[يرموك]

سلامُ الله عليكم ما تعاقب الليل والنهار .

وهل الذكرى إلا قطعة من النفس؛ ينفضها المرء فيرى فيها نفسه برسم آخر ؟!

دلفتُ ذات مساء إلى أحد بيوت الله، حيث مهوى النفوس، ومتعلق الأفئدة، علَّ القلب الصلد يلين، فتدركه خشية الله، فيبكي كالرضيع طالبًا من مولاه حاجته، فيظفر بها .

جلتُ بجسدي وبصري في رحبة ذلك المكان المعظم، أرجو مكانًا أحل فيها رحلي، فأزيل عن نفسي شيئًا من كدر الدنيا التي لم تصفُ يومًا لأحد، وأحمل بين يدي كتاب ربي، هاديًا لكل شارد عن الصراط المستقيم .

حتى إذا استويت جالسًا .. سمعتُ أصواتًا صدّاحة ملأَ صداها باحة المسجد، وانتشر عبيرها الفواحُ في أرجائه، وهناك حلقت روحي في عالم آخر .. !
وقف بي الزمان، -وأنى- وركبت قطار العودة، وإبْـنا عائدين لنفتح سِفْر الذكرى؛ فننفض عن صفحاته الغبار المتراكم إزاءَ توالي السنين .

كان هذا المجلس المبارك موردًا لنا حين الظمأ، فننهلُ منه حتى نرتوي، ونرشف من معين صافٍ عذب، ولم يك يجمع الصحب -حينئذ- غير هذا القرآن، والجلوس لتلاوته، ومدارسته، بل كان بعضنا -وكنت منهم- يأتون من أماكن قصيّة، ودور نائية مشيًا على القدمين، ولم يك يخالج الأفكار حينها أن هذا المجلس قد ينفض في عشية أو ضحاها، فيغدو أثرًا بعد عين؛ فلم نك نرعه حق الرعاية، أو نقدره حق القدر .
حتى تصرمت السنون؛ فتشتت الصحب ونأتْ بهم المواطن، وانقضى ذلك المجلس؛ الذي حل منا حلولَ الروح من الجسد، ففقدنا الروح، وليت شعري؛ مالجسد دون الروح ؟!

متى يعي المعلمون والمتعلمون في هذه المجالس؛ قدرَ عملهم، وعظيمَ أجرهم؛ فيحسنوا النية والعمل، لتتخلق تلك الأروح بمنهج القرآن؛ فتتخرج الأجيال مصقولة بهذا المنهج الرباني .

عندما تتوالى النصوص على مسمع المرء معظمة لعمل هذه المجالس، ويذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الغبطة إنما هي بمن يتلو القرآن، ويشير إلى ذكر الله -تعالى- لأولئك الملأ في ملأ خير منهم = فلا يملك المرء حينها إلا أن يقول : ياليتني كنت معهم -معلما أو متعلما- فأفوز فوزًا عظيما .

أخرج البخاري عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه .