ما أصعب لحظات الوداع وما أثقل ساعة الرحيل .
حينما تشيح الشمس ويتلون الأفق بالحزن ويسرع القطار بالراحلين ويلوح المودعون بمناديلهم المضمخة بالدموع وينشج صدرك بالفراق ويجهش من حولك بالبكاء وتتحول الأرض بكل جهاتها إلى مأتم كبير وخيمة عزاء لاقبة لها .
وهل كان الرحيل إلا لحظة من لحظات انكشاف الدنيا على وجهها الحقيقي ، وامتحانا لكثير من الأحاسيس والمشاعر الكامنة .
ماندمت على شيء ندمي على أني لم أقل له : إني أحبك يامنصور !
ولكني لم أقلها له من قبل ! ولا أدري مالسبب ؟ مع أن قلبي كان يخفق بها من يوم أن كنا صغارا وقد عاشرته قريبا وصديقا تتكشف سجاياه العطرة يوما بعد يوم ، أحب روحه الصافية ونفسه الخفيفة وقلبه الرقيق ، أحب أدبه الجم وخلقه الرفيع ، أحب مثابرته وهو يشق طريقه بروح فتية ، وكان قلبي يسافر معه وهو يجمع نفسه للعمل ناحية الشمال ثم وهو ينتقل نحو الشرق إلى أن استقر به النوى في نجد ، وقد قيل : الذي نحبه نخاف عليه .
عندما ينطفيء وهج المحبوب فجأة لاتكاد تدرك ذلك بوعيك التام ! .. وتظل تدافع الأمر مرة بعد مرة حتى إذا استقرت الحقيقة في القاع تلاشت كل الصور كأن لم يك بينك وبينه أشياء !
ويالمتمم بن نويرة كيف اختصر عنا التعبير ببيته الذي يقول :
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا !
اي والله .. كأننا ومنصور لم نبت ليلة معا !
وكأن مابيننا كان سرابا أو حلما أو شيئا من خيال عابر ذهب مع الريح !
ويوقظك من هذا الحلم عصفوره الصغير الذي يرفرف بجناحيه في جنبات البيت ، ويضحك هيثم ذو الربيع ونيف ويذكرني بقلب والده الرحيم وأتذكر بأن الله أرحم مني ومنه ومن والدته ومن الخلق أجمعين وأنه " لطيف بعباده " سبحانه .
كما يذكرني باللذع الذي حكاه ابن الرومي في رثاء ولده محمد فيما كان ابناه الآخران يلعبان بكل براءة بين يديه :
أرى أخويك الباقيين فإنما * يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا في ملعب لك لذعا * فؤادي بمثل النار عن غير ماقصد
فما فيهما لي سلوة بل حزازة * يهيجانها دوني وأشقى بها وحدي
وأنت وإن أفردت في دار وحشة*فإني بدار الأنس في وحشةالفرد
ولكن وداع الذين نحبهم ثقيل .. ثقيل جدا ياأعزائي .
ولوكان القبر ينطق لاستنطقناه عن شعوره بزوجين ترافقا في الحياة ثم وهما يترافقان في الآخرة بقبرين متجاورين .
أخي منصور :
يـعز عـلي حين أُدير عيني * أفـتش فـي مـكانك لا أراكا
ولـم أر فـي سواك ولا أراه * شـمائلك الـمليحة أو حـلاكا
ختمت على ودادك في ضميري * ولـيس يـزال مـختوماً هناكا
فـيا قـبر الحبيب وددت أني * حـملت ولو على عيني ثراكا
سـقـاك الـغيث هـتاناً وإلا * فـحسبك من دموعي ما سقاكا
ولا زال الـسلام عـليك مني * يـرف مـع النسيم على ذراكا
اللهم وأنت أكرم الأكرمين أكرمهما بنزل كريم من عندك ونور ضريحهما وافسح لهما فيه .
اللهم ارفع درجاتهما في المهديين واخلفهما في عقبهما في الغابرين واغفر لهما وارحمهما واعف عنهما وأنت أرحم الراحمين .
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .