- الرد على دعاة الاختلاط :
إن أصول العقائد وبذور العادات ومبادئ الخير والشر ، إنما تغرس في العقل الباطن للإنسان ، من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الست الأولى من عمره ، فإذا عودنا الصبي والبنت الاختلاط فيها ، ألا تستمر هذه العادات إلى السبع والثمان ؟ ثم تصير أمرا عاديا ينشأ عليه الفتى ، وتشب الفتاة ، فيكبران وهما عليه ؟ وهل تنتقل البنت في يوم معين من شهر معين ، من الطفولة إلى الصبا في ساعات معدودات ، حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب ؟ أم هي تكبر شعرة شعرة ، كعقرب الساعة تراه في الصباح ثابتا فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه , فهو إذن يمشي وإن لم تر مشيه ، فإذا عودنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم ؟
- من آثار الاختلاط بين الجنسين :
جئت المدرسة الغربية ، التي أعرفها وتعرفني ، يعرفني كل من يعلم فيها معي من إخواني ، وكل من كان يتعلم فيها من أبنائي ، وتعرفني غرفها وإبهاؤها ، وممراتها وأبوابها ، وأركانها وجدرانها , تركت فيها بقايا مني ، من أيامي ، من أماني وأحلامي ، فلما بلغت بابها أصبت بصدمة اهتز لها جسدي : صاح بي البواب : ممنوع يا أفندي , فلما رآني ماضيا قدما لا أقف عليه ، ولا أتلفت إليه ، وثب يعترضني ويقول : قلت لك ممنوع ، فماذا تريد يا أفندي ؟ قلت أريد أن أقابل المدير فتردد ثم قال لي مستسلما : تفضل , ودخلت على مدير المدرسة ، فإذا كهل يدل سمته على فضل وعلى صلاح ، فانتسبت له ، كما كانوا يقولون قديما أو عرفته بنفسي ، كما يقال الآن ، فرحب بي وأراد أن يكرمني ، فدعا بأساتذة الأدب العربي ليلقوني ، فدخل رجلان وسلما وسلمت ، ثم دخلت صبية حسناء ، سافرة حاسرة ، قصيرة الكم واسعة الجيب يبدو منها الساعد والنحر ، وأعلى الصدر ، تهدل خصلة من شعرها على جانب جبينها ، فكلما تكلمت اهتزت فسقطت على عينيها فأزاحتها بيديها ، قصيرة الثوب ، ما أنعمت النظر إلى ساقها لأعرف هل تلبس جوارب أم هي كاشفت الساق ؟ دخلت غير محتشمة ولا مستحيية ، كأنها رجل يدخل على رجال ، أو كأنها حسبتنا نساء تتكشف أمامهن كما تتكشف أمام النساء , وما طالت حيرتي في أمرها ودهشتي منها حتى سمعت المدير يقدمها إلي يقول أعرفك بفلانة « نسيت اسمها » مدرسة الأدب العربي ، ومدت يدها لتصافحني فتأخرت لحظة ثم قبضت يدي ، وقلت كلمة اعتذار ما أعجبتها , وأسرعت لأتخلص من هذا الموقف فسألت المدير : هل تدرس الآنسة هنا في مدرسة كل طلابها شباب ؟ , فابتدرت هي الجواب ، وقالت للمدير بجرأة عجيبة : يظهر أن الأستاذ لم يعجبه أن أدرس هنا , قلت للمدير : اسمح لي أسألك هل الآنسة مسلمة ؟ قالت وقد انقلبت كالنمرة المتوحشة : وما دخل الإسلام في الأمر ؟ قلت : يا آنسة ، أنا لم أخاطبك ،وإنما أخاطب
المدير ، فإن كنت مسلمة فالإسلام يدخل حياة المسلم كلها ، يكون معه إن كان وحده ، أو كان مع أهله ، أو كان في سوقه ، أو كان في مدرسته ، يبين له حكم كل عمل من أعماله ، لأنه ليس في الإسلام عمل يعمله المسلم إلا و له حكم في الشرع .
