بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » التفاؤل وصناعته

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

 
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 11-03-2006, 06:52 PM   #1
د. صالح التويجري
إمام وخطيب جامع الروّاف
 
تاريخ التسجيل: Sep 2004
البلد: السعودية
المشاركات: 261
التفاؤل وصناعته

بسم الله الرحمن الرحيم
التفاؤل وصناعته د سلمان العودة
إلقاء د. صالح بن عبد العزيز التويجري بتصرف
‏08‏/01‏/1427
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله، وصفيه وخليله. بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده. صلى الله عليه وعلى آله الأطهار وصحابته الأخيار، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد..
في صروف الدهر عبر وفي تعقب الأيام مدكر، فرح وترح، زيوف وكشوف، مسرات ومضرات، مصائب ومعائب ومناقب وهكذا فالزمان قلب ولا قرار للخبيث والزبد، يذهب والباقيات الصالحات، ولا تزر وازرة وزر أخرى، تنقطع قلوب عند الفواجع وتخور همم وأخرى ترضى وتسلم وتعمل. فيا ترى ما السبب الذي قعد بأناس وقاد آخرين؟ التفاؤل هو توقع الخير, وهو الكلمة الطيبة تجري على لسان الإنسان. وعند الترمذي وابن خزيمة بسند حسن عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا). وهذا الحديث الشريف نص في أثر الكلمة واللسان والتفاؤل اللفظي على حياة الإنسان؛ ومن هنا يصحُّ أن نقول: ما تقولُه تكونه, وما تريد أن تكونَه فعليك أن تقوله على لسانك. كان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل باللغة وألفاظِها الجميلة؛ لقد جاء إلى المدينة وهم يسمونها يثرب, وهو اسم لا يخلو من إيحاءات سلبية؛ فسماها النبي صلى الله عليه وسلم (طابة) أو (طيبة) من الطيب والخير. وقِمَّةُ التفاؤلِ اتصالُ القلبِ بالربِّ جل وتعالى؛ فالصلاة تفاؤل, والذكر تفاؤل؛ لأنه يربط الفاني بالحي الباقي, ولأنه يمنح المرء قدرات واستعدادات وطاقات نفسية, لا يملكها أولئك المحبوسون في قفص المادة. الدعاء تفاؤل؛ فإن العبد يدعو ربه, فيكمل بذلك الأسباب المادية المتاحة له.
وإني لأدعو اللّهَ حتى كأنَّما ** أرى بجميلِ الظنِّ ما اللَهُ صانِعُ
حسن الظن بالله تعالى قمة التفاؤل. حسن الظن في الحاضر؛ فلا يقرأ الأحداث والأشخاص والمجتمعات قراءةً سلبيةً قاتمةً, وإنما يقرؤها قراءةً إيجابيةً معتدلةً, تُعنَى بالجانب الإيجابي وإبرازه والحفاوة به, بقدر ما تُعنَى برؤية الجانب السلبي, برحمة وإشفاق وسعي وتصحيح. فالتفاؤل إذاً شعورٌ نفسيٌ عميقٌ واعٍ، يوظف الأشياءَ الجميلةَ في أنفسِنا ومن حولِنا توظيفاً إيجابياً.
إن الشؤمَ تراثٌ ضخم في حياة البشرية كلِّها, ولكل شعب من الشعوب - كما تحكي كتبهم- تاريخ طويل من التشاؤم؛ تشاؤم بالأرقام، تشاؤم بالحيوانات، أو بالنباتات, أو بالأشكال, تشاؤم من الأسماء. يتشاءمون من الأحلام التي يرونها في المنام؛ فتسيطر على يقظتهم, وتؤثر في نفسياتهم وفي قراراتهم. يتشاءمون من العقبات والعوائق التي قد تعترض طريقهم؛ فإذا وجد الإنسان مشكلةً في بداية عمله, أو دراسته, أو حياته الزوجية, أو سكنه في المنزل الجديد؛ تشاءم منها وظن أن الطريق كله طريق شائك شاق, ونسب الأمر إلى حسد أو عين أو سحر, وأي خلاص أو سعادة لإنسان يحس بأن الشر ممنوح له, ينتظره في كل مكان! ولو أن هذا الإنسان تدرب على الصبر والأناة وحسن الظن, وأدرك أن من طبع الحياة أنها لا