|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
![]() |
#1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jun 2003
المشاركات: 88
|
أنا ويوم الجمعة، أفراحٌ وأتراحٌ
أنا ويوم الجمعة، أفراحٌ وأتراحٌ
يوم الجمعة وما أدراك ما يوم الجمعة، عيد المسلمين الأسبوعيُّ ويوم بهجتهم، فيه من البركات ما رغَّبنا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نهتبل الفرصة فيه لننهل من وافر خيراته، وسيظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لكن لي فيه ذكرياتٍ لا أنساها أبداً، فيه اسودت الدنيا في وجهي وودت أني كنت تحت الأرض مدفوناً قبل أن يحصل ما حصل، وفيه لملمت بعض جراحي وفتحت باب السعادة لألقي نظرة على عالم الفرح، وعنه دارت مناقشة حادة بيني وبين إحدى قريباتي من اللواتي يتفوهن بما لا يليق حول خيرية يوم الجمعة فقالت كلمةً لو خالطت ماء البحر لخلطته بنتنها وقبحها، لولا أن يسر الله لها توبة قريبة من فلتات اللسان والخوض بما لا ينبغي بغية إضحاك الناس. يمر عليَّ يوم الجمعة كثيراً باعثاً تلك الذكرى أو أختها، إن تذكرت ما جرى من أحزان بات قلبي مسهوماً، وإن سبقت الأخرى كنت من المسرورين. كانت أمي – عليها رحمة الله، كأي أم - قلباً ينبض بالحب لأبنائها والشفقة عليهم، كانت لي ولإخوتي ظلاً ظليلاً وصدراً رحيباً، كانت كأمثالها من الأمهات اللواتي نشأن على مفاهيم الحياة آنذاك لا يهمها في حياتها غير زوجها وأبنائها بالدرجة الأولى. لا أعلم فيما أعلم أحداً أكثر منها طاعةً لزوجها وحدباً على أبنائها، حتى في ذلك اليوم الذي جئتها زائراً أول وقت الزيارة حين كانت في المستشفى في مرض وفاتها - رحمها الله – كانت تصارع الآلام وتكابد المشاقَّ وتقترب من نهايتها وتفكيرها لازال ( يا خالد، أنا خايفة على اللي في بطني)، أمي في عيني كانت قلباً يسير على رجلين. طاعتها لأبي شيءٌ لا يوصف، لم تكن تخرج من البيت إلا لما لا يستطيع أحد أن ينوب عنها فيه، حتى أغراضها الشخصية كانت توصي من يحضرها من السوق لأن أبي لم يكن يريدها أن تخرج، لا أذكر انها تأففت من ذلك، غير أنها كانت تحرج من أن تطلب من غيرها شراء حاجياتها لها. كانت – رحمها الله – زوجة الإبن الأكبر للعائلة ولذا كانت مسئولة عن بيتٍ يضم في جنباته الزوج وأخا الزوج وأم الزوج وأخوات الزوج والأولاد والبنات، عائلة كبيرة يزداد عددهم في كل تجمع للعائلة في هذا البيت وما أكثر التجمعات. كان حمل تلك الاجتماعات منصباً عليها بلا معين، فلم تكن كبرى أخواتي حتى ذلك الحين ممن يمكن الاعتماد عليها لصغر سنها. أنا أكبر أبناء أمي من الجنسين ولم يكن لها من البنات آنذاك من يساعدها في أعمالها بل ولا من يشاركها همومها، لذا كانت تأتي إلى غرفتي وتطرق بابها فأفتح الباب لأجدها تنتظر من يشاركها همها ومن يزيل عن كاهلها الحزن ولو بكلمة. ما يملأ قلبي الآن حسرة عليها أنني لم أكن أشعر بما تشعر به، لم تتفتح عيناي حينها على حجم المشكلة ولم أشعر بمرارة الحال التي عاشته. أبي كان من النوع النمطي الذي تشكل ذهنه بحسب تقاليد المجتمع آنذاك أنها يجب أن تعمل كل اليوم لخدمة كل من يدخل البيت بلا مللٍ ولا شكوى لذا لم تكن تجني من الشكوى لأبي إلا الحسرة. لم يكن أمامها من تشكو إليه حالها إلا أنا ولم أكن أعلم أنها تعاني من قصور في وظائف القلب إلا بعد موتها !!!!! تخيلوا !!!!!!!! مضت سنون على هذا الحال حتى قدر الله لي أن أتخرج من الثانوية لألتحق بجامعة الملك سعود في الرياض، كانت أيامي الأولى عصيبةً جداً، فأنا لا زلت غضاً طرياً للتو تخرجت من المدرسة لأواجه هموم الغربة ومشاكل الدراسة الجامعية، كنت حينها لا أعرف الطريق المؤدي للرياض حتى، ولا أدرك مصيري في الغربة بل وللتو تعلمت قيادة السيارة جيداً بعد أن اشترى لي والدي – حفظه الله – سيارة لهذا الغرض. لم يكن يهوِّن الأمر عليّ في محنتي تلك إلا كلماتٌ من حبيبة قلبي ونور فؤادي أمي الغالية – رحمها الله – تقول لي ( الحمد لله، الناس يتغربون ببلاوي وأنت تروح لعز ومعزة) كانت كلامتها كمطر المواسم على الأراضي الجدباء وكالبلسم الشافي لجرح الآنين. انتقلت للدراسة في الرياض وابتعدت عن أمي الحبيبة – رحمها الله – ولم أكن أطيق البعد فكنت أكثر من الاتصال عليها على صعوبة الاتصالات حينها قبل ظهور الجوالات، وكانت كلماتها لي معينة بعد الله عز وجل. كنت أنتظر نهاية الأسبوع الدراسي على أحرِّ من الجمر لأعود لمدينتي ولبيتنا ولأمي الغالية. لا أذكر مرة أنني دخلت البيت عائداً من الرياض إلا وأول من يستقبلني هي، نعم هي حتى لو لم تتمكن من غسل يديها بعد خروجها من المطبخ، أقبِّل رأسها وأكحِّل عينيَّ بمرآها فتنزاح هموم الدراسة وكلالة السفر وأبتهج بالحياة بين يدي أمي. مضت سنوات الدراسة بطيئة كئيبة، لم أتكيف خلالها مع الغربة والابتعاد عن جو العائلة والأصدقاء، أعود كل أربعاء إلى بريدة ما لم يكن هناك اختبار يوم الخميس فأنهي اختباري وسيارتي في مواقف الكلية تنتظرني لأمتطيها ميمماً بريدة يوم الخميس لأعكس الاتجاه يوم الجمعة قافلاً للرياض، كنت كالمهووس الذي لا يصبر على مصدر هوسه، لا أذكر عدد مرات صلاتي الجمعة في الرياض خلال سنوات الدراسة لكني أعلم – يقيناً – أنها لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، أثَّر ذلك كثيراً على تحصيلي الدراسي لكني لم أستطع تغيير وضعي. خلال تلك الفترة انتقلت من كلية الطب إلى الهندسة ثم قررت الانتقال من الهندسة إلى كلية اللغة الإنجليزية بالقصيم لأرتاح من تلك المعاناة لولا وقفة أبي – جزاه الله عني كل خير – الذي أصر عليّ بالبقاء والصبر حتى أظفر بشهادة الهندسة وتحقق لي وله ما أردنا – ولله الحمد والمنة – بعد سنوات المعاناة من الغربة والوحشة. عدت بالشهادة عام 1418هـ محققاً رغبة أمي التي ساندتني كثيراً وأرادت لي أن أحقق حلمها بما تحصلت عليه، كانت – كأي أم - أكثر الفرحين بعودة ابنها ونجاحه في مشواره، لم تسعها الدنيا من الفرح، فرحت أنا أكثر لأنني افتقدت أمي في الغربة كثيراً، فأنا لم تكن تتاح لي فرصة العيش بالقرب منها إلا يوم الخميس من كل أسبوع، فالأربعاء عودة من الرياض والجمعة سفر جديد لأسبوع جديد وهكذا دواليك ... رزقني الله بعمل جيد في إحدى الجهات لأبدأ تكوين مستقبلي، بدأت العمل في شهر جمادى الثانية من عام 1419 هـ وعند استلام أول مرتب شهري، كان من المفترض أن يكون أول من أفكر بإهدائه من ثمرة جهد السنين من ساندني خلالها، ولكن ما حصل أن والدي كان في تلك الفترة منهمكاً ببناء مشروع صغير يحتاج إلى من يعينه فيه، فأحضرت المال وسكبته بين يديه وقلت له: خذ ما تحتاج منه يا أبتِ، ولم أرجع منه إلا بالنزر اليسير ولا أعلم هل أعطيت منه أمي شيئاً أم لا ظناً مني أن أمي ليست بحاجته ومقدماً حاجة أبي على كل شيء. لم تقل لي أمي شيئاً وليتها فعلت !! لم تتفوه بكلمة ولم تظهر أي شيء فهي أمٌّ لا يهمها إلا سعادة أبنائها. قالت لي إحدى أخواتي بحضرتها: أمي تحب أخي الأصغر أكثر منك لأنه يعطيها من راتبه وأنت لا، فردت أمي – رحمها الله – بسرعةٍ وحِدَّةٍ : لا لا ليس صحيحاً، أحبهم كلهم سواء. كان الموقف صفعة لي، نعم حبي لأمي لا يوصف وسعادتها أهم أهدافي، لكني كنت أتعامل مع الموقف بشكل عقلاني – بإعطائي للراتب لأبي لحاجته الماسة للمال آنذاك - وأخي يتعامل معه بشكل عاطفي، وفاتني الجمع بينهما. بعد شهرين تقريباً، بدأ المرض بأمي ولزمت الفراش ولازمتها أخواتي اللواتي كبرن ونضجن حتى جاءت إحدى الليالي التي كنت فيها أسامر أصحابي، جاءني اتصال من إحدى أخواتي تفيدني أن أمي اشتد مرضها، ألقيت ما كان في يدي بين أصحابي وفزعوا من تصرفي وانطلقت من بينهم صوب البيت لأجد أمي – رحمها الله – لا تكاد تتنفس من مشكلة في صدرها، فحملتها في السيارة لأقرب مستوصف وحين كشف عليها الطبيب فزع وأمر بسيارة الإسعاف أن تتهيأ لنقل أمي للمستشفى المركزي، سألته ما الخطب ؟، رد بأنها تحتاج للنقل عاجلاً، أركبوها سيارة الإسعاف وقدت سيارتي خلفهم لا نمرُّ من عند إشارة مرورية إلا تجاوزناها حتى وصلنا المستشفى فاستقبلوا الحالة بسرعة وأدخلوها للكشف، لم أكن أصدق ما يحدث، ماذا يجري لأمي ؟! اتصلت على أبي فأتى سريعاً ودخلنا على أمي لنجد عدة أطباء يشرفون على حالتها، وعندما سألهم أبي عن حالة أمي ردوا أنها تعاني من ترشح في الرئتين وتحتاج إلى نقلها للمستشفى التخصصي. يا إلهي ماذا يحدث ؟!! هل أحلم ؟ أمي تتقاذفها الأيدي ولا أدري ما بها ! نقلوها للمستشفى التخصصي، وهناك أدخلوها للقسم وبقيت فيه أياماً تزداد حالتها فيها سوءاً، مازاد الأمر سوءاً أن أمي – رحمها الله – كانت حاملاً، اقترحت على أبي نقلها للرياض فأفادوا بعدم إمكانية نقلها لصعوبة وضعها، تم وضعها في العناية المركزة لعدة أيام نزورها خلالها ونقرأ عليها ونلازم سريرها علَّ نظرة حانية من تلك العينين تضيء طريق الفرحة وتسقي جذور الأمل بالشفاء. في إحدى زياراتي لها، وبعد أن قرر الأطباء إجراء عملية لإسقاط الجنين، شاهدتها مفتحة العينين فرحتُ واستبشرتُ وسلمتُ عليها فكان أول ما ردت علي أن قالت: (يا خالد، أنا خايفة على اللي في بطني) قلت لها: (يا أمي، يهمنا الآن صحتك والولد بداله غيره) لم يرُق لها ردي وخافت على الجنين أكثر من خوفها على نفسها، بل أظن أن لو خيروها بين سلامتها وسلامة الجنين لقدمته على نفسها. خرجت من عندها والألم يعتصر قلبي لحالها ولعجزنا عن مساعدتها في شيء، كم هي مفجعة أن ترى من تحب تتدهور حالته أمام ناظريك ولا تستطيع دفعاً ولا نصراً. صورتها أمام عينيَّ على ذلك السرير لا تنمحي من مخيلتي. آهٍ يا أم خالد آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه خلال صلاة العصر من أحد الأيام وبينما نحن نصلي، ورد أبي اتصال، كنت بجانب أبي في الصف، فانقبض قلبي خوفاً، سلمنا من الصلاة وخرج أبي مسرعاً وأنا خلفه، اتصل أبي فإذا هو طبيب المستشفى يبشر أبي أن العملية نجحت وأن أمي تحسن حالها بعد أن كانوا يتخوفون من نتيجة العملية لحراجة وضعها، فرحنا كثيراً وكدت أطير من الفرح، هرعنا للمستشفى من حينها وقابلنا الطبيب، وأفادونا أن الزيارة الآن غير ممكنة وأنها بحالة جيدة، رجعنا للبيت ولا تسل عن سعادة الجميع بالخبر، تحينَّا وقت الزيارة القادمة على أحرِّ من الجمر من الغد، علمنا أن حالتها ساءت، وأن جسمها الضعيف لم يقاوم آثار تلك العملية، ولا أذكر أنني تمكنت من زيارتها ذلك اليوم. بعدها، زرناها وهي في العناية المركزة وهي لا تشعر بمن حولها، نحفُّ أنا وإخوتي بسريرها ونقرأ عليها ونعود دامعةً عيوننا على زهرة قلوبنا التي تذبل بين أيدينا ولا حول لنا ولا قوة لدفع ما بها. إلى أن جاء يوم الجمعة الذي ذهبت أنا وأبي وإخوتي جميعاً لزيارتها، وعندما وصلنا للموظف المختص بتسجيل الزيارات وسألني من تزورون، قلت له: فلانة، ولما فتح الكشف أمام ناظري، وجدت اسمها مشطوباً وأمامه ملاحظة بالتوجه للمشرف الاجتماعي بالمستشفى – هكذا أظنهم يسمونه – حينها اسودت الدنيا في عينيَّ وسألته ما الأمر، فقال اذهبوا للمكتب هناك، يا إلهي ما الخطب ؟ لا لا لايمكن، أريد زيارة أمي، لماذا تمنعونني من زيارتها، يا رب يا رب يا رب توجهنا للمكتب، ودخل أبي لوحده وأمرنا بالانتظار خارجاً لأن المشرف طلب منه ذلك، رأيت حركات يدي المشرف يحاول أن يوصل لأبي شيئاً تعجز شفتاه عن النطق به، لم أتخيل أن أسمعها يوماً، المشرف يكلم أبي وأنا في عالم آخر تتخطفني الظنون وتتجاذبني الشكوك، يا رب ما الأمر ؟ أنا في صراع مع نفسي، مضت الدقائق كشهور حيناً بغية أن أعرف ما الذي جرى، وكلمحة بصر خوفاً من المجهول القادم. نحن بانتظار والدي كصغار شياهٍ هاجم الذئب كبارها، قلبي ينبض بشدة وتزداد أحداقي اتساعاً مع كل حركة من يدي المشرف الذي نراقبه من بعد. مرَّ المشهد كأشد موقف مرَّ عليَّ في حياتي، دقائق صبر لا تطاق، انتظار نتيجة وتوجس خبر يحمل في طياته العطب. أخيراً التفت أبي إلينا ودعانا للدخول، هرعت داخلاً إلى الغرفة، ففاجأني أبي قائلاً وهو يقاوم البكاء: أمكم تطلبكم الحل !!!!!!!! يا إلهي يا إلهي، لا أصدق ما أسمع، هل فقدت أمي ؟ ألن أراها بعد الآن ؟ هل أنا أحلم ؟ لم أتمالك نفسي ولم تحملني قدماي، رميت بنفسي على مقعد هناك، وأجهشت بالبكاء، أبي يذكِّرني بالله وبقضاء وقدره، والمشرف يقول: نريدك أن تساعد أباك لا أن تبكي ! حينها لا أعرف كيف رددت عليه قائلاً: رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه، نعم ليس عيباً أن تظهر مشاعرك! لماذا أكبتها ؟ لا نجزع ولا نسخط ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إن شاء الله، بكيت وبكيت حتى ما أرى بعينيَّ، وأصابني صداع برأسي لهول ما وصل إليه من فجيعة. اتصل أبي على جدتي من مكتب المشرف وقال لها: روحي يا أميمتي لبناتي بالبيت تراهن يحتاجنك، قالها والكلمات تتقطع في حنجرته وهي المرة الأولى التي أذكر أنني رأيت فيها أبي يبكي، ففهمت جدتي ما حصل خرجنا من المكتب، وركبت سيارتي التي جئت عليها لوحدي، لا أدري كيف قدت السيارة ولا كيف اهتديت طريق البيت، كنت أنشج عالياً وأنا أقود ولا أشعر بمن حولي، لمَّا اقتربت من البيت رأيت عمي على سيارته فتوقفت وسألني ما الأمر، أخبرته أن أمي توفيت، فانزعج وخاف علي من شدة ما رأى بي، عاد معي للبيت، لما دخلت البيت رأيتها في عيني قبراً، سعتها استحالت ضيقاً وأنوارها عادت ظلماء، لا أسمع إلا بكاء أخواتي وحولهم جدتي تحاول تهدئتهم، دخلت وأنا أذكر الله وأتظاهر بالصمود أمام أخواتي لعل الله أن يربط على قلوبهن، رأيتهن كالمبطون الذي يغالب ألمه، تتلوى إحداهن من البكاء فتحسبها تقضي نحبها، يا الله كم للأم من مكانة وكم لفقدها من حسرة. دخل أبي وكان خير مُعينٍ لنا في تحمل صدمة الخبر وهول الموقف وتذكيرنا بالله عز وجل وأجر الصبر على المصيبة، انتشر الخبر وجاء الأقارب أفواجاً للتعزية، شعرت أن المصاب مصابهم قبل ان يكون مصابنا، يبكون ويذكرونها بالخير، وحق لعينٍ أن تبكي أم خالد، وهل مثل الأم شيءٌ يبكى ؟؟؟؟!!! كنت مذهولاً لا أعلم ماذا أصابني، لم أكن أعلم عن نفسي هذا الضعف، كنت أظنني سأواجه كل مصائب الدنيا برباطة جأش، لكنَّ ظني خاب، حتى أني لمَّا دخلَت زوجة خالي لتعزيتنا