجتماعية، فالفتوح في عهد الراشدين، أنتجت هذا الامتزاج، والترجمة على ما فيها من سلبيات، لا ينبغي أن تمنع الناس مساوئها المؤقتة والخفيفة، من إيجابيات الدائمة ، ولو كان بعض محافظي السلفيات العباسية في عهد عمربن الخطاب؛ ربما حرموا عليه الفتوح، من باب سد الذرائع، ولحرموا زواج المسلم من الكتابية، خيفة أن يتنصر أو يتهود الأولاد.

فهل ننظر نظرة مسطحة جاهزة صحراوية؛ إلى المنصور أو إلى المأمون، وهم يترجمون وينفقون الأموال الطائلة، لاستقدام كتاب أو عالم، نكون إذن قد جهلنا دور العلوم والنظم الحضارية، في تقدم الأمة وترقيها.



ج- الشافعي أدرك الخلل ولكن..الغزالي يقول عن علم الرياضيات: نعوذ بالله

لم يكن خفيا على الفقهاء الأوائل دور هذه العلوم، في قوة الأمة والملة والدولة: فالشافعي, يقول""علمان شريفان وضعهما ضعة متعاطيهما;الطب والنجوم"", وهذا يشير إلى أن الصحراوية مارست دورها، في رفض الصناعة والحرفة ونحوها من قيم المدنية, ولذلك كان أكثرالنوابغ في العلوم التطبيقية, من غير المسلمين عامة, وعندما درسها العرب، صارت في غير أهل الحسب والنسب البدوي خاصة، وعندما درسها المسلمون، لم تترعرع في البيئات السلفية، وهذا الاتجاه الصحراوي, تقمص الدين

والصحراوية ليست من الدين, إنما هي من أثر خلط الفقهاء بين الحقل الاجتماعي الذي نشأ فيه السابقون الأولون من المسلمين, وهو في الجملة حقل صحراوي, ذو مجتمع بسيط نسبي , وبين (نظام)الإسلام المعياري، هو نظام متكامل فيه من الثوابت والمتغيرات, ما يجعله صالحا لكل زمان ومكان.

ولذلك صارت بعض الناس يتخذ السلفيات العباسية والمملوكية والعثمانية مطية؛ يدعم أو ينتج آراء ساذجة أو خرافية، في الطبيعية كالجغرافيا والفلك والطب، وكروية الأرض، وتحديد مكان التفكير في الإنسان هل هو القلب أم الدماغ. وفي علم النفس والاجتماع والتربية و علوم السياسة والاجتماع، ككف علم السياسة عن ما شجر بين الصحابة، و القول بسلطة مطلقة للحاكم وتسميته بولي الأمر، واعتبار القضاة وكلاء عن الأمراء، والإخلال بشروط إسلامية الدولة كالشورى و التعددية و الحرية والتسامح.

لقد تشوه مفهوم الذهن الإسلامي، في الفكر الديني العباسي الشائع، ففقد وظيفته ودوره عند السلف الراشدي، وهو أن يكون للسلوك الراشد بوصلة، فتحول عند فرق الفلاسفة وغلاة المعتزلة التى هومت باجتهاداتها في عالم الغيب إلى بلبلة، و صار –عند السلفيات العباسية-في عالم الشهادة عن التقنية والترجمة وعلوم الحضارة فرملة، وقدم كل هذا الفكر تحت عنوان:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، عضوا عليها بالنواجذ".

هناك موقف عام من علوم الإنسان والطبيعة, أفضى إلى التقليل من قدرها, مبني على ضعف إدارك أهميتها ومادتها, ومناهجها وطبيعتها.

هناك خلل جذري في النظام المعرفي الديني القديم, بسب ضبابية شروط إسلام الدولة، أنتج نظرات جزئية سطحية. تغلغلت في التربة الاجتماعية، وتغشت الأفق العلمي, حتى لم يستطع أن يتخلص من ضبابها,مفكر نابغ كالغزالي أو ابن تيمية.

وتيار الحنابلة و الأشاعرة، على العموم أكثر إعراضا عن طبائع المدن والعمران، من تيار المعتزلة. و الحنابلة أكثر إعراضا وتشددا من الأشاعرة؛ تجاه علوم العمران، ولذلك كانت البيئات التي انتشرت فيها السلفيات الحنبلية، أقل احتضانا للعلوم ولا سيما الفقه السياسي والتقنية، من البيئات الأشعرية.

و رغم أن الغزالي أفضل، نموذج حنبلي أشعري؛ هضم الثقافة الأجنبية (كما في كتابه مقاصد الفلاسفة), ومن أفضل من حاول أن يفككها من الداخل ,(كما في كتابه تهافت الفلاسفة)- لكن هذا كان في عنفوان شبابه- . لأنه في شيخوخته لم ينج من نزعة تحقير العلوم الطبيعية والاجتماعية, - وهو يؤلف أصول الفقه في شيخوخته ، إذ يقول في مقدمة كتاب الأصول:""العلوم ....: عقلي محض لا يحث عليه الشرع ولا يندب إليه, كالحساب والهندسة والنجوم, وأمثاله من العلوم, فهي بين ظنون كاذبة لاثقة بها, وإن بعض الظن إثم, وبين علوم صادقة لا منفعة لها, ونعوذ بالله من علم لا ينفع"" (المستصفى 1/3).

وهذا يدل على أن تقييم هذه العلوم, قد انطلق من تحريك قرون الحذار والاستشعار, وتقديم شعار سد الذرائع, على شعار فتح المنافع. ويعني أن دور علماء الدين, لم يتجاوز ردود الفعل العاطفي، التحذير العاطفي من أخطاء العلوم, كدخول السحر في الكيمياء، ودخول التنجيم في علم الفلك، ودخول الكفر في الفلسفة ودخول السفسطة في المنطق.

الدور المشروع-المنبثق من فقه مقاصدالشريعة الكلية القطعية- أن تحض الثقافة الدينية، على التمرس بهذه العلوم، من أجل استيعابها أولاً، ثم نخلها وتصفيتها ثانيا، ثم توظيفها ثالثا. ثلاث مراحل لا يمكن اختصارها في أي استعارة حضارية . ولكن الثقافة السلفية العباسية، أحكمت مزاليج أقفال ذرائع الفساد؛ فأغلقت أبوابا من مافيه منافع للبلاد والعباد، فرفضت الكيمياء خوفا من السحر، والفلسفة خوفا من الكفر، وعلم النجوم خوفا من التنجيم.

واستعاذة الغزالي ,من هذا العلم الذي -زعم أنه - لا ينفع ;تختصر الموقف السلفي العباسي الديني السائد,لدى علماء أصول الفقه فضلا عن الفقهاء وعلماء العقيدة; بما لايحتاج إلي توضيح, ولا إلى ذكر مواقف أمثال ابن قدامة في (منهاج القاصدين), فضلا عن أمثال ابن الحاجب.

د-الفقه الصحراوي يلبس جبة إسلامية:

هذه النظرة الصحراوية للعلوم, تنتج عقلا مدنيا ساذجا، لا معرفة له بالسياسة والمدنية، كما أدرك ابن خلدون, فقال في المقدمة: "فصل في أن الصنائع والكتابة والحساب; تنتج عقلا". وجئنا اليوم لنحاول إحياء هذا التراث المأزوم ونتعامل معه و كأنه معصوم، وكأنه لا يمكن فقه الكتاب والسنة إلا بعيون عباسية أو مملوكية، فلم يستطع هذا الفكر أن يشيع فينا شروط إقامة العدل الاجتماعي، فضلا عن أن يمدنا بمناهج ونظريات وآليات، تدفع عنها الضغط الحضاري المهاجم والتخلف السياسي الجاثم.

ولذلك فإن علماء المسلمين اليوم; أقدر من أسلافهم, على فهم كليات الشريعة و مقاصدها القطعية في مجال علوم الطبيعة عامة، و علوم الاجتماع و السياسة والإدارة والنفس والتربية خاصة, لا لأنهم أذكى أو أصلح أو أكثر جهدا, بل لأن الجو المعرفي والمدني والحضاري اليوم أسمق, ولأن هذه العلوم بلغت من النضج شأوا; لم تبلغه العلوم الاجتماعية والطبيعية القديمة، و لأن أدوات البحث العلمي أدق و أوفر.

ان النظرة الصحراوية للأشياء غير عميقة ولا شاملة ولا كلية، ولكن النظرة الإسلامية الصافية عميقة وكلية شاملة، ولا تتسق مع نظرة علماء الأصول والمقاصد، الذين أدركوا أن الإسلام (نظام) كالشاطبي، عندما أضاف إلى شروط الاجتهاد؛ أن يكون الفقيه بصيراً بمقاصد الشريعة، أي كما قال "فقه مقاصد الشريعة على كمالها" ، وكالشافعي الذي قرر أن : فقه الكليات قبل فقه الجزئيات.



38=أما حان الوقت ليتذكر المحافظون على الصياغة العباسية للعقيدة سلفية أو غير سلفية :

التفريط بالهوية والعدل والحرية والتعددية

إخلال في العقيدة وحكم بغير ما أنزل الله



أ-قمع الحرية إخلال فظيع بالعقيدة وحكم بغير ما أنزل الله:

إذا علم الذين يتخذون الدين الإسلامي سلاحاً لوأد الحرية، أن كل عقيدة تصادم الحرية فلابد أن تنهزم، فليعلموا أيضا أن مبدأ الحرية والتعددية والتسامح من أركان العقيدة الإسلامية.

كان من المتوقع أن يشرح الفقهاء وعلماء العقيدة؛ نظرية الحرية التي جاء بها القرآن والسنة وطبقها النبي والراشدون، ولكن ياليتها سلمت منهم-غفرالله لنا ولهم- يل هتكوها ووأدوها، فضلا عن أن ينادوا بتطبيقها. بل إن عديدا منهم انزج في مزلق القمع الصحراوي والكسروي، حتى المعتزلة الذي نظروا للعدل والحرية، قمعوا خصومهم من دون هوادة.

فلا تكاد تجد عالما في الدين، في العصور الماضية، لم يغل في التكفير والتبديع، ولم يقمع خصومه، سواء فيهم العالم الصغير والكبيرن القديم والحديث، ولا تجد مذهبا لم يمارس القمع والغلو في التكفير والتبديع.

مبدأ الحرية أكثر القيم التي أخل بها الفكر الديني الشائع، مستدعيا ما شاع عند الفرق العباسية من مذهبية وقمع واستئصال مادي ومعنوي، نبات في كهوف الاستبداد، بصفة القمع الديني نباتا طبيعيا في الاستبداد السياسي والاستبداد.

إن أعلى ما وصل إليه القمع، هو القول بعدم قبول توبة الزنديق، سبحان الله حتى الزنديق، أي المنافق الذي علم بكفره الرسول صلى الله عليه وسلم وتركه، ندعي أننا نطلع على سريرته أولا، ثم نحكم عليه بالإعدام ثانيا، فإذا أعلن أنه تاب وأناب رفضنا توبته ثالثا، وقلنا إنماهو كذاب، وكذبه لن يخدعنا ويسقط عنه العقاب، وقد استغل هذا الاتجاه حكام جور وأدوا المعارضة السياسية، تحت عنوان القضاء على الزنادقة، ولم نجد فقيها طالب حاكما كالمهدي بعدالة محاكمة المتهمين في دينهم،بإقامة محكمة علنية عادلة مستقلة، لهؤلاء المتهمين بالزندقة. إن أكثر الفقهاء تسامحا مع المتهم بالزندقة؛ هو من قال: يترك ذلك للإمام، وياهول أن يترك مثل ذلك لملك، لا يعد مثله الأعلى في الحكم خليفة راشديا، بل يعد معاوية مثله الأعلى، أي في الدهاء الذي غايته شراء الذمم.

وأسوأ من ذلك تشريعهم قمع أهل البدع، وقتل دعاة البدع، وتشجيع القضاء على المعارضين دون إجراءات قانونية عادلة.وكتكفير من ترك الصلاة تهاونا، وهذه الأفكار القمعية، نجد لها بذورا في أقوال ومواقف تنسب إلى الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل-رحمنا الله وإياهم-، وقد لا تصح عنهم، وإن صحت- فهم عزيزون علينا- ولكن قول ما نراه حقا أعز علينا، وهو شعبة من الدين، والله يقول لنا "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى"، وشعارنا قول مالك نفسه: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر.

ب-فك الارتباط بين وحدات الإسلام:

ويتجلى من جانب آخر، في فك الارتباط بين فقه الرفض والتحريم، وفقه البدائل والحلول..

فالخلل الأصولي يتجلى في اعتناق أفكار ما أنزل الله بها من سلطان و لاسيما في مسألة حرية الرأي والتعبير والتجمع والتعددية، مثل قول بعض فقهائنا في العصر العباسي-رحمنا الله وإياهم- بجواز قتل الزنديق، أي المنافق الذي يبطن الكفر ويعلن الإسلام، وأعظم من ذلك القول بعدم قبول توبة الزنديق إذا تاب، وهذا اجتهادي من منظومة الحكم القمعي، مردود، بسنة الرسول السمحة، صلى الله عليه وسلم، الذي أطلعه الله على سرائر المنافقين، فعاملهم في الأحكام المدنية، معاملة المسلمين، مع أن القرآن تحدث عنهم كثيرا، وبين من علاماتهم، مالا يخفى على الصحابة المتابعين، فكان المنافقون معروفين للرسول على وجه اليقين، لاعلى وجه الظن والتخمين.

ومن ذلك قول بعض فقهائنا الأقدمين -غفر الله لنا ولهم-بقمع أهل البدع، وليسوا أعرف بالسنة النبوية، من علي بن أبي طالب، الذي ترك الخوارج أحرارا، ولم يقاتلهم حتى حملوا السلاح، والخوارج كما ذكر الإمام أحمد بن حنبل شر أهل البدع.

ومن ذلك قولهم بقتل دعاة أهل البدع، وليس هؤلاء بأعرف بالسنة من عمر بن عبد العزيز، ولا أتقى لله، وهو الذي ترك دعاة البدع دون قمع مادي، بل ولى أحد دعاتهم بيت مال المسلمين، وعمر أعرف بالسنة، وأتقى لله من ولاة بنى أمية، الذين قتلوا بعض دعاة البدع.

ومن المهم أن يتذكر بعض الناس، أنهم يفسرون نصوص الدين من دون أن يتخذوا التطبيقات النبوية والراشدية، مشكاة لرؤية مصباح الكتاب والسنة، فيردون بالآراء الشائعة، ويكفرون بدون دليل، وليس هؤلاء بأعرف بحدود الكفر والإسلام، من جلة المحدثين كالبخاري ومسلم، الذين رووا عن عشرات المبتدعة، من الخوارج والشيعة الإمامية، والقدرية والجهمية والمرجئة والمعتزلة، ولو كان لدى هؤلاء المحدثين أدنى شك في إسلام المبتدعة؛ لنزهوا الحديث الشريف، عن أن يروى عن كفار أو مشكوك في إسلامهم.

بل إن رواية المحدثين عن المبتدعة، تدل على أن البدعة لا تخل بالعدالة، وتدل على أن الذين فسقوا بالبدعة. ليس لهم دليل متين.بل إن المحدثين لم يرووا عن المبتدعة العاديين فحسب، بل رووا عن دعاة أهل البدع، الذين أفتى آخرون بقتلهم وتكفيرهم.

بل إن الإنصاف ألهم العلماء المحققين الاعتراف بفضل الفاضلين من المبتدعة، فقد أثنى ابن تيمية رحمنا الله وإياه، على جهود الرافضة والمرجئة، في الدعوة إلى الله، وذكر أن الله هدى على أيديهم إلى الإسلام كثيرا.



ج-نحو جلاء غبار الصحراء وكسرى عن العقيدة:

ولقضية الحرية الإسلامية أولوية في الخطاب الإسلامي الحديث, لأن التحدي الحضاري اليوم, جاء عبر آلية الحرية ومشتقاتها, وإغرائها وإغوائها, و ما لم يدافع مثقفو الأمة عن الدين والهوية, عبر آلية الحرية, بضوابطها الإسلامية القطعية, فستحتل العلمانية الغربية,كثيرا من حصوننا,التي نظنها منيعة, رغم أننا نراها تتهاوى,كحبات مسبحة انقطع عقدها.

إن أزمة الدعوة الإسلامية إذن، نابعة من أزمة المثقف الديني، فهي أزمة أهل التربية والتعليم قبل غيرهم، لأنهم لا يقدمون الإسلام كما تنزل وطبقه النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين، بل يقدمون الإسلام كما تشكل، عبر الأزمنة والأمكنة الأموية والعباسية، فيسوء فهم النص المقدس الذي جرده التطبيق النبوي والراشدي، بالآراء التي ترعرعت في ظلال القمع و فيها ما هو صواب يجب احترامه، وفيها ما هو خطأ، يجب أن يملك الناس الجرأة لتجاوزه.

من الضروري إذن تجديد فقه الحرية, وإعادة تشكيله على الثوابت من قطعيات الكتاب والسنة,كي لا يشكك الفوضويون والعدميون بالدين, تحت لافتة الحرية,وكي لا يوأد الإبداع والتجديد الحضاري الديني,باسم الدفاع عن الدين, وكي لايعيد الناس إنتاج الخلايا الميتة من التراث ,ويعتبرونها هي الكتاب والسنة, أولايدركون الآليات الناجحة, لتطبيق الشريعة , ثم يقدمون أنفسهم على أنهم المتحدثون الرسميون باسم الدين, أو الموقعون عن رب العالمين.

