|
|
|
![]() |
#1 |
كاتب مميّز
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
|
المنطق الاسلامي ..
- تعريف العلم:
ما هو المنطق؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الذي كثرت الإجابات عليه، لا بد ان نعرف ان طبيعة أي علم تحددها الغاية منه، قبل ان يحددها موضوعه، فكلما كانت الغاية مختلفة بين دراسة وأخرى وبحث وآخر، فإن كل دراسة تتم بعلم خاص، حتى وإن كان الموضوع واحدا ما دامت الغاية مختلفة. فعلم النحو يشترك مع علم الصرف وعلم متن اللغة وعلم البلاغة و. و. و. في الموضوع، إذ الكلمة العربية هي موضوع كل هذه العلوم، الا ان كل علم يختلف عن غيره في الغاية المتوخاة منه. وغاية العلم والهدف المتوخى منه لا يفرق فقط بين العلم والآخر، وانما يجمع أيضا بين موضوعات شتى كلها تخدم تلك الغاية. فإذا سألنا أنفسنا: ما هي الرابطة بين الحديث عن المسند والمسند إليه وبين الحديث عن النواسخ (كان وأخواتها، وان وأخواتها) في علم النحو؟ لأجبنا على الفور ان الرابطة هي ان البحث في كلا الموضوعين يحقق هدفا واحدا، هو معرفة إعراب آخر الكلمة. ولذلك فإن البحثين كلاهما يدخلان في علم واحد، هو علم النحو. من هنا علينا قبل كل شيء ان نعرف الغاية، التي نتوخاها من أي علم قبل ان نخوض في مسألة تعريفه، إذ ان ذلك سوف يحدد بشكل قاطع علاقة هذا العلم بسائر العلوم، وعلاقة موضوعاته بعضها مع بعض. وفي علم المنطق، لا بد ان تختلف التعريفات انطلاقا من اختلاف العلماء في مسألة تحديد الغاية من هذا العلم. ولأننا تحدثنا في الفصل الماضي عن ان الغاية من المنطق هي تجنب الخطأ.. فإننا نسمح لأنفسنا بالقول (ان المنطق هو علم تجنب الخطأ) أو هو علم البحث عن الصواب، أو علم البحث، أو البحث في البحث، أو البحث في وسيلة العلم، أو أي تعبير آخر يعطينا نفس هذا المفهوم. وهذا يعني ان الصلة بين الموضوعات التي يتحدث عنها المنطق هي صلة الاشتراك في تحقيق هذه الغاية، وهي التخلص من الخطأ. فإبتداءا من معرفة الأخطاء الناشئة من التأثيرات النفسية على الفكر، والتأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والبيولوجية.. ومرورا بمعرفة الأخطاء الناشئة من (طبيعة المنهج) الخاطئ وطرق البحث غير السليمة.. وإنتهاءا بمعرفة الأخطاء الآتية من صور الفكر والفجوات الناشئة بينها… كل تلك الأمور تدخل في رأينا ضمن اختصاصات المنطق، إذ ان هذه الموضوعات المتفرقة تشترك في البحث عن البحث، وتساهم في كيفية تجنب الأخطاء. بهذا المفهوم الشامل للمنطق، يندمج علم المناهج بالمنطق، إذ ان هذا العلم جانب من جوانب السعي وراء الصواب وتجنب الأخطاء . وهذا التعريف في المنطق يشمل، بعد تهذيب وتعديل، كثيرا من التعريفات الأخرى التي نسردها فيما يلي بإيجاز: 1- تعريف أرسطو: قال أرسطو عن المنطق بأنه آلة العلم وموضوعه الحقيقي هو العلم نفسه أو صورة العلم . وابن سينا أحد شراح أرسطو المسلمين لم يتجاوز هذا التعريف حيث قال: (المنطق هو الصناعة النظرية التي تعرفنا من أي الصور والمواد يكون الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا، والقياس الصحيح الذي يسمى برهانا) . وقال الساوي، انه (قانون صناعي عاصم للذهن عن الزلل، مميز لصواب الرأي عن الخطأ في العقائد بحيث تتوافق العقول السليمة على صحته..) . أما القديس توما الأكويني، أحد تابعي ارسطو المسيحيين فقد قال عن المنطق: (انه الفن الذي يقودنا بنظام وسهولة وبدون خطأ في عمليات العقل الاستدلالية) . نقد التعريف: ترى ان هذا التعريف الأرسطي ناشئ من فلسفة أرسطو العامة، التي تفترض ان العلم ينشأ من التصور. لذلك فإن المنطق هو معرفة الصور التي تؤدي إلى التصور. وبالتالي يغفل التعريف دور المنطق التجريبي، لأنه يعرف بالأساس منطق أرسطو الشكلي فقط دون سائر أنواع المنطق. ولكن التعريف لا يغفل بيان الغاية من المنطق، وإدخاله في التعريف، وهي التجنب من الخطأ، بل لا يغفل التعريف في بعض عباراته ذكر الوسيلة التي تحقق هذه الغاية وهي تنظيم الاستدلال. 2- تعريف مناطقة بورت رويال: بالرغم من ان مناطقة بورت رويال يعتبرون من المحدثين، الا ان تعريفهم للمنطق لم يبعد عن حدود تعريف الأكويني السابق حيث قالوا، بأنه هو الفن الذي يقود الفكر أحسن قيادة في معرفة الأشياء سواء أراد ان يتعلمها هو بنفسه، أو ان يعلمها للآخرين. وهناك تعريف آخر للمنطق هو انه العلم الذي يبحث في النواحي العامة للفكر الصحيح، وموضوعه هو بحث مميزات الحكم، لا كظواهر نفسيه ولكن كتعبير عن معارفنا، ويبحث على الخصوص في تحقيق الشروط التي نستطيع بواسطتها الانتقال من أحكام معينة إلى أحكام أخرى تنتج عن تلك الأحكام الأولى . وتعريف رابييه بأنه علم العمليات التي بواسطتها يتكون العلم، ويقول: (المنطق هو اتفاق شروط العقل مع ذاته واتفاق العقل مع الأشياء) . هذه التعريفات، هي الأخرى تستمد من التعريف الصوري أصولها حيث إنها: أ- تهتم بصور الفكر وأشكال الاستدلال، دون ان تهتم بما خلف الصور والأشكال من حقائق. فتناقضات المادة وأسباب الخطأ، النفسية والاجتماعية وغيرهما، لا تهم هذا النوع من المنطق. ب- نهتم بالشروط التي ينبغي توفرها في الفكر والتي يبحث عنها المنطق الشكلي، وهي: الشروط المجردة والصورية، والتي هي مرتبطة بأنواع القياس. فالتعريف إذا هو تعريف نوع واحد من المنطق، هو المنطق الصوري. 3- تعريف ديوي: وتعريف ديوي للمنطق يمثل وجهة نظر مفكر براجماتي، وهو تعريف فضفاض الا انه قد يتلخص فيما يلي: ان الصور المنطقية (تنشأ) أصلا خلال إجراءات البحث؛ ولو وضعنا هذا القول في عبارة مألوفة قلنا ان معنى فكرتنا هو أنه إذا كان البحث في البحث يؤدي بنا إلى معرفة الصور المنطقية، فإن البحث الأول نفسه هو مجال (نشأة) تلك الصور التي يجيء البحث في البحث بعدئذ فيكشف عنها الغطاء . بتعبير آخر، ان طرائق التفكير تنشأ في بداية أمرها حين يتعرض الإنسان فعلا لمشكلات حقيقية يريد حلها فيحاول (استخدام) هذه الوسيلة أو تلك حتى تنحل المشكلة القائمة، فإذا جاء مفكر آخر بعد ذلك وركز فكره على تلك الطرائق ليفهمها كان بمثابة من يبحث في طرائق البحث الأولية ليلقي عليها الضوء ويجعلها موضوع معرفة، أو بعبارة أخرى الصور المنطقية تنشأ في مجال العمل ثم يسلط عليها الضوء فتعرف . وبعد أن نعرف تلك الطرائق نسميها بالمنطق. وعلى ذلك فكل طريق للبحث، هو منطق بحد ذاته، ومنهاج البحث لا يختلف عن المنطق في شيء. وان هناك بحوثا متعددة في تنوعها شاملة في مداها قائمة بيننا بالفعل ولكل من شاء أن يضعها موضع الفحص. فالبحث لأي علم من العلوم هو منه بمثابة دم الحياة، ما دام كل شيء وكل صناعة وكل فكرة يخضع لما يقتضيه البحث، واختصارا فإن الفرض الذي أتقدم به إنما يمثل ما هو قائم بالفعل (في شتى العلوم) فلا عبرة بعد ذلك بالريبة التي قد يحاط بها عند تطبيقه على مجال المنطق . وهذا التعريف يشمل ما يلي: 1- انه يغفل متعمدا ذكر طرق الاستدلال الثابتة، التي يكشف عنها المنطق في تعريف أرسطو، إذ ان ديوي لا يعترف بطرق معينة سلفا للاستدلال والبحث، بل يعتقد ان هناك طرقا لا تحصى للاستدلال، وقيمة كل طريق تظهر بالنهاية عند الوصول إلى النتيجة. 