وقابلتني في المدخل وعزَّتني اندفعت إليها بلا شعور وصافحتها ولم أتبين ما فعلت إلا بعد فترة. ذهبنا لثلاجة الموتى في المستشفى التخصصي لنقل جثة والدتي – رحمها الله – إلى الجامع الكبير للصلاة عليها، كنا خارج المغسلة ننتظر فخرج أحد أخوالي وطلب منا الدخول ورؤية والدتي، دخلت أنا وأخي الذي يصغرني مباشرة، ولما وصلنا نعشها الذي وضعت عليه وكشف خالي الغطاء عنها، وقعت عيناي على وجهها، الوجه الذي طالما فرحت لمرآه وحزنت لبعده، الوجه الذي وددت أن أكون أنا مكانه ولا اعتراض على قدر الله، يا إلهي، ألن أرى هذا الوجه بعد الآن ؟ ألن تقابلني هذه العيون صباح كل يوم ؟ هل حقٌّ أن لا تلاقي بعد الآن ؟ قبَّلت جبينها قبلة الوداع ودعوت لها باكياً وقبَّلها أخي وأجهش بالبكاء، غضب أبي من تصرف خالي بإدخالنا للمغسلة خوفاً علينا أن نصدم من المشهد. خرجنا متوجهين للجامع، ولما وصلنا هناك انتظرنا لندخل من الباب المخصص قبلة المسجد، وكان الشارع يعج بالمتسوقين، وأنا حيناً أغطي وجهي بشماغي باكياً وحيناً أتأمل الناس وأقول: هل بقي في دنياي معنىً بعدها ؟!، صلينا عليها بعد صلاة المغرب من يوم الجمعة 19/10/1419 هـ، لما قدَّموها للصلاة اقشعر بدني لرؤية أغلى الناس جسداً بلا حراك مسجىً أمام الإمام للصلاة عليه، صلينا وأجهشنا بالبكاء والدعاء لها ثم حملناها إلى المقبرة، وصلنا هناك وبدأوا في تجهيز القبر، لما طلبوا من أحد أقاربها النزول إلى قبرها لوضع الجنازة، أشار عليّ أحد أصدقائي أن أنزل فأشرت بيدي أن لا حاجة، وأنا أقول في نفسي: أتراني أقدر على وضعها في القبر وحثو التراب عليها يا صاحبي ؟ أفديك يا صاحب القبر بنفسي وما أملك لو كنت أستطيع. تم الدفن وبدأ الناس يعزون وأدركت تماماً ألا لقيا يا أماااااااااااه، الناس يسلِّمون ويعزون ومنهم من يقبِّل رأسي ويصبِّرني وأنا لا أشعر بأحد، لا أميز أحداً أمامي !! الآن وصلنا إلى المفترق، الآن لن أراك يا أماه بعد اليوم، من اليوم ستبدأ أحزاني وآلامي، هل للدنيا بعدك من فرحة وهل بقي من السعادة ما يضحكنا يوماً ما ؟ رجعنا للبيت يكسو وجوهنا الأسى وتغشونا الحسرة على الفراق، له في الفم مرارة العلقم، وفي الوجه كسوة البؤس، والحمد لله أولاً وآخراً على ما قدَّر وقضى. امتدت أيام العزاء – كما هو متعارف عليه ولا أصل له في الشرع – أربعة أيام يتقاطر الأقارب والأحبة للعزاء وتسلية المصاب، أجلس معهم في المجلس وروحي وعقلي في وادٍ آخر، يجلس أحدهم بجانبي ليصبرني فلا أشعر بما يقول إلا نزراً، يوضع الطعام للأكل فأنصرف إلى غرفتي الخاصة وأغلق على نفسي كئيباً بئيساً، ولولا نداءات أبي المتكررة وحزمه عليّ بالمجيء للطعام لما وضعت في فمي شيئاً، ليس للأكل طعام ولا للشراب نكهة. كنت فيها أرى الحزن على وجوه إخوتي وأخواتي وأعزيهم وأحاول أن أصبِّرهم