|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
![]() |
#11 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! 1 - 3
د.حسن بن فهد الهويمل اللغة - أي لغة - وعاء الفكر، ومستودع الحضارة، ووشيجة التواصل، وصنو الدين، بوصفه علامة الانتماء، وصبغة الله. فبضعفها تضعف الأمة، وبانكماشها يتضاءل وجودها. وقيمة اللغة بضوابطها التي تحفظها من الذوبان والتآكل، وبخصوصيتها التي تميزها عن غيرها من اللغات، وبغناها الذي يمكنها من الاتساع لكل مستجد، وبمرونتها التي تتيح لها النهوض بمهماتها، وبنموها الذي يجعلها لغة عصرها، وبثباتها المستمد من عمقها التاريخي وتراثها المتواصل، وبحَفَظَتِها الذين يتناقلونها جيلاً بعد جيل، ويتعهدونها تنمية وتصفية. وكل حضارة تعطي الدنية في لغتها تمكن عدوها من مقاتلها. وما انتصر عدو على خصمه بقتل أفراده، ولا بتهديم عمرانه، ولا بمصادرة أمواله. فالحسيات تبلى ويخلف الله، وإنما انتصاره في تدمير قيم الخصم المعنوية وإفساد عقيدته وتمزيق لغته. فبذهاب اللغة تمحَّى الذاكرة ويلتغي التاريخ، وبتدمير المعنويات وحدها يكون التدمير الحقيقي. و (الغزو) و (التآمر) اللذان يضيق بذكرهما المستغربون أخطر من المواجهة العسكرية. فالتحديات المعلنة تستعد لها الأمة، وتبذل ما تقدر عليه لصدها، وتوقي خطرها. وقد تكون الحروب سبباً من أسباب مراجعة الذات، وتصحيح الأوضاع. أما المكر والخديعة والغزو الفكري والتآمر الخفي فذلك الشر المستطير الذي يغفل عنه الخاصة، وينخدع به العامة، ويتفاعل معه المنافقون. وإذا كانت الدول الكبرى تمضي في صناعة السلاح الفتاك، وتتفانى في سباق التسلح، وتنشئ المختبرات لتخصيب الجراثيم الفتاكة، وتنفق مئات المليارات في سبيل التوفر على قوة الردع فإنها لن تدخر وسعاً في استخدام أي وسيلة لإضعاف الخصوم، والتمكن من السيطرة عليهم. ومن هان عليه الإنفاق لإيجاد سلاح رادع فإنه يهون عليه الإنفاق للهزيمة النفسية والمعنوية. ولما كان (الدين) و (اللغة) هما مادة الحضارة ومصدري قوتها المعنوية، فقد أصبحا الهدف الرئيس لكل غزو أو تآمر، وإضعافهما أو إفسادهما إضعاف للأمة. وما دخل الاستعمار في بلد إلا وكان شغله الشاغل مسخ الهوية، وإلغاء الذاكرة، وطمس التاريخ، وإفساد الأخلاق، ونهب التراث والآثار. يروج له في فجاج الفكر المستشرقون والمبشرون والعملاء والجواسيس. وكل هذه المقترفات مما علم من الدنيا باليقين، والحرب ضد (الدين) و (اللغة) قائمة إلى قيام الساعة. وقراء التاريخ الحديث يجدون بين طياته وقائع عسكرية، وأخرى فكرية. وقادة الفكر المناوئ لا يقلون في خطرهم وحقدهم عن قادة الجيوش. ولو نظر الراكنون إلى الذين ظلموا في صراع اللغات وحدها، لتبين لهم أنه من أشرس الحروب وأخطرها على مصير الأمة. ويكفي أن نلفت النظر إلى قضية موثقة يتداولها الدارسون، وهي قضية (الدعوة إلى العامية) فلقد كانت (مصر) إبان الاستعمار مصدر كل الدعوات الهدامة. وكان الشرفاء من أبنائها حماة اللغة العربية وردء القيم الأخلاقية. ويكفي أن يقرأ الحريص على تحرير المسائل كتاب الدكتورة (نفوسة زكريا سعيد) (تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر) ليجد ما رصدت فيه من المحاولات التي يشيب من هولها الولدان، ومن أخطرها التفكير في كتابة القرآن بعامية مصر. ولما كانت مصر واسطة العقد، فقد تجرعت كل المرارات، وواجهت كل الحروب، وكثر فيها إلى جانب ذلك العملاء والمستغربون، وظهرت دعوات الاستغراب والعلمنة وسائر النحل والملل المادية والروحية. ولم يزل المفكرون والفلاسفة والمبدعون والنقاد في كافة المشاهد العربية يجودون بالقول الحق ونقيضه. والمؤلم أن الحضارات المهيمنة وجدت من بعض النخبويين ركائز، استطاعت من خلالهم أن تنفث سمومها، وأن تشكك الأمة العربية في دينها وفي لغتها. والأدهى والأمر تهافت الطلائع الفكرية على ما فرغ الغربيون منه، يقولون مثل قولهم، ولا يدركون خطورة ما يقولون وانتهاء صلاحية القول فيه. لقد كانت (اللغة العربية) غرضاً لكل الرماة، ولعلنا نستذكر بكائية (حافظ إبراهيم) على لسانها وحرقته حين يرى كل يوم في الجرائد مزلقاً يدنيها من قبرها. ولعلنا نستذكر - أيضاً - جهود (مجمع اللغة العربية) وما قُدِّم فيه من بحوث، وما تبناه من كتب ومعاجم ومناهج، وما تداول فيه المؤتمرون من آراء، وما تضمنت قراراته من توصيات لا يعلمها إلا الأعضاء العاملون. لقد ضاعف المخلصون في مصر بالذات جهودهم لصد هذه التعديات، فكان أن حققوا الكثير، ولكننا في زمن الضعف والخور لم نُغْزَ من الخارج، وإنما غزينا من الداخل. وذلك بعض ما حفز الدكتور (محمد محمد حسين) رحمه الله إلى تأليف كتاب (حصوننا مهددة من الداخل) درس فيه ظواهر هذا الغزو الذي ينهض به أبناء المسلمين أنفسهم، وتلك علة باطنية من الصعوبة بمكان توقيها، والخطورة في تشابه القضايا والتباس الأمور والخلط بين المتناقضات، وأخطر منه ما تواجهه الأمة من تلبيس متعمد، فالغزو والتآمر على أشدهما، ثم يأتي من يشكك بذلك، ويعيب المنذرين والمحذرين، ولا يني يردد المقولة الماكرة باستفحال (عقدة التآمر) لكي يصرف الناس عن الثغور، مدعياً أن الأمة تعيش هذه العقدة، وأن التفكير فيها سبب التخلف، وأن الغرب جاد في تمدين الدول النامية وتحضيرها، وتمكينها من العدل والحرية والمساواة، ولكن تلك الدول لا تقبل ذلك، وما تلك الشائعات إلا بعض معطيات غسيل المخ. الغرب أرخى عنان فنه الماجن وأخلاقياته الساقطة، وشد الوثاق على مكتشفاته ونظرياته العلمية، ليظل العالم الثالث مستهلكاً متخلفاً. وإذا كان المشيعون لظاهرة الغزو والتآمر يقصدون تبرئة أنفسهم، وتحميل الآخر جرائر إخفاقاتهم، فتلك خطيئة تضاف إلى غيرها من الخطيئات. أما إذا كانوا يحذرون الناس، وينذرونهم لقاء المتماكرين على حين غفلة، ويحثونهم على إعداد القوة، وتحصين النفس مع تحمل المسؤولية فذلك الصواب عينه. ومهما كانت الأهداف فإن (الغزو) و (التآمر) قائمان على أشدهما، ولا ينكرهما إلا جاهل أو مواطئ. وتخلفنا في التقنية والعلم التجريبي لا يحسمه اتباع ملتهم، وإنما يحسمه فهم ملتنا والعض عليها بالنواجذ وأخذ ما عندهم من علم بظاهر الحياة الدنيا. والتفاعل والتعالق وتبادل المصالح والمعارف سُنَّة كونية، وليس في ذلك من بأس، ولا يعد شيء منه غزواً ولا تآمراً. ومصائب الأمة في اضطراب مفاهيمها واختلاف مواقفها. والمؤكد أنه ما من حضارة إلا ولها يد سبقت على غيرها، والحضارة التي لا تعدو عيناها إلى ما عند الآخر من الحق لا تسترجع ضالتها. والحق ليس وقفاً على حضارة دون أخرى، وليس هناك حضارة بريئة، فكل حضارة منقرضة تظل كامنة في خلفها. و (الحضارة الإسلامية) ليست بدعاً من الحضارات، فلقد وسعت محاسن ما سلف، وما بُعِث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق، ولقد قال صلى الله عليه وسلم لأحد أشراف القبائل: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) - أو كما قال - . ولقد أثنى على (حلف الفضول) ووصف أبا (سفانة) بأنه رجل يحب مكارم الأخلاق. والإسلام حضارة عالمية إنسانية له ضوابطه ورؤيته وتصوره للإنسان والحياة والكون. ومن أراد اعتزال الحضارات واستدبار منجزاتها فقد اختار طريق الضعف والوهن، وفوت على حضارته أفضل الفرص. وبوادر الضعف والشقاق ناشئة من تفاوت النخب في فهم الظواهر والتيارات والملل والنحل، واختلافهم في أسلوب التعامل معها، وقيام جدل بيزنطي عقيم حول مفاهيم واضحة، لا تحتمل الاختلاف. وهذا التنازع والتفرق جعل بأس النخب بينهم شديداً، ولو أنهم إذ اختلفوا فكرياً أو عقدياً حول أشياء العصر