ولابد من بناء هذه المفاهيم, على الكتاب والسنة, وتطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم ,ثم جيل الراشدين ,وتقديم القطعي على الظني, وماصح من العمل , على ما ماروي من القول.واستبعاد مالم ينسجم مع هذا النسق, من تراث اللاحقين, مهما كان تقديرنا لهم واحترامنا.

ومن أجل ذلك تكتسب التربية الحرة أهميتها، لأنها تعود الناس على المناقشة والمحاورة، وتعلم الناس فضائل الإنصاف عند الاختلاف، الإنصات عند سماع الرأي الآخر، والموضوعية التي تدرك بها الحكمة، التي هي ضالة المؤمن، إذ يجب عليه أن يبحث عنها، فأنَّى وجدها، وجب أن يحني هامته لالتقاطها، سواءاً وجدها عند إنسان صغير أو كبير، وعالم أو متعلم، وامرأة أو رجل، ومسلم أو غير مسلم، وبذلك تنشأ مهارة المحاورة والنقد، وتنشأ مهارة التأمل والإبداع، وينشأ خلق التسامح والتعايش والتعاون، والتفاهم والتناغم. و من دون ذلك لا يجدي علم ولا تنفع تجربة.

د-كل سلفية لاتعنى –اليوم-بشق العقيدة السياسي والحضاري فإنماهي تفريع على غير أصل:

وهذا يشير إلى أننا بحاجة إلى أن نصحح مفهوم السلفية، بأنه لا يصح أن يقال عن دعوة ما إنها سلفية، مالم تعن باشقين معا: الإصلاح الروحي والإصلاح السياسي معا، لأنها (شعار) أعلنه ابن مسعود في قضية سياسية، والسلفي الأموي الصالح أيضا أعلنه في مناسبات سياسية.

السلفية منهج هي الاحتكام إلى مصباح القرآن والسنة، وفقههما من خلال التطبيق النبوي الناجح وتطبيق السلف الراشدي الصالح وفقهه، ونزيد على ذلك التركيز على ضوء حقائق علوم الاجتماع والطبيعة.

والسلفية مبادئ: إصلاح روحي ومدني متوازنان، وذلك هو قطب السلفية، والسلفيات كواكب حوله دوارة. فمن غفل عن هذا المدار، أو دار فترة ثم انطفأ فدوره محدود بزمانه ومكانه.

وكل دعوة سلفية لا تبرز معالم العقيدة السياسية؛ سلفية عباسية أو مملوكية فقد أخلت بمفهوم السلفية.

أجل السلف العباسي الصالح أنشأ فكرا يعالج مشكلاته، وينبغي أن ننشئ فكرا يعالج مشكلاتنا، ينبغي أن نحل السلف العباسي الصالح ونحترمه، نعظمهم ونقتدي بهم في جوانب حفظ الشطر الروحي من العقيدة والسنة والفقه، رواية وتدوينا، فلو لم يكن لهم إلا تصحيح الحديث الشريف، لكفاهم أجرا ودورا، ولكن السلف العباسي الصالح لم يكتب لنا فكرا سياسيا ولا اجتماعيا (صالحا) للتمكين والعلو في الحياة، ولا ينبغي لنا اليوم أن نضرب حقائق علوم الإنسان والطبيعة والفكر الاجتماعي الناجح الصالح؛ بمطرقة اتباع السلف العباسي الصالح،ونلتمس لهم المعذرة في جانب فقه القيم المدنية والحضارة.

فكل حركة إسلامية, لا تهتم بشروط بقاء الأمم وارتقائها المعتبرة، ولا تدرك أن العدل أساس في الدين؛ ليست صحيحة الانتساب.

حتى ولو أسماها أهلها صحوة، إنما هي غفوة رهبانية سكونية، لبست جبة الإسلام، لأن كل حركة دينية تتعامل مع الواقع المتجدد, بوسائل غير عملية ولا عقلانية، لن تحل المعضلة الأساسية، وهي سياسية.

حتى ولو وصفها أهلها بالسلفية فإنماهي صورة من صور السلفية البواهت المنطفئات، كسلفيات عبد الله بن أحمد والبهاري، قد تكون سلفية عباسية أوصحراوية, أورهبانية، ولكنها –مالم تركز على الإصلاح السياسي- ليست قريبة من صورة السلفية النموذجية الراشدية.

حتى ولو وصف أصحابها أنفسهم بأهل السنة والجماعة، فالسنة والجماعة المعيارية، لا تكون لمن يبعضون الدين، ولا ينبثق عملهم أن العقيدة نظام، وكل حركة تستبعد الإصلاح السياسي أو تهمشه، لا علاقة لها لا بالسلف الصالح ولا بمنهج أهل السنة والجماعة.

وفوق ذلك لن يكتب لكل الحركات التي لا ترفع راية الإصلاح السياسي إلا الإخفاق, ومن الطبيعي إذن أن يكون سبيل النجاح, إذن هو لزوم العقيدة، كما جاءت في (مصباح)الكتاب والسنة، و(مشكاة) الرعيل الأول من الأمة.

فقدآثرسلفنا العباسي الصالح رحمنا الله وإياهم -دفاعا عن الدين- جانب العقيدة الروحي والغيبي التجريدي، على جانبها المدني الشهادة العملي، وكانت عنايتهم بشروط الإيمان الغيبي الستة، على حساب عنايتهم بشروط إقامة عالم الشهادة.

وكانت عنايتهم بأركان إسلام الأفراد الخمسة، على حساب أركان إسلام الدولة والأمة المسلمة، لأن الأسئلة المثارة يونانية تجريدية، فامتلأت الأفعال وردودها بذلك، ولكل سؤال جواب، ولكل مقام مقال.

عندما حملت صورة العقيدة آثار إسقاطات وتجزئات عباسية، تعرض النظام الكلي للاختلال والتشويش والتشويه،

من أجل ذلك لا ينبغي اليوم أن ينجر الناس جميعا إلى إيثار التصارع بالظنون على الاتفاق على اليقين، وينشغلوا بما كفانا الله إياه من علم الغيب، عن ما كلفنا به من علم الشهادة،ولاينبغي اليوم أن ينشغل الناس بذاته وصفاته في السماء، أو فناء النار أوعدمه،عن الحديث عن عدل الله وإرادته وصفاته في الأرض،"وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله".

لكل سؤال جواب. السلف العباسي؛ إنما أجابوا عن إشكالات زمانهم، عندما شغلهم الخلاف حول صفة من صفات الله، هي كلام الله عز وجل، فجاء مصطلح علم الكلام إفرازا لهذا التركيز، ولم يكتفوا بماقرر القرآن،وكانت المسألة في بداية الأمر جوابا واقعيا لسؤال ماثل، قبل القرن الهجري الرابع، ولكن تكرارها اليوم تقليد واجترار لمعارك مع أموات هلكوا ومع أفكار بادت، لا يراعي الأولويات، ولا يراعي أن االتعاون على الأساسيات، أولى من التشرذم على الثانويات.

من التراث العباسي، جذر فينا مفاهيم تجزئة وتخميل للإيمان؛ لا زالت تئط منها ظهورنا. ومن المناسب-إذن- أن نبرز سنن الله الاجتماعية والطبيعية، بصفتها سننا مطردة محايدة، لا تحابي مؤمناً ولا تعادي كافراً، وبصفة ذلك من العودة إلى فقه الإيمان في الكتاب والسنة.



39= من دون بصيرة سياسية وحضارية

هل يعتبر المرأ فقيها أو مثقفا؟

أ- هل كذب العلمانيون عندما اتهموا الفقهاء الذين لايسعون إلى بناء الدولة العادلة بالتخلف:

هناك عند كثير من النخب اللبرالية و العلمانية اليوم، أحكام على الإسلام بالجمود والماضوية، أو الظلامية أو التخلف، سببها مرتبط بضمور مبادئ شق العقيدة المدني والسياسي، وتوقف الوسائل عن تجسيد المبادئ، وقد ظهر هذا الضمور في مقولات أو مواقف، لتيارات ومذاهب وجماعات، وشخصيات ورموز علمية وفقهية وسياسية، قدمت فكرا أو عملا كديرا، على أنه الإسلام الصافي.

ولكن هذه النخب اللبرالية و العلمانية لم تناقش مدى دقة انتساب المقولات والمواقف والمذاهب إلى الإسلام، ولم يكن لدى النخب العلمانية معرفة كافية، في علوم الشريعة، لكي تشرح الخطاب الديني العباسي والمملوكي والعثماني تشريحا معرفيا،على مشرحة أصول الدين الصحيحة الصريحة، وتطبيقاتها النبوية والراشدية القطعية الدلالة.

وينبغي أن نلتمس لها العذر، ما دام الفقهاء وعلماء الدين أنفسهم عاجزين، عن تقديم صورة الإسلام الصافية، وليس هذا طعنا في ما لعلماء الدين من إخلاص وذكاء وعلم و ورع واحتساب وشجاعة. لأن الخلل كامن في الجذور، ظاهر في المراجع الأساسية التي أنشأها الأقدمون، من أجل ذلك كان الفكر الديني الذي أعادت إنتاجه مؤسساتنا التعليمية الدينية، كسيحا عاجزا، فلم يستطع أن يقدم الدين صافيا كما تنزل، بل قدمه كديرا مضطربا كما تأول تأويلا فاسداً أو بعيداً من دون مرجح، عندما تراكم تراكما رمليا، في المتون المتناسخة، التي لا يكاد يضيف فيها جديد إلى قديم، إلا الترديد والتعقيد.

ولعل المقارنة في أصول الفقه، بين رسالة الشافعي، وبين مستصفى الغزالي أو روضة ابن قدامة، تكفي دليلا، على أن النمو المعرفي، لم يكن بناءا هرميا، بل كان تراكما وتكديسا رمليا،وأن أثر التعقيد والتجريد اليوناني، تجاوز النحو والبلاغة، فوصل إلى كتب العقيدة ، وظهر أثره في الفقه وأصوله.

لقد تراكمت الثقافة الإسلامية، تراكما أكثره رملي فوضوي، ولذلك صار من الصعب على كثير منا، فرز العناصر الصافية من الكديرة.

لعل من ما يساعد على الفرز؛ أن نتذكر أن الثقافة العربية الإسلامية ،التي نمتح منها ، في أمهات كتب التراث وبناتها، ليست هي الثقافة إسلامية الصافية المحكمة، بل هي صياغة عباسية ومملوكية وعثمانية؛ للعقيدة وللثقافة الإسلامية، جنحت إلى التأويل البعيد المرجوح و الفاسد.

لقد أصيب العقل الإسلامي بأمية سياسية، أبعدته عن التفكير العملي الناجح، بسبب مرضين: المرض الكسروي والصحراوي،(الفرعنة والبدونة) دخلا إلى الجينات التربوية، فكان لدى كل عقل عباسي ومملوكي وعثماني استعداد وراثي، لنشوء المرض، وسهلت هشاشة المعرفة في علوم الإنسان والطبيعة، مهمة انتشار المرض لكي يصبح وباءا، وهشاشة الخلفية المعرفية ساعدت على تثبيت الفرعنة والبدونة بخطاب علمي، فظهرت آراء كسروية وصحراوية، على أنها اجتهادات في الشريعة.

ولما كان الفقهاء يعتبرون الفقيه نائبا عن النبي في التبليغ، و لما كان النبي مكلفا بتبليغ الرسالة، جرهم ذلك إلى اعتبار الفقيه كالنبي في التشريع، فصار الفقيه مشرعا، وبدلا من أن يصبح كلام الفقيه رأيا، تقدس فصار كالوحي، هذا ما صرح به فقهاء كبار، كالشاطبي في باب الاجتهاد، وتلك طامة كبرى.

وعندما يظهر أي مرض خطير على جسم الإنسان، فإنه يسم سلوكه وأفكاره ببعض الاتجاهات، ويفقده المناعة الطبيعية، فيصبح أكثر عرضة لهجوم الفيروسات والميكروبات. فامتص الفكر الإسلامي عشرات من النزعات السلبية، التي حفلت بها الثقافات الأجنبية، فامتص النزعة الرهبانية من النصرانية وعقائد الهنود، وامتص النزعة اللاعملية من الفكر اليوناني في خريفه. فوقع في سوء الاقتباس من الثقافات التي أحدثها تماس الأجناس وتقارض الثقافات.

ملونات ومشوهات ومكدرات، أنتجت عشرات من المفاهيم والنظريات والأفكار الأساسية، صبغت الثقافة الأساسية، وبنيت عليها مئات الأفكار الثانوية الفرعية، ومن هذا المزيج تشكلت مذاهب ومدارس وتيارات، ظهرت في مدونات، اعتبرت أمهات العقيدة والثقافة و قدمت نفسها على أنها الإسلام الوحيد، الذي من آثر غيره هلك.

تزاوج في الذهن العربي والإسلامي مرضان أساسيان: الصحراوية والكسروية، وقد أنتجا مع تداخل الأجناس، والثقافات الأجنبيةعديدا من السلالات والعادات المعرفية والنظريات، ومن أهمها هشاشة العلوم الاجتماعية، وساعد ذلك على هشاشة توصيف الجانب المدني من الإسلام.وصار الفكر الإسلامي –في الجملة-إسفنجيا زئبقيا، يفتقد الصلابة و المعيارية، مجزأً متناقضا، يفتقد الوحدة والانسجام، لأن النص –في ظل هشاشة الخلفية المعرفية-صار نصا مفتوحا، قابلا شتى التأويلات الفاسدة والبعيدة الاتجاهات، و بسبب هشاشة الخلفية المعرفية؛ صار القرآن حمال أو جه.

ب-ولكل زواج ذرية:

وأهم مولود أضر بالفكر الإسلامي بعد المرضين الصحراوي والكسروي؛ هو الذهنية الرهبانية، التي أفضت إلى تخميل الفكر الإسلامي. ولذلك غظت نزعة القنوط والخمول جوانب كثرة من الفكر الديني والأدب العربي شعراً ونثراً، ثم ختمت على هذه الرؤية الرهبانية القانطة بخاتم السلف الصالح تارة، والسنة تارة، والجماعة تارة ثالثة أخرى.

والرهبانية نتاج النزعتين الدخيلتين على الإسلام: الصحراوية والكسروية. وهما دخليتان على الإسلام، الأولى: ورثها الخطاب الديني العباسي من خيام الصحراء، والثانية: ورثها الخطاب من مدائن كسرى. وقد أنتج الزواج سلسلة من الأنسال غير السوية. أهمها النزعة الرهبانية، إنها ناتج تركيب المرضين، فأجواء القهر تنتج فكرا مقهورا هشا، معنيا بالقشور،مشغولا بالمظاهر اللغوية.

حبل المجتمع بالصحراوية والكسروية منذ العصر الأموي، بسبب اختلال المعايير الاجتماعية، والاستبداد أنتج الرهبنة، والاستسلام للفساد، وانتظار الخلاص من خارج قدرة الإنسان، وأشاع الذكر والدعاء والابتهال، بدائل عن القيام بالدور والسعي والعقلانية والنضال.

وكانت الروح اللاعملية واللاعقلانية ناتجة عن تزاوج المرضين، فأجواء القهر تنتج فكرا مقهورا هشا، معنيا بالقشور، مشغولا بالمظاهر اللغوية والخلفية المعرفية ساعدت على دخول سلبيات عديدة .

وكانت هشاشة المعرفة بعلوم الاجتماع و السياسة و الطبيعة سببا أساسيا في سك خطاب معرفي يحمي الاستبداد والتخلف، منذ زمن بعيد صار الدين يتشكل تشكلا مشوها، عندما صبت الروافد الخمسة الكديرة في نهر ثقافتنا الإسلامية: المكدر الصحراوي والمكدر الكسروي و المكدر اليوناني و المكدر الرهباني وهشاشة المعرفة بعلوم الإنسان و الطبيعة، وصيغت ثقافتنا في العصر العباسي، حاملة هذه المؤثرات، وصيغ الفكر تيارات، وصار الناس يأخذون من الكتاب والسنة الأجزاء المتناثرة التي يرونها من خلال هذه الشاشات، والتي تروق لهم، وتنسجم مع هذه المتناقضات.

ج-نتاج الداء الصحراوي والفرعوني :

ومن هذين الوبائين مع مضاعفاتهما وتداعيات امتزاج الأجناس والثقافات، تكونت روافد خمسة كدرت صفاء الإسلام، و أسهمت و تعاونت في الإخلال بمنهج فقه الكتاب والسنة، فظهر هذا الخلل في جذور المنهج، منتجا بضع مشكلات:

الأولى: ركون إلى الفقه الحرفي لنصوص القرآن و السنة، وأغفال شائع للدليل المعنوي، الذي يمكن استنباطه من عديد من النصوص والوقائع والمواقف، كما بين الشاطبي في المقاصد، والدهلوي في حجة الله البالغة.