وأظنني أنا من أحتاج للتعزية والتصبير، آوي إلى فراشي للنوم فلا يدع التفكير بأمي للنوم سبيلاً إليّ، وإذا نمت قليلاً صحوت فزعاً: (يا رب يا رب يكون الأمر كله حلم وكابوس) فإذا أفقت جيداً وتحققت الأمر رجعت لحالة البؤس والهم. خلال الأيام الأربعة، كان بعض الحاضرين يتكلم – جزاهم الله خيراً – عن المصائب والصبر عليها والأجر المترتب على ذلك، ويأتون ببعض القصص والآثار قال أحدهم إنه سمع المرأة التي غسلت أمي تقول إنها لما غسلت أمي رأت في وجهها بياضاً لم تره قبل، وأنها كلما حركت رأسها لتغسلها اتجه للقبلة كما أخبرت بذلك، وأن علاماتها علامات خير بإذن الله، فاستبشرنا خيراً ودعونا لها، ونحن نعلم أن ما عند الله خيرٌ لها بإذن الله. خلال الأيام التي أعقبت وفاتها، رآها بعض أهلي وأقاربي في المنام وهي بحالة مفرحة ولله الحمد، والرؤيا تسر المسلم ولا تغره، كنت أتمنى رؤيتها في المنام ولو لمرة واحدة فلم يحصل ذلك. عندما زرناها في المقبرة أول مرة مع خالي صباح أول يوم بعد وفاتها ودلفنا إلى المقبرة، رأيت أعداد القبور لا تحصى، ولكن قلبي مرهون بذلك القبر الذي يحوي جسد الحياة الذي مات، وقفت على قبرها وبكيت كثيراً، ودعوت الله لها، ثم خرجنا ولم أرغب بمفارقتها، لكن سنة الله في الكون جارية. أتى موسم الحج من تلك السنة فقررت الحج عنها، وفي أحد أيام الحج، نمت فرأيتها في المنام فصحوت فرحاً مسروراً، كأنما رأيتها حقيقة أمام عينيّ ، وحقق الله أمنيتي برؤيتها. خيم الحزن على بيتنا وقتاً طويلاً فهي – رحمها الله – كانت نور البيت ومصدر سعادته، اجتهد أبي – حفظه الله – في مواساتنا وإدخال الفرح على قلوبنا وتغيير حالنا لكن المصاب لا يزال غضاً طرياً في قلوبنا، اقترح عليَّ أبي أن أتزوج لأفرح وأدخل السرور على أخواتي وأهل بيتي فرفضت ابتداءاً وقلت مالي وللفرح ؟ أيُّ فرحٍ لا تحضره أم خالد ؟؟؟ أبعد فراقها أتزوج ؟ هل أستطيع أن أضحك في يوم زواجي لو أردت الزواج ؟ هل سأقابل الناس فرحاً بزواجي أم حزيناً على فراق أمي ؟ هما ضدان لا يجتمعان ! لا معنى للفرح عندي بعدها! قلت لوالدي: زوجوا أخي لو رغبتم، أما أنا فلا !! أصرَّ والدي كثيراً وأقنعني أن الزواج سيكون نقطة تحول في حياتي وحياة الأسرة جميعاً وسيكون شرارة الفرح الذي يطرد الحزن. وافقتُ على مضض، وعوضني الله عن أمي بزوجة صالحة لم يدُر بخاطري أن أقترن بمثلها، ملأت حياتي سعادةً كما ملئت حزناً قبل، صادف أن كان موعد زواجي يوم جمعة كما كان يوم وفاة أمي كذلك، سبحان الله، ما لي ويوم الجمعة ؟! زواجي كان بعد وفاة أمي بخمسة أشهر لذا كانت خواطري متباينة، أفرح وأنا أدخل على زوجتي في الغرفة المخصصة لذلك في قصر الأفراح، وأحزن حين أتذكر أن أغلى الناس لم تشاركني فرحتي، هي كانت سيدة الموقف لو حضرت وأسعد الناس بذلك اليوم لو قدر الله