كانت سماء البارحة متخمة النجوم المتناثرة في أجواز السماء , كانت تختلف إلى السماء نجمة نجمة قبل أن يحكم الظلام على الفضاء بقبضة المخباط , والقمر يحرسها , كما يحرس المعشوقات , بل كما يحرس الحبيبة لحبيبها , ونسمات العبير تمر بغنج أمام ناظري , فقارضة عيني النوم , ولم أقوَ على أن أفوز بإغماضة واحدة , كأن العين لم ترتدع عن مناوشة الأرق خصمها الألد , إنها لم ترتدع وكفى !
بقيت ساهرًا ليس كما القمر حين يحرس الحبيبة لحبيبها , وإنما كمن يحرس القمر وصويحباته النجوم , أغازلها فتستجيب , ثم تصد سريعًا كأن لم تستجب من قبل , والعيون في صراع مع الأرق بلا سلاح إلا سلاح التفكر في يوم الغد وثقله كما المعتاد , فكأنه حلَّ محل الشمس لتشرق من مشرقها , وبقيت منهكًا بجسد لا أقوى على شطحاته المجنحة بلا أجنحة .
قدماي أعتدتا من العيون جراء السهر , فكأنهما مقيدتان غير مرسلتين , كارهتان حملي , كما تكرهان أن تجسا صعيد الأرض بالوطء , واليد اليسرى ممسكة بالسلم تارة , وتارة تقصر دونه فأكاد أقع , هو يوم ثقيل من أوله هذا اليوم الجامعي . . . لقد صعدت بشق النفس وكدت أرجع حين لم يبقَ إلا القليل . . .
حين وصلت إلى القاعة , تناهى إلى سمعي صوت المحاضر كأنه يتحدث من قعر بئر سحيق , أو كأنه صوت يأتي من الحمام , آهـ . . . إنه هو , محاضرنا العجوز الأشعث الأغبر , هذا المحاضر يذكرني بتلك الصورة للسيارة السوداء التي يركبها الملك عبد العزيز , . . . كلا , السيارات تبدلت وتنوعت , وهذا المحاضر لم يتبدل ولا يريد أن يتبدل ولو بالموت !! الناس في تقدم , وهذا المحاضر يذكرني بالأموات . . . لا حياة معه , ولا مستقبل يحفزك إليه , آهـ . . . صحيح : المرأة على دين زوجها , عفوًا , الجامعة على دين محاضرها . . .
دخلت القاعة , وانزويت في الزاوية التي اعتاد أن يراني فيها , لصقت بها وأنا أسمع عرض بطولاته القاهرية وهو ينفخ بصوت لا أدري من أين يخرج ؟ ! بعضه من أنفه , وبعضه من بطنه , ولست أدري الباقي إن بقي شيء ؟ مولع بعرض مساجلاته الكتابية , مضت نصف ساعة وأنا أتربص به ريب المنون , فليته يفارقنا , أو ليت الجامعة أوكلت لي أن أختار محاضري بنفسي , لقد أحسست النار تمشي في عروقي غضبًا منه ومن نفسي أن جئت بهذا اليوم الجامعي الثقيل . . .
للحديث بقية , تابعونا . . .