بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:33 PM   #1
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
قول في لغة القول..!
د.حسن بن فهد الهويمل


- أذكر أنني قبل سنوات عبرت أحد ممرات الجامعة راجلاً في طريقي إلى قاعة الامتحانات للمراقبة، فشاهدت على جنباتها أكداساً من مذكرات الطلبة مطروحة في الطريق، ولما أن استهواني عنوان مذكرة في خمس ورقات عن (تنمية اللغة)، استعرضت مقاطعها على عجل، ثم نبذتها حيث تركها صاحبها، وتبدى لها أنها محفزة للمطلوب، وليست مستوعبة له.
ولما لم تكن في مستوى تطلعي، ظلت الفكرة تساورني، حتى إذا طلبت مني (جريدة البلاد) قبل عقد أو يزيد الانضمام إلى كتابها، بدأت معها، وتواصلت كتابتي قرابة خمس سنوات على ما أذكر، وكان مما أطلت الكتابة فيه الحديث عن (تنمية اللغة) مما أتاح لي الوصول إلى المراجع التي تتناول تاريخ اللغة وفقهها وسائر علومها في التراث والمعاصرة وجهود (مجامع اللغة العربية) التي لم تشع في أوساط المعنيين، وخاصة في قطاع الترجمة؛ الأمر الذي أدى إلى فوضى المصطلحات. وكنت من قبل على صلة باللغة وعلومها يوم أن كانت (البنيوية) سيدة الموقف، عند نقاد (المغرب العربي) ومن شايعهم من المشارقة. ومن خلال تلك المتابعة تجلت لي عبقرية اللغة، وتبدى غناها، واستأت من عقوق أبنائها وتماديهم في النيل منها، والتمكين للعاميّات عبر الشعر العاميّ، وما واكبه من دراسات، الأمر الذي اضطرني إلى إعداد كتاب عن (الإبداع الأميّ المحظور والمباح)، ولقد وقفت على دعوات مشبوهة، تبناها مناديب الاستعمار ومَن حولهم من الأشرار. ولما تزل تراودني فكرة إخراج كتاب عن لغة أذن الله أن تحفظ بحفظ القرآن الذي وسعته: لفظاً وغاية. على أن تكون نواة هذا الكتاب المرتقب تلك المقالات التي رجعت في إعدادها إلى أكثر من مائة كتاب في القديم والحديث والمترجم، وكلما هممت بالعودة إلى تلك المقالات، لاستكمال ما ينقصها، وإعدادها للطباعة، صرفتني التزامات أخرى. ولقد حفزني على ذلك ما تعانيه اللغة من سوء في المناهج، وخلل في طرق التدريس، واحتفاء مريب بالعاميات، وشيوع للهجات المحلية في الصحف والمجلات وسائر الوسائل الإعلامية، وضعف عام في اللغة، يطول أقسامها في الجامعات، ويوهن عزم المبدعين فيها من شعراء وقصّاص وروائيين. وظاهرة الضعف اللغوي تشغل العلماء والتربويين، وما من أحد بادر بحل يوقف التدهور، وإن خامر الجميع خوف وتحرف.
- في تلك الأجواء المشحونة بالخوف والترقب، هاتفني صديق قديم، طواه نسيان التقاعد، فما عاد يذكر نفسه، فضلا عن أن يذكره الآخرون، وكانت له اهتمامات بالكتب التراثية، يسألني عن كتب سبق أن اشتريتها منه في سني الطلب، وكنا إذ ذاك نتداول الكتب فيما بيننا استعارة أو ابتياعاً. حين نحتاج نبيع ما يسدّ الحاجة، وحين نتسلم المكافأة الزهيدة من (المعهد العلمي) نشتري ما نحن في حاجة إليه، وكم أسفت على بيع كتاب لا يعوّض، ولكن الحاجة تلجئ الإنسان إلى بيع أعز ما يملك. وفي كتب التراث حكايات مؤلمة، ساقها العلماء والأدباء والمفكرون، صوّروا فيها ما يعانونه من شظف العيش، وقسوة الحياة، واضطرار بعضهم إلى بيع مكتبته أو بعض كتبه، وقد يبلغ الإحباط بأحدهم حدّ الإقدام على إحراق كتبه، نكاية بمن لا يقدرون العلم وأهله، كما فعل (أبو حيان). وحديث الأدباء عن المعاناة تمثل نواة (السير الذاتية). وما أتعس الحياة؛ فلقد كنا من قبل أشداء أقوياء نلتهم ما يقع في أيدينا من كتب وصحف ومجلات، نتبادلها عن طريق الاستعارة، ولما وسّع الله علينا بالمال والمساكن والوسائل، وأصبح بإمكاننا الحصول على ما نريد، تعطلت فينا أشياء كثيرة، وهنت قوانا، وضعُفت أبصارنا، وتشعبت مسؤولياتنا، فكنا ننظر إلى أكوام المعارف نظر المتحسر، فيما نجد من حولنا من الشباب الذين يتمتعون بما كنا نتمتع به من قوى بصرية وذهنية، ويمتلكون من الوسائل والأموال ما لم نكن نملك، يفرطون بقوّاتهم وإمكانياتهم وحياتهم التي لا تعوض.
- وكان فيما سأل عنه صديقي القديم الذي عانى ما عانيت من شظف العيش، ما ألف حول (الكلمات الدخيلة في القرآن)، الأمر الذي حملني على العودة إلى حقل اللغويات في مكتبتي، واستعراض ما يتعلق بهذا الحقل المعرفي. لقد قضيت بعض الوقت في سياحة علمية ممتعة، حرمتني منها صوارف المسؤوليات، والبحث في لغة القرآن، سواء في الصوتيات أو الصياغات أو المعاني أو الأساليب أو القراءات، وما يندرج تحت ذلك من نحو وصرف ولهجات واختلاف في توجيه المعاني والتأويل يفضي بالمهتم والمتخصص إلى آفاق رحبة فيها متعة واندهاش. وكلما انقطعت إلى التراث اللغوي أشفقت على المتهافتين على محدثات العصر المقوين من التراث، ممن حرمهم الله من ثروة لا تعوض. وكل مندفع وراء المستجدات دون تحصين وتأصيل، يورده الاندفاع موارد الهلكة.
- ولربما يكون من المفيد أن نشير إلى عنوان هذا المقال وهو: (القول في لغة القول) لما يوحيه من أن هناك لغة ليست من القول، وما لا شك فيه أن العلم الحديث القائم على الرصد والتجريب، والمعتمد على المختبرات والمعامل وجمع المعلومات، وتسجيل الأصوات، وتحليلها وتصنيفها وتوصيفها، أثبت أن للجسد لغة، وأن للعيون لغة، وأن لكل أمة سابحة أو طائرة أو ماشية أو زاحفة لغة، لا يفقهها إلا مَن لا تختلط عنده الأصوات. وها نحن اليوم أمام (برمجة اللغة العصبية) بين مندفع لا يلوي على شيء، ومتمنع لا يقبل بأي شيء. ولقد أشرت إلى لغات الأمم التي لا نفقهها، والجهل بالوجود لا يعني العلم بالعدم، وأثناء التقصي والمتابعة، وقفت على بعض المؤلفات المترجمة، ووقعت يدي على إبداعات روائية وقصصية وشعرية، تشير إلى لغة الجسد، وأحسن ما قيل في ذلك:
(وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيناي في لغة الهوى عيناك)
كما عثرت على إشارات عن نباهة الحيوان. وتوسعت في الحديث حين تداركت على (البنيويين) قولهم عن (الإنسان بوصفه لغة) وتحفظت على المقولة المتداولة (الإنسان حيوان ناطق) وتبين لي فيما بعد أن الترجمة لهذه الكلمة محرفة، إذ ليس المقصود منه (النطق) وإنما المقصود (المنطق) ولم يتسن لي تقصّي هذا الخطأ الشائع، واتخذت سبيلي في البحث عن إمكانية اللغة لمخلوقات غير إنسانية، وسقت شواهد من القرآن الكريم حول لغة الحيوان والطيور والزواحف، وأن لكل أمة من الأمم لغتها، والله يقول: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} وهي مثلية متعددة ومتنوعة تنوع إمكانيات البشر، وقوله: {عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ} وكذلك تسبيح كل شيء بحمد الله مما لا نفقهه. كل ذلك يثبت أن الإنسان لا ينفرد باللغة ولا بالضحك، وإنما ينفرد بحمل (الأمانة). وقد اختلف المفسرون في تحديد مفهومها، وليس ذلك مجال تقصيها، وقد يكون ما ذهب إليه فلاسفة اليونان من أن ميزة الإنسان (المنطق) لا (النطق) هو الأقرب، لمواكبتها بعض الرؤى حول (الأمانة) المعروضة على السماوات والأرض والجبال. فإذا كانت الأمانة هي أمانة التكليف، فلا تكليف إلا بالعقل، وإذا كانت الأمانة هي العقل، فهو مناط التكليف. ولما عدت إلى مكتبتي، تذكرت الشحيح الذي ضاع في الترب خاتمه، فأطال الوقوف، ودقق في التنقيب، وخاصة حين أكون بين كتب اللغة، ما تقدم منها وما تأخر. ولقد زاد اهتمامي بعلوم اللغة بعد أن اجتذب العلماء الغربيون منهج (البنيوية) من حقله الفلسفي إلى حقول اللغة والاجتماع والنقد، وبعد أن تهافت عليها من المستغربين من لا يحسن الفهم ولا يتقن الإجراء. ولقد سبق ذلك التهالك ظهور مدارس حديثة: شرقية وغربية، ووقوع طائفة من مثقفي العالم العربي في حبائل تلك المدارس، دون علم باللغة العربية ومعارفها، ودون إدراك للجذور الفلسفية لتلك المذاهب، مع العجز الواضح عن التطبيق السليم. ولقد عرض البعض للمفاهيم الخاطئة، وضرب مثلاً ب(التقويضية) ومترادفاتها: (التشريحية) و(التفكيكية) وسوف أعود إلى ذلك، متى يسره الله، والعودة ملحة، ولا سيما بعدما انزلق البعض في خضم النقد الغربي الموغل في المعيارية والمعرفية، ولقد سبقت لي إلمامات ترتبط بتعالق النقد الحديث بالمستجدات الغربية، حاولت فيها ردّ بعض الظواهر النقدية إلى التراث، وكان ذلك بعنوان: (ظواهر النقد الحديث وجذوره في التراث) ونشر في هذه الجريدة أيام (3، 10، 24-9-2002م). والمناهج اللغوية التي ابتدرها (سوسير) أشعلت معارك طاحنة، لم يخبُ أوارها، ولعل آخر صيحات المناهج منهج (التحويلية)، وصراع الرؤى حول (الاكتساب) و(الملكة) وهو صراع تلقاه البعض باندفاع غير محسوب، وكل مندفع لمذهب أو تيار يحكم بموت ما سواه، و(تشومسكي) رائد (التحويلية) مدرسة لغوية، لا غبار على حصافة رأيه وعمق تجربته، والإشكالية فيمن يراه البديل، لا فيمن يراه الرديف، ونحن لا نمانع أن يكون منجزه إضافة متميزة، نسترفده لا ننقطع له، إذ من المفيد أن نتلقى أطروحات الغرب، وأن نفهم ما فيها، ولكن من المضرّ أن نلغي ما نحن عليه، أو أن ننفي تراثنا، لنحل محله الطارئ الذي قد لا يسد خلة، ولا يستجيب لحاجة. وكم هو الفرق بين الاستفادة من الشيء والانقطاع له. لقد تحدث الأستاذ الدكتور (سعد بن عبد الرحمن البازعي) عن جرائر (استقبال الآخر) أي جعله قبلة كما يستقبل المصلي الكعبة، وذلك ما يفعله كثير من المتسطحين الذين طافوا يبغون نجوة لمشاهدهم الفكرية والأدبية من الهلاك المعرفي، فهلكوا هم بأنفسهم. وحين نتصدى للمستغربين والظلاميين فليس معنى هذا أننا ماضويون، نرفض الجديد، ونحرّم التعالق، ونجرّم الحوار المتكافئ، ونرحل إلى التراث، ولا نرحل به، ونشتمل به، ولا نستبطنه، ومن تقوّل علينا، فقد افترى الكذب، ولا يجتر مثل هذه المفتريات إلا من أعوزته الحجة، وخذله الدليل. وكم حاولنا جاهدين ثني هؤلاء عن تحميلنا ما لا نحتمل، ولكنهم لو رضوا بذلك، لسُقط في أيديهم. فنحن مع التجديد إلى أقصى حدوده، ومع المناهج الحديثة التي لا تلغي خصوصيتنا، ولا تمسخ صورنا، ولا تضر بتراثنا، ونحن أبداً مع الاستفادة، ومع الحوار، ومع تبادل المعارف، ولكننا لسنا مع الاستبدال والتخلي عن الموروث، ولسنا مع التقليد الأبله، ولا مع الفهم الخاطئ، والادعاء الكاذب، ولا مع الذين إذا خلوا إلى أساطين الغرب قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون. وإذا كنا نؤمن بأنه لا يمكن أن يكون هناك حضارة بريئة، فإننا في الوقت نفسه نثمن التفاعل والتقارض والتعالق والتثاقف، ولكن وفق ضوابط وآليات، ووفق إمكانيات استثنائية، يتوافر عليها كل داخل على الحضارات الأخرى، وما من داخل لم يؤصل لمعارفه، ولم يحرر مسائله إلا هو هالك لا محالة، وما أكثر المقتفين آثار الغرب بناجين، لأن اقتفاءهم غير واع وغير سديد، والراصد للتاريخ الفكري والأدبي والفلسفي المعاصر تتبدى له سوءات لا يجد أصحابها ورقاً يخصفونه لسترها، ومع التعري المخجل يظل العراة في مغالطاتهم يعمهون، وتجربة الاستغراب في انحدار، منذ (الطهطاوي) ومروراً بالصليبيين العرب أمثال (جرجي زيدان) و(سلامة موسى) و(لويس عوض) و(غالي شكري) وانتهاءً بأساطين الحداثة (أدونيس) و(عصفور).