ورأيت أن الكلام معها لا يفيد ، فقمت فسلمت على المدير وانصرفت ، ودمي كله يغلي في عروقي ، وغضبي يضرب قحف رأسي , وذهبت فسألت من لقيت من الشبان في دار الأخوة الإسلامية ، فإذا هي سنة سيئة جديدة : أن يذهب مدرسون شبان إلى مدارس البنات ، ومدرسات شابات إلى مدارس البنين ، في أخطر مرحلة من العمر ، مرحلة الدراسة المتوسطة ، التي يكون فيها التلاميذ في بداية العهد بالبلوغ ، نار الرغبة مشتعلة بين جوانحهم ، وكوابح العقل والتجربة ضعيفة في نفوسهم ، أما الدين فقد كان من أثر المستعمرين في أكثر بلاد المسلمين أنهم أضعفوه في نفوس الناشئين , وروى لي هؤلاء الشباب حوادث مما يقع في المدارس التي تدرس فيها فتيات , حوادث مخيفة أخشى على أعصاب القراء من الشباب أن أذكرها أو أن أشير إليها ، فأكون من الذين يريدون الفساد في الأرض , نار وبنزين هل يكون من اجتماعهما نبع في ظل حوله ورد وياسمين ؟ وذهبت فنشرت مقالة مشتعلة ، لم أكتبها بقلم مقطوف من أغصان الجنة ، بل بحطبة من جهنم ، تلتهب كلماتها التهابا ، فتلهب نفوس أهل الإيمان وأهل الشرف ، ومن في نفسه بقية من سلائق العروبة وخلائق الإسلام , تردد صداها بين جوانب البلد تردد صدى صوت المدافع , أرضيت ناسا أبلغ الرضى ، وأغضبت آخرين أعنف الغضب , حملت على الذين جاؤوا بهذه البنت فألقوها بين الشباب , حمامة بيضاء بين صقور ، قد أشرعت هذه الصقور مناقيرها وأعدت مخالبها , على أنها لا تخلو هي من اللوم ، فما الذي أدخلها هذا المدخل ؟ وإن هي إرادته فما الذي عقد ألسنة أهلها فلم ينصحوها ؟ وكف أيديهم عنها فلم يمنعوها ؟ وإن هي اضطرت « وما ثم اضطرار » فما لها وما لهم
تختار هذا الثوب القصير ، وهذا الزي المثير ، وهم يقرونها على ما اختارت ؟ على أنني لا أتهم شباب العراق ولا بناته , أنهم جميعا أولادي أو أخوتي ، ولا شباب الشام ومصر ، ولا أتهم أحدا بضعف الخلق ، ولا بامتهان العفاف , هل اتهم المنحدر إن سيرت فيه سيارتي بلا كوابح فانهارت السيارة ؟ هل أتهم النار إن أدنيت يدي منها بلا حجاب ؟ الطريق إنما شق لتسلكه السيارات ، ولكن مع قوة الكابح « الفرامل » ويقظة السائق , والنار إنما خلقت ليستفيد منها الإنسان ، فيطبخ عليها ويتدفأ بها ، وكابح السيارة هنا إنما هو الزواج ، والانتفاع بنار الشهوة إنما يكون بإنشاء الأسرة واستيلاد الولد , ما قال الله لنا كونوا رهبانا فعطلوا هذه الطاقة ، واحبسوا السيل المندفع من فم الوادي , فمن أراد حبس السيل بعدما سال يذهب به السيل ولكن أعدوا له مجرى ليجري فيه ، أو فاستفيدوا من طاقته يدر لكم معملا ، أو يسير لكم قطارا , هذه الشهوة طاقة إن أهدرناها خسرناها ، وإن وضعناها في حدودها التي حددها الله لها انتفعنا منها , إن كان المصنع ينتج لنا ثيابا وأواني وسيارات ، فإن هذه الطاقة هي التي جعلها الله منتجة للناس الذين يصنعون الثياب والأدوات والسيارات ، فلا تهدروها ولا تضيعوها, إن المدارس إنما عرفت لتزيد الناس علما ، لتقوم منهم الخلق ، لتبعدهم عن طريق الرذيلة ، وهذا الاختلاط يسوقهم إلى هذا الطريق سوقا , لقد كانت مقالة طويلة وكان مما قلت فيها : إن من المترفين الأغنياء قوما يراجعون الأطباء ، يشكون إليهم بعض ما يجدون من الأبناء ، يقولون إنهم إن حضر الغداء أو العشاء أعرضوا عنه ، ولم يقبلوا عليه ، فهم يطلبون لهم دواء ، يفتح نفوسهم إليه ، ويزيد إقبالهم عليه , ولا يخبرون الطبيب أن السبب فيما يشكونه أن الولد أكل قبل الطعام بنصف ساعة حبة « شكلاطة » ، وقبلها تفاحة ، وقبل ذلك شرب شرابا حلوا ، أي أنه أكل ما لا يغذيه ولا يكفيه ، ولكنه
شغل معدته ، وأضعف شهيته .