الثانية: تعميم أحكام ظروف المسرح الاجتماعي (النبوي والراشدي) الأول, ومافي طبائع المعاش من وسائل اقتصاد ابتدائي، ومافي طبائع المجتمع من بساطة العيش في القروى والبوادي، على عالم الدولة الكبرى والمدن المكتظة بالسكان، وأوضح مثال لذلك عزوف الفقهاء عن تدوين القواعد القضائية وتحديدها، واعتبارهم الحاكم، كونه مرجعا للسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، و ترسيخ ذلك من خلال تسميته (ولي الأمر) و إعطائه صلاحية الوصاية على معرفة مصالحها، من خلال مقولة "ولي الأمر أدرى بالمصلحة" فقصر فهم الإسلام على ظروف دولة ناشئة، إنما من الفقه الحرفي للسيرة و أحوال الخلافة الراشدة، فحل نموذج التطبيق النبوي والراشدي محل النظرية: وحلت الوسائل التي تتغيير، محل المبادئ الثابتة، وتم صوغ فقه السياسية الشرعية، بوسائل الحقل النبوي والراشدي، مطبقة على حاكم عباسي أو مملوكي أو عثماني جائر!!.

الثالثة: الشريعة (نظام) محكم الصورة والعلاقات، وذلك هو ضمان فقه مقاصد الإسلام الكبرى وروحه العامة، هذه التصور لم يكن دائم الحضور:إنه خلل في التأسيس الموضوعي أو في فقه مقاصد الشريعة الكلية القطعية، أوهى ارتباط القيم المدنية بالإيمان، فهمش ما تتطلبه إقامة حياة الإنسان من مكارم أخلاق سياسية و عمران على متن إقامة الإيمان، ولم يفعل مبدأ أن الإسلام جاء لتحقيق مصالح الدنيا والآخرة معا، ولا أنه عقد منظوم لا يمكن تقديم أجزاءً متناثرة،على أنها صورته التامة، ولا يمكن فقه جزئياته من دون إطار قوعدها الكلية، ولا يمكن الجمع بين النصوص أو الترجيح؛ من دون إدراك مقاصد الإسلام وروحه الكلية.

الرابعة: القرآن طالب الناس بالعقلانية، لكي يفهموا أن للكون خالقا رازقا مستحقا للعبادة، ولكي يدركوا سنن البقاء والفناء الحضاري، ولكن التيار الغالب في الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة، لم يستند على حقائق علوم الاجتماع والسياسة، و هي نتاج العقل التجريبي في الأمم والملل والحضارات والدول، ومن أجل ذلك لم يبن فكراً سياسيا متسقا.

لا يمكن أن يوجد فكر صحيح، في ظلال الأمية السياسية، فالأمي سياسيا حتى لو كان مخلصا صالحا محتسبا حرا مقداما، سهل الانخداع والانقياد، تنطلى عليه الأكاذيب، ويخطئ في البديهيات، وينتج الأفكار الميتة، ويستدرج إلى الأخطاء الفتاكة، ولا يربط بين الوسائل والغايات، ويقدم الثانويات على الأساسيات، ولا يحاكم النيات بالنتائج، ويسهل تضليله أو توظيفه طلاءا براقا، لخدمة الطغيان والفساد، وإن كان عالما أو فقيها فذا، كثير الأتباع والمؤلفات.



د-نحو صياغة سلفية توازن بين شقي العقيدة الروحي والمدني وتركز على الميزان والعمران /



40=طريقان سلكهما التجديد السلفي في العصر الامبريالي

لتخليص العقيدة من التعقيدات العباسية

أ-جمعت الفرق السلفية على تهميش عمود العدل وشروطه:

درجنا على تقسيم المذاهب في الأصول إلى سنة وشيعة وخوارج ونحوها، وعلى تقسيمها في الفروع إلى حنابلة وشافعية ومالكية وزيدية، وشيعية جعفرية ونحوها، وظل كل فريق يدافع عن صحة مذهبه ويتهم الآخرين بالابتداع، وهذا أمر طبيعي فمن حق أي فرد أو مجموعة أن تفهم التنزيل، بقدر ما تستطيع، ومن حقها أن تضلل وتبدع، من دون غلو و لا تطرف، و لا تكفير، وليس من حقها على كل حال أن تستخدم العنف والقمع، لإقصاء الآخرين وإلغائهم من المسرح الثقافي ولا الاجتماعي.

وليس هذا مجال الجدال في هذا المجال، ولكن أهم من ذلك الآن، أن نتذكر فكرة – على أهميتها لم تلق ما تستحق من عناية، وهي أن فرقنا العباسية القديمة، كلها لم تبدع فكرا سياسيا اجتماعيا، يحدو الأمة إلى النهوض، وذلك هو بيت القصيد الذي يهمنا اليوم في عهد الإمبريالية الغربية.

فما سبب ذلك?

ولعل سبب ذلك يتجاوز شكل الخطاب الوعظي, الذي يصوغه الواعظون والكتاب;إلى جذوره التي صاغها مفكرو الدين و فقهاؤه, في العصر العباسي, وصيغ على أساسها، علم أصول الفقه, ومدونات العقيدة، ما بني عليها خلال العصور العباسية والمملوكية والعثمانية الغابرة.

من المفيد أن تتذكر أن الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة ، فيها عيوب كبرى، والصور السلفية مثل واضح، فهي عند مجدديها ليست دون أخطاء فضلا عن أتباعهم ، ولكن أهم أخطائها تعم الفرق ولا تختص بها، إن الصياغات العباسية حفلت بنواقص عامة مشتركة بين الفرق الإسلامية كلها، ناتجة عن الحقل الاجتماعي وما فيه من تماس أجناس، وعن النظام السياسي وما فيه من احتباس، وعن الخلفية المعرفية و ما في سقفها من انخفاض.



ب-طريقان للتجديد: أهمهما العودة المباشرة إلى المصباح

وأدرك عديد من فقهاء الإصلاح الديني من دعاة السلفية التوازنة والحضارية جوانب الخلل في الصياغة العباسية العقيدة، وهناك طريقان سلكهما المجددون السلفيون، في العصر الإمبريالي:

الأول: أن يضربوا عن كل هذه الصياغات العباسية صفحا،

كما فعل سيد قطب التصور الإسلامي عزز هذا الاتجاه، فأخذ العقيدة من نصوص القرآن والسنة، وتجاوز فهم رجال الفرق الكلامية كلها، ولذلك يصح أن يقال في اتجاهه: إنه كسائر تيار الإخوان المسلمين، يسير في مسار الإصلاح الديني، الذي يقصر مفهوم السلفية المحتذاة على السلفية الراشدية، سلفية ما قبل الخلاف السياسي والمذهبي والكلامي بين المسلمين، كما يقول صلاح عبدالفتاح الخالدي (في ظلال القرآن في الميزان:29نقلا عن الزنيدي: 143)، وكما يرى أيضا عدنان زرزور؛ أن من مزايا تفسير الظلال؛ تجاوز عصر الخلاف أو عصر المذهبية، في تفسير القرآن (عن الزنيدي:143)، وفي الاتجاه نفسه كتب آخرون، كعلي الطنطاوي وعبد المجيد الزنداني.

لاحظ تيار الإصلاح الديني أن تيارات الفكر الديني العباسي وما تأثر بها؛ اهتمت بالمذاهب القديمة ، في ظل التماس الثقافي في المجتمع العباسي، وينبغي أن تراعي صياغة العقيدة اليوم؛التماس الثقافي الحديث، فتحتوي أجوبة شافية كافية، لما تطرحه التيارات الغربية الحديثة الوافدة، من مقولات وأفكار ونظم وقيم، كما يبدو هذا الاتجاه في كتابات الشيخ محمد الغزالي.

ورأوا أنه ينبغي أن تأخذ صياغة العقيدة اليوم؛ من تيارات الفكر الديني العباسي، ما هو معياري في الإسلام، وهو الالتزام بمرجعية صريح الكتاب والسنة القطعي، وإجماع الراشدين والصحابة السابقين. وهي المرجعية التي دعا إليها الفقهاء الأوائل، رافعي شعار السلفية.

و تأخذ من تيارات الفكر الديني العباسي أيضا كراهية الفلسفة اليونانية التجريدية، والبحث الخيالي السوفطائي، وتأخذ من سلفية ابن تيمية، تخليص العقل من الخرافات الروحية في جانب التصورات، كالاستغاثة بالأموات، وتأخذ من سلفية محمد بن عبد الوهاب بساطة التعبير،وروح العمل البعيدة عن وحل الجدل، وفكرة التوازن بين شق العقيدة المدني والروحي، وأنه لا دعوة من دون دولة، ولا ملة دون استقلال،كما ظهر في حركة الإخوان المسلمين في مصر، والجماعة الإسلامية في باكستان، وتحاول ان تجيب على الأسئلة الشاخصة. وأن تتجنب الأخطاء التي وقعت فيها السلفيات المواضي، أثناء التنظير أو الممارسة، أو هما معا.

ولن تخلص العقيدة من الشوائب، إلا بالرجوع المباشر إلى الكتاب والسنة، من دون استعمال النظارات العباسية،يقول سيد قطب (في كتاب خصائص التصور الإسلامي): أنا على يقين حازم بأن التصور الإسلامي، لن يخلص من التشويه والانحراف والمسخ إلا حين نلقي عنه جملة بكل ما أطلق عليه اسم الفلسفة الإسلامية وبكل مباحث علم الكلام، وبكل ما ثار من الجدل بين الفرق الإسلامية المختلفة في شتى العصور أيضا، ""ومن ثم يحسن عزل ذلك التراث جملة عن مفهومنا الأصيل للإسلام، ودراسته دراسة تاريخية بحتة" وأكد على خطورة السقوط في فخ الدراسات العقيدية الخلافية، والتطاوح بين تطرفاتها.

ورفض الافتتان بعلم الكلام، واستعارة القالب الفلسفي الإغريقي، لعرض العقيدة الإسلامية، وذكر أن من نتائجه تحريف النصوص عن حقانقها، وإهدار الطاقات العقلية في غير مجالها الصحيح، فالرجوع إلى سلفية ما قبل الخلاف يحمى العقل من التيه، وتبدد الطاقة، ويكسبه قوة في ارتياد مجالاته المشروعة،(انظر كتابه التصور الإسلامي).

ونفس الاتجاه عند المفكر محمد المبارك في كتيب (العقيدة والعبادة).

ج-ضرورة تصفية الصياغات العباسية للعقيدة في مصفاة المصباح

ولكن تصفية العقيدة من أوشاب التراث، خلال العصور العباسية والمملوكية والعثمانية الغابرة.أمر ضروري، لايغني عن المسار الأول، ولا يغني هو عنه. لاعتبارات أهمها مايلي:

الأول: أن كل فكر ابتكاري يسبقه فكر نقدي. ومن هنا يصبح لفحص الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة أولوية، تسبق أي محاولة ناجحة لبناء فكر إسلامي حديث.

الثاني: أن أفكار التجديد إذالم تناقش مقولات رموز السلف الصالح، قد تحدث قطيعة معرفية. وينبغي أن لا تدعونا أخطاء التفاصيل، إلى التعميم على الأصول، ولا أخطاء التطبيق إلى شطب المنهج، وينبغي أن لا تدعونا إلى غمط الإنجاز، وشطبه من خارطة الإصلاح.

الثالث: أن بناء العقيدة بناء على مقدمات ظنية، في علم أصول فقه الكتاب والسنة، بنيت عليها قواعد صارت في عداد القطعية، فالخطأ مركب.

الرابع: أن المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية.على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة،سيضربون التجديد بأقوال وممارسات اضطرارية أو عابرة، أو ناتجة عن اتجاهات غير مسيسة، كما وقع فعلا من انكفاء وعودة إلى الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة،بعد أن قطع المجددون السلفيون شوطا طويلا،

ولكن فحص المسلمات التراثية، طريق وعر مخوف، وهو عرضة للخطأ و التأويل والإسقاط، ولكنه ضروري لا مناص منه.

من أجل التصفية ينبغي من أجل فهم الصياغة العباسية للفكر الإسلامي العلوم الدينية والعلوم الإنسانية والطبيعية القديمة;وفرز خلاياها الحية عن الميتة، أن نفحصها على ضوء مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، لأن صريح الشريعة لا يناقض صحيح علوم الإنسان والطبيعة ، على هذا الضوء ينبغي تشريحها وتفكيكها وتحليلها، ونقدها، من أجل استحياء خلاياها الحية، ونبذ خلاياها الموات.





41=هم أمام إلحاد روحي أو تحد غيبي يوناني:

أ-اختلاط الأجناس استدعى الاحتراس في ترتيب وتبويب وتوصيف شقي العقيدة الروحي والمدني

وللسلفيات العباسية ميزة كشف منهج فقه الكتاب والسنة، (كما بينت مقالة"الإنجاز السلفي الأكبر في كتاب: المصباح والزجاجة والمشكاة). أما الصياغة المعرفية تنظيراً وتطبيقاً للفكر الاجتماعي عامة والسياسي خاصة، فإنما هي تراكم هرمي، يقف فيه اللاحق، على كتفي السابقين، فيرى ما هو أبعد من رؤيتهم، وقد يستلهم من التحديات والمعطيات الجديدة.

للسلفيات العباسية جهود موفورة مشكورة، في سياق الاجتهادات، التي حاولت بها أن تحل النوازل والتحديات، من خلال مابين يديها من معطيات.

وأهم جهد لها كان في تبويب وترتيب مسائل شق العقيدة الروحي كالصلاة، وفي توصيفا لماهو مجمل من شق العقيدة المدني كالمعاملات.

وتفصيل مسائل فقه الفروع، عمل يكاد أن يكون متكاملا في جانب العبادات الروحية، بحدود حوالي 90%، كما أشار القرضاوي، أما جانب شئون الحياة المدنية أغلبه مجمل، أو غير مجدول أو غير منسق، فلم يفصل منه إلا حوالي 10%.

عندما يطالب دعاة الإصلاح السياسي بإعادة صياغة العقيدة والتربية والثقافة، يتخوف المحافظون على الصياغة العباسية اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، من الإخلال بالشريعة،وتخوفهم مشروع، ولكنهم لا يدركون أن المنطقة التي تستدعي التجديد هي شق العقيدة المدني المجمل، من التفصيل ومن الوسائل.

وأنها كافية بل وافية صياغة السلف العباسي وتوصيفهم لفقه العبادات الروحية ولماهو مفصل من شق العبادات المدنية

فقد استنبطوا وفي توصيف لشق العقيدة الروحي العملي، أفكارا تفصيلية كثيرة، وأكثر من تسعين بالمئة من توصيفهم وتفصيلهم في شق العقيدة الروحي والفردي والأسري لا خلاف عليه. كالمواريث والأخلاق وهي إنجازات اتفقت عليها السلفيات، وتوافق عليها عموم أهل القبلة.

وهذا ينبهنا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن الرعيل السلفي العباسي الصالح عندما يكتبون في شق العقيدة الروحي العملي كالصلاة والصوم، يكثرون من الاعتماد على صريح القرآن والسنة. ولكنهم عندما يتحدثون جانب العقيدة الغيبي، وينحتون-أحيانا- مقولاتهم، تقسيماتهم و تقعيداتهم وردودهم؛ لا يكادون يعتمدون على نص صريح صحيح، ويصوغون أفكارهم بلغة جافة، تعتمد على مقدمات فلسفية تجريدية، ويدخلون الناس في شقاشق كلامية، لا طائل تحتها.

وأحمد بن حنبل نموذج ماثل عندما يقدم رأيا في ما كتب عنه تلاميذه في صياغة العقيدة في جانبها الروحي، كما في شعار القرآن غير مخلوق.

وهذا يدعونا إذن إلى التفريق بين الأصل الذي يعلنه المنتمون، السلف الصحابة السابقين والصياغة السلفية العباسية، لنقول إن الإمام أحمد بن حنبل إنما يقدم وحيا في المسند(عندما يورد حديثا صحيحا)، ينبغي أن نعتمد على هذا الوحي، ولكنه في صياغة جانب العقيدة الغيبي إنما يقدم رأيا، علينا أن نزنه بميزان الأصل.

وكل شيء يسمى بالعقيدة أو بأصول الدين، فلا بد من أن يكون قطعيا، وإن لا فكيف يعد أصلا، وكيف يكون من أنكره كافرا، فإن كان قطعيا، فذلك هو سلفية المصباح والمشكاة، و إن كان ظنيا من الاجتهادات، فهو من كواكب سلفية دوارة.

وهذا يدعونا إلى أن نفرز ما رواه السلف العباسي الصالح في العقيدة عن ما أنتجوه ، فإن كان أمرا ثابتا بقرآن صريح، أو بحديث متواتر صحيح صريح فهو قطعي، فهو سواء أكان أصلا كالإيمان بالقدر، أو فرعا كالتيمم؛ فهو من قطب السلفية.

وإن كان كالقول بصحة نص الكتاب ورودا، والتزام فهمه حسب سنن العرب الفصحاء، العارفين بأصول البلاغة العربية ودلالتها، فهو قطعي ، ومن قطب السلفية .

وإن كان من ما رآه السلف العباسي الصالح، فهو اجتهاد يجوز فيه الخلاف، كالقول بخلق القرآن أو عدمه؛ فهو من من الكواكب السلفية الدوارة.اجتهادات و حركات زمنية مكانية. وهو مجموعة من الآراء البشرية، تحتمل الصواب والخطأ، وهو من ما أنتجوه.

وكل السلفيات العباسية و ما بعدها، محكومة بمرجعيتها المعلنة، وهي رؤية مصباح القرآن والسنة في مشكاة التطبيق النبوي والراشدي،وحقائق علوم الإنسان والطبيعة. أي أن السلفية قطب له بوصلة تشير إلى نجمته. وكل سلفية فإنما هي كوكب سيار في هذا المدار

هذا هو مفهوم السلفية الذي أرساه الأئمة كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد.

وكل السلفيات يحدوها المصباح والمشكاة،إلى إنتاج صيغ فكرية وبرامج اجتماعية وسياسية، تحتذي بها سلفية المصباح والمشكاة، سواء قاربنها أم قصرن.



ب- سؤال الثقافة الاجنبية استدعى شعار السلفية

نحن اليوم بعد مرور أكثر من ألف عام أقدر من السابقين، على تأمل مسرح خلافات الفرق العباسية، بسبب بعد الزمان، واختلاف المناخ، وتغير التحديات والمعطيات،ولعلنا أقل عاطفية وأكثر موضوعية، وأقدر على النظر إليه بعين الإنصاف، لأننا نملك كما من المعلومات، ونستطيع أن نقيم أثر هذه القضايا، على الحركة الاجتماعية اليوم.وهذه العوامل تدفعنا إلى الحيدة في الرؤية،

أسلافنا العباسيون كانوا يعيشون زمن تماس حضاري عنيف، اختلط فيه الجنس العربي، بالأجناس الفارسية والرومية والسريانية والقبطية والهندية، وأسلم من أسلم بخلفيته الثقافية وهويته القومية، واختلطت فيه عوامل إقليمية. وسرى الدين البسيط الواضح، إلى نفوس أمم شتى، اعتادت على تقاليد فكرية واجتماعية راسخة، فصعب عليها أن تفهم الدين فهما نقيا، كما فهمه الصحابة السابقون، ففهمت الدين من خلال معتقداتها الوثنية والأسطورية.

وكانت الثقافة اليونانية، حاضرة من خلال وساطة الثقافة السريانية، وكان للعرب ولوع بالتعرف على الجديد، وكان هناك عدد غير قليل من الصابئة والمجوس والوثنيين، وكانت بغداد والبصرة ملتقى عالميا، يفرز شتى الأفكار والآراء، وكان المعتزلة أول إفراز إسلامي لهذه الثقافات.

كان لابد لهذا التماس من أن يفرز إفرازاته، وأول تلك الإفرازات-الخفية الارتباط به- سقوط الخلافة الراشدة،ثم ظهور الأفكار المتأثرة بالثقافات الفارسية والسريانية والنصرانية واليونانية، فالجديد الوافد فرضه التماس الحضاري،فأعلن عن نفسه. وكما فرضت الثقافة العلمانية نفسها علينا اليوم، فرضت بالأمس الثقافة الأجنبية نفسها على المثقفين، الذين احتكوا بالجديد أكثر من غيرهم.

وعندما نتصور أن طه حسين مثلا هو الذي فعل كذا وكذا، ونكاد نفصله عن مناخه؛ نخطئ خطأ كبيراً في ميزان علم الاجتماع المعرفي، لأنه تماماً كالجعد بن درهم وجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي، نتاج التبرم بواقع سائد،اجتماعي أو ثقافي أو سياسي، أو ردود فعل على تيارات أخرى، فقد كانت القدرية رد فعل على جبرية بني أمية، أو منبهرين بوافد جديد.

والذين يحتكون بالجديد أول مرة، يقفون أمامه مندهشين معجبين، فيأخذون فيه بإفراط، وهم في التجديد مغالون مندفعون، ولكنهم ليسوا من دون حسنات و لا من دون نيات حسنة.

وهم –على كل حال-مرحلة طبيعية،من وجهة نظر علم الاجتماع المعرفي، وعلم الحضارة المقارن، لابد للفكر والمجتمع أن يمر بها، وتقييم أدوارهم لا ينصفهم إذا نظر إليهم بصفتهم أفراداً خطائين، بل إذا نظر إليهم بصفتهم نماذج اجتماعية، حاولت التعرف على الجديد. وأنهم بأخطائهم كانوا ضحايا، ولكنهم بصوابهم كانوا روادا، وأخطاؤهم كانت جسرا عبر عليه الآخرون، لم يكن منها بد في مسير التطور الاجتماعي والثقافي، فلولا سؤالهم لما انبثق الجواب، ولولا أخطاؤهم لما نبع الصواب، ومن أجل ذلك جاء الحديث الشريف مقررا للمخطئ أجرا وللمصيب أجرين.

وإذا نظرنا إلى المندفعين في الجديد؛بصفتهم نماذج ثقافية واجتماعية، أدركنا أنهم مرحلة طبيعية، لابد أن يفرزها الاحتكاك الثقافي والاجتماعي، أي مرحلة ضرورية في فكر الأمة، وأدركنا أن مهمتهم الأولى هي استيعاب الجديد وتمثله، وهذا هو دورالكندي والفارابي وابن سينا أيضا ونحوهم، إنهم مرحلة استيعاب الجديد.

ج- أثر الزمان في تراكم البناء المعرفي:

المذاهب والحركات ؛ يصعب تقسيمها إلى أسود كالح، وأبيض ناصع، ولا سيما إذا كانت طويلة الأعمار، ما من صياغة إسلامية انتشرت بين الناس، إلا وفيها جوانب من الحيوية الدينية، و ما من مذهب إصلاح فكري أو اجتماعي، بعد كتاب الله وسنة نبيه المعصوم بالوحي، إلا وفيه خطأ و صواب، فالحق المطلق صريح الكتاب و صريح السنة الصحيحة، والحق النسبي هو ما جاوب على سؤال مثار، أو عالج داء بيئة مريضة.

فليس كل ما قاله المعتزلة من البدعة،ولا كل ما قاله المنتسبون إلى السلفية في العصر العباسي من السنة، فلهؤلاء وهؤلاء أفكار هنا وهناك هي من السنة، وهذه الأفكار حاول لم شتاتها الأشعري، الذي حاول أن يقف موقفا وسطا، بين المحافظين الذين توقفوا، والمجددين الذين اندفعوا أو استعجلوا وانبهروا، وحاول أن ينزع من المحافظين بعض بطئهم وتوجسهم.

ثم جاء الغزالي، الذي كان أعمق منه، لأن قدر على تفكيك خطاب التجديد من الداخل، فرفض منه وقبل، ولكن الروح الأشعرية الساكنة، حرمته من نفحة المجالد المجاهر وهاتان الخطوتان مهدتا المجال لابن تيمية، لكي يفكك الفلسفة اليونانية ومنطقها، بصورة أفضل، ولكي يعيد للفكر واقعيته، وروحه العملية.

ولا ينبغي أن ننسى أثر تراكم البناء الفكري، في تحوير وتهذيب الأفكار،إذ نجد من نماذجه أن آراء ابن تيمية أكثر دقة وعمقا من آراء من سابقيه الحنابلة، لأنه استوعب ما قبله، وأن آراء الغزالي أفضل من آراء الأشعري، لأنه استوعب أيضا ما قبله، فبني عليه، وأن آراء الشاطبي في مقاصد الشريعة، أعمق من آراء ابن تيمية، لأنه استوعب أيضا ما قبله، فبني عليه، واللاحقون أفضل من السابق، في بناء الأفكار، لأنهم يصعدون فوق كتفيه، فيرون من الأفق ما لم يره السابق.



42=جو الاضطراب والضباب يخل بالأولويات والأساسيات

أ-فكر الشيخوخة بدأ مبكرا في في تصور العقيدة والمفاهيم

لم يلاحظ المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة، أن الأزمة كامنة في الفكر الديني السلفي العباسي نفسه, الذي انحرف عن النموذج الأمثل، الذي جسد تطبيقه عهد النبي صلى الله عليه وسلم والراشدين.

منذ يداية العصر الأموي تراكمت رمال الاختلال وتنوعت واتسعت، مخلة بوحدة الشريعة وحيويتها، مهمشة الشطر المدني منها. ذلك التراكم منذ زمن بعيد,استقر في مطلع العهد العباسي، عهد إنشاء النظريات وجمع الحديث والتدوين،عندما صيغ الفكر الإسلامي في جو القمع والجور، الذي أنتج الاختلال والاختلاف.

واستقرت هذه الصياغة المختلة واستمرت، ولكن لم يظهر أثرها في القديم, ولاسيما في العهد الأموي, وصدر العهد العباسي, لأن الثقافة القرآنية أشعلت المولد، بفكر صعود ونهوض فدارت آلات المولد من قوة ذلك الشحن النبوي الراشدي قرونا عديدة، فالعصر الذهبي العباسي إنما هو ثمرة ذلك الإشعال، وليس هو المشعِل.

وفكر الشيخوخة بدأ مبكرا قبل أن تشيخ الحضارة، رغم كتابات أفراد أفذاذ حاولو أن يغردوا خارج السرب كالشافعي ومحمد بن الحسن، ولكن لم تمكنهم خلفيتهم المعرفية في علوم السياسة، من بناء فكر سياسي متسق، وملامح الخلل واضحة في تركيز الفكر الديني على شطر العقيدة الروحي، وغفلته عن الشطر المدني.

فغفل العلماء عن الفكر السياسي العملي، الذي هو شريان حياة الأمة والملة، أفرادا ومجتمعا ودولة. فاستمرت الدولة في القمة، ثم بان الخلل واتسع فشاخ الشطر المدني فضعفت الدولة، عندها ضعفت الملة، وصدق الرسول الكريم، الذي أشار إلى أن إهمال الحكم الشوري الذي هو عمود الشق المدني من الدين؛ يفضي حتما إلى انهيار عمود الشق الروحي من الدين: الصلاة ، فقال:"أول ما تفقدون من دينكم الحكم وآخر ما تفقدون منه الصلاة".

والرسول صلى الله عليه وسلم، إنما يقصد بالحكم، المفهوم الشوري،الذي لايضمن إلا بطوق بآليات النظام الدستوري، وهذا سر زوال الأندلس وسقوط بغداد.

ولم تكن أمام المسلمين –في العصور العباسية والمملوكية-حضارات تتحداهم, فكانوا سادة العالم, طيلة العصور, حتى قبيل سقوط الدولة العثمانية، ولكنهم ظلوا بعد عهد الراشدين؛ يبتعدون شيئا فشيئاعن نموذج خير أمة أخرجت للناس, حتى نهاية القرون الثلاثة المفضلة(العصر الذهبي), عندما أكملت الدولة ابتلاع التجمعات الأهلية عموما والمدنية منها خصوصا، وتلاشى التواصي بالمعروفات والتناهي عن المنكرات السياسية، ولم يدركوا فظاعة تهميش الاحتساب السياسي .

وقد أدت هذه إلى ما عاناه المسلمون، من ضعف قيم المجتمع المدني، كالحرية والتعددية والتسامح والمواطنة، والتجمعات الأهلية ولا سيما المدنية، هذا ما أعجزهم عن بناء الدولة الشورية العادلة، فكثرت الخلافات والشقاق, وقل التعاون والتلاحم, وعم الركود والخمول, فآل بهم ذلك إلى السقوط الحضاري.

ولكن الأزمة ازدادت حدة, عندما جاءت الحضارة الغربية, بجبروتها العلمي والتقني,وهو أشد أثرا من العسكري, فأصابت الفكر الديني الإسلامي بصدمة ثقافية كبرى، كما أصابت بمضاعفاتها العملية، كل المجتمعات الإسلامية عامة والعربية خاصة، عسكريا واقتصاديا وتربويا.

الأزمة التي هزمت المسلمين أمام الاستعمار اليوم, هي التي هزمتها بلأمس أمام العدوان التتري والصليبي؛ ليست إخلالا بالجانب الروحي من العقيدة، ولا أزمة أخلاق أسرية، فقد ظل المسلمون في الجملة, مستقيمي العقيدة, وظل النظام الأخلاق الاجتماعي متينا, وظلت الأسرة بعيدة عن التفكك، ولكن تنامي الفساد في نظام الإدارة الياسية، هو الذي خرب سد مأرب.

و لكن الأزمة هي الإخلال بشق الإسلام المدني، وأكبر مظاهرها التخلف السياسي، إنه مرض الدماغ، الذي أفضت مضاعفاته إلى سائر ألوان الفساد والاقتصادي, والعمراني والعلمي التقني.

وكان لابد للأمة التي استوعبت انتصرت بالأمس على الغزو التتري والصليبي; أن تنهزم اليوم أمام الاستعمار, لأنها خاضت المعركة مع الغرب، بأنظمة سياسية ظالمة قامعة، بدوية كسروية ، أنتجت أنظمة إدارية متآكلة, وأنظمة اقتصادية هرمة, فانطوت على تخلف عمراني وتقني فظيع.

فالأزمة إذن أزمة في النموذج التربوي، وسبيل إصلاحه لا يكون إلا عبر العودة المباشرة إلى مصباح الكتاب والسنة، وزجاجة التطبيقه النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الاجتماع والطبيعة، والسعي إلى بناء المجتمع المتكتل المتعاون الفاضل، لوصل ما انقطع بين السمو الروحي والمدني.

ج- لكي لا نكرس ثنائية الصراع العباسي:

و ينبغي لدعاة الإصلاح اليوم ، أن يكتشفوا أن قيم المجتمع المدني هي الأساسيات، بدلاً من التناحر على الثانويات، لكي لا تغيب عنهم المسألة الأساسية التي غابت عن تيارات التأصيل والتحديث, في العصر العباسي, عندما استمر الصراع بين دعاة العقل والثقافة الأجنبية, الذين (استنونوا/قلدوا اليونان) وبهرتهم الثقافة اليونانية, فلم يستطيعوا أسلمة الفكر الوافدالأجنبي عامة واليوناني خاصة, يل حاولوا (يوننة) الشريعة, واعتبروا العقل اليوناني, معياراً نموذجيا, والذين ظنوا الأصالة والسنة في النقل من دون تصحيح المفاهيم، وبناء فقه سياسي ومجتمع مدني وابتكار النظريات, والانتقال بعد تصحيح الرواية, إلى فن الابتكار والدراية, وكانت نتيجة صراع الثقافتين أن "درء تعارض العقل والنقل" الذي عني به أمثال الغزالي وابن تيمية, تأخر بضعة قرون, حين شاخت الحضارة,إذ لم يبق في قيم الأمة عقل ولا نقل, فسقطت ذلك السقوط الشنيع, رغم أنه ليس أمامها تحد حضاري ماثل.

وفي التاريخ عبر ودروس, للحاضر والمستقبل, وإن لم يستوعب المعنيون بالتعليم الديني من المحافظين اليوم على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة تلك الدروس, فإننا مرشحون لمزيد من الاستخذاء والهوان, لأن الغفلة عن ضعف ارتباط المدنية بالروحية في العقيدة الإسلامية, يطأطئ هاماتنا للاستلاب والاستحواذ رويدا رويدا, في حركات إرادية وغير إرادية, تزداد استمتاعاً بالرق الحضاري، فنزرع فكر الخمول والتخلف في الأمة, أو فكر التغريب والفرنجة المجتلب.

د-من ترك إقامة العدل رعاية لإقامة الصلاة فقد آثر هوى كسرى وقيصر على هدى محمد :

لقد ذلت الأمة وخضعت، وكان أهم أسباب خضوعها أمران:

أولهما الطابع البدوي الصحراوي، الذي لم يكتسب عقلا مدنيا، يبني فيه أعرافا تجمع مدني راسخة، تمنع من الاستبداد، وتسعى إلى أسباب العلو والقوة.

ثانيهما:الفكر الديني المحرف، الذي طوعه الحجاج، حتى أقنع الفقهاء الناس بأن ويصبروا على جور الحاكم الباغي، وأن يكتفوا منه بالصلاة، وأن يجاهدوا مع-وهو أولى بالجهاد من غيره- في حروب أكثرها عدوان لم يشرع في القرآن، ولا طبقه محمد صلى الله عليه وسلم،فالحرب في الإسلام دفاعية وليست هجومية، أخل بالأولويات، بل وقبل ذلك أضاع فقه التوازن وبعض الشريعة.

كم مكسب للأمة لو أن المثقف الديني بذل من الجهد فكرا وعملا، في شروط عمود فسطاط الثاني: العدل وفرائض السمو المدني، قدر مابذل في نوافل فرائض السمو الروحي، بل لو بذل في فرائض الرقي المدني مثل ما بذل في الرقي الروحي كقيام الليل والوتر والرواتب والسواك وآداب الأكل وصيام عاشورا وعشر ذي الحجة والست من شوال ونوافل الحج والعمرة؟.

كم مكسب للأمة لو أن المثقف الديني، بذل في شروط إقامة الأمة، كالعدالة وضابطها الشوري الاجتماعية، مقدار ما بذل للأمر بإعفاء اللحى وتقصير الثياب وقص الأظافر.

كم مكسب للأمة لو أن المثقف المتذهب بذل في عالم الشهادة القطعي الأساسي، قدر ما بذل من اجتهادات ظنية وثانوية في عالم الغيب، جعلها مسطرة لصحة العقيدة، وكفر على أساسها الناس، وشغل بها المجالس والمساجد.

لن تقع هذه الأمنيات، ما لم يدرك الناس، وما لم يدرك الفقهاء أن نظام العقيدة نظام شامل متكامل، و ما لم يدرك الناس، ولاسيما المثقف الديني المتذهب أن السلفية أصل وصور وأن صورتها النموذجية هي الراشدية، وأن الأصل هو المصباح في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة.

وما لم يدرك أهل العلم عامة والفقهاء خاصة حجم المشكلة الحضارية أيضا; لكي يبتكروا وسائل الدفاع المتطورة, وسيزداد الناس -إذن- تأخراً وانكماشا, عبر فقه الإحجام والوقوف عند الباب، وإن أعلن الفقهاء والعلماء أنهم ، أنهم يمسكون بالكتاب والسنة، فالمشكلة في التفصيلات، والأعمال أصدق من الأقوال:

والنتائج هي ما في البيدر من محصول، لا ما ادعى الفلاح من الصدق والمعرفة والخبرة.

وكل يدعي وصلا لليلى وليلى هل تقر لهم بذاكا؟

وليلى لن تسمح بوصلها إلا لمن يدفع مهرها، ويذود عن عرضها المستباح.



43= ونحن أمام مثلث برمودا: ترد حضاري

و تحد أوربي وأمريكي إمبريالي وثالثة الأثافي استبداد سياسي

أ- إما تفعيل خطاب شروط إسلام الدولة ، أو استمرار الاستسلام لقيصر:

ونحن اليوم في عهد الإمبريالية الغربية نواجه أعنف تحد وأعظمه وأخطره، بحاجة إلى مواصلة بناء صورة سلفية حضارية، بدأها رموز نهضة الإسلام الحديثة، التي أشعل منارها بالمناداة بالإصلاح السياسي:جمال الدين الأفغاني والكواكبي وخير الدين التونسي، وتبلورت بعض مفرداتها في الاتجاه الإخواني، لأن بذور هذا الفكر يمكن أن تنتج ما يقاوم العلمنة ويقاوي الحداثة الغربية ويطاول العولمة.

لا بد من تعميق وتوسيع خطاب السلفية المدنية والحضارية، بعد أن أخفقت جميع السلفيات المحافظة على الصياغة العباسية في مطاولة العلمنة والفرنجة، وأصدرت حروب الخليج شهادة وفاتها. لأنها لم تستطع الخلاص من حبلها السُُري الذي أحكم ارتباطها بتلك الفرق العباسية، ومن أجل ذلك لن تستطيع الأجابة عن أسئلة العلمنة والهيمنة الأجنبية و العولمة، التي تهب بها علينا الرياح الأطلسية.

ولا سبيل إلى إنشاء فكر وفعل يطاول الهيمنة والعولمة والفرنجة والعلمنة ويقاويها ويقاومها اليوم؛ إلا بالعودة إلىالأصول لاستعادة التوازن المفقود بين شطري العقيدة: الروحي والمدني, وبذلك يمكن النظر إلى الشريعة بصفتها (نظاما) مترابط الأحكام ويمكن ضبط فقه مصباح القرآن والسنة، في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة.

من أجل بناء تأسيس معرفي يبدأ صورة وإضحة لـ(نظام) أصول الدين, لأن أصول الفقه القديم, لم يبن على إدراك كاف لعلاقة شطر السمو المدني بالدين. ينبغي البدء بهذا قبل العمل على خطاب تربوي، أو ترويج خطاب وعظ جماهيري.

في الصياغة العباسية للعقيدة خاصة و للثقافة الإسلامية؛ خرجت القيم المدنية وهي شطر الدين، من بؤرة العقيدة إلى هامشها ، وإذا لم تعد القيم المدنية إلى أصول العقيدة، فلن يكون الإسلام مشروعا للتقدم في الدنيا والآخرة معا، للناس جميعا أفرادا وجماعات ومجتمعات ودولاً ولن نكون أمام الإسلام الذي تنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بل سنكون أمام الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة الإسلامية.

ولن يكون ذلك ما لم يدرك أن إقامة مبادئ أمة التمكين العشرة المعتبرة بين الأمم المتحضرة منذ القدم هي شطر هذا الدين،: ولاسيما العدل والحرية والتعددية والتسامح ، والمساواة والكرامة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على السلطة والتعاون على البر والتقوى من خلال تجمعات المدنية ولا سيما الأهلية.

وينبغي أن يدرك المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية متانة العلاقة بين شروط إقامة الأمة بقاءاً وارتقاءاً، بشروط إقامة الصلاة، وأن الشقين معا هما العبادة، وأنه على هذا التوازن، تقوم في الإسلام معادلة الحضارة.

أجل لن يدرك التشريعة إلا من كان عارفا بأن الإسلام شطران: سمو روحي وسمو مدني، وأن السمو المدني هو أساس التمكين، لكي يبدع الناس في الأمور الجوهرية, في السياسة والاقتصاد, وفي النفس والتربية والاجتماع, وفي شتى متطلبات الحياة البشرية.

هذه الخلفية المعرفية والمنهجية ضرورية, لكل من أراد أن يفسر القرآن أو الحديث, أو يستنبط أحكاماً أو أفكاراً, في مجال الاجتماع والسياسة أو العمران والتقنية. أو الفقه الأصغر فقه الفروع الأولويات. بله أن يكتب في الفقه الأكبر (العقيدة) أصول الدين.

من سلفيات الصحوة إلى سلفيات الغفوة في أحضان الإمبريالية:

إذن السلفية ليست مادة صلصالية يكفيها المقلدون كما يشاءون، السلفية جهاد وإصلاح سياسي واقتصادي وحقوقي وتربوي وقضائي وإداري وتعليمي. ولا يمكن لأي عالم ولا طالب علم أن ينكر أن إنكار المنكر السياسي جهاد. وأن هذه مسألة قطعية.لا يمكن لأي عالم ولا طالب علم أن ينكر أن وجوب تغيير المنكر باللسان مسألة قطعية انعقد عليها الإجماع، والخلاف إنما هو في جواز إنكاره باليد؛ عند عدم زواله بالكلام أو عند منع الكلام.

من أجل ذلك نقول إن السلفية أصل وصور متعددة فالأصل هو المصباح في زجاجة التطبيق النبوي والراشدي ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة، والصورة المقياس هي سلفية الراشدين، وهي الأساس، والبواقي ما الصور يمكن الاقتباس منها، والاستئناس بمعالجاتهاأ ولكن لا يصح الانحباس بها،من الصور السلفية صور باهتة وصور مضيئة، وصور غفوة صوفية وصور صحوة جهادية سلمية أو عسكرية، وهي على العموم نوعان:

-سلفيات الغفوة، وهي ديدن كل مشغول بالقضايا الغيبية الاجتهادية، التي لايترتب عليها عمل، وكل من يبرر الاستبداد والظلم أو يمررهما، أوينشغل بالثانوي عن السياسي الأساسي، وكل فكر وفعل غير مسيس، فهو إلى الغفوة أقرب.

-سلفيات الصحوة، وهي منهج كل من وازن بين عمودي فسطاط الإسلام: العدل والصلاة، وما لكل منهما من أروقة وأطناب وأوتاد.

وإن لا فكيف يكون الإنسان اليوم سلفيا وهو لم يكتب ببنان و لم يتكلم بلسان، فضلا عن أن يشارك دعاة الإصلاح السياسي في إصدار بيان، فضلا عن يعتصم ويتظاهر في ميدان، وهو يرى المنكرات الكبرى في الدولة العربية القامعة داخليا، المنقمعة خارجيا، ولا سيما تلك الفواحش العظمى:

وأولها: ترك مشاورة أهل الحل والعقد، أهل الرأي والتدبير في القرارات الكبرى في الدولة. أي الاستبداد بالقرار السياسي والاقتصادي والتربوي والإداري الداخلي، فضلا عن المعاهدات الدولية.

ثانيها:إخلال الحاكم بحرية الرأي والتعبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاجتماع والتجمع، وأده التعددية الفكرية والاجتماعية، وتشريع القمع.

ثالثها: الإخلال بمبدأ العدالة، عندما استبد الحاكم بالإدارة، وقصر مناصب الدولة على أقاربه، ولاسيما عندما ولى غير ذوي العدالة والكفاية.

رابعها:إهدار ثروة الأمة، وتقنين الظلم بقوانين جارية، تزيد الأغنياء غنى، وتزيد الفقراء فقراً.

وخامسها الإخلال بالنموذج التربوي الإسلامي، فأسهم في شيوع الخنا والفساد والمخدرات وتمزق روابط الأسرة.

وسادسها: التبعية للقوى الإمبريالية العظمى،والدوران في مدارها التفريط بمبدأ الاستقلال والسيادة.

ج-لكي لا يكون إحباط السلف العباسي مقياسا سلفيا:

ينبغي أن يتذكر المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة إن السلف الصالح القدوة، هم الصحابة السابقون، الذين أقاموا الحكم الشوري الراشد العادل، ومن بعدهم الصحابة والفقهاء الأمويون، الذين أنكروا المنكرات السلطانية. ومن بعدهم المخضرمون الذين أدركوا الدولتين.

أما الفقهاء الذين عاشوا أزمنة استقرار الحكم (الكسروي) البوليسي أو الدكتاتوري؛ فقد أصاب أغلبهم اليأس والإحباط، وحجب ضباب الرأي العام المقموع سواء الصراط، في فقه السياسة الشرعية. ولم يكونوا مسيسين ليعوا وعيا عمليا المفاهيم الثلاثة:

-طبيعة الدولة ووظيفتها.

-دور الفرد

-وسائل العلاقة بين الأفراد الأشتات والدولة المنظمة.

-الفرق بين مبادئ السياسة الشرعية ووسائل تطبيقها في العهد النبوي والراشدي

فكل منهم معذور وهو إن شاء الله مأجور، ولكن لا يحتج بهم حتى يتأكد أنهم طبقوا القواعد، وإنما أقوالهم شواهد، يستشهد بها إن وافقت النصوص الشرعية الصريحة والتطبيقات النبوية والراشدية. ولا يعتمد عليها.

وإذا لم ينتبه المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة، فسيضربون مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها، بمثل زلات سهل التستري والطحاوي والبربهاري وعبد الله بن أحمد وأصحابه، من من يظنهم بعض الناس صورة دقيقة للسلف العباسي الصالح المسيس؛ وهم لايعرف الناس أركان إسلام الدولة، فضلا عن معالم طريق إقامة الحكم الشوري.

وباسم السلف الصالح، يأتي بعض الناس ليصادر حقوق الإنسان اليوم أيضا. وبمثل هذه الأقوال سكت الفقهاء غير المسيسين عن شروط البيعة الشرعية على الكتاب والسنة، التي مقتضاها: الالتزام بالعدل والشورى. وشغلوا الأمة بالثانويات واتخذوا من فقه الضرورة وسد الذرائع، ما فوت على الأمة كبريات المصالح والمنافع. حتى أوصلونا إلى ما نحن فيه اليوم.

إن الفقهاء الذين يخلون بأصول الدين القطعية في الإمامة الكبرى، كالعدالة والشورى والحرية السامية والتعددية والاحتساب على السلطان، إما خادعون أو مخدوعون أوغافلون أوقانطون.

الصحابة في العهد الراشدي –وهم الوا الصورة النموذجية القدوة-بينوا بتطبيقهم أن العدالة والشورى من أصول الدين، ومن أجل ذلك حارب علي بن أبى طالب، معاوية بن أبي سفيان.

واقتدى بهم الفقهاء الأمويون الذين ظهرت على أيامهم بدع الظلم والاستبداد، لقد أنكروا هذين المنكرين، وإن كان بعضهم قد لجأ إلى السلاح كما ثورة الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير وأهل الحرة، والقراء وكذلك عمر بن عبد العزيز.

خطبهم كانت واضحة، في أن العدالة والشورى من أصول الدين، والفقهاء المخضرمون الذين عاشوا في العصر الأموي وأدركوا مطلع العباسي، كالأوزاعي ومالك وأبي حنيفة والشافعي. كانوا يعبرون بمواقفهم عن أن العدل والشورى من أصول الدين.

الإمامان الأحمدان ابن حنبل وابن تيمية وتلاميذهما كانوا بمواقفهم يقولون: حرية الرأي في الاجتهاد من أصول الدين، والصبر على السجن فيها من الجهاد، والقتل في سبيلها إنما هو استشهاد.

لم يمار في أن العدل والحرية من أصول الدين أحد من أهل السنة والجماعة من بعد الفقهاء الأمويين عنهم، إلا المحبطين والغافلين والذين قالوا كلمات عابرة، في مناسبات خاصة.

والخلاف بين أهل السنة والجماعة في العصر الأموي لم يكن حول كون العدالة والشورى ركنين، و لا أنهما من شروط البيعة. بل كان حول إنكار المنكر باليد والسلاح، هل يجوز أم لا يجوز وهم في ذلك مذهبان:

مذهب الأكثرية الذي سلكه أبو حنيفة ومالك والشافعي، ومذهب جميع دعاة القسط الذين ثاروا على بني العباس، ومحمد بن عبد الوهاب.

ومذهب الأقلية الذي سلكه الإمام أحمد بن حنبل. كما بين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتاب (جواب أهل السنة).



44=لا نجاة للعرب من الاستحواذ الإمبريالي إلا بخطاب الإنقاذ الإسلامي الذي يذكر أن العدل والشورى شرطان للبيعة ليصحح خطاب الرهبان الذي هادن الطغيان

أ-للصور السلفية المحافظة على الصياغة العباسية فضل ولكن

المطالع اليوم كثيرا من الأعمال الفكرية التي ينتجها المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة، يجد كثرة القلقلة قال: الإمام أحمد قال ابن تيمية قال ابن القيم، قال الأشعري قال الغزالي، ويلاحظ كثرة المعلومات المجترة، ويرى أكواما من المتون العتيقة، المليئة بالأحاديث الضعيفة، والأفكار الهشة التجريدية الجافة، والعبارات العويصة، والأسلوب الركيك.

ولم تقدم مدارسهم شيئاً مذكورا، في حلول الأزمات، ما عدا تكرارها أسماء الرموز، كابن تيمية وابن القيم والغزالي، ولكن الأزمة ازدادت اتساعاً. لقد انتسبت إلى الكتاب والسنة قولا, وانتسبت إلى السلف العباسي الصالح فعلا، والسلف العباسي الصالح صالح على المستوى الشخصي، ولكنه عاش في جو ضبابي غير صالح، فلم يكتب لنا من الأفكار الصوالح، إلا بقدر ما سمح له مناخ الحكم الجبري، وما فيه من ضباب كسروي وصحراوي كاسح، ورهباني وتجريدي كسيح.



وسبيل فقه النهضة الإسلامي، هو التركيز على عودة العدل إلى مركزه، كثاني عمادين لفسطاط العقيدة، عودة شطر العقيدة المعطل إلى مكانته أولا، لكي تصلح قيم المجتمع التي خلختها الصياغة العباسية، للثقافة الإسلامية ولكي ندرك أن الإسلام إصلاح روحي ومدني معا.

ولكي تنهض الأمة وتتقدم, لابد من أن تنتج فكراً عملياً فعالاً, لأن الفكر العملي المدرك لأسباب الخلل وعلاجه, وهو الذي يأخذ بيد الأمة, للخروج من أزمتها الحضارية, فنقطة البداية في عملية التغيير الأجدى, إذن هي المفاهيم والأفكار.

وإن لم نفعل ذلك تركنا الأمم الحية تنهشنا وتأكل لحمنا، وترمي أشلاءنا عضوا عضوا، وقبعنا نتبادع ونتكافر، ونتدابر ونتناحر، وكل يدعي أنه من الفرقة الناجية، ولو كنا فرقة ناجية لنجونا من مثلث فرمودا، ولما ابتلعتنا حيتان المحيط الأطلسي.

فالتغريب لم يرتع في بلادنا الإسلامية ولم يلعب؛ إلا لأنه وجد مرعى خصيبا، لا حمى دونه ولا أسوار، إلا عندما علَّمنا فقهاؤنا العباسيون الجدد أن نركز الدين في منظومة الشطر الروحي:التي عمودها الصلاة والدعاء، في عبادات بقيت أشكالها، ولكن أرواحها صعدت إلى بارئها، لأنها لا تنهى عن فحشاء الاستبداد والظلم والتغريب والتبعية والشحاذة، ولا تأمر بمعروف العدل والشورى الجماعية الملزمة والتربية والتنمية والتقنية



أ- فشل في البرامج و المناهج أم في أسس التربية ومفاهيمها؟

الفشل التربوي الذي نعيشه لم يكن فشلا في النشر والترويج والوعظ،فالفكر الذي نشر تحت لافتة السلف الصالح كثير، والمدارس والدروس الدينية كثيرة وافرة، ولكن ضآلة المحصول رغم كثافة وضخامة الجهد المبذول،تدل على أن الفشل في النظريةالتربوية، وأننا بحاجة إلى إعادة بناء نظرية التربية الإسلامية،إننا أمام عجز فكري في التنظير، لا أمام عجز تربوي في التطبيق، وعندما نقول الإسلام هو الحل علينا أن نواجه الفشل الجاثم، من خلال مثل بسيط، كان الرسول صلى الله عليه وسلم، يجعل حفظ القرأن هو أساس اختيار عناصر القيادة، لأن حفظ القرآن كان يلهم سعة عقل وكياسة، ومرونة وحسن إدارة وسياسة، كيف كان القرآن في ذلك العهد ينتج العقل المسيس، وصار اليوم ينتج العقل المدروش؟ فهل مدارسنا ودروسنا الدينية اليوم قادرة على تخريج هذا النموذج المسيس ؟. لماذا لأن التفسير المقرر وطريقة تعليم القرآن الكريم السائدة هي المشكل.

ومن أجل ذلك يتبين مدى الحاجة إلى التأصيل والتأسيس والتجديد

لعلنا اليوم أحوج ما نكون إلى التركيز على تأسيس خطاب ديني للنهضة، قبل الدعوة إليه وترويجه والدعوة إليه،

إن سلفنا( الأموي والعباسي) الصالح-رحمنا الله وإياهم- لم يرسخ لنا أدبيات دينية، في شطر العقيدة المدني، تحتوي الأخلاق العملية والتقنية، القيم المدنية والتقنية، فتنشيء وسطا اجتماعيا، يدرك أن القيم المدنية والتقنية؛ خيوط أساسية في نسيج الإيمان.

من أجل الوصول إلى هذه الغاية؛ ألا ينبغي لنا التنادي للعناية بالقيم المدنية، حفرا ونحتا وتأصيلا وتأسيسا، وتعميقا وترويجا ونشرا ، دون أن نحصر الحفر بإطار اجتهادات السابقين، بل لا بد من التأسيس المتجدد،على مصباح نص الكتاب والسنة، في زجاجة الحقل الحقل النبوي والراشدي، ومشكاة حقائق علوم الإنسان والطبيعة.

نحن اليوم بحاجة إلى بناء فكر اجتماعي ديني أصيل، لن يغنينا كثيرا ما كتب ابن جرير أو ابن كثير في تفسيريهما، لأنه خطاب ديني غير مسيس، فهو يخلخل عقلنا الاجتماعي، متترسا بالدين، بل لن يكفينا ماكتب الغزالي ولا ابن تيمية ولا الشاطبي بل ولا ابن خلدون، فكل هؤلاء رحمنا الله وإياهم؛ لم يطلبوا منا أن نقف على حدود قامات أزمانهم.

ب-تصفية المفاهيم قبل التربية والتعليم:

عندما سيطر الهامش على المتن، ثم تحويل مفاهيم صريح التنزيل المنشطة، إلى مفاهيم مثبطة، فضمر العقل المدني التقني، وضمر العقل الإداري السياسي، فدمرت الزراعة والصناعة، والحرف والتجارة، والعدل والعمران، وهلكت عباد، وهزمت جيوش، واستبيحت بلاد.

وسقطت قبل أمس بغداد تحت سنابك التتار، وسقطت المقدس تحت سنابك الغزو الصليبي، كما انهزم بالأمس الأسطول العثماني، أمام الإفرنج على الرغم من أن السلطان وزع عليه نسخ البخاري، لكي يتبركوا بها، وانهزم الجيش المصري الذي يحارب الإفرنج في شرق أفريقية، رغم أن الخديوي جمع علماء الأزهر، وأمرهم بقراءة صحيح البخاري; من أجل الدعاء والتوسل.

لكي ينتصر جيش الذي لم ينتصر لماذا كل هذا؟ إن السبب هوسقوط العقل السياسي، وسقوط العقل إحدى الثمرات المرة في حقول القمع والجبر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها، إن السفينة لا تجري على اليبس

وسقطت الخلافة الإسلامية، تحت سنابك الجيوش الأوربية، وركل الجنرال الإنجليزي قبر صلاح الدين: هانحن قد عدنا إلى فلسطين، ثم سلم الغربيون اليهود مفاتيح المقدس.

ألا يمكن أن نستنتج من ذلك أن سقوطنا تربوي، وهذا يذكرنا بأولية تصحيح المفاهيم والمصطلحات وتصفيتها، في مصفاة الكتاب والسنة، على تطبيق برامج التربية والتعليم، بإزالة التأويل الذي انحرف بها عن صريح التنزيل وتراكم عليها، عبر مسيرة التراث.في الشروح والتفاسير، والهوامش والحواشي.

وهل يمكن الحفاظ على هوية الأمة، من دون مقاومة هيمنة الإمبريالية والعلمنة، في عصر التقنية والعولمة؟. وهل يمكن مقاومة هيمنة العولمة والإمبريالية من دون سك خطاب نهوض وتقدم؟. وهل يمكن سك خطاب نهوض وتقدم من دون تأسيسه على الإسلام؟.

وهل يمكن التأسيس على الإسلام إلا باكتشاف مفاهيم التقدم التي صرح بها التنزيل، وكانت أساس انطلاق المسلمين الأول؟، وهل يمكن اكتشاف مفاهيم التقدم التي صرح بها التنزيل، إلا بعد تخليص ثقافة الكتاب والسنة الصافية، من ترهات الصلاة خلف الإمام الجائر والصلاة خلفه، والجهاد معه!!! تلك الشروح والحواشي والهوامش التي حاصرت ضوء المصباح ، والتفت عليه.

بل إن مجال "التصفية قبل التربية" أوسع وأعمق،في رأي المحدث ناصرالدين الألباني إنه أولا كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والبدع الناجمة عنها، إنه إذن بتخليص السنة من الضعيف والموضوع، اللذين اعتبرا من صحيح المنقول أولا.

وتصفية شروح التنزيل والسنة، من تحريف التأويل ثانيا، إن طريق فقه النهضة شائك طويل، يحتاج إلى جهود مضاعفة كبرى.

ولكن الأمر في سنن الله الطبيعية والاجتماعية؛ ليس شديد الخفاء، لأن الوضاعين لايستطيعون بما يضعون من أحاديث طمس سنن الله في الطبيعة والاجتماع، ونقد المتن منهج كرسه علماء الحديث الأقدمون، وبقي على علماء الحديث الحداثى، أن تكون لهم خلفية في علوم الاجتماع والطبيعة، قبل أن يدلفوا إلى تصحيح الحديث، وبقي على من يريدون تصحيح التفسير والشروح أن يكون لهم مثل هذه الخلفية المعرفية، لكي ينبذوا عن مصباح التنزيل والسنة، ذلك الضباب الكثيف من التأويل الفاسد والتحريف.

وأفضل وسيلة للجم التأويل والتحريف، هي وضع المصباح في زجاجة وهاجة ومشكاة مصفاة

وعلى كل حال فإن أصحاب التأويل الفاسد؛ قد يجدون نصوصاً يلوون أعناقها بالهوى، ولكنهم لن يستطيعوا لي أعناق حقائق علم الاجتماع السياسي، فضلا عن سائر حقائق المعارف الاجتماعية والكونية، لأنها صلبة من حاول لي أعناقها، داسته بأرجلها.

ج- فكيف تحولت القيم المنشطة إلى مثبطة؟

عندما طال على الناس الأمد قست قلوبهم، فصارت القيم الفرسانية المنشطة قيما رهبانية مثبطة تخدرهم عن العمل والكسب، ولما كانوا يستشهدون بالقرآن من دون مسطرة، انحرفت المفاهيم عن سمتها، كما ينحرف خطمن يكتب على ورق غير مسطر، فاستشهدوا بالنصوص الدينية، على مفاهيم هابطة، فأولوا ولووا نصوص الشريعة عن مقاصدها، في شق العقيدة المدني عموما والسياسي خصوصا.

كشأنهم في مفاهيم أخرى كالصبر والزهد، وتعليم القرآن الكريم والفقه، ضيعوا المفاهيم الحيوية الفعالة، التي قصدها الشارع، عندما حث على تلك القيم، فصارت النصوص المحكمة، أدلة على قيم باردة ساكنة، أو مجزوءة مهشمة .

من اختلال المصطلحات والمفاهيم؛ أن يحول الناس المعنى العادي اللغوي، إلى معنى خاص شرعي، كما عبثوا بمفهوم الجهاد، فتصوروا أن الجهاد مرتبط ببذل الجهد في أمر مشروع عادي، ومنها أيضا أن يحولوا الخاص الشاذ المستثنى من قواعد السنن الكونية والاجتماعية، إلى قاعدة واسعة، انحرف الناس بمفهوم التوكل والكرامة والبركة، فضربوا العقل الذي خاطبه القرآن، عقل التجربة والبرهنة، والربط بين الأسباب والمسببات، والربط بين العلم والعمل، وكأن التدين تصوفا رهبانيا ودروشة.



45=تحديد المشكلة وبوصلة البحث عن الحل

أ-تهميش مبادئ السياسة الشرعية ووسائلها

ظل السلفيون المحافظون على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة ، يرددون ما كتب مدارس الأشعري وابن تيمية أو ابن عبدالوهاب، لا يزيدون على ذلك، يهمشون ويشرحون، أويلخصون وينظمون تلك المسائل.

ويعيدون الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والثقافة، فيجترون أفكاراً غير عملية، فقدت ارتباطها بالحاضر،ويبذلون جهودا كبيرة، ولكن النتائج ضحلة وسلبية

ووهم وفقنا الله وإياهم لا يتنبهون إلى واقعهم، وإلى أن السلفيات خلال العصور الأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية الغابرة. كلها حركات مباركات، ولكنها كواكب سيارة، تدور حول القطب، وليست هي القطب ولا البوصلة، إنما القطب هو مصباح الكتاب والسنة، والبوصلة زجاجة التطيبق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، والكوكب السيار يدور حول مداره، في زمنه أو في دياره، فإذا ظل عن الدوران، أو ظل طريقه أو فقد بريقه،. فإن القطب ماثل، والبوصلة حاضرة، والمجال يتسع لكواكب أخرى، والأصل السلفي إنما هو المصباح والصورة النموذجة العليا إنما هي السلفية الراشدية، وما عداها من الصور ليست بمسطرة لا بمقياس، وإن حسن الاقتباس بها والاستئناس.

لقد وقعت ردة عن سلفية الصحوة الحضارية والسياسية، الذي نادى بحداثة الوسائل الحضارية والسياسية.

فهل كان ذلك لأنه كان استجابة استثنائية, وردود أفعال آنية، لحوادث كبرى كسقوط الخلافة الإسلامية العثمانية?.

فكان فقهاء سلفية الصحوة السياسية ، كالكواكبي والتونسي يزرعون في حقل صحراوي جديب،بخلاف الحقل الإيراني الخصيب، الذي ترجم كتب الكواكبي وأمثاله، ولم يستفد من دعوتهم إلى الدستور إلا الإيرانيون سنة 1905م.?،

ولرسوخ عوائد الأمية السياسية، في المجتمعات العربية لم يؤثر أمثال الكواكبي والتونسي؛ تأثيراً سريعا كبيراً.

لأن التخلف العربي راسخ الجذور، يعاني من تزاوج المرضين في الجينات التربوية: ثنائية العوائد البدوية التي لاتنتج عقلا سياسيا حضاريا، والخطاب الديني المحرف الذي انبرى حارسا مقدسا للاستبداد والتخلف. الذي جسدته تيار الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة.

ولا ريب أن الامبريالية الغربية، التي خططت لفل قوة العرب الذين هم مادة الإسلام، وبؤرة قوته، بزرع دولة للصهاينة، واستراج الحكام العرب إلى إضاعة نفطهم في مغامرات وخلافات، واستدرج السلفيون المحافظون على الصياغة العباسية للعقيدة والثقافة، للانضواء في هذا المشروع، وهم لايدركون، وزادتهم صدارتهم في الفكر السني غفلة، فتضاعفت غفلتهم عن وسائل حداثة السياسة الشرعية، وظلوا يشككون في الدستور،الذي أرغم الأحرار كمدحت باشا الحكام المستبدين كعبد الحميد على إعلانه (1876م)، وظلوا يرددون قول سليمان بن سحمان النجدي:

ويحكم بالدستور بين ظهوركم

مهما يختلف الناس في الأسباب, فإن النتائج واضحة للعيان, هي أن فكر الفقه الحضاري والسياسي لم يتغلغل في الثقافة المجتمعية. فصارت قواعد الملة الكبرى؛ وأبجديات الدولة مجالاً للتشكيك والاختلاف، والقمع بسيف الخطاب الديني المحرف، الذي انبرى حارسا مقدسا للاستبداد والتخلف.



ب-اللبراليون سبقوا للمناداة بآليات العدل والعمران:

فضيلة اللبراليين أنهم جسدوا شطر التمدين من الدين، ولكنهم لم يؤسسوا التمدين على العقيدة الإسلامية، لكي يخلصوا الجماهير من تخدير خطاب المناسك الرهباني، الذي أعاد إنتاجه اليوم المحافظين افي عهد الإمبريالية الغربية، على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة.

وبعضهم اللبراليين اتخذ الفكر الأوربي له مرجعية، فعرض الخصوصية والهوية للتمزق.

لقد ظنوا أن بناء الثقافة والحضارة, مسألة مادية بحتة, كبناء العمارة, لا علاقة لها بالتاريخ, فبناء عمارة في الصين أو في أوربا, أو في العالم العربي أو الإسلامي, متماثل المواد, فلا غنى لبان عن الحديد والإسمنت, والحصباء والعمالة المدربة, والمهندس البارع والمال. وتصوروا أن اختلاف الأماكن إذن, كاختلاف النيات والدوافع, لا يمنع من الالتقاء على النتائج, وفتح الطرق الموصلة إلى الاستقلال الحضاري.

وغاب عنهم أن الحضارة, ليست بناء مادياً فوقيا, بل هي من إفراز القيم والأعراف,الثقافة تجسد عقيدة الأمة وروحها وعبقريتها, وأصالة عبقرية الأمة وروحها, هي في عقيدتها الإسلامية. ولذلك ينبض شكل البناء بروح الأمة، وهو مادي من أحجار وطين, وهو فني وشكل هندسي, , كما نجد ذلك في نماذج البناء القوطي والروماني وغيرهما.

أ-تأخر نضج الفقه السياسي والمدني

نحن مضطرون اليوم عندما نتحدث من الخلل في (نظام) العقيدة، إلى اقتناص الشواهد من التراث, لأن الناس لا يكادون يقبلون فكرة, مهما كانت صحيحة وسليمة وعملية , إلا إذا كان عضدها رأي فقيه قديم معتبر، كالشافعي وابن تيمية والشاطبي وهذه حقيقة اجتماعية لا ينبغي القفز فوق، ولكن على كل حال لا بد لمن نقد نشاز الشعر من أن يدلل على النشاز بعلم العروض، ومهما كانت حاسة وزن الجرس عنده صافية، لا بد لمن نقد ركاكة اللغة، من أن يعول على ما قال عبد القاهر والسكاكي والخطيب، فالذائقة الفنية لا تكفي، من دون التدليل بأصول البلاغة، والاعتضاد بأقوالهم أحيانا.

لا يكفي أن يقول فصيح أن هذه الجملة تنكرها سليقتي اللغوية، بل لا بد من أن يستدل بقاعدة نحوية. وإن كان تطبيق القواعد النحوية أحياناً مضللا، فكم لفظ صح إعرابه عند النحاة، ولم يصح عند المتذوقين كما قال الشاعر:

ولست بنحوي يلوك لسانه ولكن سليقي أقول فأعرب

لكن هذا لو صح في البلاغة والبيان، لما صح في التفسير وشرح الحديث، فضلا عن العقيدة.

فلا بد من سلوك هذا السبيل، لابد من البرهان للاعتماد، و لابد من الشواهد للاعتضاد، وكذلك هو شأن الداعين إلى نهوض على أساس الإسلام ، لا بد لهم من الاستدلال بأقوال الفقهاء والمتقدمين، وإن لا فقد يعدون من المتعلمنين لا المتدينين، وعدوا من المخلين بعقيدة السلف العباسي الصالح، وعلى أقل حال قد يعدون من أهل خطاب الوعظ الحضاري العقلاني، الذين ذمهم أحمد بن حنبل وابن تيمية والغزالي.

وما لم يكن لديهم برهنة على أن السلفيات العباسية، أخلت بنظام العقيدة، فسيعدون من الخارجين على النهج السلفي، ومن هنا ينبغي العودة إلى المتقدمين، ولو كانت الرحلة الشاقة، إذ لا تكاد تعثر في أكوام الرمال المتراكمة، إلا على شذرات متفرقة متناثرة، ولكن لا بد من أن يقف الباحثون عليها، وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه، وعندما يقفون ينبغي أن يتذكروا:

كفى المرء نبلا ان تعد معائبه

لعلهم يدركون أن الأجيال الأولى من الفقهاء شغلها الجمع والتدوين في مجال الحديث، كالبخاري ومسلم وسائر أهل السنة ومنهم احمد بن حنبل في المسند.

وآخرون شغلهم تأصيل أصول الفقه، كالشافعي، وآخرون شغلهم التصدي للفكر الجديد الناتج عن امتزاج الأجناس وتماس الثقافات كأحمد بن حنبل في السؤال الشهير: هل القران مخلوق أم غير مخلوق؟.

ب-لمحات الفقهاء البازغة للاعتضاد والاستشهاد(لا الاعتماد) :

وأغلب الفقهاء المتقدمين لم يثمنوا القيم المدنية ولم تؤكد كتاباتهم على أنها في البؤرة من العقيدة. إنما أدركها العلماء الأحرار والمتنورون ولكن متى ؟ بعد شيخوخة الحضارة، وسقوط بغداد بين يدي التتر، وسقوط المقدس بين يدي الإفرنج وظهور علامات سقوط الأندلس، فالفقهاء الذين عايشوا مرحلة السقوط كانوا أوعى بشروط العمران والحضارة. وهؤلاء إذن جمعوا بين أمور:

-الأول الوعي بكليات و مقاصد الدين.

-الثاني: مشاهدتهم أثر الإغراق في الشق الروحي والغيبي والفردي، وتهميش المدني.

-الثالث: استيعاب الفكر الفقهي القديم.

ومن اجل ذلك يصبح التركيز عليهم أولى وأحرى ومهما نحاول أن نتهرب من ملاحقة السؤال، فإن تقدمنا وتأخرنا مرتبط بالإسلام، وتاريخنا يقول هذا وذاك، فالإسلام حدانا إلى النهوض وصلاح الناس، أفراداً و جماعات مجتمعات ودولاً، فكان صراط مستقيماً إلى سعادة في الدنيا والآخرة.

وجدلية التقدم والتخلف في الدول العربية والإسلامي مرتبطة بالخطاب الإسلامي لسببين:

الأول: أن التخلف غلف برداء ديني، عبر صك قيم الرهبنة والعزلة عن الشئون العامة، وبناء سعادة الآخرة على أنقاض السعادة والكرامة الدنيوية.

-الثاني: أن هذا التخلف إنما هو تحريف للإسلام، وأن حماية التخلف السياسي والاقتصادي والمدني بخطاب ديني أعظم الانحرافات في العقيدة، ونزع قناع الإسلام والسنة والسلفية، عن الروح الصحراوية والكسروية، من أعظم أنواع الجهاد والإجتهاد.

-الثالث: أن لا سبيل أمامنا من أجل شحذ الروح الجماعية، التي يحس فيها كل فرد بتبعته في الشان العام، إلا بالإسلام، وكل المفاهيم التي لا تنبثق من الإسلام إنما هي أشجار اجتثت من فوق الأرض ما لها من فرار.











46= معالم سلفية التوازن والأولويات :

وسقوط الخلافة العثمانية

السعي إلى التذكير بشرطي البيعة:العدل والشورى:



أ- طلائع الصحوة السياسية والحضارية الحديثة:

رواد النهضة الإسلامية السلفيون صوبوا البصر في القمة فرأوا الغرب في الروابي، وخفضوه فوجدوا أهليهم في الحضيض، والاحتكاك بالوسائل الحديثة لتجسيد قاعدة"العدل أساس الحياة"السياسية هو بداية فكر النهضة. بدأ يومض بعد أن اصطدمت الأمة الإسلامية بحملة نابليون، فكانت الحملة منبها حضاريا. كأن الأمة سيارة من طول الرقاد، فرغت (بطاريتها)، فصارت بحاجة إلى قبس قابس، من بطارية سيارة أخرى، فكان دور الغرب منبها من جانب، ومن جانب آخر كان كالجراثيم التي غزت الجسد فحركت كريات الدم بالحيوية والنشاط.

فجاءت مبادرات ونظريات وأفكار ركزت على في الفقه الحضاري والسياسي، عند خير الدين التونسي والكواكبي، والأفغاني ومحمد عبده، ثم الطهطاوي و محمد رشيد رضا وحسن البنا وسيد قطب، ومحمد أسد ومالك بن نبي، والندوي و المودودي والطاهر بن عاشور و علال الفاسي، ومن جايلهم ومن أتى بعدهم، في شتى البيئات العربية والإسلامية.

ألائك الطلائع والرواد تأملوا التحدي الحضاري والسياسي، الذي طرح على ثقافتنا كم من سؤال وإشكال، وحاولوا الإجابة عليها، بينما ظل التيارات السلفية المحافظة على الصياغة العباسية، مكبة على تحقيق التراث، من دون ميز واشتيار، وكأن الترياق هو التحقيق والشرح والتكرار الفكر العباسي.

لم تخل خطوات طلائع الصحوة السياسية من أخطاء كبار وصغار،ولكنها في التفصيلات لا في المنهج والكليات، أي أن منهجها في التركيز على القيم المدنية والفقه السياسي صحيح لا ريب فيه، ولا مناص منه.

وهذه الأخطاء أولا أمر طبيعي، لأنها تمشي في طريق غير لاحب ولا واضح المعالم، ولا سهل التضاريس، وتحاول أن أن تشق طريقا جديدا، والباحثون عن في طريق جديد؛ أكثر أخطاءا من من يسلكون دربا لا حبا سهلا.

ولكن هذا الدرب هو طريق النجاة، مهما كثرت العثرات، وكل محاولة جادة؛ تتطلع إلى الضوء الذي يومض في نهاية النفق، ستفضي بما فيها من خطأ وصواب، إلى تراكم من التجارب فكرا وعملا، ومن خلال هذا التراكم الهرمي؛ ينشق الطريق اللاحب للخروج من النفق.

والذين يصلون إلى الصواب، لن يصلوا إليه بمالهم من فكر توليدي خاص بهم فحسب، بل بما تراكم من تجارب ومحاولات أيضا، ومن خلال صعودهم على أكتاف الأجيال السابقة، يرون ما لم يره المحاولون السابقون.

ب-ملامح التجديد في سلفية الصحوة السياسية والحضارية:

شغل سؤال دولة العدل والشورى، طلائع المفكرين النهوضيين عامة، والإسلاميين خاصة، وبعض السلفيين، فلاحظ تيار سلفية الصحوة السياسية وغيره؛ أن السلفيات المحافظة، على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة حفلت بعيوب كبرى وصغرى، تحد من فاعليتها على مجابهة التحديات المعاصرة.

وتنبه كثير من المصلحين في العصر الحديث، إلى ماران على الدين من بدع ومنكرات، وإلى ما في مناهج تعليمه من ركود وجمود، وإلى أنه ينبغي لنا اليوم أن نجدد الدين، بإعادة صياغة الفكر الإسلامي صياغة جديدة، تراعي شمول الدين وتوازن بين الغيب والشهادة، كما في صياغة سيد قطب وعلي الطنطاوي و الزنداني، وتعود إلى سلطة النص: مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطيبق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة ، وتستلهم منهما العقيدة الصافية البسيطة، الخالية من الغموض والتعقيد والتبعيض.

وقد لقيت محاولات سلفية الصحوة السياسية رفضا من التيار السلفي المحافظ على الصياغة العباسية في العقيدة والثقافة، فجوبه السلفيون السياسيون بتبديع وتكفير كثير، نال أمثال الغزالي وسيد قطب والقرضاوي.

وسلفية الصحوة السياسية ترى أن الإصلاح الأكثر إلحاحا اليوم هو الذي يركز على الشطر المدني من العقيدة الذي عموده العدل، فيعنى بتجديد وسائل تنفيذ مبادئ السياسة الشرعية، وشروط إسلام الدولة المسلمة العشرة: كالعدالة والشورى، والأمر بالمعروف والتعاون على البر والتقوى، ووحدة الأمة، والجهاد السياسي السلمي،أمام طغيان الحاكم، وحصر الجهاد العسكري، بدفع عدوان الخارج. بصفتها من أركان الدين.

وقد ركز عديد من الرواد قولا وعملا، على في هذه الأركان، كسيد قطب، ولكن لا زل المجال بحاجة إلى مزيد من التركيز تنظيرا وتطبيقا، ولا سيما على قيم المجتمع المدني وتجمعاته الأهلية،وقولة كلمة العدل-من خلال آلياتها- أمام كل سلطان جائر، وتكتلاتها، باعتبارها جهادا مدنيا مقدسا.

وسبيل ذلك التزاوج بين الفكر والعمل: بفكر تنويري،يبين للناس أن العدل عديل الصلاة:إنه اجتهاد جديد، وأن شروطه كشروط الصلاة، وعمل تربوي تدرجي،يتسم بالجرأة والإقدام والتضحية: إنه جهاد يواكب ذلك الاجتهاد, وأن لا سبيل لإصلاح الأوضاع إلا بتواصل الإقدام على العمل السلمي الجمعي الوثاب، بمثل ذلك تزرع ثقافة المجتمع المدني، وتجمعاته الأهلية، في الصحراء العربية.

و سلفية الصحوة السياسية، تدعو إلى النهوض العام الشامل، والاستفادة من أفضل ما أنتجه العقل العباسي الإسلامي الماضي وفهم الدين فهما شاملا من خلال مقولة الشاطبي: الشريعة نظام، فليست إلغاءاً للتراث العباسي.

ولكنها دعوة أولا إلى ترك الاعتماد عليه، وحصر الاعتماد بسلطة النص: مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطيبق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة.

لكنها دعوة إلى الاستشهاد به والاعتضاد، بماوافق المقياس من مقولات ومواقف، وذلك لا يتيس إلا تمحيصه وتصحيحه، واشتيار ما وافق المقياس، كفكرة الشاطبي: الشريعة نظام كالجسد، وفكرة الشافعي: لا يتصور جزئيات الشريعة إلا من عرف الكليات.

ج- لماذا خفت صوت الصحوة السلفية السياسية:

عندما نتأمل جهود رواد النهضة الأوائل, كالأفغاني ومحمد عبده والكواكبي, ومحمد رشيد رضا, نجدها أعمق وأوعى, وأكثر إدراكا لأساليب النهوض، وأكثر قدرة على ربطها بثوابت الدين ومقاصده العظمى.

ولكن التيارات السلفية المحافظة، على الصياغة العباسية التي توهمت أن تلك الصياغة العباسية للفكر الإسلامي صالحة لإنتاج نهضة, فعادت جذعة لتدرس المتون العباسية في الجامعات, وعندما أقلقها سؤال التجديد, اجتهدت-في حدود ثقافتها-فأعادت إنتاج الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة العباسي, بكتب جديدة أسماء مؤلفيها، زاهية الترتيب وطرق البحث, محملة هوامشها بمئات المراجع، ولكن الروح هباسية، فأعادت إنتاج الخلايا الميتة والساكنة في الفكر العباسي, بتقنيات حديثة, فصارت آلات الحداثة الشكلية، وسائل مغرية لترسيخ الخطاب الديني المحرف الذي انبرى حارسا مقدسا للاستبداد والتخلف.



47=يقظة الصحوة السلفية السياسية

بعد كوارث الخليج:دعوة الدستور ر والمجتمع المدني الإسلامي (نموذجا)

أ- سلفية الصحوة السياسية تهب مرة أخرى بعد كوارث الخليج:

عند تخلخل نموذج الحكم الصحراوي الكسروي القمعي، في حرب الخليج الثانية(1411هـ/ 1991م)، سقطت أقنعة الدولة العربية، سواءا أكانت إسلامية أم قومية، وتبين إفاقها في التربية والتنمية والتقنية. وانكشفت أستار فكر السلفيات المحافظة سياسيا ومدنيا واهتز الباب الموارب، فلم يعد أحد ينخدع بفكر المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية، على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة، التي ظلت تنادي بالصبر على جور سلالات الحجاج، ما أقام الصلاة،خوفا من أن يغلق الحجاج أبواب المساجد.

فإما أن تنجح السلفية المتوازنة،التي تركز على الفقه السياسي، وتعيد أركان إسلام الدولة والمجتمع العشرة إلى الواجهة، في الانتشار، وإما أن ينفتح الباب الموارب على مصراعيه، لمزيد من العلمنة والإمبريالية والفواحش في أسواق العولمة.

لقد أغفل كثير من الناس ارتباط السلفية بالإصلاح السياسي، وصار تذكيرهم بأن الصحوة السياسية أصل سلفي بدعة، لأن السلفيات المتأخرة، همشت شروط الدولة المسلمة، ولا سيما العدل الحرية. هذا ما اكتشفه- بعد غيبة طويلة حاكم المطيري الأمين العام للجمعية السلفية، الذي استوعب كوارث الخليج وتبعة فقهائه الغافلين، فأصدر كتابا بيانا سلفيا، ضد الصور السلفية الباهتة، بعنوان:الحرية أو الطوفان. صدر 1425هـ (2004م)).

طارحا السؤال على السلفيات الركدة: "كيف بدأ الإسلام دينا يدعو إلى تحرير الإنسان من العبودية والخضوع لغير الله عز وجل إلى دين يوجب على إتباعه الخضوع للرؤساء والعلماء مهما انحرفوا وبدلوا، بدعوى طاعة ولي الأمر؟" (الحرية أو الطوفان:7 )

"كيف اختزل مفهوم الشريعة لتصبح السياسة الشرعية وحقوق الإنسان والحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة، لا علاقة لها بالشريعة" (الحرية أو الطوفان:7).

لقد أسعدنا أنا وزملائي؛ ونحن في السجن على ذمة المطالبة بالنظام الدستوري الإسلامي، 1425هـ (2004م)). عندما قرأنا صوتا سلفيا، يثمن العدل والحرية، فيجلو عن السلفية غبار الأمكنة والأزمنة المختلة.

أسعدنا أن يكتشف السلفيون المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية إن الإصلاح سياسي المدني شقيق الإصلاح الروحي.

وأن يتذكروا أن السلفيات التي لم تثمن أركان الدولة الإسلامية العشرة، بعد العصر الأموي ، إنما هي صور سلفية مقيسة، وليست هي المقياس، يعتذر لها ولا يعتذر بها، لأنها عانت من المصادرة السياسية والحصار، وضمرت في جو الخوف والاضطرار، في أغلب ما سجلته من أفكار.

أن يكتشف السلفيون المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة؛

أن العدل والحرية من أصول الدين.

وعسى أن لا يكون هذا الصوت المتأخرسحابة صيف عابرة، تحرقها حرارة الصحراء وعواصفها، فيرتد الناس كرة أخرى إلى السلفيات العباسية، التي وضعت أركان إسلام الدولة، في إبط أركان إسلام الأفراد، وأركان الإيمان بالشهادة، هامشا لأركان الإيمان بالغيب.

ب-إما الإمبريالية أو سلفية تقدس العدل كما تقدس الصلاة

ألسنا اليوم أحوج ما نكون إلي سلفية الصحوة السياسية ، بعد أكثر من مائة عام عن سقوط الخلافة العثمانية، إن الأحداث في الخليج منذ عام 1411هـ (1990م). برهنت على أن المشكلة الكبرى في العرب هي الاستبداد وأن الاستبداد هو الذي شلهم عن حل مشكلاتهم في إطار جامعة الدول العربية، من أجل ذلك تفردت بهم الدول الكبرى، عندما تفردت الحكومات بشعوبها.

من أجل ذلك نقول: إن الفقهاء المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة، الذين يمشون في ضباب نظرية (ولي الأمر العباسي)، التي تجعل الحاكم قطبا تدور الأمة حوله كالأغنام حول الراعي، إنما يحمون التخلف السياسي بخطاب ديني، ويحرفون الكلم عن مواضعه، وإن كانوا لا يشعرون.

وإنهم يفتحون الباب الموارب لرياح العلمنة والفرنجة والتغريب والعولمة والهيمنة الأطلسية، كما فتحه فقهاء الدولة العثمانية الغافلون من قبل.

ومن أجل ذلك ينبغي اليوم أن يتداعى اعيان الأمة في كافة أقطارها، وينادوا بدولة العدل والشورى، ويذكروا الحاكم أيا كان وصفه ملك مملكة أو رئيس جمهورية، بأن البيعة الشرعية إنماهي على الكتاب والسنة، وإنما مضمونها:شرطان: العدل والشورى، فمن أخل بهما وجب على الناس كافة، خفافا وثقالا، نساءا ورجالا؛ جهاده سلما، عبر البيانات والمقولات والمواقف، والتجمعات، والاعتصامات والتظاهرات والإضراب والعصيان المدني.

إنهم –بلسان الحال أو المقال- يقولون لهؤلاء الذين هدموا السلفيات الراشدية الصافية والسلفية الأموية المجاهدة، وطمسوا معالمها الراسخة، بزلات السلف العباسي الصالح:

إن لم تضعوا العدل وشروطه عديلا للصلاة، فلكم سلفيتكم العباسية ولنا سلفيتنا الراشدية وشاهدها السلفية الأموية، وما احتذاها من حركات، وازنت بين إقام العدل وإقام الصلاة، ونحن وإياكم كما قال الشنفرى:

أقيموا بني أمي صدور مطيكم، * فإني إلى قوم سواكم لأميل

فقد حمت الحاجات والليل مقمر، * وشدت لطيات مطايا وأرحل



ج-نحو مدرسة سلفية توازن بين عمودي الفسطاط العدل والصلاة وتزيل ماران على العقيدة السلفية من غبار الفرعنة والرهبنة والصحراء:

ومن أجل ذلك فإن من المعين على السير في طريق دول العدل والشورى، أن يتبلور اليوم تيار سلفي، يوازن بين شق العقيدة المدني والروحي، ويراعي الأولويات ومعالجة الأخطاء الشائعة، في ذلك عدة فوائد: إ

1-تحرير مصطلح السلفية من اللبس والاحتكار وتنقيته، من ما ران عليه من غبار الصحراء والفرعنة والرهبنة، وبيان أن السلفية، ليست مذهبا عباسيا منغلقا، إنما هي أصل وبوصلة وصور فالأصل هو سلطة النص: مصباح الكتاب والسنة، في زجاجة التطيبق النبوي والراشدي، ومشكاة سنن الله في الإنسان والطبيعة، وهو عند التفصيل ثلاثة أشياء:

أ-مرجعية مدونات السنة، عند علماء الحديث كالبخاري ومسلم.

ب-منهج في فقه الكتاب والسنة، عبده الشافعي ومن بعدة.

ج-أصول أجمع عليها سلف الأمة في الفكر والعمل روحيا ومدني، عبدها مالك في الموطأ ومن بعده.

والصورة النموذجية المحتذاة والمقياس هي العهد النبوي والراشدي.

والصور المحتذية هي السلفيات بعد عهد الراشدين، كالسلفية الأموية والسلفيات العباسية والحركة الوهابية

وهي حركات إصلاح وتجديد، وكل سلفية تثبت ماهو معلوم من الدين بالضرورة،وهي الأصول الثلاثة، التي أجمع عليه سلف الأمة، وتجدد في تفصيلات يقتضيها المقام، وقد تجدد في وسائل ترى أنه لا يمكن إصلاح الأحوال من دونها، كسلفية الفقهاء الأمويين في مقاومة إخلال الحكام الأمويين بشروط البيعة، وسلفية الفقهاء والمحدثين، في مقاومة الزندقة والفكر اليوناني السفسطي،كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمدج بن حنبل.

وقد تكون جهادا فكريا كسلفية الغزالي وابن تيمية، في نقض الفكر السفسطي اليوناني.

وقد تكون جهادا عسكريا،كسلفية محمد بن عبد الوهاب، في تحقيق شقي التوحيد روحيا ومدنيا، وقد تكون جهادا سياسيا سلميا، كحركة الإخوان المسلمين في مصر.

ولكن لا هؤلاء ولا أولئك يحددون مفهوم السلفية، أن أولئك مجددون مصلحون، فكروا لأزمنتهم وأمكنتهم، وفق مالديهم من معطيات وتحديات، وهم مهما حاولوا الخلاص من الخطأ فلن ينالوا مالم ينله الأنبياء، ومن أجل ذلك يعتضد ويستشهد بماعملوا وقالوا، ولكن لا يعتمد إلا على ماصرح به الكتاب والسنة، وطبقه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينظر مدى النجاح في مسارهم، فالحركة التي لا تنجح، لا ينبغي الوقف عندها حتى لو صحت، لأن العبرة ليست بالأفكار الصحيحة فحسب، بل أيضا بالأفكار الصالحة للحياة.فهناك فرق بين دور المصلحين ودور الأنبياء، بيناه في مقالات أخرى.

تصحيح مفهوم الإسلامية عموما والسلفية خصوصا، بأنها كل جهد وجهاد روحي أو مدني، ينفع الأمة، تجسيد هذه الوحدة بين الروحي والمدني، لكي لايكون الإصلاح مفرغا من القيم الروحية، ولا تكون الدعوات الروحية مفرغة من المدنية.

ومن المهم أن يتذكر المحافظين اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة أن السلفية ليست إصلاحا روحيا فحسب، وأن التوحيد قسمان: روحي ومدني، وبيان أن من لم يجعل الإصلاح السياسي من أركان الدين، فقد ابتدع بدعة كبرى في الإسلام، فلاعلاقة له إذن بمنهج أهل السنة والجماعة، ولا بالسلف الصالح العباسي والمملوكي، وما فيه من علماء ومحتسبين وأمراء كالأطروشي، فضلا عن السلف الأموي الصالح، من أمراء كعبد الله بن الزبير، وعمر ابن عبد العزيز، وعلماء كالحسن البصري، فضلا عن السلف الراشدي، وما فيه من علماء وأمراء ومحتسبين لا من قريب ولا من بعيد.

2- ضبط مفهوم الإصلاح السياسي الإسلامي، لكي لا ينحرف عن مداره، ولكي يعرف الناس ولا سيما غير المطلعين على العقيدة، أن مبادئ السياسة العشرة، المعروفة في كل أمة متحضرة؛من أصول العقيدة المعتبرة.

ولكي يحترس الناس من انحرافات الفرق العباسية، التي تحكم الهوى وتسميه العقل، وتؤول النصوص الشرعية الصريحة.

ولكي يحترسوا من انحرافات دعوة الدستور العلماني، التي لاتعطي القيم الأخلاقية حق قدرها، تنبيه دعاة الإصلاح السياسي.



48=السلفية الوسطى

أ-مقياس السلفية الوسطى الأساسي: العدل عديل الصلاة :

السلفية الوسطى هي كل تيار يوازن بين بين شقي العقيدة الروحي والمدني، فمن المهم اليوم أن يدرك الناس، مدى قصور كل حركة فكرية أو اجتماعية، لاتركز على أن العدل عديل الصلاة، فلا تهتم بشروط الحكم العادل ووسائل وضمانات تطبيقه ، كما تهتم بشروط الصلاة، فتقمع الحرية وتشيع التناحر والتنابذ بين أهل القبلة، وتهمل التسامح والتعايش والتعاون، وتهمش العدل والشورى، ولا تهتم بثلاثية الاستقامة: الهوية والأخلاق والتربية، أو ثلاثية الكرامة: الحرية والتنمية والتقنية.

وأن تلك الحركات والدعوات والاتجاهات، التي لاتثمن العدل وشروطه، إنما هي صور سلفية تحتذي صورا سلفية عباسية ومملوكية وعثمانية، عاشت في جو القهر السياسي، وأنه لا علاقتة له بالسلف الصالح الراشدي ، ولا الأموي من بعدهم، كعبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز، والفقهاء الأمويين الذين قاموا بالثورات السبع، من أجل العدل، ولا بالفقهاء المخضرمين الثلاثة: أبو حنيفة ومالك والشافعي.

و ينبغي أن يتذكر المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة؛أن من يرفض التعددية، وينظر أو يطبق لدولة مذهبية، مخطئ خطأ كبيرا، وهو إن شاء الله معذور مأجور باجتهاده، ولكن لا يحتج بعمله على الإسلام.

وأن يتذكروا أن من خالف علي بن أبي طالب وأحمد بن حنبل والمحدثين كالبخاري، فكفر فرقا إسلامية كالشيعة الإمامية والخوارج والزيدية، فإنه غافل ينبغي إرشاده، ولا عبرة بمقاله، حتى لو استشهد بعالم عباسي، فأقوال العلماء إنماهي للاستشهاد والاعتتضاد، أما الاعتماد فإنماهو على ماصرح به الكتاب والسنة، وطبقه علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير وعمر بن عبد العزيز.وقد شرحنا في مقالة أخرى، أن بدع الخوارج فظيعة عظمى، ورغم ذلك لم يكفرهم علي بن أبي طالب.

وينبغي أن يتذكر المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة؛ أن كل المسائل الغيبية، التى اختلف حولها تلاميذ أحمد بن حنبل، وانقسموا على أثرها، ليست أساسية، ولا ينبغي الخوض في العقيدة، في مالم يخض فيه سلف الصحابة الراشدي، كما نبه الشوكاني والذهبي، وفعل ابن عبد البر والشاطبي، وكلا الفريقين من أهل السنة والجماعة،ومن السلف الصالح، ولا ينبغي لدعاة السلفية المتوازنة، أن يخوضوا في ما خاضت فيه الفرق العباسية، في التركيز على قضايا غيبية ظنية اجتهادية ثانوية، فالمشكل الأكبر اليوم، هو شروط والعدل وضماناته.

وينبغي أن يتذكروا أن السلطة والسيادة للأمة، في حفظ الشريعة، وأن الله لم يفوض الفقهاء ولا اللأمراء، في حفظ الشريعة، إنما فوض الأمة، وأنه مبدأ إسلامي صريح.

أن يتذكروا أن القول بتطبيق الشريعة، من دون دستور إسلامي، يضمن العدل والشورى؛ إنما هو غفلة أو تغافل، عن الوسائل الشرعية، التي هي فرائض شرعية، مادام لا يمكن تحقيق المبادئ من دونه.

وينبغي أن يتذكروا أنه يجب على أولي الأمر من أهل الرأي والمكانة والقدرة في الأمة،من فقهاء ومفكرين وأساتذة جامعات، ومثقفين مهتمين بالشأن العام، بل وعلى جميع الناس كافة، من خاصة وعامة، مطالبة أي حاكم بالتزام شروط البيعة الشرعية على الكتاب والسنة، وهي العدل والشورى، وما يدخل في إطارهما من حرية وعدل وتعددية وتعايش وتسامح وشورى.

ب-التوسط في التكفير بين التزمت والانفلات،

وينبغي أن يتذكر المحافظون اليوم في عهد الإمبريالية الغربية؛ على الصياغة العباسية للعقيدة والتربية والسياسة والثقافة؛أن كل من شهد أن لاإله إلا الله، وصلى وصام وزكى وحج، وأحل الحلال وحرم الحرام، الذي صرحت به الشريعة، واتجه إلى القبلة، فإنه من أهل القبلة، وإن كانت في أفكاره انحرافات ناتجة عن تأويل فاسد، لا عن رفض لمرجعية القرآن والسنة، وإن كانت في أعماله وسلوكه معاص كبرى.

ج-الدعوة للدستور الإسلامي بصفته ضامنا لشرطي البيعة على الكتاب والسنة:

الدعوة إلى الدستور الإسلامي، في دعوة إلى تطبيق وسيلة شرعية، لتحقيق شق العقيدة السياسي،وإقامة من أصول العقيدة الإسلامية، إلى دولة العدل والشورى من أي إنسان صدرت، حتى وإن كان عند الناس هذا الشخص يوصف باللبرالية أو القومية أو اليسارية أو العلمانية، لأنه أنفع للأمة من عابد يواصل قيام الليل بصيام النهار.

لأن هذا المتبتل اقتصر على خويصة نفسه، وذاك المهتم بصالح الأمة نفع الأمة، وجرى على المقاصد الشرعية الأصلية، كما بين الشاطبي في الموافقات، والعمل على المقاصد الأصلية للملة شدد الشارع في طلبه، ولا يشطب مشروعية عمله، أن ينادي بذلك حمية أو وطنية، أو رغبة في تحقيق الذات، أو ضعف إخلاصه النية، أو عدمه، أو وجود بعض المآخذ في سلوكه أو أفكاره أو مذهبه.

وإن كان الأفضل في العمل على المقاصد الأصلية للملة، أن يستحضر الساعي الاحتساب وإخلاص النية، لأن الجهاد السلمي الطغيان اللداخلي جهاد كبير، مشروع فيه طلب الاستشهاد، وهو توأم الجهاد الحربي للعدوان الخارجي.

ولما كان العدل هو سور الملة، الذي يحفظ الهوية والتربية والتنمية والتقنية،صارالأقرب إلى السلفية من يولي العدل مكانته، لأنه هو الأنفع للأمة.

ولذلك فإن من يدعو إلى الدستور الإسلامي؛ سلطة الأمة، والتعددية والتسامح والعدل ودولة المواطنة، ويطالب باستقلال القضاء وبمجلس للنواب، وبالفصل بين السلطات،أيا كان دافعه واتجاهه ونيته؛ قائم بالعدل، الذي هو عديل الصلاة، أقرب إلى السلفية ، من داعية الدولة البوليسية والقمعية والمذهبية، الذي لا يؤمن بسلطة الأمة، ويقمع التعددية، ويقول:ولي الأمر أدرى بالمصلحة، ويقول: القاضي وكيل عن الأمير،فهذا سلفي وفق صيغة عباسية مملوكية للعقيدة والسياسة، وذاك وفق صيغة سلفية، تؤمن أن إقامة الحكم الشوري قرينة إقامة الصلاة.

ومادامت مبادئ العدل والشورى والحرية والتعايش والتعددية والمساواة، من أصول الإسلام، فكل من يعمل في طريق إقامتها، إسلامي حتى لو لم يشعر بذلك، حتى لو نبزه الناس بألقاب وصفات سلبية، ومن نبذها من المسلمين فهو غير إسلامي، إنما هو كسروي أو رهباني أو صحراوي، لأنه آثر هوى الحجاج وكسرى وقيصر، على هدى محمد صلى الله عليه وسلم.





د-الجهاد السلميأمام الكفر السياسي البواح وسط بين حمل السلاح والصبر على جور السلطان:

الجهاد السلمي: المعنيون بقضية المجتمع المدني،يوافقون عموم الفقهاء الأمويين ومن نصر مذهبهم من العباسيين، في وجوب إلزام الحاكم شرطي البيعة:العدل والشورى، وعلى أن المقصود بالكفر البواح الذي يشرع فيه حمل السلاح؛ هو الإخلال بأركان إسلام الدولة.

ولكنهم يرون أن الخروج بالسلاح غير مضمون النتائج، ولا مأمون العواقب، لأسباب عديدة أهمها:

اولا: كل انقلاب من دون رأي عام، يحفظ الحكم الشوري، يتحول خلال مالا يزيد عن ثلاثة أجيال إلى استبداد وفساد.

ثانيا: فالمشكلة إنما هي في الجماهير، الستسلمة لجلاديها التي لاتتجمع ولاتتعاون على البر والتقوى، ولا سيما في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عموما والمنكرات السياسية خصوصا.

ثالثا: مخاطر الانقلاب، على الأمم والأوطان، فالسلاح عندما يتحكم في الناس، قد يؤدي إلى الفوضى والحروب الأهلية، وتدخلات الدول الأجنبية.

رابعا: في عصر الإعلام المفتوح وقنوات الاتصال، وشيوع الثقافة السياسية وحقوق الإنسان؛ حقق الحركات المدنية وحركات حقوق الإنسان نجاحا كبيرا، في أكثر بلدان العالم.

و من أجل ذلك صار عليه المعول اليوم، -لدى حركات الجهاد السياسي السلمي الحديثة، التي تنشط للأمر بالمعروف الاجتماعي والسياسي،عبر تجمعات المجتمع المدني الأهلية، و آلياتها كالاعتصامات والمظاهرات والبيانات والإضرابات، و هو أسلوب جربته الأمم الحديثة فوجدته أحمد عقبى.

خامسا: الوصول إلى الحكم الشوري لايكفي من دون رأي عام متسيس يحميه، فالخلافة الراشدة لم تنهزم أمام كسرى ولا قيصر، بل أصابها الداء من داخلها،بل هدتها النخب غير المتسيسة وأتباعها، من صحابة وتابعين.

سادسا: لانقول لحملة السلاح على طغيان الدولة: إن سبيلكم غير صحيح في مصباح الشريعة، ولا غير ناجح في سنن الله في الإنسان والطبيعة، ولكن نقول إن التعويل على التكتل السلمي، أضمن وأجدى وأعمق وأبقى وإن تأخرت النتائج.

سابعا: ولكن ذلك لن يستقر في الثقافة والعقيدة والتربية؛ إلا بإعادة العدل إلى مركزه في منظومة العقيدة، وإنشاء خطاب ديني يحل محل الخطاب الديني المحرف، المترهبن الذي مرر و برر الفرعنة، وأفسد ثقافة المساجد والجوامع والمجالس والمعاهد والجامعات والمجامع.

ثامنا: في قاعدة الجهاد السلمي خروج من جميع الخلافات، التي يضطر فيها القائلون بحمل السلاح إلى إزالة الإشكال أو الترجيح أو التأويل، كحديث قالوا"افلا نقاتلهم؟ قال-صلى الله عليه وسلم-:لا ما أقاموا فيكم الصلاة"، وكحديث "أفلا نقاتلهم فقال -صلى الله عليه وسلم-: لا، إلا أن تروا كفرا بواحا".

تاسعا: وفي ذلك تفعيل لقاعدة في الأمر بالمعروفات والنهي عن المنكرات السياسية شبه منسية، صرحت بها جملة من الأحاديث الصحيحة، وهي "خير الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر"، و"سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه، فقتله"، و"باسم الله رب الغلام".

عاشرا: في عصر الإعلام المفتوح، وعصر حقوق الإنسان، أثبت العمل السلمي جدواه، في أغلب البلدان(انظر تفصيلها في كتيب مناهج الإصلاح الثلاثة/الدار العربية للعلوم/بيروت 1426هـ(2005م).



هـ-الدخول في الدولة بدلا من الخروج عليها أوالاستلاب:

بيان أن الأسلوب السلمي المتدرج في المطالبة، بالدستور الإسلامي هو الأصل في الإسلام، وهو المضمون النجاح على المدى الطويل، ومن أجل ذلك أكد الإسلام أن الكلمة أقوى من الرصاصة، وأنه يجب على كافة أفراد الأمة، ان يجاهدوا سلما في سبيل إقامة معالم العدل والشورى، كل سلطان سياسي أو إداري أو قضائي أو اجتماعي جائر،ومشروعية التعرض للأذى، في النفس والعرض والمال، وأن ذلك في أعلى درجات الاحتساب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن له كل أحكام الجهاد العسكري، كما بين الحديث الصحيح"أعظم الجهاد كلمة عدل أمام سلطان جائر"، وأن طلب الشهادة في هذا الجهاد مشروع، وأن من يقتل ينال أعلى منازل ودرجات الشهداء، كما صرح الحديث الصحيح"خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
محمد بن صالح البجادي غير متصل  


قديم(ـة) 18-08-2007, 08:39 PM   #2
الصباخ
هوية صامتة
 
صورة الصباخ الرمزية
 
تاريخ التسجيل: May 2003
البلد: Buraydah City
المشاركات: 12,458
والله ياهو طويل مرة ..

الحين من اللي يبي يقراه .!
__________________

الصباخ | Buraydah City

الصباخ غير متصل  
قديم(ـة) 19-08-2007, 12:48 AM   #3
الناقد1
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Apr 2007
المشاركات: 410
ياليت محمد بن صالح البجادي
يعبر لنا عن ما يتوافق مع فكره ، وما يرده من قول من نقل عنه
على الأقل لأن الموضوع طويل ويستحيل نقاشه بشكل كامل دون إيراد نقاط قد ينطلق منها حوار بناء

دمت بخير
__________________
فـاطر السـماوات والأرض أنت وليي في الـدنيا والآخـرة تـوفـني مـسـلـماً وألـحـقـنـي بـالـصـالـحـيـن
الناقد1 غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 07:42 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)