2- انه يدمج مناهج البحث بالمنطق، بالأحرى يدمج المنطق بمناهج البحث، ويزعم ان مناهج البحث هي المطلوبة أساسا، وإذا كانت هناك طرق عامة ومبادئ شاملة نسميها بالمنطق، فإنها تابعة لمناهج البحث لا أكثر إذ تهمه النتيجة أكثر من المقدمات، والهدف من البحث هو الوصول إلى الحقيقة حتى إذا كان من طرق غير ثابتة الصحة سلفا. نقد التعريف: ان أهم بند في تعريف المنطق هو غايته وهو التجنب من الخطأ، وهو بند مغفول في التعريف السابق بينما هو في الواقع غاية علم المنطق. ثم ان انكار البديهيات العقلية، ذلك الانكار الذي يعتمد عليه مبدأ براجماتزم، غير صحيح بالرغم من ان المزيد من الاعتماد على البديهيات والإيمان بها إيمانا مطلقا وبعيدا عن الواقع هو الآخر غير صحيح، وعلى أي حال فإن هذه البديهيات بحاجة إلى أن ننظم علاقتها بين بعضها البعض، وبينها وبين الواقع الخارجي، وجزء هام من المنطق يوفي بهذه الحاجة وهو القسم الصوري منه وإغفال هذه الحاجة ومن ثم إغفال هذا الجانب من المنطق هو إغفال غير صحيح، كما فعل ديوي. علم المناهج: كلمة المنهج مترجمة من كلمة (Methode) وهي مشتقة من كلمة تعني في اللغة اللاتينية، البحث أو المعرفة. وتعني اليوم، طائفة من القواعد والأصول التي تهدف تعبيد طريق الباحث عن الحقيقة. وتفترق المناهج عن المنطق، لدى من يفرق بينهما، حيث المناهج تعني الجانب العملي منها. وعليه فإن المناهج هي مجال تطبيق نظرية البحث في المنطق. وكل فرضية أو نظرية في المنطق، توصي بمناهج تكون منسجمة معها، ولذلك كانت هناك مناهج للاستدلال يوصي بها صاحب المنطق الصوري، وأخرى يوصي بها صاحب المنطق العلمي. ولكن هل المناهج هي هي في كل العلوم ولكل الناس؟ بالطبع لا… فما دام المنهج هو السبيل إلى معرفة الحقيقة، وما دامت الحقائق مختلفة والذين يسعون لكشفها مختلفون فإن المناهج تختلف من باحث لآخر. إذ إنها آتية من داخل البحث، فكل بحث يوصي بمناهج تخصه بالرغم من انه يشترك مع سائر البحوث في المناهج العامة، وهي التي تذكر في علم المناهج. يقول كلود برنارد: (ولا بد للمجرب ان تختلف عمليات البرهان لديه إلى غير نهاية، وفقا للعلوم المختلفة. ان روح صاحب التاريخ الطبيعي ليست هي بعينها روح صاحب علم وظائف الأعضاء، وروح الكيميائي ليست روح الفيزيائي، والتعاليم النافعة هي وحدها الصادرة عن التفاصيل الخاصة بالممارسة التجريبية في علم معين بالذات) . وبما أننا عرفنا المنطق بأنه علم تجنب الأخطاء، وبما ان المناهج وسيلة لتجنب الخطأ، فإن المناهج عندنا جزء من المنطق، وبهذه الرؤية سوف نعالج المناهج في فصول الكتاب. العلاقة بين الفلسفة والمنطق: ما هي بداية مسيرة الفكر البشري؟ هل هي الفلسفة أم المنطق؟.. الواقع ان الفلسفة هي مجموعة بحوث فكرية، تستهل بالبحث عن المعرفة، مصادرها وقيمتها… وهذا البحث هو أيضا مستهل البحوث المنطقية.. فلولا معرفة مصدر المعرفة الصحيحة وقيمتها، لما استطاع الإنسان أن يخطو أية خطوة لا في حقل الفلسفة ولا في حقل المنطق. وسواء أدرجنا هذا البحث (البحث عن المعرفة) في الفلسفة أو المنطق، فإنه بداية مسيرة الفكر البشري، أما غيره من بحوث الفلسفة فهي تأتي بعد بحوث المنطق.. إذ انها تستهدف عصمة الإنسان من الخطأ.. في كل البحوث، والبحوث الفلسفية منها بالطبع. وجون ديوي، يرى ان علاقة المنطق بالفلسفة، كما علاقة المنطق بالبحث ذاته، هي علاقة جدلية فكل تغيير في أحدهما ينعكس على الآخر ويقول: (وعلى أية حال، فالمنطق من حيث الأصول الأولية لمادته، فرع مشتق من المذهب الفلسفي بحيث تجيء وجهات النظر المختلفة إلى موضوع دراسته معبرة في النهاية عن فلسفات مختلفة. ثم تعود النتائج التي ينتهي إليها المنطق فتتخذ أداة لتأييد الفلسفات التي ما كانت تلك النتائج الا نتائجها. وما يطرأ على الذهن هو ان ذلك يؤدي إلى التنقص من شأن المنطق بجعله عاجزا عن ان يكون مستقلا بذاته، ففي ظاهر الأمر قد يبدو من غير الملائم للنظرية المنطقية ان تتشكل تبعا للمذهب الفلسفي واقعيا أو مثاليا.. عقليا أو تجريبيا.. ثنائيا أو واحديا.. ذريا أو كليا.. عضويا في منحاه الميتافيزيقي). ومع ذلك، فحتى لا يفصح المؤلفون في المنطق عن ميولهم السابقة في اتجاهاتهم الفلسفية فالتحليل يكشف عن الرابطة (بين تلك الميول وما يذهبون إليه من نظرية منطقية…) . ثم يكمل ديوي نظريته عن جدلية العلاقة بين المنطق والبحث ذاته، فيقول: (ان الصور المنطقية "تنشأ" أصلا خلال إجراءات البحث) . والواقع ان عملية البحث تفيدنا وضوحا في الرؤية باعتبارها التصاقا بالواقع وممارسة حية له.. الا ان الرؤية الحقيقية لا تأتي مباشرة من الواقع انما من العقل، إذ العقل هو الذي يضع القواعد لمعرفة الواقع والمنطق هو من العقل فهو الذي يعطينا الرؤية.. ولكن لا مجردة عن الواقع بل ملتصقة به. وبذلك نعرف ان المنطق والبحث يكتملان، لأن المنطق يعطينا الرؤية والبحث يبلورها. وكذلك الفلسفة هي بحوث عقلية، وواقعية في ذات اللحظة. إذ أن أي خطوة نخطوها في حقل الفلسفة نعتمد فيها على عكازتين، على عقل هاد، وعلى توجيه هذا العقل على الواقع، وبالتالي على بصيرة، وبصر لا غنى لأحدهما عن الآخر. ومن هنا فإن الفلسفة ملتصقة بالمنطق، كما ان المنطق محتاج إلى الفلسفة. فصول الكتاب ومنهجه العام وفصول الكتاب تتوالى كما يلي: 1- تطور الفكر المنطقي حيث يعالج فيه ثلاثة مواضيع رئيسية هي: أ- دور نشوء المنطق القديم وتكامله ثم انحطاطه. ب- المنطق الحديث؛ نشأته وتكامله ومذاهبه الحالية. وحاولنا في هذا الفصل إبعاد المنطق عن الفلسفة، قدر الإمكان بالرغم من ارتباطهما العضوي. ثم حاولنا التبسيط قدر الإمكان بلغة مفهومة نسبيا. وأخيرا ألقينا نظرات فاحصة، على كل نوع من أنواع المنطق، كما أبدينا ملاحظاتنا عليها. ج- وفي نهاية هذا الفصل ألقينا نظرة على المنطق الحديث وعما هي الأسئلة التي يعالجها، والاتجاهات المختلفة والتي تعالج تلك الأسئلة. وأخيرا الصيغة التي انتهى إليها هذا المنطق. 2- أصول المنطق الإسلامي: حيث يكمن أهم فصول الكتاب بالرغم من صفحاته المعدودة.. والسبب ان الكتاب وضع لبيان المنطق الاسلامي، قواعده ومناهجه، وكل ما في الكتاب من بحوث منطقية، هي بمثابة تمهيد لمعرفة المنطق الإسلامي. لكن لماذا أوجزنا الحديث حول هذا المنطق في هذا الفصل؟ الواقع، ان طريقة معالجتنا لسائر بحوث المنطق إنما كانت ببيان رؤية الإسلام فيها، وذكر نصوص من القرآن ومن السنة مرتبطة بها. وهذه كفيلة بتوضيح المنطق الإسلامي في كل بحوث الكتاب، وإنما وضع هذا الفصل لوضع قواعد المنطق الإسلامي وبيان خلفياته. 3- كيف نتجنب الخطأ: لأن جزءا كبيرا من مشكلة المنطق هي مشكلة نفسية، آتية من عقد نفسية، أو ضغوط اجتماعية أو تربوية، أو حتى ضغوط آتية من تركيب الجهاز العصبي، وبالتالي من العوامل المادية المؤثرة فيه.. لذلك خصصنا فصلا من الكتاب حول هذا الموضوع بالذات. نبحث في هذا الفصل عن تداخل المشكلة الفلسفية بالمشاكل النفسية المؤثرة، ونبحث عن الغرائز: ما هي وهل هي متعددة أو واحدة؟ وعن الجذور النفسية للخطأ وامتداداتها، وعن وراثة الأفكار من الآباء ومعالجة مدى حرية الإنسان في رفض الأفكار الموروثة. ثم بحثنا شيئا عن حب التوافق المتجذر في الإنسان، والذي يشكل خلفية المنطق الاجتماعي، الذي آمن به طائفة من المفكرين. ثم بحثنا شيئا عن الأخلاق الذميمة، ومدى تأثيرها على البحث العلمي. 4- كيف نختار المنهج السليم: يعتبر هذا القسم تمهيدا للفصول القادمة، وهو الحديث عن الأخطاء الآتية من منهج التفكير. فاختيار المنهج الخاطئ، أو المنهج الناقص، يؤثر بصورة حاسمة على نتائج البحث، ويقضي عليها سلفا بالفشل. وفي مبتدأ الفصل، عالجنا جذور الاختيار للمنهج والضغوط النفسية التي تكمن وراء عملية الإختيار، بينما في نهاية الفصل بينا جانبا من تطبيقات الاختيار السيء، وهو اختيار المنهج الخاطئ أو الناقص. 5- مناهج الاستقراء: وقد تحدثنا عن هذا الفصل بإسهاب، مما جعله اكبر فصول الكتاب حجما، ففي المقدمة تحدثنا عن طبيعة المنهج، ثم تعريف الاستقراء، ثم قواعد الاستقراء، من الملاحظة، والتجربة، والفرض، والنظرية، وطرق التجربة، وفكرة السبب، وطبيعة القانون. 6- مناهج العلوم الإنسانية: في هذا القسم عالجنا تطبيقات المنطق الاستقرائي في علم الاجتماع، وعلم التاريخ، وقد استوعب البحث مجالا واسعا في هذين العلمين، وبينا فيه نظرات عديدة للإسلام في مختلف أقسام هذين العلمين الهامين. 7- مناهج القياس: وقع هذا الفصل آخر الكتاب لأهميته المحدودة في مجال التطبيق، ويتناول المنطق القياسي؛ المنطق الشكلي الأرسطي، مع اضافات العلم الحديث، كما يتناول جوانب من المنطق الرمزي حيث ينتهي الكتاب بعون الله. منهج الكتاب على ضوء النقاط التالية حددنا منهج الكتاب: 1- ضرورة شمول المنطق واحتوائه على كافة أنواعه ومناهجه، ليضع عند القارئ عقلية نافذة تتجاوز التقسيمات المصطنعة، وتصل إلى روح المنهج السليم للتفكير وللبحث، وقد يقع الشمول عندنا على حساب الوضوح والشرح، وهذا أمر وقعنا فيه أحيانا بالرغم من محاولاتنا الجادة لتجنبه. 