تصفو أبداً, وأن الذي يحاول الأشياء الجديدة يحتاج إلى صبر وأناة, حتى يفهم سرَّها ويدرك سنتَها, ويعرف مفاتحَها، لوجد أن من الأمر المألوف أن توجد العقباتُ في بداية الطريق. إن التفاؤل يعين على تحسين الصحة العقلية؛ فالمتفائل يرى الأشياء جميلة, يرى الأشياء كما هي؛ فيفكر باعتدال, ويبحث عن الحلول, ويحصد الأرباح والمكاسب, بعيداً عن سيطرة الوهم والخوف والتشاؤم. التفاؤل يعين على تحسين الصحة النفسية؛ فالمتفائل سعيد, يأكل ويشرب وينام، ويستمتع ويسافر ويشاهد ويسمع ويبتسم ويضحك ويجدّ, دون أن يمنعه من ذلك شعورٌ عابرٌ من الخوف أو التشاؤم. التفاؤل يعين على تحسين الصحة البدنية؛ فإن النفس تؤثر على الجسد, وربما أصبح الإنسان عليلاً من غير علة, ويا لها من علة؛ أن تكون النفس مسكونةً بهواجس القلق والتشاؤم, وتوقع الأسوأ في كل حال. , التفاؤل يقاوم المرض, وقد ثبت طبياً أيضاًً أن الذين يعيشون تفاؤلاً هم أقدر من غيرهم على تجاوز الأمراض, وحتى الأمراض الخطيرة فلديهم قدرة غريبة على تجاوزها, والاستجابة لمحاولات الشفاء. المتفائل يسيطر على نفسه, ويشارك في صناعة مستقبله بشكل فعَّال ؛ فهو يؤمن بالأسباب, ويؤمن بالحلول كما يؤمن بالمشكلات والعوائق. المتفائل ليس أعمى, ولا واهماً يعيش في الأحلام, وإنما هو واقعيٌ؛ يدرك أن الحياة - بقدر ما فيها من المشكلات - يوجد إلى جوارها الحلول, ينجح في الحياة؛ لأنه يعتبر أن الحياة بصعوباتها فرصة للنجاح, وإثبات الذات, وتحقيق السعادة. والناجح لا يتوقف عن العمل أبداً, بل هو في عمل دءوب, وقد قال الله تعالى لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (سورة الحجر:99). بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية: وماذا عن صناعة التفاؤل، هل هو منحة إلهية، أم خلق مكتسب؟ هل يستطيع كل أحد أن يصنع التفاؤل؟. إن التفاؤل روح تسري في الروح؛ فتجعل الفرد قادراً على مواجهة الحياة وتوظيفها، وتحسين الأداء، ومواجهة الصعاب. والناس يتفاوتون في ملكاتهم وقدراتهم، ولكن الجميع قادرون على صناعة التفاؤل. إن اعتقاد المرء أنه ريشة في مهب الريح، أو رهن للطبائع والأمزجة التي رُكّب عليها أو ورثها عن والديه، أو تلقاها في بيئته الأولى، وأنه ليس أمامه إلا الامتثال- إهدار لكرامته الإنسانية، فلا بد من قرار بالتفاؤل؛ فالتفاؤل قرار ينبثق من داخل النفس هذا أولاً.
ثانياً: فالمظهر والشكل الموحي بالثقة في المشي والحركة والالتفات والقيام والقعود والنظر والكلام والمشاركة مهم؛ فلا تتوهم أن الناس ينظرون إليك بازدراء، واثق الخطوة يمشي ملكاً. وحتى تلك العيوب أو الأخطاء في مظهرك وشكلك وحركتك، عليك ألاّ تقف عندها طويلاً، ولا تعرْها اهتماماً زائداً.
ثالثاً: التدرّب على الابتسامة، والجاهزية للضحك باعتدال، فتبسّمك في وجه أخيك صدقة، والبسمة تصنع في قلبك وحياتك الكثير إذا كانت ابتسامةً حقيقيةً وليست ابتسامةً ميكانيكية. وليس المقصود أن يتحول الإنسان إلى كائن ضاحك، لا هم له إلا الضحك، ولا بد من وضع الأمر في نصابه، ولكن ينبغي أيضاً أن نتذكر أن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي جُبل على الضحك؛ فهي إحدى خصائصه وعليه أَلّا يهدرها. وكثيرون يهربون من عناء العمل الشاقّ والمهمات الصعبة والتكاليف الثقيلة إلى لحظات أو أوقات يتخلصون فيها من الجد الصارم إلى قدر من المتعة المباحة التي تُنشّط خلايا الجسم وتجدّد قواه.
رابعاً: أنضج قلبك بالطيب، وأنت بإذن الله على ذلك قادر، انوِ النية الطيبة، ولا تحسد الناجحين. (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)[ النساء:54]. افرح للناجحين، واهتف لهم، واكتب لهم، وأثنِ عليهم، وابتسم لنجاحهم؛ تكن شريكاً لهم. ولا تجعل نجاحك على حساب الآخرين، تسلقاً على أكتافهم، أو زراية بهم، أو تتبّعاً لعوراتهم وعثراتهم. لا تجعل الناس مادة للسخرية أو الابتزاز. وإذا كان ثمة طموح لديك بمزيد ثراء ومال أو شهرة أو منصب أو مجد دنيوي؛ فَعِدْ ربك خيراً، وعداً صادقاً لا يخلف؛ أن يكون للضعفاء والفقراء والمحاويج والبسطاء حق فيما أتاك الله. وكما قال ربك عز وجل: ( إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا)[سورة الأنفال:70]. فاجعل في قلبك خيراً، وأبشر بنجاح المشاريع التي تخطط لها وتسعى إليها، .
خامساً: النظرة الإيجابية. وهي معنى عميق عظم, النظرة الإيجابية لشخصك، وللأحداث من حولك، أياً كانت. إن من المهم جداً أن يكون لدى الإنسان نظرة واقعية توازن بين الأشياء، ومن الخطأ أن يسبغ المرء من شعوره السلبي على الأشياء من حوله، إن من الخطأ الكبير أن يقع الإنسان أسيراً لمشاعره السلبية في نظرته للناس على أنهم جاهليون، بل جعل الله تعالى في هذه الأمة خيراً، ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة، وحتى أولئك المفرطون والعصاة، في دواخل الكثير منهم بقية من معاني الخير والبر والإيمان والندم، وهم بحاجة إلى الاستنبات والتحريك، وسقي تلك البذور وتنمية تلك المشاعر الخيرة لتنمو وتورق وتثمر. إن شأن النظرة الإيجابية عجيب؛ ففي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله؛ فأبرز صلى الله عليه وسلم جانب الامتناع من هذا الرجل، وأشاد به أكثر من جانب المرأة الواقعة في الفتنة الداعية إلى الإغراء. وأشاد الحديث بتوبة الغامدية ولم يعلق على جنايتها، ربما يقع من المرء زلة، أو يمشي خطوة في طريق، ولكنك لن تعدم أن تجد في عمله -ما دام مؤمناً مسلماً- أثراً يستحق أن يُشاد به، ويُنظرَ إليه بإيجابية، ويُطوّرَ ويُفعَّل، ويفتح جسر التواصل معه؛ لئلا يُحاصرَ هذا المرءُ بذنبه، وقد لعن بعض الصحابة -رضي الله عنهم- ذلك الرجل الذي جُلد في الخمر -كما في صحيح البخاري- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ألا قلتم رحمك الله بدلاً من قول لعنك الله) إن الإيجابية تجاه نفسك، والعدوان الذي يقع عليها من الآخرين؛ فهذا يسبّك، وهذا يجحد جميلك، وهذا يكتب مقالاً يشتمك في جريدة أو مجلة، وهذا يكتب تعليقاً في الإنترنت على ما تفعل أو تقول؛ فلا تبأس ولا تيأس؛ فالناس لا يركلون الجثث الهامدة، ولا يتعرضون إلا لمن لهم وجود وحضور، وتخيل كم في هذا العمل- الذي ربما ساءك أول الأمر- من الخير؛ ففيه الأجر والثواب لمن صبر وصابر. وفيه تعويد النفس على تقبل مثل هذه المعاني، وعدم الانزعاج والانفعال لها؛ فهي دورة تدريبية، وفيه أيضاً إزالة لما قد يلابس النفس من العجب أو الكبر أو الغرور أو رؤية الذات. وفيه تحفيز إلى تطلّب الكمال والسعي إليه .
__________________
1) الملاحظات.
2) اقتراح موضوع خطبة مع دعمه بوثائق أو مراجع.

الرجاء التواصل عبر البريد الإلكتروني:
saleh31@gmail.com

حفظكم الله ...
د. صالح التويجري غير متصل  


 

الإشارات المرجعية


قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 08:23 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)