أن تكون حية وقتها، ولكن إرادة الله ماضية وأقداره نافذة. في اليوم التالي ليوم زواجنا، دعونا الناس للعشاء في استراحة الوالد فيما يسمى بـ (الرحيل) وكنت أستقبل الضيوف مع أبي على باب الاستراحة، وحين كان الضيوف يتوافدون وأنا أستقبلهم، ناداني خالي أخو أمي – رحمها الله – وأمسك بيدي وسحبني بعيداً عن المكان، وقال لي (معي وصاة لك، أمي (جدتي لأمي) رأت في المنام أمك، وهي تمسك المنشفة بيدها وتجهز المكان للضيوف، فقالت لها: وش عندك يا أم خالد ؟ فقالت: وش عندي ؟ عندي عرس خالد مشغولة به) حينها انخرطت باكياً ولم أتمالك نفسي، بكيت بحرقة حتى أن خالي تفاجأ بالموقف ووقع في ورطة، كان أبي يبحث عني حينها لأصافح الضيوف وحين رآني مع خالي خلف جدار الاستراحة استغرب وسأل عن الأمر ورأى حالتي فغضب على خالي وأشار عليَّ بسرعة القدوم لاستقبال الضيوف بعد أن غسلت وجهي وأزلت أثر البكاء. آهٍ يا أماه حتى وأنتِ في قبرك تريدين مشاركتي أفراحي ؟ رحمك الله وتجاوز عنك وجعل مستقرك أعلى عليين. مضى على وفاتها – رحمها الله تعالى وأفسح لها في قبرها مد بصرها وجمعنا بها في الفردوس الأعلى – أكثر من عشر سنوات ولا تزال ذكراها تعشش داخل أحشائي، لا تفارقني ذكرياتها ولا أملَّ من استرجاع شريط الذكريات، أدعو الله لها وأرقق قلبي بالدمع عليها، أراها في المنام كثيراً وأصحو باكياً نشجاً، تراجعني زوجتي في الأمر، تقول مالك ؟ ألم تهوِّن هذه السنوات الماضيات من المصاب ؟ لا لا ستبقى الذكرى لا يمحوها شيءٌ وإن تقادم الزمن وازدحمت الأحداث، إذا زرتها في المقبرة، عادت المصيبة في قلبي جذعة ً كما كانت، لا أرى في المقبرة إلا قبرها كما لو لم يصب من الناس إلا أنا، مع أن المقبرة شارفت على الامتلاء – حينها – إذا سمعت من يتحدث عن أمه، انقبض قلبي وغبطته على نعمته، وذكرته بقدرها وألا يضيع باب الجنة المفتوح أمامه. يسأل أولادي أمهم حين لا أملك نفسي أمامهم أحياناً فأبكي لذكراها ( وش به أبوي ؟ يصيح على ماما ..... ؟ ) إذا أرادوا تسليتي قالوا: (يبه حنا ندعي بصلاتنا لأمي .... وحنا نحبها وودنا نشوفها) ، إذا تذكرت أمي وأنها خرجت من الدنيا ولم تفرح بزواج أولادها ولا رؤية أحفادها ولم تزرها الفرحة إلا قليلاً، أجدني أتحسر وأتقطع ألماً لتقصيري في حقها، ولكن لا راد لقضاء الله، ولات حين مندم، وأرجو الله العظيم الحليم العفو الرحيم أن يتجاوز عنا وعنها بفضله وكرمه. هذه بعض خواطر عن الأحداث استجمعت قواي لتدوينها، أغالب فيها دمعي وأعصر حشاي أسىً وألماً، كلما أردت أن أفتح أرشيف ذكرياتي لتدوينها هنا، هبت عليَّ أعاصير الحزن لتبعثر أفكاري فأرضى منها بما قسم الله، وللخواطر إقبالٌ وإدبارٌ، أكتفي منها هنا بما سطرته، وفي القلب منها الكثير. تم في يوم الجمعة 10 رجب 1430 هـ |
![]() |
الإشارات المرجعية |
|
|