2- ضرورة تطعيم البحوث المنطقية الحديثة برؤى إسلامية أصيلة، إيمانا منا بأن هذه العملية تغني الفكر المنطقي الحديث، بمعاني جديدة ونافعة تقدر (هذه المعاني) من دفع التناقض الظاهري، بين أنواع المنطق، وكشف القواعد العامة، التي لا بد ان تحتكم إليها هذه الأنواع المختلفة من المنطق. 3- ضرورة الإيجاز غير المخل في كتاب يقدم ليكون تمهيدا لبحوث ودراسات، أكثر عمقا واتساعا. وحسبي من هذا الكتاب رجاء رضا الله تعالى، وأن يطرح الكتاب أسئلة جديدة في مجال الفكر. أصوله ومناهجه المنطق الإسلامي القسم الأول عن: تطور البحث المنطقي كلمة البدء المنطق الاغريقي المنطق الحديث اتجاهات المنطق الحديث آراء في المنطق كلمة البدء في حديثنا عن تطور المنطق نلقي نظرة على ثلاثة أدوار من تطور الفكر المنطقي: 1- دور نشوء المنطق القديم. 2- دور نضوج المنطق القديم. 3- دور المنطق الحديث، منشأه وواقعه. وقد وجدنا صعوبة كبيرة في فصل الفكر المنطقي عن الفكر الفلسفي، في الوقت الذي كان الأول أم الثاني، وبالتالي لا تتكامل النظرة العلمية بدون معرفتهما معا. لكن بالرغم من ذلك أجهدنا على إبعاد المنطق عن أمه الفلسفة، لسبب بسيط هو ان حديثنا في هذا الكتاب يختص بالمنطق، وحشر الفلسفة فيه يسبب التشويه والتعقيد. ونتحدث عن سير الفكر المنطقي، من ثلاث زوايا: 1- زاوية تاريخية، تحدد مرحلة كل نوع من المنطق ـ الزمنية ـ وتعطينا فكرة عن دورها الإيجابي في بناء صرح المعرفة. 2- زاوية فلسفية، تبين القاعدة الفكرية التي ينطلق الفكر المنطقي منها ويعتمد عليها في صحتها. 3- زاوية الهدف، تشرح الغاية التي استهدفها المنطق.. ذلك لأن كل منطق، نابع من حقل اجتماعي يخلف عليه أثرا واضحا، حتى قال دركايم وتابعوه: إن المنطق ليس سوى وجه المجتمع الذي يظهر فيه لذلك يكون من الضروري التلميح بالظروف الاجتماعية التي ترافق تكوين المنطق. فالمجتمع الاغريقي في عهد سقراط، وما نشأ فيه من أفكار متناقضة تعتمد على الجدول الفارغ لإثبات الآراء السياسية المتطرفة. هذا المجتمع كان ذا طابع بيّن في منطق سقراط ثم أفلاطون وأرسطو. فشرح منطق سقراط دون معرفة الزاوية التاريخية منه يبدو ناقصا بعض الشيء. البحث عن الأصول الفلسفية: ولكن من الاجحاف بحق الفكر القول بأن المنطق ظاهرة اجتماعية تماما، كما ذهب إلى ذلك المنطق الاجتماعي. ذلك لأنه لا يدعنا نبحث عن نسبة الصحة فيه معتمدين على المقاييس العقلية الثابتة. لذلك كان من الواجب البحث عن الأصول الفلسفية التي تفرع عنها الفكر المنطقي، مثلا نظرية المثل الأفلاطونية لا بد من معرفتها ولو اجمالا حتى نستطيع فهم منطقه بصورة أعمق، ذلك بالرغم من ان طائفة من العلماء وضعوا أفكارهم المنطقية ثم التمسوا لها مبررات فلسفية، حسبما يستطيع الباحث تلمس الهدفية في أفكارهم المنطقية بوضوح، أي تلمس هدف محدد يتطلع نحو إثباته الفيلسوف منذ ان يبدأ بشرح أفكاره. معرفة الهدف: ومعرفة هذا المنطق لا يمكن بدون معرفة الهدف منه، لأنه موظف أساسا في خدمة هذا الهدف. وهذه هي زاوية الهدف، التي لا بد أن ننظر إلى كل نوع من المنطق عبرها. بيد أنه ليس من الضروري إقحام هذه الزوايا الثلاث في كل منطق، حتى ولو لم يكن فيه وجه منها، لأنه بعيد عن الروح العلمية في البحث، إنما نلتمسها، فإن وجدناها أدرجناها، وإلا أعرضنا عنها. ولا بد أن نسجل أخيرا هذه الملاحظة: ان الحديث القادم يقتصر على بيان تاريخ المنطق، فلا يشمل تفاصيل كل منطق، لأنها إذا كانت مفيدة… ذكرناها عند بيان المنهج، مع حذف المكررات، والا أعرضنا عنها. فإلى الدور الأول: للفكر المنطقي الذي يتمثل في المنطق الاغريقي بأبطاله الثلاثة: سقراط، أفلاطون، وأرسطو. القسم الأول عن تطور البحث المنطقي البحث الأول عن: المنطق الاغريقي كلمة البدء أفلاطون وأرسطو منطق ارسطو والمنطق الرمزي المسلمون والمنطق الاغريقي كلمة البدء يلاحظ الباحث في تاريخ الاغريق السياسي والاجتماعي، في الفترة التي ظهرت فيها الفلسفة الأفلاطونية ـ الإشراقية، والمنطق الأرسطي الشكلي… يلاحظ أنه كان يتسم بطابع الفوضى السياسية حيث ظهرت جماعات وصولية، كان همها الوحيد بلوغ مصالحها الخاصة واستخدمت لذلك الديمقراطية المحدودة التي كانت تتمتع بها البلاد الاغريقية آنئذ، كما وظفت الفلسفة الرائجة في خدمة أهدافها الرخيصة. وكانت الجماعة السوفسطائية من أبرز هذه الجماعات. إسم السوفسطاء يعني العالم. وكانت هذه الجماعة تطلق على نفسها اسم الحكيم ادعاءا للثقافة، وكانت تتخذ أسلوب الجدل الفارغ في سبيل دعم نظرياتها. ولم تكن تعترف بمقاييس عقلية، لذلك كانت تشكك في كل شيء. وإذا اضطرها الأمر راحت تشكك حتى في وجود الأشياء وتأتي بالأدلة لدعم نظرتها التشكيكية، لذلك سميت كل طائفة مشككة بالسوفسطائية. ونتج عن ذلك فوضى في الحقل السياسي وارتباك في الحقل الثقافي. مما أثار حفيظة المفكرين ـ وكان في طليعتهم سقراط ـ لوضع أسس رصينة للسياسة والثقافة تتصدى للجماعة الوصولية. فجاء سقراط بأسلوب الحوار، وجاء أفلاطون بطريق التحليل، وجاء أرسطو بمنطقه التركيبي، ليكوّنوا تحديا قويا ضد الأفكار الوصولية والتي كانت في مقدمتها الأفكار السوفسطائية. 1- سقراط (469-399ق.م): بما ان السوفسطائيين كانوا يتلاعبون بالألفاظ كأية جماعة وصولية أخرى.. فإن سقراط بدأ عمله بفن الحوار، أو حسب تعبير بعضهم (فن توحيد المعاني)، وكان هذا الفن يعتمد على البحث دون ملل عن التعريف الحقيقي للأشياء، أي التعريف الذي يعبر عن ماهية الشيء المعرَّف بغية سد الطريق أمام خصومه للتلاعب بالفظ عن طريق استخدامه في غير معناه الدقيق. وهكذا كان سقراط واضع باب التعريف في المنطق القديم. ولم يقتصر منطق سقراط في وضع التعاريف، بل إنه ـ كما يلاحظ في بعض أنواع حواره ـ كان يريد البدء بما يعتقد به الخصم، ثم ينطلق منه نحو أمور تترتب على قوله حتى يصل به، عن طريق وجدانية، إلى الأمر المطلوب. لهذا نستطيع اعتبار سقراط من الذين اعتمدوا كليا على الأسلوب الوجداني، لمعرفة الأشياء. ومهما يكن من أمر فإن منطقه لم يتبلور حتى إلى درجة اعتباره منطقا برأسه. إنما نجح في هدفه الذي توخاه وهو إعادة الناس إلى أفكارهم.. واعطائهم الثقة بوجدانهم بعيدا عن فوضى السياسة وتشكيك الجدل. أفلاطون وأرسطو 2- أفلاطون (427-347ق.م): واتخذ تلميذ سقراط طريق التحليل لمتابعة مسيرة أستاذه ولكنه اهتدى إلى جذر مشكلة التشكيك، وهو عدم الإيمان بالمقاييس العقلية، فحاول وضع فلسفة ترد الاعتبار للعقل، وذلك عن طريق إيمانه بالمثل التي اشتهر بها. يزعم أفلاطون أن الإنسان عاش بروحه المثالية قبل أن يعيش ببدنه، في عالم المثل الذي كان يعيش فيه أيضا صورة محدودة عن الأشياء. وهناك عرف مثال الإنسان، مثل الأشياء. وبتعبير آخر، علمت روح الإنسان، روح الحقائق. وبعد ان جاء إلى هذا العالم نسي الإنسان بعض ما عرفه من الحقائق، وهو بحاجة إلى المنبهات الخارجية، لكي يتذكرها. ولكنه إذا تذكرها فهو ليس بحاجة إلى مزيد من الأدلة لتثبت صحة معارفه. وهكذا استهدفت نظرية المثل الأفلاطونية وضع أسس ثابتة للفكر، عن طريق إثبات عالم سابق عرف الإنسان فيه جميع الأشياء. وبعد ان وطد قدم العلم على أساس ثابت ـ بزعمه ـ مضى في طريق التحليل الذي يوجز في إتخاذ إحدى القضايا، وافتراض انها مسلمة لا ريب فيها بشرط ان تكون القضية منطبقة على الموضوع المبحوث عنه، ثم يستنبط منها النتائج. فإذا كانت النتائج صحيحة عرفت صحة القضية، واذا كانت فاسدة عرف بطلان القضية. وهذه الطريقة كثيرة الاستعمال في الرياضة وتسمى بطريقة التفنيد. واستعار أفلاطون من الهندسة برهان الخلف، والذي يحتل مكانا بارزا في المنطق. ولم يزل هنا تطور لم يبلغه أفلاطون في منطقه، إذ انه يدع الحد الأوسط الذي نجده في المنطق الأرسطي، وانه يدع الاختيار للطرف الثاني، بينما يحاول أرسطو إسكاته بإلزامه بالنتيجة. وحتى نبلغ أرسطو، لم يزل المنطق الاغريقي في دور الطفولة، إذ انه يكتمل على يد أرسطو. 