إن يريدون إلا إصلاحًا وتوفيقًا من لدنهم ولو رغمت أنوف , يجثون عند الداعي لهم في أطهر بقعة مباركة , في أم القرى , مستظلين بظلها , فيأخذون بأكف بعضهم تباعًا , عازمون على البيعة , وينشدون ثباتًا كما ثبت أولو العزم من الرسل , فهم متعبدون , بالله مؤمنون , فتخطفتهم يد الغدر بهتانًا وتزلفًا , وبهرجة وتزويقًا , وما نقم منهم الأعداء إلا أن يقولوا غير قولهم , فتكسرت النصال على النصال , ولم يـفزْ باللذات الجسورُ .
إنهم مؤمنون بأن الإسلام لم يكن في يوم من أيامه دين ملك , يؤفك عنه من أفك , ويستأثر به من استأثر , وإنما دين شورى بيـن الراسخين بالعلم من أهله , ودين رحمة تنهال على أهله المقيمين حدوده , العارفين شرائعه وتشريعاته , ودين عدل ومساواة لم ينل فيه النبي من الأذى وأصحابه إلا لهذا , ولم تزهق فيه أرواح الشهداء إلا من أجل هذا , وأيهات أيهات أن يكون حالنا كما كانوا ومُذْ خلت القرون المفضلة , لقد تحول الإسلام إلى هذا الملك , وسفكت جورًا دماء الشورى والعدل والرحمة والمساواة .
الدولة لا تريد أن تظهر بإعلامها عن مثل هذا , فتشيعه على الملأ أجمع وأكتع , فتجعل الشعب هو الذي يندد بهم من تلقاء نفسه , وإما أن يقول للدولة تنحي جانبًا , فقد جاءوا بما يقبله الراسخون في العلم , وإنما تصفهم بصفات يندى لها جبين الإسلام الأصيل , ويسكب من جُرائها عبرات سخينة , لها حرارة الجمر , ولوعة الثكلى بأبنائها الأربعة كما الخنساء , ظلم بواح , وقهر يستشري في البلاد , وتغافل واستغفال , والله غالب على أمره ولو كره الكافرون .
لن تجد أمة نصيبها من الغلبة حتى تثخن في نفوس عقلائها , تدفعهم إلى مواطن العلا , وتحيد بهم عن مواطن الخور والجبن والهوان , وما هم بضارين إلا أعداءهم , قاعدين لهم كل مقعد , ويتربصون بهم غوائل الدهر وصرعاته , حتى إذا ا ثَّـاقل الأهلون عن نداء أمتهم ؛ تراهم يقولون : نريد جمع الكلمة , ونبذ الفرقة , واحتواء الاختلاف , ولـمِّ الصفوف ! لله أبوهم ؛ ثم لله أبوهم ؛ هل كانوا ما عليه اليوم أهدى سبيلاً ؟ وهل كان اجتماعهم اليوم مرحومًا على صف لا يحيدون عنه ؟ إن خطرهم بين أيديهم يتقاذفونه من حيث لا يدرون , ويقعسون له كما تُقعس المدينة لمحتلها .
إن خطركم في الداخل فانشدوه , ولا تلبسوا على أنفسكم فتتوهمونه خارج البلاد , لن يكون خطر الخارج بأشد وأنكى مما بين أيديكم , لعمر الله إن الأمة يجثوا عليها من معهم البيعة ولات بيعة , ومن معهم الراسخون في العلم حين جاروا عدوًا بغير حق , فلك الله أيتها الأمة المجيدة بماجدين مكبلين بالحديد والأصفاد . . .