بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

 
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:19 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
لوثات المشاهد الإعلامية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


المصاب بداء المتابعة للنجوى الإعلامية، بوصفه وعاء القول بكل مستوياته واتجاهاته وغثائياته وافتراءاته، يمضه درك الإحباط، ويؤرقه التناجي الآثم، فما من خائض في حديث أو كاتب لزخرف القول ينقض غزل أمته من بعد قوة أنكاثاً إلا يزكي نفسه، ويعدها من الأخيار. وما هو في الحقيقة إلا شقي الأمة وأشقاها، حتى لكأنه عاقر الناقة أو قاتل علي، وكيف لا يكون كأحد الشقيين، وهو الساعي بين الناس بالفساد والإفساد، وقدر الراصد لحراك الإعلام أنه لا يجد إمكانية الفرز بين الضالع في الخطيئة، والقائل بالتبعية، والعاجز عن التمييز يتجاوز بالإدانة إلى غير الضالعين، واتقاء الإساءة كاتقاء الفتنة. وحين لا يكون الاتقاءان، يستوي الناقض المتعمد والببغاء المردد، وسائر الفتن، وفتنة القول بالذات إذا أقبلت لا يعرفها أحد، ولا يرتاب منها أحد، وإذا أدبرت يعرفها كل أحد، ويفر منها فراره من الأسد، ونحن نعيش لوثة الإقبال الأهوج ولجاجة الاهتياج الأعزل من العل والألف، كما يقول (الشنفرى):




(ولست بِعلِّ شره دون خيره
أَلفَّ إذا ما رعته اهتاج أعزل)


وما يتجشأ الكلمات الفارغة إلا الفارغون، والكلمة التي لا يلقي لها المتحدث بالاً، كما الرصاصة، متى انطلقت، مرقت، أو استقرت في صدر ظالم أو مظلوم، ومن استخف بها، تصيدته فيما تصيدت كمتخذ الضرغام بازاً لصيده، وما أشعل أوار الفتن إلا الإعلام المحيل إلى حرية التعبير، وما أضل الناس عن سبل الرشاد إلا الإعلام الذي يصنع ما يشاء لفقده للحياء، وما قوض شوامخ الأمة إلا الإعلام المدفوع الثمن، ولو رُشِّد القول، وكفت الألسن عن التناجي بالإثم والعدوان، لمارس الناس حياتهم، كما صنعتها تربيتهم، وجسدها تعليمهم، واقتضاها معتقدهم، وحملها إعلامهم، ومصميات الأمة من سحرة البيان والمنشئين في الحلية، الذين يقلبون الحقائق، ويكرسون المفاهيم الخاطئة عن سائر القضايا المتداولة، والمرحَّلة من عقد إلى آخر، والمعلوكة كما اللبان، من حقوق وقضايا ومذاهب ومصطلحات مصابة بوضر الحضارة المصدر من (ليبرالية) و(ديمقراطية) و(عولمة) وتلك شعارات تمثل الطعم الذي يلوح به من سلبوا (الحرية)، وصادروا (الحقوق)، ومارسوا نخاسة اللحم الأبيض، وأيدوا الأنظمة الظالمة.
وما تلك الشناشن إلا بعض التغرير والاستدراج المتعمد من اللاعبين الكبار الذين ما فتئوا يوحون إلى السماعين لهم بما يربك المشاهد الإعلامية، ويشغل المصلحين والناصحين عن ممارسة مهماتهم في أجواء ملائمة، وشهوة الإعلام المستفحلة عند المندهشين بالآخر والمبتدئين غير الحذرين تقوم على تقويض ما أنجزته الطائفة المنصورة في آفاق المعمورة من ثقافة متوازنة، ودعوة حسنة، نبهت الغافلين، وأبانت لهم طرق الرشاد، وعلمتهم العفو والصفح، والغلطات المصمية تتمثل في الخلط بين (الإسلام السلفي) و(الإسلام المسيس) لتمرير اللعب، ولسنا في هذا التحذير من دعاة (نظرية التآمر) المتنصلين عن المسؤولية، ولا من المستبعدين للكيد والمكر، فالحياة رهينة الصراع عبر الكلمة أو البندقية، ومن أرادها برداً وسلاماً، فقد يؤخذ على غرة:



(ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ
ونام عنها تولى رعيها الأسد)


والطيبون من الكتبة ومن دونهم يأخذون الوعد والوعيد على علاته، ولا يتثبتون، والأشد غفلة وسذاجة من يظنون أنهم بالسخرية والاستهزاء ينتصرون لقضاياهم، ويحققون الحضور المشرف، وما علموا أنهم بهذه (الغلوسات) إنما يخدعون أنفسهم، وما يشعرون، والجزر والمد في تداول الآراء يقتضي استحضار الثنائيات: الحسية والمعنوية، لا لتصعيد الحوار إلى الصراع، والصراع إلى الصدام، وإنما ذلك لاحتمال الأذى، وتحفيز النابهين على تغليب الحق على الباطل، والصدق على الكذب، والرفق على العنف، واللين على الفظاظة والغلظة، إذ لا مراء حول ثنائية التناقض أو ثنائية التلازم،{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(49) سورة الذاريات، وإذا كان بين ثنائية المحسوس تلازم مشروع، فإن بين ثنائية المعقول تناقض ممنوع.
كالسلطة والتسلط، والكرم والإسراف، والحرية والعبودية، والفوضى، والانضباط، وكل شيء في الوجود له طرفان ووسط.
{وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29)سورة الإسراء، والمعضلة فيمن يقرر الوسطية والتطرف، وهي معضلة تمتد إلى من يقرر الثوابت والمتغيرات، والاختلاف المعتبر وما علم من الدين بالضرورة، والمحظور والمباح.
والناس مستخلفون على ما في أيديهم، ورعاة في مواقعهم، وكل مكلف على ثغر من ثغور الأمة التي ينتمي إليها والحضارة التي يتشكل من خطابها، وما من خلل إلا وراءه جهل أو تقصير أو عمالة أو مروق، وسد الخلل رهين التغيير {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، والتغيير المواكب لتحولات الحياة المنسجم مع إيقاع المقاصد غير التهافت على سراب القيعان، وإتيان البيوت من أبوابها أفضل من تسلق المحاريب و(فقه الأولويات) من المعارف الغائبة، وحين تكون المسائل نسبية فإن الحق واحد، لا يتعدد، ولا يتناقض، قد تتعدد الآراء تبعاً لنظريات: التلقي والتأويل والمعرفة، ولكنها لا تتناقض، وإشكالية (النسبية) تمد بالغي كل من ألجمه الحق، ومتى أحصروا وجدوا في فسح الثنائيات والنسبيات والتأويلات مجالاً لمطل الحق، وتصعيد الاختلاف المفتعل قد يؤدي إلى اقتتال الطوائف المؤمنة عبر أفرادها، حتى مع الاختلاف المعتبر، فضلاً عن المفتعل، على الرغم من أن كافة الطرق تؤدي إلى (روما) متى كانت متوازية لا متعاكسة، واقتتال المتناحرين بالألسن والأقلام ليس بأقل خطراً من الاقتتال الحسي، وواجب المقتدرين الإصلاح، وعند البغي يلزم صد الباغي، ولوثة المشاهد الإعلامية من كتاب ينقصهم التأصيل والتحصيل، وهو نقص يؤدي إلى الخلط بين الثوابت والمتغيرات والأفكار والعقائد، والخوض في قضايا (الفقه الأكبر) مع جهل نواقض الإيمان، وحديثنا عن لوثة المشاهد الإعلامية يستدعي النظر في اللغط المستحر حول مفردات الفكر الإسلامي ورجالاته، فما من منجز إسلامي سابق لأحداث (الحادي عشر من سبتمبر) إلا وهو مجال للتشكيك والاتهام والتحميل، وقد يتجرأ المتسرعون على تصفيته: ذاتاً أو سمعة، دون أن يطرحوا بديلاً قابلاً للمساءلة، وكأن الكتبة موكلون بتقصي مفردات الدين وأعيان العلماء والدفع بهم إلى درك الاتهام والتشكيك والتصنيف، تمهيداً لتصفية السمعة والمشروع معاً.