3- أرسطو (384-322ق.م): توجهت همة أرسطو إلى وضع أسس للفكر سليمة، بحيث لا تستطيع السفسطة إحداث الفوضى في الأفكار. وفعلا قام بوضع هذه الأسس بالطريقة التالية: حدد أشكالا للتفكير تعتمد على إظهار الرابط بين فكرة وأخرى مشتقة منه. فمثلا: نحن نعلم أن زيدا واحد من البشر، فإذا عرفنا أن كل البشر يموتون، فلا بد ان نعرف ان زيدا أيضا يموت. هذا التفكير بسيط للغاية، ولكن أرسطو يضعه في قالب معين يبرز الواسط بوجه خاص، كالمسيرة المحددة التي تجري خلالها الفكرة فيقول: زيد بشر ـ وكل بشر يموت ـ فزيد يموت. وتبعا لوضع هذا الرابط، والذي يسميه أرسطو بالحد الأوسط، يختلف مدى قوة القالب في تناسبه مع النتيجة الصائبة. لكن أرسطو لاحظ عجزا في قدرة القوالب الفكرية عن إعطاء النتائج الضرورية دون تحديد دقيق للأشياء، فأخذ يقسم الألفاظ ويحدد معانيها، لعله يتوصل عن طريق هذا التحديد إلى التعريف الحقيقي للاشياء. من هنا كان أرسطو أول من بين ضرورة التمييز بين الكليات الخمس ونعني بها: الجنس والنوع والفصل والخاصة، والعرض العام. تعريف الجنس: فإذا اعتبرنا الحيوان جنسا فالإنسان نوع من أنواعه، والميزة التي تميزه عنه تمييزا قاطعا هي النطق، وهي ما عبر عنها أرسطو بـ(الفصل): و(الخاصة) وهي التي تميز الإنسان ـ مثلا ـ عن الحيوان أيضا، ولكن ميزتها له ليس فصلا كالنطق بل هي على سبيل المثال كالضحك وهو ما يدعوه أرسطو بالخاصة. وأما العرض العام فهو لا يميز الإنسان عن سائر الحيوان كالمشي على القدمين. وخرج أرسطو من هذا، أن التعريف بالجنس والفصل هو التعريف الجامع المانع، كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق فهو ينطبق على الناس جميعا وبذلك يكون جامعا لأفراده، وفي الوقت ذاته يمنع سائر الكائنات الحية عن الاشتراك معه في هذا التعريف، وبذلك يسمى مانعا. ولم يعد أرسطو أن بين خصائص التعريف الصحيح، والتي توجز في ضرورة إدخال الشيء في نوع معين وتمييز هذا النوع ـ عن سائر الأنواع ـ بصفة لا يشترك غيره فيها أبدا. ولكن، كيف نعرف هذه الصفة؟ كيف نعرف مثلا ان الانسان فقط ينطق وان الخيل فقط تصهل؟ هذا السؤال الذي يعتبر جوهر المشكلة عند الإنسان لم يتعرض له منطق أرسطو، لذلك أعتبر منطقا شكليا أو صوريا. فلو أردنا تغيير الألفاظ، من حيوان وإنسان وناطق… عن صيغتها الأصلية (الإنسان حيوان ناطق) إلى رموز، فقلنا: ح = أ + ب، لم يمنعنا عنه منطق أرسطو. إذ إنه يبين فقط العلاقات الدقيقة التي تربط بين حقيقة فرضية وأخرى، تماما كالرياضة التي لا تهتم بمحتويات الأشكال بقدر ما تهتم بذاتها. وقد وضع أرسطو إسما لمنطقه منتزعا من هذه الصفة التي فيه؛ أي صفة الصورية. والإسم هو (لوجيك) والاشتقاق الأصلي لهذا الإسم يعني الكلام، وسماه أيضا بما يعني اله العلم وهو (أورجانون). وقد يكون لفظ (المنطق) بالعربي نابعا من ذات الصفة. المنطق بعد أرسطو: نجد تعريف المنطق عند توماس الأكويني في العصور الوسطى بأنه: فن يكفل لعمليات العقل الاستدلالية قيادة منظمة ميسرة خالية من الخطأ. وهذا التعريف شاع في كثير من تابعي المنطق الأرسطي. هذا التعريف يدل على وظيفة المنطق عند علماء القرون الوسطى وهو توجيه علاقة فكرية بأخرى، من دون تخصيص ذات الفكرة، وذلك في مقابل المنطق التركيبي الذي يعتني بمادة الفكرة ومصدر معرفتها. ولم يكن هم المدرسين، الذين اتبعوا منطق أرسطو، فيما بعد، سوى فهم هذا المنطق، مع المبالغة في الاعتماد عليه حتى نتج من ذلك الاعتقاد ان الصور الفكرية التي وضعها أرسطو، لكي تحدد علاقات الأفكار هي بذاتها أفكار تغنيهم عن العلم، وكان مثلهم في ذلك مثل من يتخذ من الأشكال الهندسية بيتا وهميا، إعتقادا منه بأن هذه الأشكال وحدها تكفي عن المواد التي يجب ان تتشكل بها. وإنما تطور منطق أرسطو بسببين: الأول: دخول أفكار إسلامية فيه، حسبما سيأتي الحديث عنه إن شاء الله.. الثاني: تبدله إلى منطق رمزي. فما هو المنطق الرمزي؟ المنطق الرمزي: منطق أرسطو كرس ذاته للكشف عن علاقة فكرة بأخرى، دون البحث عن مصادر هذه الفكرة، فهو يقول مثلا: إذا كان الإنسان قادرا بذاته على بلوغ القمر، فإن زيدا قادر على ذلك أيضا، وذلك لأن: الإنسان قادر على بلوغ القمر.. وزيد إنسان والنتيجة أن زيدا قادر على ذلك. فالعلاقة بين الفكرة الكلية والفكرة الجزئية هي علاقة إيجابية يفرضها أن الجزئي ـ زيد ـ ضمن أفراد الكلي ـ إنسان. إيجاد الرمز لمعرفة العلاقة: فالبحث عن العلاقة هو جوهر منطق أرسطو، وهو أيضا جوهر المنطق الرمزي، الذي يتلخص في أنه ما دمنا لا نعتني في المنطق الأرسطي بمادة الفكر ومصدره الذي نبع منه، بل نكرس جهدنا لمعرفة علاقة فكرة بأخرى، فالأفضل ايجاد رموز للأفكار لمعرفة العلاقة بينها، دون ذكرها هي، لأن النفس قد تتجه ـ إذا ذكرت الأفكار ـ إليها، وتترك البحث عن علاقتها ببعضها. ففي المثل السابق، ما دمنا لا نريد البحث حاليا عن صدق هذه الفكرة (قدرة الإنسان على بلوغ القمر) ولا عن صدق هذه الفكرة (زيد من أفراد الإنسان). بل إنما نريد أن نعرف العلاقة بين هذه الفكرة وتلك، فالأفضل ايجاد رمزين لهما لنركز أفكارنا حول علاقتهما ببعضهما فنقول أ = ب، ح = أ، ح = ب. وهذا كما ترون ذات الصورة التي يشكلها المثال السابق، والتي نجعل بعضها تحت بعض هكذا: أ = ب (الإنسان) (قادر على صعود القمر) ح = ب (زيد) (إنسان) النتيجة ح = ب (زيد) (قادر على صعود القمر). هنا يكون المنطق الرمزي، هو الخطوة التالية في طريق الكشف عن علاقات الأفكار ببعضها. فالمنطق الرياضي ليس جانبا آخر من المنطق يباين المنطق الأرسطي وإنما هو منطق صوري في ثوب جديد. والفائدة الجديدة التي استطعنا تحقيقها من هذا المنطق تتلخص في أمرين: 1- القدرة على تحديد العلاقة الدقيقة بين الأفكار، والتي تنعقد حينما تتسابق الأفكار فنتمكن آنئذ من تحويل الأفكار، فورا، إلى رموز ثم تحديد العلاقات بينها، ثم إعادة فض الرموز وتحويلها إلى الأفكار وأخذ النتيجة منها. 2- القدرة على معرفة علاقات جديدة بين الأفكار، مما أفادتنا السرعة في اجتياز مراحل التفكير الدقيق. والمعرفة الشاملة للمنطق الرمزي تعتمد على إلمام كاف بالجبر وقواعده العديدة. والذي يعرف الجبر يعرف وجود فرص كبيرة للعقل في البحث عن أساليب جديدة لحل المشاكل الرياضية. وذات الفرص موجودة في المنطق الرمزي لإيجاد حلول جاهزة وسريعة للمشاكل الفكرية. وقد عمل الفلاسفة والعلماء في سبيل استثمار هذه الفرص وإيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الفكرية. ولا ريب أنهم وفقوا كثيرا في ذلك. تقييم منطق أرسطو: لقد تعرض منطق أرسطو لكثير من الهجمات ربما كانت تحاول مناهضة الإفراط في الثقة به خلال ألفي عام. لكن بعيدا عن روح التهجم أو الثقة، يقيّم هذا المنطق بأنه نظم مسيرة الفكر الإنساني في قبالة التطرف والفوضى والسفسطة. ولكنه من جهة أخرى، قيد هذا الفكر بتركيزه الكبير على الجانب الصوري منه، أي انه لم يحاول البحث عن مصدر الأفكار بمقدار ما كرس بحوثه حول علاقة الأفكار ببعضها، وكان مثله مثل من يبذل جهده في جمع الأعداد وتفريقها دون أن يفكر فيما وراء هذه الأعداد من حقائق تدل عليها. فمنطق أرسطو الشكلي، بإهتمامه بشكل التفكير واغفاله عن البحث عن مادة التفكير وموضوعه، سبب تناسي دور السلبيات البشرية التي تدعو إلى الضلالة، كما تناسى دور العقل في تحدي هذه السلبيات. ولذلك لم يوفق هذا المنطق في إعطاء الإنسان مزيدا من التقدم الفكري. وبسبب من تأثير المنطق الأرسطي الشكلي، والذي يبرز فيه جانب الإطلاق والعموم، انطبع المفكرون في القرون الوسطى بطابع الإطلاق وسرعة انتزاع الكلي من جزئيات صغيرة. فكان يكفي الواحد منهم أن يلاحظ عدة أحداث جزئية… حتى يحكم بكلي يشمل ملايين من أمثال تلك الأحداث. ثم تحول المفكرون إلى الاعتقاد بأن المنطق الأرسطي طريق الوصول إلى الحقائق، غافلين عن انه منهج للتفكير.. والتفكير هو الطريق.. فأخذوا يركبون القياسات بعضها فوق بعض لعلهم يقفون عليها ليروا الحقائق جميعا. ان القوالب الفكرية تحولت عند هذا الفريق، إلى أفكار استغنوا بها عن التجربة. بل زعموا انها تغنيهم حتى عن عقولهم.. وهكذا لفهم الجمود. وخلاصة القول، ان منطق أرسطو بالرغم من تنظيم الفكر، ابتلي بثلاثة نواقص: 1- تناسي دور السلبيات البشرية في تضليل الفكر. 