لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما ، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما ، وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان ، وأقوال الشيوخ الغير مبنية على الدليل الصحيح ، والى القوانين الأرضية الجائرة ، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم ، وظلمة في قلوبهم ، وكدر في أفهماهم ، ومحق في عقولهم ، وقلة البركة في أرزاقهم ، حتى ربى عليها الصغير ، وهرم عليها الكبير ، فلم يروها منكراً ، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن والنفس مقام العقل والهوى مقام الرشد ، والضلال مقام الهدى ، والمنكر مقام المعروف ، والجهل مقام العلم ، والرياء مقام الإخلاص ، والباطل مقام الحق ، والكذب مقام الصدق ، والمداهنة مقام النصيحة ، والظلم مقام العدل ، والجاهل مقام العالم وأصبح الغلبة لتلك الأمور وأهلها هم المشار إليهم وجيوشها قد ركبت ، فباطن الأرض خير من ظهرها ، وقلل الجبال خير من السهول ، ومخالطة الوحوش خير من مخالطة الناس . فحين إذا اقشعرت الأرض وأظلمت السماء ، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة ، وذهبت البركات ، وقلة الخيرات وجفت السماء وبكت الأرض من الجدب ، وهزلت جيوش ، وتكدرت الحياة من فسق الظلمة ،وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الإعمال الخبيثة ، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثره الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح . بعد هذا والله أنه منذر بسيل من العذاب قد انعقد غمامه ، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه ، لذلك اعزموا على توبة نصوح ما دامت التوبة ممكنه وبابها مفتوح ، وكأنكم بالباب وقد أغلق وبالرهن وقد علق وبالجناح وقد علق وهذي والله هي الفتنة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث .