كان في القديم نزق في عدم التفريق بين الفكرة وبين صاحبها , فترى الناقد ينتقد الفكرة وينتقد صاحبها معها بلا مواربة , فإذا كانت الفكرة خسيسة أصبح لزامًا أن يكون صاحبها كذلك , فكان الفلاسفة القدماء من أمثال الرازي وابن طفيل وابن رشد وغيرهم يحثون أتباعهم على محاربة مخالفيهم , ولم يكن علماء الدين بأقل حظًّا من ذلك , فإننا نعلم أن جلّ مؤلفات ابن تيمية وغيره عبارة عن ردود , حتى لنرى عبد الكريم الحميد وهو معاصر ينتقد الفكرة وصاحبها , وربما وصل الحال به إلى التكفير كما فعل مع محسن العواجي ومحمد آل الشيخ في كتاب مطبوع .
اليوم , وفي عصرنا هذا , نجد أن كثيرًا من القراء وكذا النقاد لا يختلفون عن سابقيهم , فهو ينقدون الفكرة وصاحبها , بينما نجد في الغرب الجدال العميق , وحين ينفض المجلس نجدهم يتصافحون كما يتصافح لاعبو الكرة في ملاعبهم الرياضية .
مكيل الشتائم عاجز , والقارئ الذي تعجبه تلك الشتائم أعجز , فقد بدأ العصر الحديث يلتفت إلى صاحب الحجة , ولا يلتفت إلى الذي يمط شفتيه , ويخرج لسانه بكلام لا يقوله إلا فاقد للوعي .
ظاهرة التنازع والتدافع سنة كونية بين البشر , وهي التي تدفع المجتمع نحو الكمال , فتردع الظالم , وتحسن إلى العادل , والمجتمع الذي فيه معارضة صالحة , تكون فيه حكومة صالحة كذلك , حيث تردع تلك المعارضة الحكومة كيما لا تظلم ولا تجور .
آن للناقد اليوم أن ينقد بموضوعية , وأن يجرد نفسه من العوامل النفسية والاجتماعية ما شاء له أن يجردها , والحق يقال : فإنه من العسير جدًّا التخلي عن العاطفة والهوى , ولكن تجاهد النفس مجاهدة , حينها يجب التقديم بقولنا : لعل , أغلب الظن , والمظنون , أكاد أعتقد . . .
تحياتنا .