2- إطلاقية توجيهه.. مما سبب في إيجاد طابع الإطلاق عند تابعيه. 3- تحول المنطق إلى أفكار بينما لم يكن سوى مناهج للتفكير. المسلمون والمنطق الاغريقي لا ريب أن الإسلام جاء بروح علمية جديدة تفتحت عن مناهج متطورة للبحث، ولكن المسلمين لم يستثمروا الا قدرا ضئيلا من إمكانات هذه الروح العلمية، وبنفس المقدار، اختلفت معارفهم عن معارف العصر الذي عايشوه. بيد أن ذلك لا يعني أنهم سلموا تماما من جمود القرون الوسطى الفكري والذي ظهر في المنطق بشكل بارز، انما يعني انهم كانوا، خصوصا في بعض الفترات، يستضيئون بنور القرآن، وما يهدي إليه من روح البحث العلمي في مجال المنطق التركيبي. وقد أثرت هذه الروح عميقة في كتب الفقه والرجال، لأنها كانت من اختصاص أشد فئات المجتمع المسلم تحفظا، وفي كتب الرياضيات نوعا ما لأنها لم تستطع التقدم الا بالانفصال عن الفلسفة. وقليلا ما أثرت في العلوم الطبيعية. بينما كان أثر المنطق الصوري كبيرا في كتب الفلسفة، لأنها كانت غريبة على الواقع الفكري للمسلمين، وانما اختص بها، بادئ الأمر، أولئك الذين آثروا الابتعاد عن التعاليم الدينية. بل لم يحتضن الفلسفة أول الأمر سوى الأقليات الدينية في البلاد وسربوها في الثقافة الإسلامية، عن طريق العلوم المفيدة كالطب والهندسة والفلك. وبالرغم من ان المناهج العلمية، التي جاءت بها تعاليم السماء، خصوصا في حقل العلوم التجريبية، لم تتبلور لدى المسلمين، فإن المسلمين قد جمعوا هذه التعاليم وفرضوا دراستها على طلاب العلوم الدينية كجزء من مناهج دراستهم. فهناك كتاب ألفه الشيخ عبد الباسط موسى بن محمد العلموي المتوفي في دمشق عام 981 هجرية، وسماه (المعيد في أدب المفيد والمستفيد) عالج فيه أسلوب الرواية المعروفة للعلم وأساليبها وطرقها وشروطها. وكتاب مماثل لا يزال يدرس في بعض الجامعات الدينية ألفه الشيخ زين الدين العاملي وسماه (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد). ويوصي هذا الكتاب بأفضل التعاليم العلمية، التي يظهر منها مدى تشبع المسلمين بروح المنطق الإسلامي بالرغم من عدم بلورته لديهم. كما يوصي الكتاب الأول بطرق مفيدة للمناهج العلمية، فمثلا يقول: (إذا اشترى (المتعلم) كتابا نظر أوله وآخره ووسطه وترتيب أبوابه وكراريسه واعتبر صحته، فإذا رأى فيه إلحاقا أو إصلاحا فإنه شاهد له بالصحة، ولا يهتم بالمبالغة في حسن الخط، وانما يهتم بحصته وتصحيحه، وعليه مقابلة الكتاب بأصل صحيح موثوق به، فالمقابلة متعينة للكتاب العربي الذي يرام النفع به). ويرى كثير من مؤرخي الحضارة الغربية أنها وليدة الروح العلمية، التي تسربت إلى الغرب من بعض مراكز اشعاع الفكر الإسلامي كالأندلس. ويقول بعضهم في معرض حديث عن أولى محاولات الفكر الأوروبي للتحرر من شكليات المنطق الأرسطي الجامد: (وترجع هذه المحاولة إلى القرن الثالث عشر الميلادي عندما نقل العرب الروح العلمية والرياضية إلى أوروبا، وقد أراد روجر بيكون تحرير معاصريه من التفكير المدرسي والتأليف بين التفكير الرياضي والتجربة). القسم الأول عن تطور البحث المنطقي البحث الثاني عن: المنطق الحديث كلمة البدء. المذهب الديكارتي في المنطق. اسبينوزا ولابينتس. لوك والقيمة الحسية. كانت وبرمجة التفكير البشري. فيخته. شبلنك. هيجل.. ونظريته المنطقية. كلمة البدء لم يكن هم المفكرين في أوروبا إلى القرن السادس عشر، سوى اعادة تركيب المنطق الارسطي واعادة هضمه والتدبر فيه. وكانت المعرفة محصورة لديهم بما تمليه عليهم السلطات الدينية والزمنية، التي أحكمت قبضتها على الجماهير. وكان أعلم الناس عندهم أفهمهم لأفكار السابقين، وأكثرهم حفظا لنصوصها. وكانت همة العلماء مشدودة بخدمة التقاليد السائدة والأوضاع السياسية القائمة. وكانت الكنيسة، ترمي كل فكرة تحررية بالإلحاد وبالمشابهة مع المسلمين، الذين كانوا يشكلون حسب زعم (الدهماء) أخطر عدو للغرب. ولكن منذ القرن السادس عشر أخذ الوضع يتطور، وتلاحقت التطورات الفكرية والسياسية في القرن السابع عشر، ثم الثامن عشر، حتى انفجرت في الحضارة الغربية الحديثة، التي بالرغم من فراغها الروحي الكبير فإنها ذات إطار مادي ضخم. عوامل تطور المنطق: ترى ما هي العوامل التي أدت إلى هذه التطورات؟ هناك عدة عوامل، سياسية واجتماعية وفكرية، لا يمكننا هنا تحديد الأهم منها فنكتفي بسردها لكي نستطيع فهم خلفية الأفكار المنطقية التي ظهرت في الغرب. هذه العوامل هي: بماذا عاد المنهزمون؟ 1- من الناحية السياسية؛ كانت الحروب الصليبية سببا لإفراز حضاري كبير. إذ أراد الغرب من ورائها اعادة سيطرته على الشرق الإسلامي. لذلك فإن خسارة هذه الحرب سببت صدمة نفسية قوية عند الغرب أيقظته على واقعه المر، وفرضت عليه إعادة النظر في كل مؤسساته، المادية والمعنوية. لقد عاد المنهزمون في الحروب الصليبية، بتجربة واحدة هي ان المسلمين متقدمون عليهم حضاريا، وبالمقابل فإنهم متأخرون حضاريا. فأخذوا يبحثون عن سر تقدم المسلمين وتأخرهم فانتهوا إلى نتائج كبيرة ومتنوعة، تلخصت في ان الحرية الفكرية والسياسية ضرورية لأي تقدم. ولم تستطع السلطات الدينية والسياسية كبح هذا الشعور، الذي أخذ يتنامى حتى أدى إلى واقع الحضارة الغربية الراهن. صحيح أن مسيرة الغرب كانت مختلفة الاتجاه عن مسيرة المسلمين إذ كان الغرب متمحضا في المادية، وكان المسلمون يستفيدون من الإمكانات الروحية، أيضا. ولكن الغرب إنما تعلم السير من المسلمين بالرغم من ان المسلمين أنفسهم نسوا السير، بعد ان علموا غيرهم بفعل الاكتساح المغولي، والغزو الصليبي، وضعف الروح الدينية. كان هذا عاملا خطيرا في إيقاظ الغرب الفكري، وهو عامل سياسي في طابعه لعام. حين استقر الفاتحون: 2- كانت القبائل البدوية تزحف على أوروبا منذ القرن الثالث عشر، فتحدث فيها هزات إجتماعية عنيفة. فلما استقرت هذه القبائل البدوية في القرن الرابع عشر ظهرت فرصة كبيرة لتحول اجتماعي ضخم وذلك: أولا: لأن طبيعة البدو لو تحضرت تستطيع القيام بإنجازات رائعة ذلك أنها قد تعودت على الحياة الخشنة القاسية فأصبحت قادرة على تحمل القسوة الضرورية لبناء أية حضارة. ثانيا: ان العناصر المغلوبة عسكريا تفكر في ان تربح الحياة بالطرق السلمية. والهدوء الذي خيم على أوروبا بعد أمواج الغزو البدوي كان أفضل فرصة للعناصر المغلوبة للقيام بمبادرات عملية، لإستعادة مراكزها. وكهذا كانت الأحوال الاجتماعية في أوروبا مستعدة في القرن الخامس عشر لتحول عظيم.. ظهر فعلا في الأفكار الثورية التي انتهت بنشوء الحضارة الأوروبية الراهنة. وهذا هو العامل الاجتماعي. سقوط قسطنطينية: 3- كانت عاصمة الدولة البيزنطية (قسطنطينية) مجمعا لخيرة الفلاسفة المسيحيين واليهود. وبسقوطها بأيدي المسلمين، نزح عنها جميع المفكرين المتواجدين فيها إلى البلاد الأوروبية، والتقوا بزملائهم هناك ونشأت من التقائهم نهضة فكرية بطبيعة التلاقح الفكري الذي يأتي عادة بعد التقاء مدرستين فكريتين ببعضهما. هذه هي العوامل الثلاثة الرئيسية التي يذكرها المؤرخون للنهضة العلمية في أوروبا.. وقد ابتدأت من أواسط القرن السادس عشر، والتي برزت في منطق فرنسيس بيكون، ورينيه ديكارت. فبيكون كان يتمتع بآراء جريئة؛ اعتمد على الاستقراء ودعا بإصرار إلى تكريس الجهود في العلوم الطبيعية، وبين أسس التجربة فيها، وبذلك فتح الطريق إلى المنطق التركيبي. وديكارت جاء بفكرة تحويل المنطق إلى (علم رياضي) وقام بتطبيق منطقه على العلوم الطبيعية والفسلفة العليا، وأحرز نجاحا باهرا بالنسبة إلى عصره. وتابع المفكرون مسيرة بيكون في تجارب العلوم الطبيعية ومسيرة ديكارت في الفلسفة والرياصيات، وانتهوا بالمنطق الحديث بقسميه (المنطق التركيبي والمنطق الصوري) إلى الكمال. والآن لنعرف تفصيل هذه المسيرة. بيكون: فرنسيس بيكون (1560 – 1625م) ثار على الأوضاع القديمة في الثقافة بعنف ورمى السابقين بالجهل، ونسب جهلهم إلى عاملين: 1- إن مناهجهم لم تك توصلهم إلى نتائج عملية (أو بالأحرى لم يكونوا يهدفون من وراء مناهجهم الوصول إلى نتائج عملية). 2- إن المنطق الذين كانوا يعتمدون عليه، ويستقون منه أفكارهم كان المنطق الصوري الذي لا يفيد علما جديدا، انما ترسيخا للمعلومات السابقة وإلزاما للخصم بها، بل العلم الجديد، ينشأ من القياس والتعقل، واستخراج الكليات من الجزئيات، بعد الاستقراء فيها، وتنويعها، والتعقل فيها، وبدون ذلك يظل الاستدلال عقيما، وبدون أساس ثابت. أخطاء الفلسفة القديمة: وبعد أن بين بيكون عقم الفلسفة القديمة، شرع في بناء المنهج الصحيح للاستقراء. ولكنه قال: لا يمكن الوصول إليه بدون معرفة أسباب الخطأ والتخلي عنها. فما هي إذا أسباب الخطأ التي يسميها بيكون بالأصنام لأنها تُتَّبع بغير فائدة. يقول بيكون إنها أربعة أصنام: 1- أصنام الطائفة (أو الفرع) وهي مقتضيات طبيعة الإنسان التي تشبه المرآة المنحرفة فتعكس الحقائق بغير صورتها الأصلية. وعلى الإنسان التخلص من صنم طبيعته… حتى يستطيع نيل المعرفة الصحيحة. 2- أصنام الشخص (الفرد ذاته) وهي التي تفرضها طبيعة الميول الخاصة بكل واحد منا، حيث تسبب هذه الميول الشخصية انحرافات بعيدة في فكر الإنسان. 3- أصنام السوق؛ أي سوق المعرفة وهي الأفكار الخاطئة التي تتسرب إلى أذهاننا بسبب العبارات الغامضة، فعلينا إذا تنقية العبارات حتى نستطيع الوصول إلى الحقائق. 4- أصنام المعرض (معرض الأفكار القديمة) التي تحتوي أفكار الفلاسفة السابقين، وتسبب ضغطا شديدا على أذهاننا، وبالتالي أخطاءا جسيمة. المذهب الديكارتي في المنطق رينيه ديكارت (1656 – 1695) تأخر عمره الثقافي عن بيكون بربع قرن، ولذلك اعتبرت نشاطاته الفكرية من نصيب القرن السابع عشر. ذهب ديكارت إلى مساواة الناس في العقل واختلافهم في مدى استثماره، والسير به في الطريق الصحيح. لذلك رأى أن أفضل خدمة تسدى إلى العلم هي وضع منهج صحيح له ودعوة الناس إليه. فما هو هذا المنهج؟ إذا كان مقدار العقل واحدا عند الناس جميعا، فلا بد ان يكون الذي يتبعه العقل، ويسير فيه أيضا واحدا. وبالتالي يجب ألا يكون هناك أي فرق بين العلوم المختلفة في المنهج. فأي منهج موحد يجب أن تسير فيه العلوم جميعا؟ إنه منهج الرياضيات الذي يبحث عن الكم، لأنه منهج محدد وواضح. لذلك يجب بحث جميع العلوم حتى الطبيعيات في ضوء هذا المنهج. وهكذا أدخل ديكارت القياسات الكمية في العلوم الطبيعية ونحن اليوم نعرف ببساطة كيف نحول المرض والقوة والحرارة وما أشبه إلى أمور مقاسة بالكم (درجة الحرارة)، لكنه في ذلك اليوم كان أمرا جديدا بالمرة. وشرح ديكارت طبيعة منهج الرياضيات، وحاول سحبها إلى كل حقول العلم، اعتقادا منه بأنه هو ذلك المنهج الواحد الذي يصلح لهداية العقل فما هو منهج الرياضيات؟ - افترض حلا مسبقا لمشكلتك ثم عدد النتائج التي قد تترتب على هذا الحل على افتراض صحته، ثم فتش عن هذه النتائج لترى هل هي موجودة فعلا أم لا. مثلا، لو كانت المسألة العملية هي: هل الحديد يتمدد بالحرارة؟ نفترض حلا للمسألة بأنه (نعم الحديد يتمدد بالحرارة) فما هي أولى النتائج المترتبة على ذلك؟ أولى النتائج أنه من تمدد الحديد لا بد أن تنعوج السكة الحديدية أو تنكسر أيام الحر لأنه حديد ممتد، أو لا بد أن يكون بين قطع الحديد فيها فواصل تظهر أيام الشتاء، وتختفي أيام الصيف، فهذه هي النتيجة المترتبة على الحل المفترض، ثم نلاحظ الواقع الخارجي فنرى صحة النتيجة خارجا، فنعرف صحة الفرضية. واقعا هذا هو منهج الرياضيات الذي يقترحه ديكارت للعلوم. يبدأ ديكارت هجوما عنيفا على المنطق الأرسطي الذي ينعته بالعقم، بسبب أنه لا يزيدنا علما جديدا. فيقول: (ان النتيجة في هذا المنطق ليست سوى صيغة أخرى للمقدمة، فإن كانت المقدمة صحيحة فإن النتيجة معلومة بصورة آلية. وإن كانت إحدى المقدمات باطلة، فإن المنطق ليس سوى وبال). هكذا يكون منطق أرسطو عقيما عند ديكارت. منهج ديكارت: ثم يبين ديكارت منهجه المتدرج إلى تحصيل العلم فيضعه في أربع قواعد رئيسية: ألف – الاستقلال الفكري (يجب ألا أعتقد إلا بما يكون لدي واضحا لا ريب فيه). هذا مفاد القاعدة الأولى لديكارت والتي يجزئها إلى أربعة بنود: 1- بما أن العلم حضور للأشياء عند النفس، فإن معرفة الإنسان بالأشياء تتم بصورة مباشرة، مثل رؤية العين للأشياء. فليس العلم قائما بصور عن الأشياء في الذهن كما كان يتصور القدماء بل العلم إنما هو إحاطة كشف وشهود. فكلما كان واضحا عند النفس وضوحا شديدا كان معلوما، حتى ولو لم يكن واضحا عند القدماء. إذ إن إتباع الآخرين في العلم يشبه الأعمى الذي يقوده الناس. إذا البند الأول هو رفض أفكار السابقين إذا خالفت العلم. 2- يجب ألا أتسرع في الحكم بشي. 3- كما أن أفكار القدماء تأسر قلب المتعلم حتى يكاد لا يبصر الحقائق، كذلك أهواء النفس قد تأسر القلب ولا تدعه يكتشف الحقائق. لذلك يجب التخلص من الأهواء الداخلية. 4- وأخيرا أجعل وجداني حكما على الأشياء، بحيث لا أقبل أي شيء إلا إذا كان واضحا ماثلا أمام وجداني تماما. التحليل: باء – بما أن علم الإنسان أوضح بالبسائط منه بالمركبات، فلا بد أن نلتزم بالقاعدة التالية: (تحليل الحقيقة إلى أكبر قدر ممكن من البسائط). وتأتي أهمية التحليل من الغموض الذي يكتشف عادة المسألة المركبة، بسبب وضوح جزء منه، وعدم وضوح جزء آخر بحيث يظل الفكر مترددا بينهما والتحليل ينقذه من هذا التردد ويضع لكل جزء من المسألة ما يناسبه، دون اختلاطه بالجزء الآخر. التدرج: جيم – ولكن مشكلة التحليل أنه يعقد علينا ارتباط أي جزء بآخر، وهنا لا بد أن نطبق القاعدة الثالثة عند ديكارت لحل هذه المشكلة، فما هي القاعدة الثالثة؟ (انها ترتيب الفكر والتدرج في البحث عن الواقع الأبسط فالأبسط). الاستقراء: دال – وهنا نستقصي عن كل ما يكشف أي جزء من المسألة حتى نشبعه بحثا وتنقيبا فلا نتحول إلى جزء الثاني الا بعد ان ننتهي من الجزء الأول في البحث. المهم في منهج ديكارت انه اختار الطريقة الرياضية وخصوصا طريقة الجبر لمعرفة جميع العلوم. وكان في ذلك تسهيل جديد سبب اكتشافات علمية هائلة. ولكن بالرغم من ذلك ومن اكتشافات ديكارت العلمية التي تمت على ضوء منهجه الجديد لم يزل في منهج ديكارت العديد من النواقص هي كالتالية: 1- لم يركز ديكارت في منهجه على دور التجربة في فهم الحقائق، مما صبغ منهجه بالصبغة الصورية. واليوم يعد هذا المنهج من المناهج الصورية التي أضيفت إليها متممات كثيرة وأكملتها. اختلاف المناهج في العلوم: 2- تبسيط العلوم يفيد في كثير من الأحايين ولكنه بالرغم من ذلك قد يوصلنا إلى طرق مسدودة.. فمثلا، لو أردنا البحث عن حقيقة الوجود أو العدم، لا نصل إلى نتيجة.. فليس الأمر كما ذكر ديكارت دائما، بأنه في سبيل البحث عن الحقائق لا بد من تبسيطها إلى آخر درجة ممكنة، لأن العلم بالبسائط أسهل من العلم بالمركبات. كلا فبعض البسائط، العلم بها مستصعب. نعم من الأفضل تبسيط المسائل إلى درجة يسهل علينا البحث عنها. 3- ثم ان العلوم في لحظة وحدتها في جهة تختلف في جهات عديدة، وليس من الصحيح وضع منهج واحد لجميع العلوم، كما يحاول ذلك ديكارت. ولقد تنبه المتأخرون إلى مدى فرق العلوم عن بعضها، فوضعوا لكل واحد منها منهجا بعد الإشارة إلى المنهج العام الذي يشمل جميع العلوم. 