والله قد جعل الجوع الذي تحسون به ، دافعا إلى الطعام الذي تحتاجون إليه ، كما جعل الشهوة وهي جوع آخر ، دافعا إلى الزواج ، فالشاب الذي يأخذ من هذه نظرة بشهوة ، ومن هذه لمسة أو قبلة ، لم يحقق له ذلك المراد من الزواج ، ولم يبق عنده قوة تدفعه إليه ليقبل عليه , كان هذا الذي رأيته ، وهذا الذي كتبته ونشرته قبل ثلاثين سنة , لم أكن أتصور أنه سيأتي علي يوم أرى فيه مدارس البنات في بعض بلاد المسلمين تكشف عن أجسادهن بحجة الرياضة ، وتعلمهن الاختلاط باسم الفن وتخرجهن من بيوتهن للفتوة أو التدريب العسكري ، وسيأتي إن أذن الله ومد في الأجل وصف ما رأينا من ذلك في الشام أيام الوحدة مع مصر ، لقد رأينا شيئا عجبا ، تشيب له نواصي الأطفال , لقد كانت العراق لما تركتها بعد أن كنت مدرسا فيها كما كانت أكثر البلاد العربية ، مثلها كمثل غدير كبير ، كان عذبا صافيا فتعكر ماؤه ، وخالطه الكدر ، فلم يعد سائغا شرابه ، فلما عدت بعد سبع عشرة سنة « أي سنة 1954 » وجدت قوما قد أقاموا مصفاة إلى جنب الغدير أخرجت ماء صافيا أبلغ الصفاء ، عذبا غاية العذوبة ، فوضعوه في بركة صغيرة ، وما خرج منه من أوضار كانت في الماء العكر ، ألقيت في بركة أخرى صغيرة كلها دنس وطين وقذر هذا مثل أكثر البلاد العربية لما كنا صغارا ومثلها الآن ترى الآن في كل بلد قلة أطهارا صالحين متعبدين ، كأنهم « كما شبهتهم مرة غير مبالغ » من أهل الصدر الأول ، وقلة أنجاسا تتلقف كل خبيث من المذاهب ، وسخ من العادات ، أسماؤهم أسماء المسلمين ، وما هم في عقائدهم وفي أعمالهم وفي سلوكهم كالمسلمين , وسائر الناس « أي باقيهم » وجمهورهم كما كانوا من قبل , خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، يقيمون الصلاة ، ويصومون ويحجون ، كما كان السلف يصومون ويصلون ويحجون ، فالأعمال هي الأعمال ، ولكن النيات ليست هي النيات , ومنهم من لا تنهاه صلاته عن
فحشاء ولا منكر, ومنهم من لا يحافظ على صلواته ، أو لا يكاد يصلي ، ويحسب أن الإسلام قول بلا عمل ، ودعوى بلا دليل ، وأن الله يوم القيامة يميز أهل الجنة من أهل النار ، بأوراق النفوس وجوازات السفر ، فمن كتب فيها أنه مسلم جاز الصراط إلى الجنة ، ومن كتب فيها أنه غير ذلك كب في جهنم.
|