وبصرف النظر عن دوافع تلك الحملات الظالمة والعنيفة والمتواصلة فإنها تصب في سلال الأعداء، وتمكنهم من رقاب الأبرياء: دولاً كانوا أو فئات أو أفراداً، وإشكالية حملة الفكر الإسلامي أنهم باقون فاعلون منذ أن قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم اقرأ) إلى (يوم الوقت المعلوم) الذي أنظر الله به (إبليس)، وحملة الأفكار المناقضة يمرون بحملة الفكر الإسلامي كما الأمواج التي يلغي بعضها بعضاً، وعلى المتردد أن يستعرض المشهد الفكري العربي منذ (رفاعة الطهطاوي) حتى (أركون) ولينظر كم استقبل المشهد من نظرية أو مصطلح أو فكر أو حزب، ثم ليسأل من حوله عن مصائرها ومصائر أهلها، ولعل أقربها وأعتاها (الماركسية) و(الوجودية) و(الحداثة) البادية كأعجاز نخل خاوية، والمتجلدة للشامتين، ولكن المنية إذا أنشبت أظفارها لن تنفع التمائم، وعلى الشاك أن يصيخ إلى لغط (العولمة) و(العلمنة) و(الغربنة) ولوثة (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(القومية) ثم لينظر، هل يذهبن ذله وهوانه ما يقال عن قضايا أهلهن أدعياء؟ وفي ظل هذا التعاقب يظل الإسلام بتجذره وشموخه وشموله وتجدده على رأس كل قرن، يرقب مصطلحات جديدة، يوفض إليها الخليون كما النصب، وما من مفكر منفلت من فلكه، إلا له رؤيته فيما تعلق به من محدثات الأمور، وإذ تكون الإنسانية أمة واحدة في الإدارة الكونية، فإنها أمم في الإرادة الشرعية، ذلك أن العلم محصلة سنن كونية لا تتبدل ولا تتحول، وما سواه تتنازعه الحضارات والمدنيات، ولكل حضارة شروط وجود، ومؤهلات شرعية، وسمة خطاب. ولقد قلنا من قبل: إن خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، ومع كل الرغبات فإنه لا بد من خطوط وحدود، لا يجوز تخطيها تحت أي مفهوم، والمجتمع المدني لا يتحقق إلا في ظل (سلطة سياسية) تحفظ توازنه، وتقوم على حماية أفراده وأفكاره ومسلماته.
والأحكام والضوابط والمسالك والمدارك مرتهنة للكلام، حتى تأخذ طريقها إلى التفعيل، ولا يتم شيء من ذلك إلا من خلال الامتثال الطوعي أو الرقابي، والذين لا يعرفون السلطة، ولا يحترمونها، لا يعرفون الحرية ولا يتمثلونها، وكل مجتمع مدني محكوم بسلطات: الدين والسياسة والمجتمع، وقد تند واحدة من هذه السلطات، فتكون تسلطاً محضاً، أو تكون خليطاً من السلطة والتسلط، ونزع السلطة أخطر من نزع الحرية، وجنوح السلطة إلى التسلط أهون من جنوح الأمة إلى الفوضوية (ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية)، والسلطة الجائرة أفضل من الفراغ الدستوري.
والمتابع ليس بحاجة إلى أن يفتش في صفحات التاريخ القديم، فالأحداث الحية الماثلة من حوله أكبر شاهد، وكل من قال ما يعن له، دون النظر في ضوابط حضارته وأولويات قومه وخصوصية عشيرته يحول الحياة إلى فوضى (وجودية)، أو إلى عبث (سريالي)، أو إلى ضياع (بوهيمي) وتلك مصادر اللوثة الطارئة على المجتمع، ومع أن من المصلحة أن يكون الخصم ألج من الخنفساء، وأهجي من الحطيئة، إلا أن الأولوية في إرشاده وكسبه، فذلك أحب إلى المحتسب من حمر النعم، وقدوة المحتسب رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي أغري به السفهاء والعبيد، ولم ينتقم لنفسه، بل ظل يدعو لقومه بالهداية ويعذر لهم، ويوم أن ظفر بهم، وتمكن من رقابهم قال:
(اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكلما طلب منه قتل المعارض قال: لا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
 

الإشارات المرجعية

أدوات الموضوع
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 02:52 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)