قلما رأيت متخصصًا في الأدب العربي لا يميل إلى أفكار يراها كثير من الناس تقبع في حوض الشذوذ , بل قد يصمهم بعض المتلقين برهافة الدين – أي دين يعتنقونه - , فلو تأمل المتأمل في حالهم لوجدهم على تلك الهيئة إلا من رحم الله .
حين نعود إلى الوراء نجد الدكتور طه حسين الملقب بعميد الأدب العربي عند أغلب النقاد قد حفل تأريخه الأدبي بشواذ الأفكار , فنرى قضية انتحال الشعر الجاهلي , ونرى فلتات أدبية بحثية من مثل نسب المتنبي على غرار ما حكاه محمود شاكر , ومن مثل حقيقة النبي إبراهيم – عليه السلام - , ومثلها حقيقة وجود حاتم الطائي .
ولن أتحدث عن عمرو بن بحر الملقب بالجاحظ ذاك الأديب العباسي الذي له رأي في أن الشك مبدأ اليقين كما حكاه في كتابه الحيوان , الذي عرف بمذهب الشك على يد كارت , وعن قوله في أن الله لا يعاقب من لم يؤمن جهلاً وإنما يعاقب غير المؤمن العالم .
والمقام يطول بنا لو رجعنا إلى ما يقوله ابن قتيبة الدينوري وابن فارس , بل يكاد يفوقهم ابن خلدون ذاك الأديب الشاعر في علمه الاجتماعي في شطحاته , والذي قد يهنأ لبعض المتأخرين بأن يناديه بالفقيه , ولو قمنا برصد هاتيك الشذوذات لكدنا أن نجمعها بين دفتين قد تظاهي أقل كتاب تفسير للقرآن من حيث الكم !
تأمل – عزيزي القارئ – ما تناوله متخصصو الأدب العربي حول قضية الحداثة مثلاً , وكيف مالوا بها ميلاً عظيمًا , وكيف سطت على تفكير أكثرهم , فقبلنا من بعضهم , ورددنا بعضهم الآخر , فكأنهم في حيص بيص لا ينفكون عنه .
إن فنًّا من فنون النثر يكاد يكفينا لمعرفة توجه الشذوذ عند أكثرهم , فالرواية مثلاً , قلما لا يتناولون فيها الذات الإلهية , وقلما لا يبتعدون فيها عن انغماسات الجنس ومعارجه , وعن سفساف القول ومنبوذه , متذرعين بحجة أنها تلاك على ألسنة الشخوص الرئيسة والثانوية في هذه الرواية أو تلك .
إن نوع التخصص – أي تخصص - يشكّل هيئة صاحبه من حيث يدري ولا يدري , فترى قلمه قطعة من عقله , بل عقله كله , وترى أفكاره ورؤاه متأثرة بسابقيه , فإن كثرة المساس توهن الإحساس كما يقولون .