[دعبل نجد]

كنتُ أراه في المسجد بين الفينة والفينة كان مع صِغر سنه إلا أن مشيته مشية عجوز أعرج ..

فافتقدته لبضعة أسابيع ثم مالبثت أن رأيته داخلا خارجا ولكن بقائد يتكيء عليه , وكانت تدور ببالي أسئلة عنه وعن طفولته , هذا الطفل الذي لم يبلغ الثانية عشرة من عمره يعاني كما يعاني أبناء الثمانين والتسعين , كان يدور بداخلي عدة أسئلة كلما رأيته ..

كيف يقضي وقت لهوه ..؟ هل يلهو كما يلهث من في عمره ..؟ ماهو شعوره عندما يرى من هو أكبر منه ومن هو أصغر منه وهم يركضون ويمرحون وهو لا يستطيع أن يشاركهم ..

ظننت في بداية الأمر أن ما به مرض نفسي صعّب عليه المشي والحركة ولكني أصبحت أراه الآن يأتي إلى المسجد على عربة ويصلي وهو عليها يخفظ رأسه تارة ويرفعه تارة ..!!

هذه المراحل رأيتها بنفسي وكثيرا ما أكون بجانبه في الصلاة فينظر إلي قبل الإقامة مبتسما ولكنه لا يحب أن يبدوا ضعيفا على أنه صغير كما أسلفت ..!

عجبت أكثر من حرصه على الصلاة وكم كانت تضيق به الحال بل ويبكي عندما لا يجد من يذهب به إلى المسجد كما أخبرني شقيقه .. هل تصدقون يامعشر الأصحاء ..؟

مع أنه كثيرا ما يتعرض للإيذاء من قبيل الصغار الذين يحركون عربته يمنة ويسرة , بل وأحيانا من بعض إخوته الذين يقودون عربته ذهابا وإيابا للمسجد بكل غلظة خصوصا مع عتبات المسجد الثلاث التي لا يكادون يقفون عندها ..!

جمعني بأخيه حديث ماتع وسئلته عن أحد أقاربه المرضى فقال لي إنه أصيب بداء السرطان وحالته ميئوس منها , فأجبته بالاسترجاع وأن هذا من ابتلاء الله لعباده , ثم سألته عن أخيه المعوق ولكن بشيء من الطرافة حيث أخبرته عن شقاوة إخوته في قيادته ..!

فقال لي : يا أبا عاصم تمنيت أن أخي مصاب بالسرطان حتى يكون عندي أمل في شفاءه ..

صُعِقتُ من كلامه وكيف يقوله وما بأخيه بظني إلا إعاقة قد تكون نفسية يتغلب عليها في قابل الأيام بإذن الله , ولكنه فاجأني بأن حالة أخيه منذ الولادة وهي من سيء إلى أسوأ وأنه مصاب بداء يهد عضلاته هدا وماتدرجه ذاك في مشيته ثم استناده على قائد ثم مسيره على عربة إلا تدرجٌ إلى الأسوأ في ذلك الداء , فسألته عن العلاج وما يقوله الطب الحديث داخليا وخارجيا ..!

فأجابني بأنهم أرسلوا تقاريره إلى أكبر المستشفيات العالمية التي ردت عليهم بعدم استطاعتها على مكافحة ذلك الفيروس المميت للعضلات ..

ظننت بأن الأمر لا يستحق هذه المبالغة منه فقلت : الحمدلله فكثير من الناس عاشوا مقعدين كغيرهم , فأجابني بأن هذا الفيروس عندما يصل إلى عضلات القلب والمخ فإنه يميت مباشرة لأنه يعطلها تماما ويقتلها وهو الآن في طريقه إليها ونرى بأعيننا ضعفه يوما بعد يوم ولا نملك له إلا الدعاء وقراءة القران ..!

فبادرته وهل يعلم هو بذلك خصوصا وأنه في نهاية المرحلة الابتدائية , فقال لي : لا يعلم عن ذلك شيئا فهو يدرس ويتعلم ويؤمل كغيره من الأطفال وعندما تسأله عن أمنيته يجيبك بأنه سيصبح طبيب كبير يعالج نفسه أولا ثم يعالج الأطفال الذين لا يستطيعون اللعب واللهو والاستمتاع بطفولتهم ..!

بعدها أصبحت رؤيتي له مبكية ومحزنة وكم كانت دمعاتي تنزل وأنا أراه يقرأ القران أو يقلب عينيه يمنة ويسرة يوزع ابتساماته على أطفال المسجد , وكلما مسحت على رأسه شفقة تنهال من عيني دمعة لا يجدُ لها تفسيرا فيجيبني بضحكة عريضة تملأ وجهه الجميل ..!

كثيرا ما أتبعه بصري عندما يُخرج من المسجد ولا أدري هل يعود بعدها أم لا ,,

هذه حالي أنا وأنا واحد من جماعة مسجده وجيرانه , فما هي حال أمه وأبيه أعانهم الله ورزقهم الصبر ..!

الأعمار بيد الله وكم نفس ستخرج قبل خروج نفس صاحبنا ولا ندري أينا يدفن أولا ولكن في ذلك الطفل عبرة لكل معتبر , لكل من يتمتع بكامل قواه ويتوانى عن إجابة داعي الله ويتكاسل في أداء حق هذه النعم التي يتقلب بها ..!

أسأل الله له الشفاء العاجل وأن يقر أعين والديه ومحبيه بشفائه وأن يعيننا على شكر هذه النعم والقيام بحقوقها ..