4- وهناك نواقص كثيرة في منهج ديكارت وسوف تتضح هذه النواقص من دراسة سائر فصول هذا الكتاب، حيث بينا فيها أسباب الخطأ ومنهج البحث وأوضحنا ضرورة استيعاب كل ذلك في سبيل الوصول إلى الحقيقة، لو أمكن الوصول إليها. المنهج الديكارتي في الفكر الأوروبي كان تأثير ديكارت في الفكر الأوروبي كبيرا إلى درجة أنه خلف تيارا فلسفيا سمي بـ(ديكارتزم) وانجرف في هذا التيار مفكرون كثيرون. لكن لا يعني ذلك أن كل هذا التأثير كان من شخص ديكارت أو من فلسفته بل وكان أيضا من عصره، الذي تململ تحت تأثير شروط معينة، وحاول النهوض فالتف حول منهج بيكون وديكارت لأنه وجدهما أنسب المناهج إلى نهضته المنشودة. لذلك فقد أضاف كل فيلسوف جديدا إلى منهج ديكارت. قال أحدهم: (ان منطق ديكارت دهليز الحقيقة يجب ان نعبرها ولا نتوقف فيها). وكان في طليعة هؤلاء مابرانش واسبينوزا. مابرانش: إعتقد ما برانش (1608 – 1715) أن سبب خطأ الإنسان اندماج عقله بجسمه وابتلاؤه بما انطوى عليه الجسم من الخيال الفارغ ومن الرغبات النفسية. السؤال: كيف تتسبب الحواس في حجب العقل عن الحقيقة؟ يجيب مابرانش عن هذا السؤال بالقول: إن الهدف الفطري من الحواس يختلف عن الهدف الذي ينشده الإنسان، ولذلك يتورط الإنسان في الخطأ، ومثله ان يستخدم الإنسان المحراث في التكريف، وذلك لأن الغاية المتوخاة من الحواس بالأصل هي ايجاد علاقة مناسبة بين الجسم والعالم المحيط به، حتى يبقى الجسم مصونا من الأخطار… بينما يستخدم البشر حواسه فيما هو وراء هذه الغاية، وهو العلم بحقائق الأمور، جهلا بأنها انما تنقل المظاهر الساذجة والآثار السطحية إلى ضمير الإنسان، حتى يتجنبها لأنها هي غايته الطبيعية. فمثلا ان حواسنا تشعر بالألم ازاء بعض الإثارات الخارجية، فهل الألم هذا من آثار تلك الأمور الخارجية كما نتصور وكما نقول ظاهرا بأن الضرب مؤلم فننسب الألم إلى الضرب ونجعله صفة من صفاته؟ كلا إنما هو من مقتضيات ذواتنا نحن، فهي التي تتأثر بالضرب، ولا دخل له بصورة الحياة الخارجية، ونحن إنما نعبر عن الضرب أنه مؤلم لبيان نوعية العلاقة التي تربطه بأجسامنا. الصفات والرغبات النفسية: التوهم سبب آخر من أسباب الخطأ البشري لأنه يجعلنا نزعم صحة أفكار الآخرين، فنتبعهم بينما هي باطلة وانما تخيلنا خيالا. أما الرغبات النفسية فإنها تولد الحب والبغض في الإنسان، وهما بدورهما يحجبان نور العقل ويوقعان الفرد في الخطأ. والصفات النفسية أشد أثرا في القلب من الرغبات النفسية، لأن الصفة المنحرفة بذاتها تسبب الخطأ، دون واسطة الحب والبغض. وحتى طاقة الفهم (العقل) فإنها قد تتسبب في الخطأ، ذلك لأنها بطبيعتها محدودة بينما يزعم الإنسان أنها قادرة على كشف الأشياء جميعا. وهذا الغرور سبب خطير من أسباب الخطأ البشري (عند مابرانش). ثم يبدأ مابرانش بتفصيل منهجه بعد أن يحدد أسباب الخطأ ويوصي الطالب بتجنبها فيقول: يجب أن نطرح أية مسألة بصورة مبسطة والبحث عن الوسائط المشتركة. وينبغي حذف الزوائد بل نلخص المعلومات بقدر الإمكان. ولا بد أن نتدبر في نوعية ترتيب المعلومات مع بعضها بدقة تامة، كما يجب مقابلة المعلومات المركبة مع بعضها لحذف المكررات عنها، وكذلك حذف الأمور غير المفيدة.. ونكتفي بهذا القدر في تفصيل منطق مابرانش الذي يتشابه في كثير من الأمور مع منطق ديكارت، الا أنه ينطوي أيضا على بعض السلبيات. 1- فالغموض يكتنف نظريته عن أسباب الخطأ لأنه لم يكن قادرا على بناء أسس كافية لمنطقه، واليوم وبعد بحوث علم النفس المختلفة نستطيع أن نفقه مواقع الغموض في فلسفة المنهج عند مابرانش. 2- إنه عدّد أسباب الخطأ وجعل منها الفهم (أو العقل)، بينما العقل لا يدعو الإنسان إلى أن يتصور كماله، وشموله. انما جهل الإنسان بمحدودية عقله، وغروره بما لديه من وسيلة ناقصة، وهو الذي يجعله يحمِّل عقله فوق طاقته ويطلب منه ما هو عاجز عنه. ديكارت يدخل في الفكر الأوروبي: وفي النصف الثاني من القرن السابع عشر دخل منطق ديكارت في برنامج الفكر الأوروبي، بعد أن أضيف إليه بعض العناصر المفيدة من منطق أرسطو، وذلك عندما كتب عالمان يتبعان ديكارت هما (بير نيكل وأنتون أرفو)، من فرنسا، كتابا في المنطق على ضوء فلسفة ديكارت ومنهجه ولا يزال الكتاب متداولا في أوروبا ومرجعا مفيدا هناك. معرفة العلم بالعلم اسبينوزا.. من هولندا هذه المرة، جاء اسبينوزا الذي عاش بين (1632 – 1677) وأصبح من أكبر فلاسفة أوروبا في عصره ولخص رأيه في المنطق بالقول: لما رأيت طرق معرفة الأشياء توجز في أربعة: أفواه الناس (كمعرفة كل شخص بيوم ميلاده) أو بالتجربة المجملة (كمعرفة الناس بأن النفط مما يحترق) أو بمعرفة الرابطة بين الجزئيات والكليات (كما نعلم بالحرارة بعد العلم بوجود النار) وهذا هو الطريق الثالث الذي بالرغم من أنه أفضل مما سبق فإن الطريق الرابع أفضل منه وهو: الوجدان الذاتي والشهود الشخصي، وهو طريق لا يأتيه الخطأ لأنه منطبق مع المعلوم، ويأتي بعلاقة مباشرة بين الفرد والمعلوم، ولذلك فهو موجب لليقين، وهو يتعلق بالبسائط والمبادئ الأولية، وموارده قليلة جدا. والعلم بالبسائط (أي الطريق الوجداني) واضح ومحدد وموافق مع المعلوم الخارجي، ولسنا بحاجة إلى حجة تدل على صحته. ولهذا فلسنا بحاجة إلى البحث عن منهج صحيح للمعرفة. ان المعرفة هي بذاتها دليل على صحتها، وعلى صحة الطريق المؤدي إليها، لا العكس… وبالتالي العلم هو طريق العلم. العلم بالواقع طريق العلم بذلك المنهج الذي يوصلنا اليه، أي على ضوئه نستطيع معرفة المنهج المؤدي إليه وإلى غيره. ثم يضيف قائلا: إن طريق معرفة الحقيقة وتمييز الباطل عنها، هو البحث أولا عن حقيقة واضحة جدا ومتميزة تماما عن الباطل. وكلما كانت الحقيقية واضحة أكثر وضوحا، وأشد تمييزا عن الباطل، كان أفضل لأن أساس العلم آنئذ يكون أكثر رسوخا ويكون العلم النابع منه أشمل إحاطة بالحياة. فما هو ذلك العلم الأول الذي يتعلق بأوسع الأشياء إحاطة وأسماها رتبة؟… إنه العلم بالله سبحانه، الذي يهدي إلى كل علم. لأنا على ضوئه نتعرف على المنهج الصحيح ونبلغ به جميع الأشياء. ملاحظات على منهج اسبينوزا: واسبينوزا يتبع ديكارت في موجز أفكاره، وان كان يخالفه في تفاصيلها ويركز كثيرا على ضرورة إدخال المنهج الرياضي في كل العلوم.. لكن نظريته في المنهج تتعرض لعدة ملاحظات: 1- إنه قسّم طرق العلم بالحقيقة إلى أربعة وجعل منها الوجدان كما جعل منها أقول الناس. ومن حقنا أن نتساءل عن معنى العلم؟ أليس هو وجدان الأشياء وكشفها الوصول مباشرة إليها، كما يقول اسبينوزا ذاته.. فإذا كان كذلك، وهو كذلك، فلا فرق بين أن يأتي هذا الوجدان عن طريق التفكير أو الإحساس أو العلم بالعلة والمعلول، بل إنما يأتي الوجدان بعد هذه الطرق أو بعد غيرها مما يسبب حالة العلم في النفس، إذ الوجدان هو العلم ذاته.. إذا فليس من الصحيح جعل النتيجة من أقسام الطرق المؤدية إليها وجعلها أفضل منها. 2- بالرغم من أنه تفطن إلى أن حقيقة العلم نور وكشف وظهور، ولا يمكن البحث عن دليل يثبت صحة العلم بعد أن وجدنا العلم يقينا… وبالرغم من انه تفطن أيضا إلى حقيقة أخرى هامة، وهي ان الطريق إلى معرفة المنهج الصحيح للعلم هو العلم بحقيقة ما، ثم البحث على ضوئها عن المنهج الصحيح، إلا أنه لم يتفطن، أو لم يذكر، كيف نستطيع الوصول إلى منهج صحيح بعد العلم بحقيقة واضحة. وقد كشفنا في موضع آخر من هذا الكتاب عن ذلك، حين قلنا ان العلم بحقيقة ما، يجعلنا نطمئن إلى صحة الطريقة التي سلكناها إليها، فنستطيع سلوك ذات الطريقة للوصول إلى غيرها فمثلا إنك تعلم يقينا.. أن 15+15 يساوي 30 ولكنك لا تعرف صحة طريقة الجمع المتبعة، فتستخدمها كما هي معهودة فترى: ان هذه الطريقة فعلا أدت إلى النتيجة الصحيحة، فتعرف انها ستؤدي إلى نتائج صحيحة أيضا في غير هذا المجال. وهذا بعض من منهج (معرفة العلم بالعلم)، وستعرف طرقا أخرى لهذا المنهج بإذن الله. لابينتس: في بعض بلاد ألمانيا ولد لابينتس عام (1646) وتوفي عام (1716)، وانتزع رأيه في المنطق من نظرياته في الفلسفة، والتي اعتقد فيها أن معرفة الغاية من الكون أو من أجزائه ضرورية للوصول إلى حقيقته جنبا إلى جنب مع معرفة العلة المباشرة له. وفي باب المعرفة قال: كما أن أصل امتناع التناقض قاعدة رصينة لمعرفة الأشياء، كذلك أصل العلة الغائية (الهدف من الأشياء) قاعدة أساسية. واعتقد في المنطق أيضا، إن إدراك البشر للأشياء يكون نوعين: إدراك واضح وإدراك باطن.. وكما أن معلوماتنا أقل حجما من المجهولات كذلك الإدراك الظاهر أقل من الإدراك الباطن، بينما الفضيلة خاصة بالإدراك الظاهر. وذهب إلى القول بأن الإدراكات الظاهرة تأتي نتيجة مجموعة الإدراكات المستبطنة كما أن هدير الموج ناشيء من مجموعة أصوات صغيرة تنشأ من اصطدام قطرات الماء بالساحل. واعتقد أيضا بوجود قوى ذهنية سابقة هي في الواقع أساس كل معرفة. والملاحظ في نظريات لابينتس ليس الغموض فقط، وإنما أيضا محاولات فاشلة للتوفيق بين نظريات متباعدة، والمهم فيها أنه يركز على أهمية العقل الباطن ودوره في الإدراك. والواقع ان الإدراكات المستبطنة، والتي نسميها اليوم بالعقل الباطن، هي التي تشكل قوالبنا التفكيرية، وتصوغ نوعية نظرتنا للأحداث والزوايا المختلفة التي نحكم منها على الأمور، كل ذلك بالرغم من أن العقل الرشيد يستطيع التخلص من ضغط (العقل الباطن) ليتجرد في حكمه على الأشياء بموضوعية تامة، ولولا هذه المقدرة في العقل لم يستطع أحدنا الاعتماد أبدا على علمه. لوك والقيمة الحسية لوك: بين عامي (1632 –1704) جاء لوك بنظريته الحسية، وأسس بها مدرسة خاصة بنفسه تعيد كل العلوم إلى مبدأ واحد هو الحس، بالرغم من عدم إنكاره للعقل الذي يتصور أنه أيضا ناشئ من الحس.. أو بالأحرى يجعل يوم بروزه متأخرا عن الحس. واعتقد لوك بثلاث قواعد هي: ألف- قوى الادراك، حيث قال بوجود عدة قوى متدرجة عند الإنسان هي التي توفر له المعرفة، وهي: 1- قوة الإدراك، وهي أولى مراحل المعرفة. 2- قوة الحفظ، وهي المرحلة التالية إذ انها تدخر المعلومات الناتجة من الإدراك. 3- قوة التمييز، وهي التي تفصل بين المعلومات المدخرة. 4- قوة التقييم، التي تبين نسبة المعلومات إلى بعضها. 5- قوة التركيب، التي تكلف بجمع المعاني البسيطة وتركيبها. 6- قوة التجريد أو الانتزاع وهي مسؤولة عن استنباط معنى كلي من الخصائص الجزئية التي تلاحظها في منظر واحد. أهمية التقسيم: باء – ويتميز فكر لوك بالتقسيم، وذلك تبعا لهدفه البعيد الذي أراد به برمجة العملية التفكيرية عند الإنسان. فهو يقسم التصورات ويبسطها، فيقول: إن التصور بسيط (منشأه حس واحد) ومركب (منشأه عدة أحاسيس) فتصور الحرارة بسيط بينما تصور الجسمية مركب لأنه إنما يأتي من تصور الحجم والوزن.. و.. والتصور قد يكون مثبتا، يكشف عن وجود شيء، وقد يكون منفيا يكشف عن عدمه. فالأول مثل تصور النور والحرارة، والثاني كما نتصور الظلام والبرودة. ولكي يوضح فكرة التصور ويبلورها يقول: الفكرة التي يستوعبها الذهن بسبب التصور تدعى بـ(المفهوم)… بينما ارتباط هذا التصور بمنشئه يسمى بـ(الخاصية). فمثلا الحرارة، مفهوم ذهني ولكنها من جانب آخر خاصية للنار. ويقسم التصور أيضا فقد يكون تصور لذات شيء، وقد يكون تصورا لحالة. وقد يكون تصورا لعلاقته بسائر الأشياء. دور اللغة: جيم- يلعب التقسيم دورا بارزا في توضيح عمليات العقل عند لوك، ولكنه ليس الأمر الوحيد الذي يكشف لنا عن هذه العمليات عنده.. وذلك لأنه ربط أيضا بين فهم هذه العمليات العقلية وبين فقه اللغة، لأنها تكشف بقدر عن التصورات، وتكون مقياسا أمينا لمعرفة طبيعتها. من هذه الزاوية دخل لوك في تحقيقاته العلمية، التي أجراها في باب اللغة، وأصبح من مؤسسي علم اللغات الحديث، وكان بين استدلالاته اللغوية التي سحبها إلى المنطق، قوله: بما أن تصور الإنسان يعتمد على الإحساس في البداية فإن الرجل البدائي يعبر عنه أولا، فالطفل مثال للفرد البدائي وهو لا يعبر أول ما ينطق إلا عن الأمور المحسوسة. كذلك الأمم المتوحشة، مثال للجماعة البدائية. فلا نجد في لغتهم تعابير تخص الأمور العقلية، وكلما تقدمت الأمة بإتجاه الحضارة كلما زادت تعابير لغتها التي تكشف عن أمور عقلية. بعد أن يضع لوك أسس تفكيره الثلاثة (بيان قوى الإدراك وتقسيم الإدراك، ثم علاقته باللغة المعربة عنه) يعطف نظره إلى حقيقة العلم فيزعم أنها النسبة بين تصورين.. أو إثبات الوجود لتصور واحد ثم يفصل فيقول: أساس علاقة التصور أربعة أقسام: (1) الوحدة، كما تقول: 4×4=16. (2) أو عدمهما، كما تقول: 4×4 لا =15. (3) المقارنة، كالقول: الهواء بارد. (4) إثبات شيء لشيء، مثل أن تقول: الله موجود. ثم يقسم لوك العلم إلى ذاتي وتعقلي وحسي. فالذاتي، هو معرفة نسبة التصورات الذاتية إلى بعضها معرفة مباشرة. والتعقلي، هو المعرفة التي تحتاج إلى استدلال وتفكر مثل معرفة الباري. والحسي، هو المعرفة الناشئة من الإحساس، وهو بالرغم من قلة قيمته الفلسفية لعدم افادته اليقين فإنه ذات قيمة عملية لأننا نعتمد على الحس في كل شؤوننا، وفي العلوم الطبيعية التي مرد تصوراتها تكون في خارج الذهن، فيوصي لوك فيها بالاستدلال بينما يكتفي في العلوم الفلسفية والأخلاقية بالتعقل لأن مواد تصورها في الذهن. ويلاحظ من اتجاه لوك الفلسفي في المعرفة، أنه كان ينوي وضع تقنية للتفكير المنطقي، بمعنى أنه كان يهدف جعل العلم يسير في خط واضح وقوالب معروفة، حتى نستطيع ملاحظة خطواته واحدة بعد أخرى، ثم أخطائه وتصحيحها. وجهود لوك أثمرت في القرن الثامن عشر، إذ قام العلماء بتقنية العلم حسب ما سيأتي الحديث عنه بإذن الله. والملاحظ عليه كذلك تطرفه الشديد بإتجاه تقييم الحس الذي نتج منه أمران: 1- تناسي دور العقل والسابقيات الفكرية، التي يكشفها العقل، في بناء صرح المعرفة، وهذا مخالف للواقع المشهود الذي ذكرنا به في بحوث فلسفية منفردة . 2- جعل المنهج العلمي خاضعا للتجربة المادية، تتشابه مع سائر التجارب التي تجري على المادة. وهذا مخالف للرأي العلمي السديد الذي يفصل بين أنواع التجربة حسب اختلاف المواد. ومن هنا قال جون ديوي عن لوك: (ان كلمة (خبرة) حين استعملت عند بدء ظهورها استعمالا يضفي عليها الوقار بولغ ـ بغير شك ـ في جانبها المتصل بالملاحظة، كما نرى مثلا عند (بيكن ولوك) ونستطيع أن نلتمس لهذه المبالغة تعليلا سريعا في كونها حدثت في الظروف التاريخية التي حدثت فيها (أي إنها كانت من وحي الظروف الخارجية) ذلك لأن الفكر الفلسفي كان قد تدهور حتى بلغ صورة استبيح معها الظن بأن اعتقاداتنا عن أمور الواقع يمكن، بل ينبغي أن نحصلها بالتدليل العقلي وحده الا إذا كانت مستندة إلى أقوال النقاد، فتولدت عن معارضة هذه النظرة المتطرفة نظرة أخرى تساويها في قصر نفسها على جانب واحد، وهي إن الإدراك الحسي وحده يمكن أن يقرر لنا على نحو مرض ما عسانا نريد أن نعتقده عن أمور الواقع، فأدت هذه الفكرة عند (بيكن) وبعد ذلك عند (لوك) إلى اهمال الدور الذي تؤديه الرياضة في البحث العلمي كما أدت عند لوك إلى تقسيم يوشك أن يكون فاصلا بين معرفتنا لأمور الواقع ومعرفتنا لما يقوم بين أفكارنا من علاقات، على أن هذه المعرفة الأخيرة ـ بناءاً على مذهبه ـ تعود فترتكز في نهاية الأمر على الملاحظة الخالصة سواء كانت تلك الملاحظة داخلية أم خارجية نتج عن ذلك مذهب يرد الخبرة إلى إحساسات هي المقومات التي تتألف منها كل ملاحظة كما يرد الفكر إلى روابط خارجية تصل هذه المقومات على أن المفروض في الاحساسات وفي روابطها معا أن تكون عقلية فقط أي أن تكون نفسية خالصة) . وبالتالي فإن أساس نظرية لوك الحسي مرفوض فلسفيا، لأنه بدون وجود عقل يكشف عن صحة أو زيف الاحساس لا يمكننا أن نثق به ونستثمره في سبيل تحصيل العلم. وقد تنبه لوك ذاته إلى هذه الملاحظة فجعل العلم الناشئ من الإحساس في الدرجة الثالثة من الأهمية بعد علم يحصل بالوجدان وعلم ينشأ من الاستدلال. ولكن، كل هذه الملاحظات لا تقلل من قيمة نظريات ـ لوك ـ ولا سيما التي تناولت خطوات التفكير، إذ كانت تمهيدا مناسبا لبعض النظريات التي ظهرت في القرن الثامن عشر. |
![]() |
الإشارات المرجعية |
|
|