ومستجداته ردوا خلافهم إلى الكتاب وصحيح السُّنَّة لكان أن حسمت المشاكل أولاً بأول، ولكنهم يختصمون في غياب المرجعيات وجهل الأحكام. وما وقفت على خلاف حول المستجدات إلا وكان سببه الجهل والتعصب وتأليه الهوى والتصدر للفتيا في غياب مثلث الوعي السليم: فقه الأحكام والواقع والأولويات، والخلط بين الأفكار والعقائد، وعدم الفصل بين أمور الدنيا ومتطلبات النص التشريعي، وتقصير الخاصة في استغلال الفسح والتيسيرات التي اتسمت بها أحكام الإسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، (استفت قلبك) ، (أنتم أدرى بأمور دنياكم) ، (ما خيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. لقد حفز على هذه المقدمة التحفظية ما تتداوله المشاهد العربية من أحاديث حادة النبرة حول كتابين يمسان اللغة العربية، وينحيان باللائمة على علمائها الأوائل الذين أصلوا لقواعدها، وتوسعوا في معارفها، وحفظوها من عوادي الزمن، صدر أحدهما في مصر وصدر الآخر في الشام، هتف أحدهما بسقوط (سيبويه) واتهمه الآخر بالجناية. وكل مفكر له رؤيته ودوافعه وأهدافه، ولكن البعض يؤتى من الجهل أو من التسرع أو من الانفعال. والصدق والإخلاص غير كافيين للتوفر على الصواب، فكم من صادق مخلص أورد قومه موارد الهلكة، ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى البصر والبصيرة والمعرفة وحسن التصور واستكناه القضية ومتعلقاتها، ومعرفة قضايا الدين والدنيا والمساحات المشتركة بين الحضارات وحكم النوازل والمستجدات. وإشكالية الأمة في مبتدئين مندفعين لا يلوون على شيء من المعرفة أو التجربة، ولا يدركون خطر الغزو والتآمر والتماكر، ولا يترددون في تقديم حسن الظن، وأخذ فيوض الإعلام، على أنها قضايا مسلمة، لا تسأل عما تريد ولا عما تفعل. وما أُتيت ثوابت الأمة إلا من أنصاف المتعلمين ومثقفي السماع وربائب الإعلام والذواقين، الذين يجمحون وراء بوارق الحضارة المادية، ولا يفرقون بين القيم العلمية البحتة والقيم والفكرية والأخلاقية. والقول السيئ عن اللغة جاء مع الاستعمار الغربي، ولمّا يزل المجنَّدون لهدم اللغة يقلبون الأمور. وكلما أوقدوا ناراً للحرب هب المخلصون لإطفائها، ولكن البعض من الغيورين يجاري المناوئين في أساليبهم وأخلاقهم وطرائق تعاملهم، والشاعر الحكيم يقول: (إذا جاريتَ في خُلُقٍ دنيءٍ فأنت ومَن تجاريهِ سواءٌ) والمدافعون عن قضايا الأمة المصيرية يجب أن يمروا باللغو مراً كريماً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. ثم إن طائفة من المشتغلين بالشأن الثقافي تنقصهم المعرفة، وتخونهم الوسائل، وهم أحوج إلى أن يتعلموا الأحكام والأصول وطرائق الأداء وأساليب الحوار الحضاري، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بالتفقه والرفق واللين والموعظة الحسنة. والذين يجندون أنفسهم للدفاع عن مثمنات الأمة مأمورون بعدم السب وبعدم الجهر بالسوء إلا في حالات محدودة ومحسوبة، والعفو مقدم على الاقتصاص. واللين مطلب رباني ورحمة مسداة، والمسلم ليس بالطعان ولا باللعان، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى حسن التخاطب واستبعاد الفظاظة، والغلظة، وبخاصة أن الأمة تعيش حالة من الضعف والتعويل على ما عند الغير من ماديات. وإذا كان الله قد خفف على عباده حين علم أن فيهم ضعفاً، فإن على الأمة أن تعرف قدر نفسها، وأن تتحرك وفق إمكانياتها، وأن تبادر إلى تلافي ما ينقصها من قوة حسية ومعنوية استجابة لأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. فالضعيف لا يطاع له أمر، ولا يقام له وزن، ولا يكون قدوة صالحة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
![]() |
الإشارات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
طريقة العرض | |
|
|