- وحين نعود إلى (القول في لغة القول) نجد أنفسنا أمام تراث لغوي يعد من مفاخر الإنسانية عامة، وما أضاعه إلا العققة من أبناء الأمة، الذين عاشوا تحت وطأة الانبهار أو المواطأة. ويقيني أن اشتغال علمائنا الأوائل باللغة لا يضارعه أي اشتغال في أي لغة أخرى، وأن عراقة اللغة العربية لا تدانيها أية عراقة، وأن نماءها وهيمنتها لا يمكن أن تطاولها فيهما أية لغة في العالم. ذلك ما نعتقد، وإن سخر مَن سخر، وامتعض من امتعض. ومما يحز في النفس أن المبهورين بمنجز الآخر يسخرون من دعوى المفاضلة، فما دامت اللغة (ملكة)، فهي مشاعة بين الأمم كافة، ولا فضل للغة على لغة، وكل لغة تغني أهلها، وتسدّ حاجتهم، وإذ نمضي مع هؤلاء في كثير من رؤاهم فإننا نرى أن اللغات تتفاوت في عراقتها، وتراثها، وضوابطها، وما ألف فيها من معاجم، وما اكتشف فيها من تصريف واشتقاق وتوليد ونحت وتعريب ونقل، وما قعد لها من ضوابط، تخدم المباني والمعاني والجماليات الصوتية، وما اكتشف فيها من قدرة على استيعاب الحضارات البائدة والقائمة. واللغة العربية من أفضل اللغات وأعرقها وأحفلها بمختلف المعارف. لقد واجهت اللغة نقلات خارقة، لم تظفر بها أي لغة، وصمدت بكل اقتدار. فلقد كانت في الجاهلية لغة مشافهة وفن، ولغة شعر وعواطف، ولما أن وسعت كتاب الله لفظاً وغاية، دخلت في التحدي، فكان أن استوعبت لغة الدين الجديد، وما جدّ فيه من مصطلحات ومعارف وعلم في التفسير والفقه والحديث وعلم الكلام وأصول تلك العلوم، ثم واجهت تحديات الترجمة في العصر العباسي، واستوعبت حضارات سادت ثم بادت، ولم تلن لها قناة، وها هي الآن تواجه مستجدات العصر الحديث لتكون بهذا: لغة العاطفة والعقل والعلم. ولم تواجه خلال تلك المراحل الثلاث أية إشكالية، ولم يتحرف علماؤها لإجراء يؤثر على خصوصيتها، لا في مبانيها، ولا في معانيها، وإذ قلنا لناشئة الأمة وكهولها: خذوا حذركم، وانفروا جميعاً لحفظ لغتكم، قال قائلهم: هي محفوظة بحفظ القرآن، وما علموا أن الخوف على حَمَلَتها لا على ذاتها، ولقد حذرنا الله بقوله لرسوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، فالقرآن الذي نزل بلسان عربي مبين سيظل كما هو، فيما نكون بالتفريط من الأعراف، فلسنا عرباً نشرف بعروبتنا، ولا عجماً نعذر بعجمتنا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  


قديم(ـة) 24-11-2006, 02:33 PM   #2
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب 1-2
د.حسن بن فهد الهويمل


- يحسن بنا، ونحن في لجة من مخاضات أُذن لها أن تقلب الأوضاع العالمية رأساً على عقب استبعاد الافتعال والانفعال، وقصر الحديث على التناول الموضوعي والبحث المعرفي، بعيداً عن صخب الخطابات التنصلية، ومآزق التزكية الذاتية، والانحاء باللائمة على الآخر، دون مصلحة أو برهان. ومتى اعتمدنا في تناولاتنا تبادل الاتهامات، وممارسة الإقصاء والإدانات، زدنا الوضع تعقيداً والحل استحالةً، وانفض سامرنا بوضع أشد انغلاقاً مما سلف، والمؤتمرات العالمية حين تقارب ظاهرة كالإرهاب، يحسن بها تجسير الفجوات وتجفيف المستنقعات، وأحسب أن أوضاع العالم المتوترة تستدعي الكلم الطيب، والقول السديد، والدفع بالتي هي أحسن، استجابةً لأمر الله:{وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، ومتى كان التعايش السلمي ممكناً فإن المصير الى ما سواه جناية بحق البشرية فوق أي أرض وتحت أي سماء وعلى أي ملة:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، والدين الإسلامي أقدر الاديان على وضع الحلول السليمة للأزمات المستعصية، وتوفير أجواء تحقق للإنسانية العيش الكريم، وكيف تتأزم الأمور في ظله؟ وهو لا ينهى عن البر والقسط لكل مخالف في العقيدة، ما لم يقاتل في الدين خاصة، أو يخرج المسلمين من ديارهم، أو يظاهر عليهم الأعداء والمحاربين، وما لم ينبذ المسلمون إليهم على سواء، ولن تتأتى الرغبات المشتركة إلا إذا حررنا مسائلنا، وقاربنا بين مفاهيمنا حول القضايا المشتركة، وحددنا مصادرها، ورسمنا أساليب مواجهتها، ومتى توخت الحضارات العدل والصدق، ووفرت الحقوق، ووحدت المواقف والمكاييل، أمكن الانتقال من الصدام إلى الحوار، ومن التناحر الى التعاذر، ومن التناوش إلى التعايش. ومجموع تلك الهموم الممكنة تتشكل منها تلك المقاربة الحذرة.
- ولما كنا نود الحديث عن إشكاليات الإرهاب المتمثلة باختلاف المفاهيم وتعدد الأسباب وتنوع الانتماءات وأساليب المواجهة، اقتضى التناول المعرفي السليم تعريف كل مفردة بما يقربها الى الطرف الآخر، فإذا استقرت في الأذهان استقراراً معرفياً عقلانياً أمكن النفاذ الى صلب الإشكاليات، لتصورها أولاً، ثم اتخاذ أجدى الحلول وأهداها وأيسرها، وسوف يكون حديثنا عن المفاهيم والأسباب أولاً ثم نفيض الى سائر الإشكاليات، ولأن لكل طائفة من الأناسي والمفكرين والساسة رؤيتها وموقفها ومرجعيتها، فإن من أوجب الواجبات استكناه الرؤى والتصورات وحدود المرجعيات، ومحاولة التماس القواسم المشتركة والانطلاق منها، وحديثنا يمتد الى كلمات: تعريفية وإجرائية: ك ( الإرهاب)، ومفاهيمه و( الأسباب) وتعددها و( الانتماءات) وتنوعها و( المواجهات) وأشكالها، وتلك حيازات دلالية واجرائية، تتداخل كالدوائر، وتفترق كالمتوازيات، فما الإرهاب بوصفه ظاهرة؟ وما هو بوصفه فعلاً إجرائياً يمس أطرافاً معينين، ويقوم به أطراف معينون، ويقع في ظل ظروف معينة؟ ثم: ما الأسباب؟، والإشكالية ليست قصراً على تعريف جامع مانع، يتفق عليه كل الأطراف، وإنما هي في توحيد المواقف وتجنيس المواجهات، وأخشى ما أخشاه أن يتحول الإرهاب من مُفْرز لعبة الى لعبة مستقلة.
وكل التساؤلات عن الظاهرة وأسبابها مشروعة لكل طالب حق يطرحها بين يدي حديثه عن الإرهاب، ومن أراد إطفاء لظى الفتن لزمه التحري والتحسس عن وجوه الالتقاء، وهي ممكنة عندما يجنح الجميع إلى السلام لا الى الاستسلام. ومعضلات المفهوم أنها مرتبطة بالأزمنة والأمكنة والأحوال والمنفذين والمتضررين، وحين تخترق تلك المعضلات سدة المصطلح، لا يكون كما يجب جامعاً مانعاً، لاضطراب أحوال المتجادلين حوله، بحيث يتعذر الخروج بمفهوم جمعي، ولكن اليأس لا يمنع من زحزحة المشكل، ليقترب من فرصة الحوار، وقد يؤدي الحوار الحضاري الى تنازلات جزئية، لا تمس جوهر المفاهيم، ولكنها توفر أرضية مشتركة، تقترب بالمفهوم من هامش الاتفاق أو التعاذر، وعندها تمتلك الأطراف المعنية فرصة الخلوص من دوامة الاختلاف المعمق للظاهرة، والإرهاب بوصفه ممارسة غير منتمية مسَّ العالم كله بالضر، ولما تزل كل أمة معرضة لمزيد من الممارسات الإرهابية، ذلك أنه آلية لتصفية الحسابات بين الدول والأحزاب والطوائف والأعراق والحضارات، حفز إليه تعذر المواجهة العسكرية لحسم المواقف، كما أسهمت في تشكله المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق وأغرى به تنازع السلطات، وعمليات الإقصاء والمصادرة، وتلاحق الثورات الدموية، وإخفاق كل المشاريع الوحدوية والقومية والحزبية، وتجذر الانهزامية، وخيبة الأمل، ولربما أشعل فتيل الإرهاب تصادم المصالح، وتعارض الأهداف، وعدم توازن القوى وتعددها، والوقوع في إشكاليات القطب الواحد، وتفكك كيانات تنطوي على ( إثنيات)، وطائفيات وإقليميات، كل واحدة منها ترى أحقيتها بالاستقلال أو بالسلطة، مع عجز واضح وانحياز مكشوف للقوى القادرة على ضبط الإيقاع العالمي، ووقوع العالم في المتناقضات، التي أملتها اللعب وتناقض خطاباتها، فالإرهاب :- وضع العنف موضع الحوار، والهوان:- وضع الحوار موضع الدفاع المشروع، فإذا أمكن الحوار فلا مناص منه، وإذا قامت السلطة المشروعة العادلة الرفيقة فلا مقاومة، ومن مارس أحد النقيضين من عند نفسه، أسقط الأمة في الفتنة أو الذلة، ( والفتنة أشد من القتل).
- وتصور الظاهرة يسبق الحكم عليها، والخلفيات المعرفية والثقافية والفكرية لا تمكن الباحث من الاستعانة بنظرية معرفية بريئة، وقراءة الأشياء من درجة الصفر مستحيلة وغير مشروعة، والمعضلة في صدق النوايا وسلامة التوجهات، وليست في تعدد التعريفات، ومع ذلك لو عدنا الى مفهوم ( الإرهاب) في ظل كل هذه التوقعات، ومن خلال منظور إسلامي لوجدناه موازياً لمفهوم ( الردع)، فالدول الكبرى حين تخوض سباق التسلح وحرب النجوم، وحين تمتلك وزارات الدفاع عندها أخطر المعامل والمختبرات والتجارب الجرثومية والكيميائية والنووية فإنما تريد أن تكون مهيبة الجانب، وذلك ما حث القرآن عليه أمة الإسلام {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، ولم يكن الإرهاب بوصفه من مصطلحات الإسلام ممارسة فعلية للقتل العشوائي والتدمير الشامل، وإنما يعني الإخافة والردع، وليس المصطلح بمفهومه الإسلامي مرتبطاً بمفهومه الغربي المعاصر. و(الرهبة) تكون محمدة عندما تكون من العبد لربه، وقد أمر بها القرآن (فإياي فارهبون) و( وإياي فارهبون) وتكون مذمة من جانب المخلوق المبطل للمخلوق المتردد (واسترهبوهم) ومحمدة من جانب المخلوق المحق للمخلوق المبطل ( لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله).
و( الرهبة) و( الرهبان) مصطلحات دينية لديانات سلفت، والإسلام له مفهومه إزاءها، فهو يحفظ التوازن بين ( الرهب) و( الرغب)، و( الرجاء) و(اليأس) فلا رهبة دون رغبة، ولا يأس دون رجاء، وعقيدة السلف الصالح الوقاف عند الحدود وسط بين الخوف والرجاء. و(الإرهاب) بالقوة حين يقابل ( الردع) يكون مشروعاً وحقاً مشاعاً بين الحضارات، لتحقيق سنة التدافع، ولولاها لهدمت صوامع وبيع ومساجد، ومن وفر قوة الردع لنفسه، وحققها على مرأى ومسمع من الناس، فليس من حقه أن يحظرها على غيره، وما تمارسه الحضارة الغربية المتغطرسة من حظر للتسلح المتكافئ، يصل حد المحاصرة، والتدخل السافر في شؤون الغير مظنة ( الإرهاب) التدميري، الذي تحاربه كل الحضارات، بما فيها الحضارة الإسلامية. والذين يجعلون ( الجهاد) إرهاباً، يحملون المفهوم ما لا يحتمل، و( الجهاد) حين يكون ذروة سنام الإسلام في ظل تسامحه وجنوحه للسلام، لا يتسع للمفاهيم التي يتداولها المغرضون، ولما كان الإرهاب ذروة الغلو والتطرف، كان لابد من معرفة الدركات المؤدية إليه.
ف ( الغلو) ظاهرة عرفتها كل الديانات، ولقد ظهر مصطلح ( الغلو) المنهي عنه بالنص القرآني عند بعض الطوائف الإسلامية، ولا تخلو طائفة إسلامية من غلاة لا يمثلون ( الوسطية) في الطائفة، ومع أن النص القرآني نهى أهل الكتاب عنه مرتين فإنه بحق المسلمين أولى، غير أن الغلاة لا يقرون بالغلو، والناقد المنصف يجب عليه ألا يحمل أي مذهب إسلامي ما يمارسه المتطرفون فيه، فضلاً عن أن يحمل الإسلام مسؤولية الإرهاب، والمتقصي لتاريخ الملل والنحل يجد أن لكل نحلة طرفين ووسطا، والإسلام حث على الوسطية، ونهى عن الغلو.
والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالإيغال الرفيق في الدين، والمتعاملون مع الطوائف أو الدارسون لها يجب أن يكونوا عدولاً، بحيث لا يداهنون، ولا يتحاملون، ولا يغضون الطرف عن تجاوزات لا يحتملها النص، فالمتأول المخطئ يختلف عن المخالف المتعمد للمقتضى القطعي، والمستغل للنص الحمَّال يختلف عمن يلوي عنق النص ليوافق هواه، وليس هناك ما يمنع من المداراة التي تكفل التعايش والتعاذر، وهي رخصة لا عزيمة، ولهذا قال الله تعالي في أعقابها ويحذركم الله نفسه)، وكم هو الفرق بين المداهنة والمداراة والتعامل والموالاة، وليس من مصلحة الأمة التعذير، ولكن مصلحتها رهينة التعايش والاشتغال في المساحات المشتركة، فالزمن لا يحتمل مزيداً من التنازع، ولما كان الغلو والتطرف والتكفير بيئة مناسبة لنشوء الإرهاب، كان لابد من تحديد دقيق لهذه المفاهيم، ذلك أن الاختلاف المتناقض حول المفاهيم هو الآخر يؤدي الى العنف والإرهاب.
فما حقيقة الغلو والتطرف بوصفهما من بوادر الإرهاب؟ وما معيارهما؟ أحسب أنهما يعنيان طرفي الظاهرة ، ف ( الغلو) و( التسيب) طرفان، فيما يكون ( الاعتدال) وسطيا, وحديث الناس يكثر عن التطرف الغلو والإفراط، فيما لا نجد من يتحدث عن التطرف المقابل، وهو (التفريط) ، والحديث عن ( الغلو) يعني نصف الحقيقة، فالمتشدد المتنطع المضيق على الناس المعول على سد الذرائع في تحريم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق لا يقل إيذاء عن الذي فرط في جنب الله، ممن يقبل خطاب العهر والكفر، ويوالي كل خائض في آيات الله بغير علم باسم حرية التعبير، فالتفريط قد ينشئ التطرف على سبيل الفعل ورد الفعل . ف (المرأة) المتبرجة الكاسية العارية المائلة المميلة الفاتنة، تحمل المتشددين على مواجهة التبذل بالغلو والتطرف، ومثلها ( المتعلمن) المستفز و( الحداثوي) المدنس للمقدس، ومن خلل المفاهيم الانحاء باللائمة على ( المتشدد) في الدين، وغض الطرف عن الفاتنة والمستفز، وليست حال( المتنطع) و( المتميع) بأسوأ حالاً من المتعصب لمذهبه، المعطل للاجتهاد، وعلى كل الأحوال، فإن الرد الى الله ورسوله يحتاج الى فهم سليم للنصوص على ضوء المقاصد الإسلامية، وآليات تفكيك البنى الدلالية، كما هي عند علماء اللغة.
والخلط العجيب أو الميل لجانب دون آخر عمَّى على الناس فهم الأشياء على حقيقتها، فلو سئلوا: ما الإرهاب؟ لما اتفق اثنان على تعريف جامع مانع له، واختلاف الناس قائم على الرغم من توفرهم على كل ما يتداول من قول حول تلك الظاهرة.
ولأن مفهوم الإرهاب تحول إلى إشكالية معقدة، فإن الناس رضوا بالتوصيف لا بالتعريف، والتوصيف مرتبط بذات الحدث لا بذات الظاهرة، ولو قيل في تعريفه إنه ممارسة العنف ضد من لا يستحقه ممن ليس يملك حقه).
لكان أن جاء من يضع المحاذير، ومما يعمق الإشكالية تعدد مثيرات الإرهاب، اذ إن لكل مثير حيثياته ومغايرته، فالمثير السياسي أو الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو الفكري، أو الديني، أو غير ذلك، يختلف عما سواه، وباختلاف المثير يختلف المفهوم والموقف، وحتى لو مارسنا التجريد، ونظرنا إلى الإرهاب من درجة الصفر، لكان أن واجهتنا إشكاليا أخرى، ترتبط بالمثيرات والحواضن، وذلك كله لا يمنع من أن نشير الى المفاهيم العامة التي تقترب بالإرهاب من التجريد.
فالمنصفون يرون أنه ليس مرتبطاً بفكر معين، ولا بظرف زماني أو مكاني محدد، ولا بجنس مخصوص أو حضارة معينة، وحين يكون فئوياً تكون له أسباب عارضة: ذاتية أو خارجية، لا يستطيع المنصفون إنكارها. فالتسلط والكبت والاحتلال والاستبداد وسلب الحريات وفرض المبادئ والحزبيات وحكم الطائفة أو العرق والفقر والبطالة والأثرة ومواطأة المغتصب الظالم ومساعدته والإخفاقات المستمرة للمشاريع الثورية، وغياب الدستور، وتعثر السلطة المشروعة كل هذه أسباب محرضة، ولكل سبب مفهومه وحيثياته، وهنا يمكن القول: بأن التصدي للظلم ومقاومة الاحتلال لا يعد إرهاباً بالمفهوم المتداول، ومما يشكل عقبة في التفريق بين ( الإرهاب) و( المقاومة) تعارض القوانين والاتفاقات الدولية مع بعض الممارسات، ولو أخذنا على سبيل المثال- القضية الفلسطينية- لوجدناها الأكثر خلطاً للأوراق، فإذا كانت القضية عادلة والمقاومة مشروعة، فليس معنى هذا أن نجعل كل عملية من العمل الفدائي المشروع، فالفدائي قد يفجر نفسه بين أخلاط من الديانات والجنسيات، ممن لا يعدون من المحاربين، وقد يمارس الفعل في زمن الاتفاق على تصفية الخلافات، مع أن عملية الانتحار قضية خلافية، وقد لا تكون من الاختلاف المعتبر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:35 PM   #3
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب..! «2-2»
د.حسن بن فهد الهويمل


وفي ظل تعدد الأسباب والمفاهيم، والمواقف والمكاييل، والحياد والانحياز تبدت للمتابع عشرات الرؤى والتصورات والثغرات المعمقة للمعضلات، بحيث لم تكن إشكاليات الإرهاب وقفاً على التعريف، وإنما امتدت إلى المفاهيم والمواقف. وأزمة المصطلحات تتنازعها المدلولات اللغوية، والمقاصد الاصطلاحية، والأنساق المعرفية، والسياقات السياسية، فجذر (رهب) من حيث لغويته، يعني (التخويف والقمع). ومن حيث (إجراؤه) يعني مباشرة (الاعتداء): حسياً أو معنوياً. ومن حيث (الممارسة) يكون: (فردياً وجمعياً) و(دولياً). ومن حيث (الأهداف) يكون ضد أي كيان: سياسي أو ديني أو عرقي. ومن حيث (الدوافع) يكون بسبب اضطهاد أو اعتداء أو انحياز، أو هو مبدئي تمليه (أيديولوجية) معينة، وتفرضه نحلة متطرفة. ومن حيث (النتائج) يؤدي إلى الفوضى والاضطراب واختلال الأمن وإهلاك الحرث والنسل. وفي ضجة التنازع هناك مسلمات قد لا يختلف حولها أحد، تتمثل في: الدلالة لا في المفهوم، وفي الإجراء والمصدر والإعداد والأهداف والدوافع والنتائج. وحين نفرق بين (الدلالة) و(المفهوم) نضع في الاعتبار تعدد المفاهيم بتعدد المتلقين، وفي ضوء ذلك يتعذر علينا الاجتماع على تعريف جامع مانع، تلتقي حوله الأطراف. وحين يتعذر الاتفاق الكامل، يتعذر الحل الشامل. ولا يود مخلص أن ينفض سامر المؤتمرين بمعروف حول الإرهاب والموقف منه دون التوصل إلى حل وسط، تحكمه التنازلات الجزئية، للخروج ولو بأقل الفوائد. وبدهي أن القول بالخير المحض كالقول بالشر المحض. فالخيرية المطلقة لا مكان فيها للاختلاف، والبشرية المطلقة لا مكان فيها للاتفاق. والمشاهد العامة فيها اتفاق نسبي، واختلاف نسبي. لوجود خيرية نسبية وشرية نسبية، وواجب الخيرين توسيع قاعدة الخيرية، وتضييق جانب الشر، ليحصلوا على الحكم التغليبي، وينجوا من مضلات الفتن.
وفي خضم التنازع حول المصالح والمفاهيم دخلت كلمة (الإرهاب) أروقة الجمعيات والهيئات والمنظمات، واكتنفها المعنيون من كل جانب، مما حفز على تشكيل لجان تنقيب عن المعلومات وأخرى تحللها، وأعقب ذلك مؤتمرات تصدر التوصيات، وكل (حرب كونية) أو إقليمية تصفي ذيولها بممارسات، يسميها قوم إرهاباً، ويراها آخرون دفاعاً مشروعاً والناس أوزاع بين هذا وذاك، حتى لقد تحولت هذه الكلمة العصية من كلمة عابرة إلى مصطلح مراوغ. ومحاولة تحديد بداية تاريخية للإرهاب، يعني الحصرية المرفوضة: عقلاً وشرعاً وقانوناً. فالإرهاب بدأ مع بداية التجمع الإنساني، واستهله (قابيل) و(هابيل)، وقصة بسط اليد للقتل أو كفها، تعني أن هناك معتدياً ومعتدىًعليه. ولسنا بصدد تحديد البدايات، وإنما نحن بصدد تحديد المرحلة الواعية للمفهوم، أو قل مرحلة (الإرهاب) المنظم المواكب للمواجهة الجمعية، مواجهة التفهم والحل. وأحسب أن اتفاقية عام 1937م المصوغة تحت رعاية (عصبة الأمم) هي بداية التأسس للحدث والمفهوم، وتبع ذلك إنشاء (المحكمة الجنائية)، ثم توالت بعد ذلك المؤتمرات والتوصيات، وإنشاء المحاكم والمنظمات والجمعيات، للحيلولة دون الظلم أو التعدي، ولما تكن تلك المؤسسات والهيئات قادرة على ممارسة مهماتها بحيادية ومساواة، بل أصبحت في كل الأحوال إلا ما ندر أداة طيعة للأقوى، بحيث أصبحت بفعلها المنحاز أو المتخاذل محرضة على توتر الشعوب وغضبها. ومع تلاحق الأحداث غير المشروعة، تنامت المواقف المضادة، ومنذ السبعينيات أصبح (الإرهاب) مصطلحاً حاضر المشاهد الاعلامية والسياسية. ولقد ارتبطت الاهتمامات والاتفاقيات بأحداث ووقوعات، سماها المتضررون إرهاباً، فيما سماها المنفذون مقاومة مشروعة، ولربما كانت دورات (الأمم المتحدة) تنطوي ملفاتها على مزيد من الدراسات والتوصيات التي لم تُفعَّل، بسبب اقتضاء بعض المصالح حماية المنظمات الإرهابية باسم المعارضة المشروعة، وساعد على ذلك تفاقم المشاكل الإقليمية وتسلط السلطات، وتعاقب الثورات والانقلابات، وارتباط ذلك بالتصفيات الجسدية والمقابر الجماعية والمنافي والسجون، ولما كانت الدول الكبرى ك(أمريكا) التي هي الأقدر على تفعيل التوصيات لم تعرها أي اهتمام، فقد رقدت على رفوف الهيئة، ومتى لم تتعرض دولة عظمى ك (أمريكا) للإرهاب، فإنها لن تلح في أمره، وحين لا ترمي بثقلها، لا يكون للظواهر وزن ولا حضور، وكم عانت دول عربية ك (المملكة) من العمليات الإرهابية، وكم حذرت ذوي النفوذ، ولكنها لا تُسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين. ولعل من المحفزات على تهميش قضية الإرهاب من قبل تناقض الآراء والمواقف، وتعدد المفاهيم، وحين اكتوت الدول المهيمنة بلهيبه، عدَّلت من مواقفها، حتى لقد تحولت المعارضة والمقاومة عندها إلى إرهاب، ولولا اكتواؤها لكان الإرهاب معارضة مشروعة تحتضن أطرافها. وإذا لم نستطع مواجهة الحقائق المرة وقول ما نعتقد وما نتصور أو لم نرغب ذلك، ظل الحديث من باب اللغط الممل. وحين يستولي علينا العجب بآرائنا، والانفراد بالحل، والإصرار عليه، نكون كمن يسعى بمحض إرادته لتعميق الخلاف، ومن ثم لا بد من التسديد والمقاربة. فالقول بأن الإرهاب على إطلاقه معارضة، وتعمد مواطأة الإرهابيين وإيوائهم بوصفهم مقاومين أو معارضين لاتفاق فعلهم مع المصالح العارضة وغير المستقرة، وتعدد المواقف أمام الأعمال المتجانسة، والانحياز السلبي، وفرض الرأي بالقوة، كل ذلك مؤذن باتساع دائرة الإرهاب والاختلاف معاً. وإذ تتباين وجهات النظر حول المفاهيم، تختلف كذلك حول الأسباب وأساليب المواجهة. وحين تعرضت أمريكا لأبشع صور الإرهاب، أقبل الناس عليها يزفون، وتقبلوا مفهومها وأسلوب مقاومتها، حتى لقد طرحت أقسى تعبير عرفته الإنسانية: (من لم يكن معي فهو ضدي). ومع تعدد المفاهيم وتنوع الأسباب تتعدد طرائق التنفيذ ليكون الإرهاب بمفهومه المطلق أوسع من التفجير وأبعد، والمتتبع للاتفاقيات الدولية، يدرك أنه يتسع لإجراءات ومجالات متعددة: كالملاحة والموانئ والمنصات والمطارات واحتجاز الرهائن وخطف الطائرات والقرصنة وتسريب المواد النووية والاغتيالات والمظاريف البريدية المفخخة والمساحيق السامة ومخالفة الاتفاقات الدولية.
وأي تخويف تمارسه جماعة مسلحة تحت أي مطلب يعد إرهاباً. غير أن ممارسة التفجير للمنشآت طغت على بقية الأنواع الأخرى، وبهذا العنف دخل الإرهاب إطار الزمان والمكان والحدث، وانفصل عن محدوديته، ومهما تعددت الأسباب فإن الإرهاب واحد بوصفه ممارسة، ومتعدد بتعدد أنواعه وظروفه وأحواله. والإرهاب أنواع، يتعدد بتعدد الظروف والأحوال، وقراؤه العدول يضعون قيماً حكمية لهذه التعددية، فإذا حمي وطيس الحروب، أو استشرى الظلم والقهر كان الإرهاب مخاض ظروف طبيعية، بمعنى أنه متوقع ومرتقب، وإن كان مرفوضاً في أعراف الدول، أما حين لا تكون حرب ولا يكون ظلم فإنه يكون مثيراً لعدم توقعه، وبهذه الأجواء يدخل إطار العبثية وصدق رسول الله الذي أخبر أنه في آخر الزمان (يكثر الهرج) ولا يعرف القاتل والمقتول لماذا حصل ما حصل.
وحين تنبعث الفتنة في إقليم دون غيره بسبب الجور والظلم أو بسبب التعدد الطائفي أو العرقي، أو بسبب غليان الأوضاع العالمية تكون ممارسة الإرهاب تعبيراً عملياً عن رفض الواقع القائم، وأسلوباً من أساليب حمل المتسلط باسم السلطة على فك الاختناقات، وإقامة العدل والمساواة ومنح الأقليات حقها المشروع بوصفها شريكة في الحقوق والواجبات.
وفي هذه الحالة تختلف المفاهيم والمواقف والأسباب، وبخاصة حين تتحكم العلاقات والمصالح المتبادلة بالتدابير والوسائل. وفي ظل هذا التحكم تجد قوماً يصفون أي مواجهة بالإرهاب، وآخرين يعدون مثل ذلك شأناً إقليمياً، وقد نجد من يؤيد ويدعم، ولربما تعم العمليات آفاق المعمورة، وتصبح كل دولة معرضة للإرهاب، وذلك ما نشاهده الآن، أو قد تكون دولة دون أخرى معرضة مصالحها للإرهاب، وهذه الأنواع تضع المتابع في حيرة من أمره. فمتى يقطع بأن مثل هذا العمل وفق تنوع أوضاعه إرهاب أو مقاومة؟ والتعاطف مع المتضرر لا يحسم المشاكل، والمسايرة للمفاهيم الناتجة عن مواقف الانفعال لا تحظى بالقبول. وإذا كاد الناس يُجمعون على أن الحسم العسكري مع إمكان الحل السلمي يعد إرهاباً دولياً، فإنهم سيختلفون مع من يمارس ذات الحل العسكري اضطراراً، ليكون الأمر غمة، ونصف الحقيقة لا يضمن نصف الحل.
وفي حمأة الجدل الصاخب لم يعد من نوافل القول بأن الحديث عن (الإرهاب) حديث طال وتشعب، واختلفت فيه الآراء، وتعددت المواقف، وتباينت المفاهيم، وقيل فيه وعنه ما لم يُقل في أي قضية أخرى، لقد شاع الحديث عنه بين سائر العلماء والمفكرين والساسة، ووسعته علوم الدين والإجرام والنفس والاجتماع والسياسة والقانون. وما من داخل في متاهته إلا وله فيه قول يحيل إلى مرجعية خاصة، وينطلق من سياقات خاصة، وتوجهه أنساق وظروف خاصة، وفي ذلك ما فيه من مضاعفة الرعب والخوف، وكأننا في إرهاب الإرهاب. ولو صدق المهيمنون بالسلاح و(التكنولوجيا) مع أنفسهم ومع من حولهم من الأنداد، ومع سائر الشعوب المهمشة والأجناس والديانات المضطهدة لكان أن عرف الجميع الحق وتوفروا عليه، ثم لا يكون هناك إرهاب ولا سباق تسلح ولا هضم لحقوق ولا استعمار ولا احتلال ولا استيطان ولا إبادة ولا تفرقة بسبب عرق أو لون أو دين. وحين تملك المصالح و(الاستراتيجيات) حق إطلاق المصطلحات وتعريفها، ثم تتباين المصالح وتتعارض (الاستراتيجيات) يكون من حق المباين والمعارض أن يسك مصطلحاته، وأن يعطي مفاهيمه، أو يتلقى مصطلح الآخر، ويفرغه من محتواه، تمهيداً لشحنه بمفهوم مغاير، وعندئذٍ يظل الخلاف والتنازع في نمو مطرد، وذلك ما يعانيه العالم حول مصطلح (الإرهاب).
وإذ نقول بأن الإرهاب سليل اللعب السياسية فإننا لن نغفل الحواضن والمواثرات الأخرى. فالتطرف (العلماني) لعب دوراً تحريضياً، والتطرف (الحداثوي) لعب دوراً استفزازياً، و(التنظيمات الإسلامية الغاضبة المتطرفة) لعبت دوراً تضليلياً. وسائر المنظمات والأحزاب والجماعات، وبخاصة ما كان منها خارج السلطة تشكل أرضية قابلة لتفريخ الإرهاب، ولكن يجب ألا تغيب عن بالنا الضغوط المثيرة للغضب، بحيث لا نهمل أحداثاً شكلت منعطفات خطيرة في حياة الأمة تمثلت في:
- تلاحق الانقلابات والثورات العربية التي نشأ في ظلها طغيان الخطاب التشنجي الاستعدائي، واستمرار الخيانة، ونقض العهود، والتصفية للخصوم بالاغتيالات.
- استشراء الضعف والوهن والحزن في كيان الأمة العربية مع تنامي العنف والشراسة في الكيان الصهيوني، والتقدم المادي والرسوخ المؤسساتي في الغرب.
- نكسة حزيران التي أحبطت الإنسان العربي 1967م.
- الثورة الإيرانية وإعلان الجمهورية الإسلامية 1979م.
- اعتماد تصدير الثورات والمبادئ عبر الخطابات الإعلامية.
- فشل كل المشاريع الوحدوية و(الديمقراطية) والحزبية والقومية.
- ظاهرة التطبيع والهرولة مع العدو الاسرائيلي 1981م، في ظروف استشراء الإرهاب والتطرف اليهودي.
- الحس الكنسي الذي قوّى الروابط بين اليمين الأمريكي والتطرف الصهيوني.
- الحرب الأفغانية، والتوسع في أسلمة الحرب، والتعبئة الجهادية.
- الحرب العراقية الإيرانية، وتناقض الآراء والمواقف.
- احتلال العراق للكويت، وتصدع الصف العربي وانهيار القومية.
- تحرير الكويت من قبل التحالف العالمي، وغياب الحل العربي.
- احتلال العراق تحت ذرائع لم يتحقق أدناها، ودون إجماع عالمي، واستشراء الإرهاب في ظل الفراغ الدستوري.
- انكشاف اللعب الكونية والإقليمية وسقوط الأقنعة.
كل ذلك أدى إلى الإحباط واليأس واللامبالاة، ومع كل ذلك فإن العالم لم يشأ التفريق بين الإرهاب المرفوض والمقاومة المشروعة، وستظل إشكالية المفهوم في تنام وانبهام، حتى يأذن الله لهذه الأمة باستعادة عافيتها ومكانتها بين العالمين، ولكي نكون قادرين على تحرير المفاهيم وتحديد الأسباب يجب استبعاد الوقوعات الصارخة، فحدث مثل تفجير (الرياض) الأخير لا مجال فيه للاختلاف، لأن له سياقه الخاص الذي لا يؤدي إلا لموقف واحد، هو الرفض والاستنكار والتحريم والتجريم.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:35 PM   #4
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإرهاب وتدافع الانتماء 1-2
د.حسن بن فهد الهويمل


وبعد تجاوزالتعريف والمفهوم والحواضن والمحفزات نلتمس الحديث عن (الانتماء) الذي تدفعه كل طائفة عن نفسها، وتدفع به إلى غيرها، وإن كنا قد ألمحنا إلى أطراف من جدلية الانتماء في مجمل سياقات المفاهيم والأسباب، أو قل إن بعض الأسباب تحيل إلى الانتماء، لترابط ذلك كله ببعضه وما الفصل بينهما إلا كما الخطوط الوهمية، ودوَّامة الانتماء لا تختلف عن دوامة المفاهيم والأسباب.
وما من حزب أو نحلة أو كيان إلا ويدفع عن سمعته معرة الاتهام، وإذ يكون من حق كل بريء أن يدفع عن نفسه نسبة الإرهاب إلى مؤسساته أو مبادئه فإن الدفع لايقتضي الاتهام، ما لم تقم الحجة بالبراهين والشهود. والحق أنه ليس للتطرف والغلو والإرهاب انتماء، وإن اتسمت بعض الطوائف بشيء من ذلك، وليس من العدل القطع بانتماء الإرهاب لدين من الأديان، ولا لعرق من الأعراق، ولا لعصر من العصور، بل ولا لحضارة من الحضارات. والإرهاب في حقيقته عرض لمرض، فمتى نزل بساحة قوم في أي بقعة من الأرض فإنما هناك خلل يعرفه قوم، ثم ينكرونه، أويمارسونه ويصفونه بحق الدفاع عن النفس المعتدية، ويجهله آخرون، ثم يضربون في بنيات الطريق، بحثاً عن مصادره. فالعالم إزاءه بين جهل أو تجاهل، وعلى كل الأحوال فإن الإرهاب وسيلة، وليس غاية، وعرض وليس جوهراً. ولن تتأتى المواجهة الايجابية إلا حيث يتحقق المعنيون من أسبابه. لماذا وجد الإرهاب في هذا الزمان، وفي تلك البقعة، وعلى يد هؤلاء الأفراد أو الجماعات؟ فممارسته ليست عبثاً ولا تسلية والمنتحر لا ينتحر إلا عن عقيدة نافذة في الأعماق. والراصد لحركات الإرهاب يعرف شيئاً، وتغيب عنه أشياء، فبقدر معرفة أسبابه وانتمائه يكون سداد الرأي وصواب المواجهة، والحصيف من يتقصى كل المتعلقات، ومن يدقق في كل الأوراق، ولا يستعرضها، ذلك أن عقابيله كما الفتن تُصيب الضالع والممانع، ومتى أخطأ المتصدي في التوقيت أو في التقدير تفاقم الخطر. فالعمليات الإرهابية حين تنفلت خيوطها، أو حين يخطئ الطرف المقابل في تحديد مصادرها، يستشري ذووها، ويستمرئون مواصلة الأعمال الإرهابية، وليس من العدل المجازفة في نسبة الإرهاب لمن تقوم مبادئه على التسامح والتصالح والتعايش.
والأمة الإسلامية أمة الوسط، أقرب إلى التبين، وأبعد عن العنف في القول أو في الفعل، وأجواؤها أبعد الأجواء عن الإرهاب بكل مفاهيمه، ولقد استلهمت ذلك من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، وهي الأكثر إمعاناً في التثبت امتثالاً للتوجيه الكريم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} ففي الآيتين أمر في عدم مباشرة الحرب إلا بعد التبين، وأمر بالتثبت في الحكم على الناس بالكفر. فهناك منع للفعل ومنع للقول، وهما مصدر الإيذاء. وأمة هذا شأنها لايمكن أن تتهم بالإرهاب، ذلك أن مؤشرات الغلو والتطرف تكمن في المبادرة في القتل أو التوسع في التكفير، وليس في القرآن ولا في صحيح السنة ما يوحي بشيء من ذلك. وكلما كانت هناك أركان وواجبات ومستحبات ومباحات لأي حضارة كانت هناك محرمات ومكروهات، ولايمكن تمييع الأمور باسم الحرية أو الوسطية أو التسامح، فالدين والحضارة والطائفة لايتحقق شيء منها إلا بشرطه، وتمثل الشرط والدفاع عن المقتضى لايعد إرهاباً. وما كان الإسلام بدعاً بين الديانات الإنسانية في محققاته، وحين يكون من لوازم أي ديانة (الإيمان) و(الكفر) و(الردة) تكون الضوابط والاحترازات. ومع هذا نهي عن التنابز بالألقاب، وأمر باجتناب الظن، ووردت آيات تحذر من ذلك. وهل بعد تكفير المسلم من ظن سيئ؟. والإسلام نهى المسلمين عن قفو ما لا علم لهم به. وأوضح شيء في النهي عن التكفير ما جاء في صحيح مسلم (إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهم) وفي رواية (إلا حار عليه) وفي البخاري (ولايرمين بالكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك) وعنده (ومن قذف مؤمناً بالكفر فهو كقتله) وعند أبي داود (ثلاث من أصل الإيمان -منها-: الكف عمن قال لا إله إلا الله لانكفره بذنب) وفي حديث آخر جمع بين تحريم الدماء والأعراض والأموال، والثلاثة مجال الإرهاب. وعقيدة السلف الصالح ألا نشهد على أهل القبلة بكفر ما لم يظهر، وما في السرائر متروك لله. والاحتراز من التكفير واجب المستبرئ لدينه وعرضه، وتعمد القتل لمن نطق بالشهادتين بحجة التقية والنجاة يعد قتلاً لمعصوم، حتى ولو قالها حين يظفر به المسلم أو حين يعاين الموت. وقصة (خالد بن الوليد) رضي الله عنه واضحة في ذلك. وعلماء السلف المتشربون لأصول الدين السليم يدركون خطورة التوسع في التكفير، ولا يرونه إلا في الخارج من الملة الميت على ذلك، وفي تكفير المرتد عن الدين شرط الموت على ذلك، تمشياً مع قوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} وقد أشار (ابن الجوزي) إلى أن حكم الكفر يستقر بالموت عليه.
وقد جاء ذكر الموت على الكفر في أكثر من آية قرآنية و(لابن تيمية) رحمه الله رؤية دقيقة في موضوع التكفير، لو وعاها الموغلون، لما كان لهم أن يقعوا في مثل هذه المآزق، ولما كان لأحد أن ينسب الإرهاب للإسلام، ومصطلحات علماء الكلام قد يكفر بموجبها من لم يفهم مقاصد المصطلح، وقد ضرب ابن تيمية مثلاً في مصطلح (تحيز الخالق) عن المخلوق. واحترازات السلف في شروط التكفير وموانعه تحول دون انتماء الإرهاب إليهم، فهم لايكفرون قائل كلمة الكفر جهلاً أو عن شبهة، ولايكفرون معَّيناً، وكون القول أو الفعل كفراً لايحكم على صاحبه به، والتحرز من تكفير المعين تحرز إيجابي. والسلف الصالح الوسطي المستنير لا يُقْدِمُونَ على التكفير أو التفسيق إلا وفق ضوابط وقواعد في غاية الشدة والاحتراز. واحترازهم يذودهم عن الاتهام، وحسن الظن بالمسلم يحجرهم عن المجازفة بالتكفير، وتوخيهم العدل والإنصاف يحيد بهم عن المجازفة في الأحكام. وأمة هذه أخلاقها لايمكن أن ينسب إليها عنف ولا إرهاب، وما رأيت حجة ساقطة كحجة من يحيل الإرهاب إلى الإسلام بعد وضوح رؤيته وتجلي موقفه من المخالف.
والذين يجازفون بالتكفير، ولا يحترمون أعراض المسلمين، لاشك أنهم لن يحترموا دماءهم وأموالهم. ولقد اجتاحت الأمة موجات من الاستياء والإحباط، أدت إلى ظهور طوائف من الغلاة الذين حملتهم شدتهم إلى مقاطعة الأمة واعتزال مساجدها، والتوقف عن الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمعات في نظر هذه الجماعات الغالية كافرة، وليس بعد الكفر ذنب، حتى لقد قاطع بعضهم المدارس والوظائف، ولعبت بهم عواطف دينية هوجاء، حادت بهم عن الموضوعية وعن منهج السلف مع المخالف، ومثل هذه الموجات العارضة لا تجيز القول بأن الإسلام مصدر الإرهاب، والديانات القائمة والمنقرضة قد تتعرض لفترات مرضيّة تتمثل بالضعف أو بالعنف، والأمة الإسلامية مرت بحالات ضعف صعدت عندها حالة الاستياء، وهي اليوم في أسوأ حالاتها، وبعض طوائفها غلت في الدين، وتوسعت في التكفير، وكان لطائفة التكفيريين أصول في غاية السذاجة والبدائية، والقول من خلالها مؤشر جهل وتخلف، كالقول: بأن عرب اليوم ليسوا في تمثل اللغة وفهم مقاصدها كعرب الأمس، ممن نزل القرآن بلغة التخاطب عندهم، وكالقول بثنائية الديانات: الكفر الخالص، أو الإيمان الخالص، وليس بين هذه الثنائية دركات ولا درجات، وكقسمتهم الإسلام إلى أصول وفروع، ثم القول: بعدم العذر لجاهل في الأصول. وابتسارهم الآيات من الذكر الحكيم هي أبعد ما تكون عن مساندة ما يذهبون إليه، ومثل هذه الطوائف ليست على شيء من الحق، ولايجوز لمنصف أن يتصور الإسلام من خلالها. ولقد تقصى هذه الأصول، وفندها واحداً واحداً الأستاذ (عبدالفتاح شاهين) في كتابه (ظاهرة التكفير: شبهات وردود)، وتبدت لطائفة من العلماء والمفكرين الراصدين للحركات الإسلامية بعض المشكلات المصاحبة لهذه الحركات، سواء منها من كان في الحكم أو من كان خارجاً عليه معارضاً له، وسواء منها من كان ذا طابع سياسي أو كان ذا اتجاه تعبدي سلوكي تعاملي، لا ينظر إلى المسؤولية، ولا ينازع السياسة سلطتها. ولعل من أبرز المشاكل التي ارتبكت بسببها بعض الحركات الإسلامية: فقد التخطيط، واضطراب المفاهيم، وتعدد مجالات الأداء وحدودها، ونقص الكفاءات البشرية: إدارةً وقيادةً، والخلط بين الحل المرحلي والنهائي، ووضع الأهداف في معزل عن الإمكانيات، والتقاعس عن المحاسبة والتقويم، ونقد الذات، وتحمل مسؤولية النكسات، مع ممارسة الإسقاط، والمبالغة في دعوى الغزو والتآمر، وتجزيئية الرؤى والتصورات، وتغليب جانب الصدام والصراع على الحوار والتعاذر والتعايش، والإغراق في المثاليات والعنتريات والعواطف والانفعالات، في ظل فقد الأجواء الملائمة. وكل هذه العوائق لاتخول التخطي للإرهاب، ولكنها قد تجر إليه، وفي ظل هذه العوائق تتحفظ المؤسسات السياسية على تلك الحركات الاسلامية والقومية والطائفية، وتصعد التحفظ، بحيث يصل إلى حد التضييق والخنق، وقد تأخذ البريء بالمذنب فتكرهه على المواجهة غير المشروعة. ولقد مرت الحضارة الإسلامية كغيرها من الحضارات بفترات تاريخية تمخضت عن حركات غالية في السلوك أو في التعامل، أدت إلى صدامات دموية معلنة وتنظيمات سرية متغنِّصة. ولما تكن الحضارة الاسلامية وحدها مَنْ مر بهذه الحالات، فكل حضارة لها مراحلها التي يستفحل فيها الغلو والتطرف. وما مِنْ منصف نسب الإرهاب إلى هذه الحضارة أو تلك، لمجرد أن طائفة أو نحلة غلت، ولوت أعناق النصوص، أو ابتسرتها من سياقاتها لتوافق نوازعها. ولقد عرف التاريخ السياسي الإسلامي قوى المعارضة ك(الخوارج) و(الشيعة) و(المعتزلة) و(المرجئة) و(الهاشميين) و(الزبيريين) بكل أبعادها: الدينية والسياسية، ولقد صنفها البعض إلى يمين ويسار، مسايرة للتصنيفات المعاصرة، فيما وصفها البعض الآخر ب(قوى الظل) والتمس بعض الثوريين المعاصرين أسباباً سياسية مباشرة لقيام هذه التنظيمات، بحيث عول على (الملكية الوراثية) في العصرين: الأموي والعباسي، والخلافة الكسروية المتداولة بين: الفرس والأتراك في العصر العباسي، وتبادل المواقع في المشهد الفكري بين الطوائف الإسلامية. وتاريخ الدول المتتابعة مليء بالأحداث الجسام، وظروف سياسية ودينية كهذه مؤهلة للتنظيمات السرية، وقد راوحت تلك الحركات بين العنف الثوري والدعوة السرية المنظمة، تصعد حتى تبلغ ذروتها على يد (القرامطة) و(الحشاشين) و(الزنوج) ثم تخبو وتبلغ قعرها عند (المرجئة) و(الباطنية)، والعنف الثوري المعاصر لايحمِّل الأمة العربية ولا الإسلامية معرة الإرهاب، فكم من حكومات إسلامية معتدلة، وكم من حكومات ثورية تجاوزت مرحلة العنف، واستقرت أمورها بعد موجات من العنف الدموي، والقارئ للتاريخ الفعلي (للثورة الفرنسية) يروعه ما مُورِسَ فيها مِنْ عنف دموي، تستر عليه الممجدون لأم الثورات في العالم، والحروب العالمية الهمجية ليست من صنع الإسلام، والتعذيب غير الإنساني للسجين والأسير، والعنف في المواجهة، والاستيطان الصهيوني، والاحتلال البغيض، كل ذلك ليس من الإسلام ولا من المسلمين، بل هو واقع عليهم، وما من أحد قال بنسبة الإرهاب لحضارة الغرب التي أرهقت شعوب العالم، وكادت تفقدها صوابها وحكمتها في معالجة الأمور.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:36 PM   #5
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإرهاب وتدافع الانتماء..!! 2 -2
د. حسن بن فهد الهويمل


ومهما حاول العالم التنصل من ظاهرة الإرهاب، واجتهد في تحميلها جهة دون أخرى، فإن التاريخ السياسي الحديث يضع أصبعه على مفاصل المشكلة، وذلك بتتبعه لبؤر التوتر في العالم،المشكلة، ولو حاولت جهة ما تضييق الخناق عليه وتجفيف منابعه، لندت جراحات مفتوحة، تفور دماً، ولن يتمكن العالم من محاصرة الظاهرة مع وجود تلك البؤر، وإذا نسل منها العنف والتوتر، فقد لا تحتمل إثمه، ولا تقبل انتماءه إليها. فأين العالم من (قضية فلسطين)؟ وأين هو من ذيول حروب مجانية، حركتها المصالح الغربية: ك(أيلول الأسود)، (حرب لبنان) و(العراق) و(إيران) و(أفغانستان) و(الكويت) ودول الاتحاد المنهار؟، وأين الإعلام الإسقاطي من مشكلة (الصحراء الغربية)، و(الجنوب السوداني) و(إريتريا) و(الصومال) و(تشاد)، وحركات التحرر في (أمريكا اللاتينية)، والحروب الطاحنة في (جنوب شرق آسيا)؟. وأين المغالطون من الحروب الأهلية التي تذكيها الأقليات: العرقية والطائفية ويستثمرها عبدة الدرهم والدينار والخميصة كمشكلة (الأكراد) و(السيخ) و(التاميل)؟ وستظل تلك الحركات والتنظيمات المشروعة وغير المشروعة لعبة في يد الكبار، يحركونا كما (مسرح العرائس)، ولا يبالون في أي وادٍ هلك أصحابها. كل تلك المشاكل العالمية والإقليمية التي تتحرك ذاتياً تارة وبتدخلات خارجية تارة أخرى تعد بؤر توتر ومستنقعات تفرخ الإرهاب، وتسقط مقولة: إن الإرهاب بدأ من الإسلام وإليه يعود، وقد تتكون جينات الإرهاب من الشيء ونقيضه، فالتماس بين عقيدة وأخرى على أرض مشتركة محفز طبعي له، وبخاصة حين لا يحصل التوازن، ولا يتحقق تكافؤ الفرص بين الطرفين المشتركين في اللغة والأرض. ودعك من (الحركات الإصلاحية) سواء كانت منطلقاتها: دينية أو تربوية أو إدارية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية، فإنها تتعمد الإصلاح لما هو غير صالح، فيما يكون وراء الأوضاع الفاسدة مصالح غير مشروعة، يحافظ عليها المستفيد، وقد يدخل في مواجهة مع المصلحين، ولكل من الأنصار والخصوم خطاباتهم المتواجهة. ومهما حاولنا عزل أي حركة عن تأثرها بكافة الأنساق والسياقات الماثلة للعيان أو الكامنة في اللاوعي الجمعي فإننا لا نستطيع ذلك. فالاستجابة العفوية أو الثقافية أو العرفية تعيش حالة من الكمون. ولو نظرنا إلى بداية (الحركات الإصلاحية) الدينية، لوجدنا الدعوة الإصلاحية التي قام بها المصلح المجدد (محمد بن عبدالوهاب) وإلى جانبها الحركات: السنوسية والمهدية والباديسية، ومن بعد ذلك (الإخوان المسلمون) في مصر وتحولاتهم على يد الحركيين المتسيسين، ووجود حركات في الوطن العربي، تستمد من حركة الإخوان طرائقها وأهدافها. كل هذه الدعوات تمر بتحولات لا يراها المعتدلون، ومع ذلك تنسب إلى الأصل. إن هناك انشقاقاً وإغراقاً في التطرف، وظهور فرق التكفير والهجرة لاشك أنه مؤشر خروج على مبادىء الدعوات الإصلاحية المعتدلة. وإلى جانب هذه الحركات - وبعد أن شرعت الشعوب العربية بمقاومة الاستعمار التقليدي - نشأت حركات: قومية وحزبية و(ثيوقراطية) وتجديدية وحداثية ومحافظة، واستعيدت مصطلحات قديمة على غير مراد ذويها ك(دار الحرب) و(دار الإسلام) و(الجهاد) و(الولاء) و(البراء) والاختلاف حول مفهوم (الذمي) و(المواطن) والدخول في صراع مستميت مميت، تغذيه أيد خفية، لا تريد لهذه الأمة الاستقرار. ولاشك أن لكل حركة أسسها ومرجعياتها: النصية والقواعدية والمذهبية. وكلما أخذت الحركات سبيلها إلى الشيوع والسيطرة، نهضت بإزائها حركات مضادة، تحركها أزمات كامنة كأزمة الهوية والشرعية، أو تحركها قوى معادية أو خائفة، وقد تطفو على السطح محرضات ذاتية، لا يلقي لها المتابعون بالاً، ولكنها وقود خفي، كاستشراء (الفساد) بكل صوره و(الظلم) بكل أشكاله (والطبقية) بكل صراعاتها: الخفية والجلية، والشعور بالضعف الحسي والمعنوي بإزاء الدول الكبرى المتسلطة، وافتقار التحديث إلى أرضية علمية وثقافية و(تكنولوجية)، وهذه التحديات تخلق حالات نفسية غير سوية، تتمثل بالتعصب للرأي، والاستعلاء والعدوانية والتشدد والشك وممارسة التخلي والإسقاط وادعاء العصمة، وتضخيم عقد الغزو والتآمر، وكل هذه المحرضات لا تخول أحداً بربط الإرهاب ربطاً عضوياً بالإسلام بوصفه المرجعية لهذه الملل والنحل.
والإرهاب قد تمارسه مؤسسات وأحزاب وطوائف وعرقيات وحكومات وأفراد، بوصفه الخيار الوحيد لمواجهة التحديات، وقد يكون منعطفاً خطيراً لاجتياز مرحلة عصيبة، من قَصره على ديانة خاصة أو طائفة أو حكومة أو عرق، فَقد المصداقية. ومقاصد الإرهاب متعددة، والمتعقبون لتاريخه يقفون على مقاصد عدة فمن مقاصده: فرض نمط سياسي معين، فقد تستخدم الإرهاب حكومات مستبدة لإخضاع الشعب المضطهد على التسليم والخنوع. ولقد أشار بعض المؤرخين إلى (الثورة الفرنسية) في آخر القرن الثامن عشر الميلادي، وتاريخ الثورة الفرنسية المتداول لا يشير إلى الإرهاب، ولكن الأحداث والوقوعات واستشراء القتل والاغتيالات تعد ممارسات إرهابية. وقد تستخدمه حكومات تفرض سيادتها على شعب من الشعوب، لإشاعة الروح الانهزامية، والرضوخ للمطالب التعسفية. ولقد مر الاستعمار التقليدي ومقاومته في الوطن العربي بأوضاع دفعت إلى المواجهات الدموية. وكل دولة قوية تفرض سلطتها بالقوة على أي شعب لا يبادرها بالمواجهة العسكرية تعد دولة تمارس الإرهاب الدولي، وإن لم تكن بمجمل سياستها إرهابية. وقد تستخدمه أقليات عرقية أو دينية، لتحقيق وجودها، والحصول على حقوقها إلى جانب الأكثرية، وهذا اللون يختلف قراء الأحداث في تصنيفه: فمنهم من يراه دفاعاً عن الحقوق ومقاومة ضد الظلم والاستبداد ورفض الإقصاء والتهميش. ومنهم من يراه إرهاباً وإخلالاً بالأمن. وأحسب أن مثل هذا اللون يتسع لكل القراءات، وتحكمه الظروف وطبيعة الأوضاع. ف(الأكراد) مثلاً تتقاسمهم عدة دول، وليست لهم حقوق مستقلة، وقد تكون مقاومتهم في بعض الأحوال مشروعة، ولكن التعدي على الآمنين والأبرياء مجال اختلاف واسع، والإطلاقات غير الدقيقة لا تصيب المحز، ولا تحق الحق، وحتى قمع تمردهم داخل الدولة مسألة فيها نظر، فهي إرهاب عند قوم، وتصرف مشروع عند آخرين. ومثلما تعرضت (أفغانستان) للتدخل (السوفييتي) فإنها تعرضت مرة ثانية للتدخل (الأمريكي)، ولغة الخطاب مختلفة إزاء التدخلين. وفي مثل هذه الحالات تجب الدقة وعدم المجازفة في الأحكام. و(الجهاد) و(المقاومة) و(الإرهاب) ممارسات لا يجوز الخلط فيما بينها، ومع كل التحفظات فإن الأحكام تنطلق من مفاهيم متباينة ومصالح متعددة. ومع صعوبة التقارب في وجهات النظر يجب على كل مستقل أن يتحرى الحق، وأخطر من ممارسة الإرهاب تناقض المواقف، وفقد المصداقية، فربط الإرهاب بنحلة أو قومية، لا يختلف عن وصف المقاومة بالإرهاب، أو جعل الجهاد الإسلامي إرهاباً.
وفي ظل اختلاف المفاهيم والمواقف فقد تستخدم الإرهاب جماعات إرهابية بطبعها ووضعها، ومثل هذا المفهوم ينطبق على (الإرهاب اليهودي)، فلقد تشكلت عصابات إرهابية قبل الإعلان عن قيام دولة يهودية في أرض إسلامية يعد اليهود أقلية فيها. ولقد مارست هذه العصابات أبشع العمليات الإرهابية، عبر عصابات يهودية مدربة، مثل عصابات (أرغون زفاي) و(شترن) و(آغودات) مثل نسف المنازل، وإلقاء المتفجرات في الأسواق، واغتيال الأطفال والنساء، وتنظيم المذابح الجماعية، كمذابح (دير ياسين) و(ناصر الدين) و(حوامسة) و(عليوط) و(حلحول). وكان الهدف من هذا الإرهاب حمل السكان الأصليين على الهجرة، وإخلاء القرى والضواحي والمزارع والمدن، تمهيداً لاستيلاء الصهيونية عليها، بمواطاة ودعم من دول العالم، ولو لم يكن هناك حبل من هذه الدول لما استطاع اليهود إقامة دولة عنصرية مغتصبة، فالاستعمار البريطاني أعطى الوعد، والولايات المتحدة تعهدت بدعمه وحمايته. ولم يكن الإرهاب شرقياً، إذ هناك جماعات إرهابية أوروبية مثل جماعة (بادر هوف) الألمانية و(الألوية الحمراء) الإيطالية و(توباماروس) بأمريكا الجنوبية. ولقد نيفت المنظمات الإرهابية على الثلاثمائة منظمة، كلها شرقية أو غربية، وإن كان هناك جماعات مقاومة ليست من الإرهاب في شيء، تطلق على نفسها جماعات التحرير، واكبت الاستعمار التقليدي، وقاومته: سلماً وحرباً، وخاضت معه المؤتمرات، ومثل هذه الجماعات، تمتلك شرعية المقاومة، فيما يطلق عليها الطرف الآخر صفة الإرهاب، مثل (الجبهة الوطنية) في مصر التي أسست عام 1936م للتفاوض مع الحكومة البريطانية، ومثل (جبهة التحرير الوطني) في الجزائر التي تشكلت عام 1951م، ورسمت لنفسها سياسة تقوم على مقاومة الاستعمار، وإنشاء دولة جزائرية، ومثل (جبهة تحرير الجنوب المحتل) في عدن.
وهناك جبهات شرقية متعددة، مثل (الفييت كونج) الفيتنامية لمقاومة الاستعمار الفرنسي. وقد تتكون جبهات لمقاومة حكم قائم، وليس لمجابهة مستعمر خارجي، ويندرج تحت هذا المفهوم أحزاب المعارضة. وعلينا أن نفرق بين (الجريمة المنظمة) و(الإرهاب) ف (المافيا) غير (الموساد) ومثل هذا يدخل في تعدد المفاهيم والرؤى. ولو نظرنا إلى ظاهرة (الحرابة) في الفقه الإسلامي، لوجدناها لوناً من ألوان الإرهاب غير المنظم، وقد يتخذ الإرهاب مفهومه الدقيق حين يخيف المجتمع، ويعرضهم للقتل ويعرض ممتلكاتهم للتدمير.
وإذ نقول بأن الإرهاب لم يكن عربي الأصل والمنشأ والولادة فإن ما نقوله ليس ادعاءً لا نقيم عليه حجة، فالمتتبع للأحداث في السبعينيات والثمانينيات يدرك أن دولاً أوربية ك(فرنسا) و(ألمانيا) و(إيطاليا) و(إسبانيا) تجرعت مرارات الإرهاب، وها هي الأحداث الموجعة في (إسبانيا) التي أدت إلى تفجير القطارات، تؤكد أن الإرهاب عالمي الأصل والولادة والنشأة. ومثل هذه الأحداث المروعة تؤكد على أن هناك منظمات لما تزل قائمة، وأفعالها تقع ضمن المفهوم الدقيق للإرهاب، وكم من عمل إرهابي لا يكون لدفع ظلم، ولا لتصفية ثارات، وإنما يكون لإثبات وجود، أو لفت نظر، أو يكون للحيلولة دون نفاذ اتفاق تقترب منه فئتان أو دولتان، ولقد وضع الإسلام أعدل المواقف عند اقتتال الطوائف، فقدم الصلح، وعند البغي شرع القتل، حتى تفيء الطائفة الباغية إلى أمر الله، وبعده تبقى كل الطوائف إلى إطار الأخوة الإسلامية، وقد تتعمد مراكز القوى وجماعات الضغط إفساد بوادر الصلح فتمارس الإرهاب كوسيلة للإفساد والحيلولة دون السلام العادل. ومثل هذه الرسائل الموجعة لا تشكل ظواهر وأعراضاً، وإنما هي تعبير عن الإحباط أو تذكير بالوجود الفاعل والمؤثر، ومما يلفت النظر ويربك المواقف ما تتصف به بعض الدول من عنف في مواجهة الخصوم، ومن ثم تمارس الإرهاب تحت سمع العالم وبصره، نجد ذلك في (إسرائيل)، وقد تمارسه قيادة الدولة عبر عملائها واستخباراتها، حتى إذا انكشف أمرها أذعنت، وتحملت تبعات ذلك. وتاريخ الثورات الحديث مليء بمثل هذه الممارسات الإرهابية، وقد تسهم الدول كافة أو دولة بعينها أو مجتمع من المجتمعات بتشكيل فصائل إرهابية سواء جاء ذلك الإسهام اختياراً أو اضطراراً أو جهلاً أو تعمداً، نجد ذلك عند من حُملوا على المشاركة في (الحرب الأفغانية) فعند عودتهم كانت لهم رؤى وتصورات وتصرفات أخلت بالأمن، ومست سيادة الدولة، ومن ثم أدت إلى مطاردتهم ومحاصرتهم وعزلهم عن المجتمع، وأي انقطاع اضطراري تنشأ عنه عقد نفسية، تتطور إلى حقد فمواجهة، والتعبئة الجهادية التي مارستها كافة الوسائل الإعلامية أثناء (الحرب الأفغانية) وتسهيل مهمة الشباب المتحمسين لمواجهة الاحتلال الروسي لدولة مسلمة شكل ذهنيات ترى مواصلة الجهاد ضد أي دولة غير مسلمة، وحين ضُيق الخناق على عشرات الآلاف من العائدين من أفغانستان والمقيمين فيها، تفرقت بهم السبل، وتلفقتهم عصابات خفية، وظلت فكرة الجهاد قائمة عندهم، وبعض هؤلاء الأشتات دخلوا اللعبة مرة ثانية عامدين متعمدين، مما أضر بالمشروعات الدعوية والإصلاحية، الأمر الذي حفزهم على إعادة تنظيم صفوفهم، وممارسة ضرب المصالح العائدة للدول التي مارست مطاردتهم، ومثل هذا العمل يعد إرهاباً، لأن الدول التي دخلوها ومارسوا الإرهاب فيها، لها سلطاتها، ولها أنظمتها، ولا يجوز الإخلال بالأمن تحت أي مبرر، ومع التحفظ على كثيرٍ من المفاهيم والمواقف فإن ذلك لا يبرر الإرهاب، وبخاصة داخل دولة لا تستدعي أوضاعها أي لونٍ من المواجهة.
ومما يزيد الإرهاب استشراء ويعمق الخلاف، الخلط بين الإرهاب والمقاومة، فكفاح الشعوب من أجل تحرير نفسها من السيطرة أو التدخل الأجنبي عمل مشروع، ومع ذلك لم تمنح هيئة الأمم المتحدة مشروعية ذلك إلا بعد ضغوط ومداولات، غير أن الأقوى هو الأقدر على تحديد المفاهيم، وليس أدل على ذلك من مقاومة الشعب الفلسطيني المستنكر من قِبل الإعلام الغربي وانتهاكات الجيش الإسرائيلي المحالة إلى الدفاع عن النفس. وكيف يقبل عاقل هذه الرؤية الجائرة؟ وهذه المقاييس المغالطة تسقط هيبة القرارات الدولية، وتدفع بالشعوب المغلوبة على أمرها إلى التنظيمات السرية والمقاومة العنيفة، التي قد تطال الأبرياء من رعايا الدول المتواطئة مع الظلم. وخلاصة القول في إشكالية انتماء الإرهاب أن ليس له أبوان شرعيان، وإنما هو لقيط أنجبه اتصال غير مشروع.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:37 PM   #6
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الإرهاب وطرائق المواجهة..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لك ما يمكن قوله عن «الانتماء» في محاولة لإسقاط الادعاء المخادع الذي راوح في مخادعته بين تحميل الإسلام معرة الإرهاب، واتهام المناهج الدراسية بالتمهيد له. وخلاصة القول: أن الإرهاب ليست له أرض ولا ديانة ولا جنس، وأنه عرض لمرض، متى وُجد العرض فعلى المهتمين التماس المرض، وأن من مثيراته ممارسات غربية خارجة على الأعراف الدولية. وحينئذ نكون أمام «المواجهة» وهي عصية الانقياد ك» المفهوم» و» السبب» و» الانتماء» ، وإشكاليتها أن لكل سبب أسلوباً في المواجهة، لا يصلح إلا له. وإذا كانت مثيرات الإرهاب: دينية أو سياسية أو عرقية أو غيرها، وليست مرتبطة بلعب كونية، فإن المشكلة تتفاقم، وقد تتحول إلى «حرب أهلية» ، تفقد فيها الدولة السيطرة على الأوضاع، وتفقد فيها الأمة الحياة السوية، وقد تتعرض البلاد لفراغ دستوري، ولربما يمس الفراغ الدستوري دولاً مجاورة، ويغري دولاً انتهازية، كي تستغل الفوضى لغرس أقدامها، وتحقيق مكتسبات لا تحلم بها. وليس بمستبعد أن تستشري الفتن في المنطقة برمتها، فتصيب القاصي والداني، وقد ينقلب الضرر على مثيره. وأي دولة لا تضمن جبهتها الداخلية يكون الإرهاب فيها نذير شؤم على أهلها. وحينئذ لا بد من تقصي الأسباب والعمل على تلافيها، والتصنت لحسيس الداخل لا لزعيق الخارج، واتخاذ الحلول المناسبة، وعدم التعويل على الحسم بالقوة، لأن للقوة تداعياتها المضرة، وليس من الحصافة اقتصار المواجهة على مطاردة الفلول، فذلك مؤذن بتصعيد العنف، ولهذا لا بد من الفصل بين العرض والمرض، وتجاوز العرض إلى المرض. فالصداع قد تهدئه المسكنات، ولكنها لا تمتد إلى المرض المثير له. ولقد بدأت العمليات الإرهابية في بعض الدول على شكل مظاهرات فئوية أو كلية، تصاعدت بسرعة، لهشاشة الجبهة الداخلية وقابلية المجتمع للانفجار، وتحولت من الهتافات والشعارات إلى العنف والتخريب، وإشعال الحرائق، وتعطيل الحركة والعمل، والامتداد بسرعة من شارع لشارع، ومن مدينة لمدينة، حتى إذا وجد المتصدون للإرهاب أنفسهم أمام طوفان الغضب، اضطروا إلى التخلي عن مهماتهم والانضمام إلى الجماعات المعارضة التي تعبِّر عن معارضتها بنسف الجسور، وتهديم المؤسسات، وإحراق الممتلكات. وقد تعلن الدولة حالة الطوارىء، وتنزل فرق من الجيش إلى الشوارع، وعندما تستنزف الدولة كل وسائلها وإمكانياتها، تخنع أو ترحل، أو لا تتمكن من كل ذلك، فتسقط. ولقد شهد العالم أنواعاً من المظاهرات المصحوبة بالعنف الذي أسقط الحكومات. أما حين تكون الدولة شرعية وجبهاتها الداخلية متماسكة، والإرهاب فيها محصوراً في فئة قليلة، ليس لها عمق بشري، ولا مشروعية، فإن عمليات المطاردة تكشف عن فئات الإرهابيين، بحيث يسقطون الواحد تلو الآخر. وهذا اللون من الإرهاب يكون جزءاً من لعبة سياسية، استكملت مهمتها، ولم تأبه بفلول المنفذين لها، أو هو إفرازات لعبة سياسية. وأقرب مثلين «أحداث إيران» زمن الشاه «وأحداث المملكة» زمن استفحال الظاهرة في العالم، بعد الحادي عشر من سبتمبر. فأحداث «إيران» أسقطت الدولة، فيما بدأت بوادر سقوط الإرهاب في «المملكة» . وقد لا يكون الإرهاب ناشئاً من خلاف بين السلطة والأمة، وإنما هو ضد مصالح دولة كبرى منتشرة في أنحاء العالم، وعندئذ تدخل حسابات الخسائر والأرباح، وحين يتغلب الإرهابيون في نظر الدولة المحتلة، تلملم أطرافها، وترحل، تاركة البلاد تعيش حالة من الفوضى وحمامات الدم، وهذا ما نخشى وقوعه في العراق، فالتحالف أسقط الحكومة، وأحدث فراغاً دستورياً، لم يسده بعد ورحيله، وذلك مؤذن بحرب أهلية مدمرة. والمتابع للحروب الباردة والساخنة وصراع المصالح، يقف على أعمال إرهابية خطط لها المتنازعون على الغنائم، ونفذت في موقع التنازع، وعدت من المقاومة المشروعة. وقد تتشكل في الدولة الواحدة مراكز قوى متعددة، تقود البلاد إلى تناوش في السلاح، منذرة بتفكك الوحدة الوطنية وتعدد الكيانات، متى كانت تركيبتها السكانية من عدة طوائف أو قوميات أو كانت أقاليمها ذات خصوصيات جغرافية أو تاريخية. ومثل هذه الأحوال تستدعي النظر الثاقب، وعدم خلط الأوراق، ولا يمكن مواجهة أي عمل إرهابي، وقطع دابره إلا برصد دقيق لكل ملابساته، ودراسة متقصية لأسبابه: داخلياً وخارجياً، ورسم خطة ناجزة أو مرحلية لمواجهته، والحيلولة دون نمائه وانتشاره وإيقاظه للخلايا النائمة. فالمواجهة قد تكون بالمثل، وقد تكون عن طريق الحوار والتنازلات، وقد يكون الإرهاب عرضاً زائلاً، لكونه إفراز ظروف خارجية، لا يكون للبلد فيه إلا الظرفية المكانية. وليست المواجهة قصراً على رجل الأمن، وليس الحل وقفاً على المطاردة والمصادرة، وتبادل إطلاق النار، وليست التصفية حصراً على التصفية الجسدية، فإذا كان وراء الإرهابي مبادىء يؤمن بها، فإنها ستظل قادرة على التفريخ، وإذا كان لا يفل الحديد إلا الحديد، فإن الكلمة المحكمة لا يفلها إلا الكلمة الأحكم، والذن يُقدِمون على العمليات الانتحارية، يستمدون إقدامهم على الموت من مبادىء يؤمنون بها، ومن علماء يزينون لهم الانتحار باسم الاستشهاد، ومثل هؤلاء لا يحسم شرهم القتل، ومن ثم لا بد من سلاح الكلمة، لتصحيح المفاهيم، وتحصين من لم يخترق الانحراف أدمغتهم.
والتصفية الجسدية قد تمتد إلى شباب غرر بهم، واتخذوا سبيل الإرهاب عن قناعة، ولو هيئت لهم حواضن فكرية ودينية وسطية متزنة وقادرة على استمالتهم وإقناعهم لكان أن تحولوا عما هم عليه، وندموا على فعلهم، ومتى أمكنت المواجهة بالموعظة والتوعية، فإن المصير إلى غير ذلك مصير إلى المفضول مع إمكان الفاضل، والمواجهة السليمة الحكيمة تكون من هذا ومن غيره، ولكل حدث حديث. والمصابون بداء التطرف والغلو والإرهاب لن يقتصر فعلهم على التفجير والاغتيال، إذ ربما يكونون أصحاب قضية، لهم أهدافهم وذهنياتهم، ولهم نظرتهم المستقبلية القائمة على الدعوة، وتنشيط الخلايا وتنميتها، وحين تكون قضيتهم عقدية فإن من الصعوبة بمكان قطع دابرهم بقوة السلاح بل لا بد من قوة الكلمة، ولقد شهدنا مؤشرات لذلك، وليس ببعيد أن يعيد التاريخ نفسه، ونرى خوارج العصر يمثلون الغلو والتطرف الذي اتصفت به طائفة الخوارج في الصدر الأول من الإسلام، ولقد شهدنا «معتزلة العصر» ممن عولوا على العقل، وهمشوا النص في «نظرية المعرفة» . والتطرف العقدي أنكى من التطرف السياسي، وإذا كانت حركة التطرف العقدي تتنامى، والشباب من حول المتطرفين يتعاطفون معهم، ويستمعون إليهم، ويتقمصون رؤيتهم، ويمارسون عملهم، فإن الحل الأمثل لا يكون في واحدية المواجهة, ولا في عنفها، ولا يكون - أيضاً - في تسامحها، ومن ثم لا بد من التفكير والتقدير والنزول بكثافة الإمكانيات العلمية والثقافية والإعلامية، لإيقاف تشكلهم الذهني ونموهم البشري، والحيلولة دون ممارستهم للدعوة والتغرير بالناشئة، ثم النظر في أساليب الدعوة والإرشاد والموعظة، وتشكيل كوادر قادرة على مقارعة الحجة بالحجة، وقادرة على اعتماد الأسس النفسية الممكنة من اختراق أجواء الآخر، واستبعاد أي أسلوب قسري فوقي متعنت، والحيلولة دون قيام أي كيان تطوعي، لا يخضع للمراجعة والمساءلة والتقويم المستمر. والمتابع للخلايا والمنفذين يدرك أن وراءهم تعبئة ذهنية منظمة وقادرة على التكيف مع الأوضاع والسرعة في تحولات الخطاب، ولما كان الإرهاب يتطلب تعبئة حسية ومعنوية، تعبئة السلاح، وتعبئة الأفكار، كان لزاماً على المسؤولين والمقتدرين من المواطنين أن تتضافر جهودهم لمواجهة التعبئتين:
- التعبئة المادية.
- التعبئة المعنوية.
ولما كانت التعبئة الحسية عند الإرهابيين قائمة على صنع المتفجرات، وتهريب الأسلحة، وتخزينها فإن المعنيين من المسؤولين والمواطنين أمام ثلاثة أنواع من أنواع التعبئة الحسية: - «التهريب» و» التصنيع» و» التخزين» ولكل نوع أسلوب مواجهة، ذلك على مستوى المواجهة الحسية، وهي أهون المواجهتين.
أما المواجهة المعنوية فإنها ذات شقين:- مواجهة الذات، ومواجهة الآخر، وكلتاهما تحتاج إلى تحرف متوازن. فالذات تحتاج إلى النقد والمساءلة والتقويم والتطوير، والآخر يحتاج إلى خطاب يراوح بين الإحكام والتفصيل، والمواجهة تكون بإزاء خطر قائم، وآخر متوقع القيام. فهناك مواجهة تتمثل بأخذ الحذر، وأخرى تأخذ بزمام المبادرة. والخطر القائم يكون قابلاً للنمو أو الانكماش أو الاجتثاث، وقد يتبدل من حال إلى حال، على سنن السباق بين أساليب الجريمة وأساليب المواجهة، وعلى ضوء هذه التوقعات يحتاج المسؤول إلى مراجعة مستمرة لكل أساليب الاحتياط والمبادرة، فذلك يحول دون جمود آلية المواجهة، واكتساب المناعة عند الممارسة الإرهابية. ولأن الجريمة والمكافحة في سباق مستمر، فكلما تفنن المكافح في آلياته تحرف المجرم في محاولاته فإن الوقوف في المكافحة ولو للحظة واحدة أو ارتهانها بالمقاومة المسلحة تمكن الجريمة من التحرف الماكر. وهكذا يستبق كل من المجرم والمكافح طريق النجاة. والظفر والنجاة مبتغى الطرفين، وكل طائفة تعد لهما ما استطاعت من قوة أو حيلة.
وما تعرض له رجال الأمن من قتل وما تمكن منه الإرهابيون من الإفلات والنجاة تعد مؤشر تفاوت في إعداد الخطط واتقانها، ودليلاً على تعدد الحيل للوقيعة في الطرف الآخر. وحين تتخذ المواجهة مساراً واحداً وأسلوباً واحداً، يتحرف الإرهابيون أنفسهم أو المخططون لهم من وراء الحجب لأساليب تمويهية، وقد تضطرهم المحاصرة إلى التحول من التفجير إلى الاغتيال، وقد يُضَيَّق الخناق عليهم، فَيُمارسون البيات، من ثم يتحولون من عصابات تنفذ الأعمال الإرهابية إلى دعاة على أبواب الفتنة، كما يجد المستفيدون فرصة التغرير والتضليل والتعبئة الذهنية، والجميع يتحينون فرص الغفلة أو الضعف أو خطأ التقدير والتوقيت والتدبير، فيما يتصور المتصدون لهم من رجال الأمن والمباحث أنهم قد قطعوا شأفتهم. ولهذا لا بد من تنوع أساليب المواجهة وتعددها واستمرار التوعية والمتابعة، ودخول المؤسسات الثقافية والفكرية والإعلامية والدينية طرفاً فاعلاً في المواجهة، وليس طرفا متطوعاً، وليس من المعقول ِأن تقتصر تلك المؤسسات على مواجهة نفسها ومساءلة بعضها. وفي تعدد أساليب المواجهة وتنوعها، وعدم الإذعان لمن يحيل على المناهج أو على الحركة الإصلاحية أو على بعض المؤسسات الخيرية بشائر خير. ومكمن الخطورة أن القبول بإحالة الإرهاب إلى المؤسسات التربوية والدعوية والخيرية يصرف المواجهة عن مسارها الصحيح. ومع أننا نصر على أن الإرهاب وافد على البلاد، وأن المؤسسات الإسلامية والدعوية والتربوية منه براء، إلا أن من الحصافة أن نأخذ كل شيء في الاعتبار، وألا تحملنا الثقة على الغفلة، إذ كل شيء ممكن، ولا أقل من الرصد والتحري، ووضع كل مؤسسة تحت المراقبة والمتابعة، والنظر في أساليبها التربوية والدعوية، فإذا سلم «المقرر» و» نصوصه» فقد لا يسلم «المنهج» ،وإذا سلم «المنهج» فقد لا يسلم «الموصل» للمعلومة، وإذا سلم الجميع فقد تكون «المرحلة العمرية» للطلبة غير قادرة على استيعاب المقتضيات وتمثلها، ومن ثم لزم تحديث الناس بما يعقلون، فسلامة المقرر والمنهج والمدرس قد يقابلها عقل المتلقي الذي أعطي ما لا يعقل ،ولقد نهي حملة العلم الشرعي عن محادثة الناس بما لا يعقلون، حتى لقد عُدَّ مثل ذلك من دواعي الكفر بالله ورسوله، والدعوة المرحلية سبيل الرسل. ولقد أومأ أحد المسؤولين إلى أن «مادة العقيدة» تقع في عشر ورقات، ويمكن أن تقرأ في ساعة، ولكنها مع المدرس تظل طوال العام، فماذا هو قائل؟ إذ ما من أحد إلا وهو عرضة للخطأ أو الغفلة التي تمكن الماكرين من استغلال غفلته واختراق أجوائه، وليس بمستبعد أن يحرف الكلم عن مواضعه. ومن زكى مؤسساته وغفل، سبقه إليها من لا يهدأ له بال، ولا يقر له قرار إلا بالإفساد. وقد يعمل الإنسان لا يريد من عمله إلا الخير، وليس في نيته إلا ذلك، ولكن عمله يؤدي إلى ما سواه، وقد يندس في المؤسسات من ليسوا من أهلها، مستغلين الثقة المتبادلة ودعوى الحصانة أو العصمة. والقطاعات الأمنية والتربوية والتوعوية والإعلامية مسؤولة أمام الرأي العام عن كل ما يحصل من تقصير أو انحراف. وكل بلاد العالم معرضة للمؤامرات والمكائد واللعب الكونية، وكل مواطن على ثغر من ثغور أمته، عليه ألا تؤتى الأمة من قبله.
وإذا لم تأخذ الدولة حذرها، أخذتها المصائب من كل جانب، وليس أدل على ذلك من اختراق الحدود بأفتك الأسلحة والمتفجرات، واختراق الأفكار بأضل الأقوال. ولو كنا حذرين لما كانت الأسلحة بهذا الحجم، ولما كان الانحراف بهذه الخطورة. وصفوة القول أن تكون المواجهة حضارية متعددة المستويات، فوضع المواجهة المسلحة في موضع الحوار والتوعية مدعاة إلى مزيد من التدهور، ويقال مثل ذلك عن وضع الرأفة والرحمة والحوار موضع المواجهة المسلحة، فالمسألة مرتبطة بالأحوال، ولا يجوز الرهان على مواجهة محددة، ولكي تكون المواجهة حاسمة لا بد أن نحدد «المفهوم» و» الأسباب» و» الانتماء» فإذا وضح الأمر أمكن حسم المشكلة. وإشكالية العالم الثالث أن أموره تقضى في غيابه، وأنه لا يستشار عند حضوره، وأن خطابه نقيض إمكانياته، وأن أزماته في مؤسساته، وأن العالم المتغطرس يتخذ منه مجالاً لتصفية الحسابات واكتشاف القدرات، وكل لعبة يخطط لها، ثم لا يتقن تنفيذها، تكون مهيأة لتفريخ الإرهاب بوصفه الحل الوحيد لمواجهة التحدي.
ولا يمكن حسم الإرهاب إلا بمواجهة الذات قبل مواجهة الآخر.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:37 PM   #7
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
التيه في التغرير والتعذير لدولة الأخطبوط..!
د. حسن بن فهد الهويمل


لا مساس فقد وقع الفأس على الرأس، والمثير أنه رأس بحجم الكرة الأرضية، بما جمع وأوعى من علم بظاهر الحياة الدنيا. وامكانياته الدقيقة العميقة الشاملة لم تحم دم الجنود الأمريكان وأشلاءهم من التدفق والانتثار في الصحاري والقفار، كأرخص ما يكون من الدماء والأشلاء، ولن يكون هذا الوضع مخاض هذه الامكانيات، ولا يمكن أن يهون عليه دم أبنائه، وهو الأنقى عنده من ماء السماء، والأثمن من كل سائل يُسيل اللعاب. وما كان لأفراد جيشه أن يُتخطفوا من كل جانب، وعلمه بدقائق الأشياء يفوق قدرة الشبكات العنكبوتية. ولو تصور الأعمى الأصم حجم الانفاق على مؤسساته:- الاستخباراتية والمعلوماتية وأقمار التجسس لقطع بأن أدق التفصيلات في حيوات الأناسي والمؤسسات والمنظمات لا تعزب عن علمه، ولتصور أن الكرة الأرضية ما هي إلا حبة مسبحة يقلبها بين أصابعه، وكيف يند عن علمه شيء من ظاهر الحياة، وهو ينفق أكثر من (ثلاثين مليار دولار) على المهمات التجسسية والمعلوماتية. ورغم ذلك ضاع دمه، وخفت هيبته في (العراق)، كما حصل من قبل في (فيتنام) و(لبنان) و(الصومال) ولم يتردد في الفرار من الزحف، وما كان فراره لتحرف ولا لتحيز، وإنما هو الفشل في التخطيط والخوف من تصاعد الخسائر. ومع المجازفات لن يكون القرن الواحد والعشرون قرناً أمريكياً كما يقول (بيارنيس) - ولنا عودة لهذا الكاتب - وأمام هذه النكسات الموجعة، والتدبير المرتبك، والحسابات الخاطئة، تستبعد طائفة من حملة الأقلام وقوع (أمريكا) في الخطأ، ولا تني في التبرير والتعذير. وما هي مع هذه الأخطاء الصارخة إلا كالعين المرمودة والفم السقيم. وصدق الله {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
وحجة المنكرين لأخطاء التقدير والتدبير أنه من المستبعد، بل من المستحيل أن يكون تصرف (أمريكا) مرتجلاً، فهي عندهم بما وهبها الله من علم بدقائق الأمور تواجه الأشياء عبر مؤسسات استشارية، ومطابخ سياسية، وفرق عمل تصيب المفاصل، تمشي وئيداً في خططها، متخذة (استراتيجيات) طويلة الأجل، لا تعدل عنها، ولا تساوم عليها. وهي تعرف ما سيلاقيها، وكل عمل تباشره يكون لديها عنه من المعلومات ما لا تحتاج معه إلى مزيد، كما أن لديها عدة طرق، وعدة احتمالات، وعدة (سيناريوهات)، لن تفاجأ معها بمقاومة، ولن ترتبك بتمرد، ولن تتراجع من أجل خسائر تعرفها سلفاً، وخططها مرسومة، ومسارها محدد، ذلك ظن المبهورين الذي أرداهم. وإن تعجب فعجب قولهم:- إن ما يراه الناس أو يسمعون به من قتل أو تفجير أو اكتشاف تعذيب وحشي إن هو إلا بعض لعبها التي أحكمتها وتمويهاتها التي رسمتها، وكل شيء عندها محسوب ومحدد. ذلك قولهم بأفواههم، يعللون الضربات الموجعة، ويعذرون عن الأخطاء الفاحشة. وإذ لم نكن دونهم في معرفة امكانيات (أمريكا)، فإنهم دوننا في تقدير حجمها أمام قدرة من بيده أزمَّة الأمور. وأحسبهم يجهلون أو يتجاهلون، ان فوق الكون رحمن لكل مخلوق رحيم بالمؤمنين، حرم الظلم على نفسه، وجعله بين خلقه محرماً، لا يعزب عن علمه شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو اللطيف الخبير، رب يدبر، وقضاء يمضي { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}، لو عرف المخدوعون والمبهورون ذلك، لكانت لهم حسابات أخرى، لا تنكر الأسباب، ولكنها لا تسلم لها. نقول هذا ونحن نعرف الفرق بين التواكل والتوكل، ونعرف أن الأخذ بالأسباب واجب، وأن تركها دروشة، وأن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، وأن الملائكة لن تخفّ مردفة لتقاتل عنا، وألا نصر باعداد العدة والتعاون والاعتصام.
و(أمريكا) التي يراهن عليها البعض، تعيش حالة من الارتباك، تبدت في مقولات متذمرة، تفوه بها صناع القرار ومباركيه، مفادها ألا مقام لهم إذا كان الشعب العراقي لا يرغب ذلك، فيما قال آخرون نقيض ذلك تماماً. ولسنا على يقين من القرار الحاسم، غير أن ذلك كله مؤشر اضطراب. ومصيبتنا أن هذه المآسي الموجعة سوف تمر بالذاكرة العربية كسحابة صيف، كما نسيت من قبل مآسي موجعة مارسها الاستعمار: (البريطاني) و(الفرنسي) و(الايطالي).
وعذر الناس أنهم ممتلئون بمصائب حية، قد تلهيهم عن مآسي التاريخ. وعتبنا غير المُعتَب يستدعي التساؤل عمن غرر بهذه القوة العظمى، وجر قدمها إلى هذا الوحل، وعمن قام رهانه عليها، وأنها تصرف ذاتها بحكمة وروية، وأنها قادرة على حسم المواقف، متى شاءت، وكيف شاءت، وأنها مسددة الرأي في تأديب المتمردين على مصالحها، وعمن يتصور أنها جادة وصادقة في تسويق (الديموقراطية)، وفرض الاصلاح, وحماية حقوق الإنسان. فكل المغررين والمراهنين والمصدقين يقترفون تزييف الوعي العالمي عبر وسائط النقل ووسائل الاعلام، والخطيئة التي لا تغتفر أنه عندما يتحصحص الحق، وتنجلي الغمة، ينسى الكتبة والراغون ما قالوه، وما كتبوه من رهانات وتزكيات، ولا يترددون في استئناف أحاديث جديدة، هيئت لهم فواتحها. وكم قرأنا لمفكرين وساسة وكتاب مقولات قطعية، صارت هباء، وصارت سدى، وآلت إلى مزبلة التاريخ. والمؤلم أنهم يشحذون أقلامهم ليخوضوا في حدث غيره، وليدخلوا في رهانات خاسرة، يزيفون فيها الوعي، دونما خجل أو تردد. ولو كان عند أحدهم أدنى قيمة للمتلقي، لرفع قلمه، وطوى صحفه، وكفّ لسانه.
وكيف يكون الوهم أو التردد والأحداث المتلاحقة تشي بأن أمريكا تتجرع مرارات غزوها ولا تحصد إلا الكراهية ولا تواجه إلا المقاومة، وكان الأولى لها أن تفكر بالمخادعين. وكيف لا تفكر بمن يشوهون سمعتها وينصبون لها الفخاخ، ويتعمدون تدمير كرامتها وسمعتها، قبل أن يدمروا مثمنات خصومها؟ وليس أدل على ذلك من مداولات مجلس (الكونجرس) الذي يصيخ كل أعضائه لشرذمة قليلة مغروسة فيه.
والتعويل على عصابات الشر، من الحسابات الخاطئة، التي يستبعدها المبهورون، وما من حصيف ينكر خطأ أمريكا في التعويل على (المعارضة العراقية)، التي زينت لها الدخول في الحرب، وخدعتها بدعوى قوتها وتفكك الجبهة الداخلية. ومهما كان الحكم السالف سيئاً وظالماً فإن الاحتلال الأجنبي أظلم وأطغى. والفراغ الدستوري الذي أحدثه سقوط النظام، أيقظ الخلايا النائمة، ومكنها من ايذاء المحتل وخلط أوراقه، والدول المصطلية بنار الغطرسة الأمريكية وجدت الفرصة مواتية لتصفية الحسابات المتراكمة. لقد كان لاسقاط النظام أثره السيئ على العالم بأسره. والعقوق بدا بأبشع صوره، حين قال (بوش الابن): لن أكرر غلطة أبي بالتوقف دون اسقاط النظام وحسم الأمور. فيما كان الأب أصوب رأياً وأحكم تصرفاً. جاء لتحرير (الكويت)، والتف العالم من حوله، تحت هذا الهدف المشروع، ولما حررها، توقف قبل أن ينفض من حوله الحلفاء، وخرج راضياً بنجاح خطته قبل استشراء المقاومة، ولم يأخذه زهو الانتصار على كل المستويات: السياسية والعسكرية. ولو أن (الابن) سمع تحذيرات المخلصين، وجنب العالم ويلات الحروب، وجنب أمريكا كره العالم، واكتفى بمضاعفة الحصار ودعم المعارضة، لما حصل ما حصل. ولو أنه حين ارتكب خطيئة الحرب، لم يتسرع في حل الوزارات، وتسريح الجيش، والتمكين من تسرب أسلحته، لكان في ذلك بعض التوفيق. لقد توالت الأخطاء في: انتشار الجيش المحتل في المدن والأحياء. وفي اعلان الاحتلال. وفي تشكيل مجلس حكم مرفوض. وفي العنف والأثرة، وفي التراجعات والاضطرابات، وفي العجز عن ضبط الأمن وعودة الحياة الطبيعية. وعجبي من غياب رجالات أمريكا وأساطين الفكر والسياسة عن مثل هذه التصرفات، وعلم الله أن أي حليف ل(أمريكا) لا يود لها هذا الوضع، إنها بحاجة إلى عقود لاستعادة مكانتها وسمعتها.
وبوادر الأوضاع تؤكد أن التغرير قائم على أشده, تحركه عدة قوى: مؤسساتية وغير مؤسساتية. وليس هناك ما يمنع من تعرضها للتغرير، ومؤشراته فيما يتسرب من تصريحات اسقاطية، تدل على الوقوع في مصيدته. وتمادي المغررين بالغي قائم بأبشع صوره، وها نحن نسمع بالمجموعات المتشددة في (الكونجرس) وهي تنحرف لمكائد جديدة، وهم الذين طرحوا من قبل مشروعاً لتحرير العراق، وشرعنوا لذلك بحتمية القضاء على سلاح الدمار الشامل، واعادة الحرية والديموقراطية، وفك الأسرى والمساجين، وعودة الهاربين من ظلم البعث، وما شيء من ذلك تحقق. وأمام ذلك لا بد من البحث عن دوافع أخرى غير معلنة أو الاعتراف بأن دولة ك(أمريكا) يمكن أن تخدع، وبالتالي تسقط رهانات المزكين، ويصبح كل ما قيل وما حصل كذبة غير محكمة، مكنت لها أخطاء التدبير والتقدير والتوقيت. وعلى الذين يراهنون على تفوق (أمريكا) بكل شيء أن يلتمسوا لها المعاذير، ولا مجال للتبرير ولا للتعذير، فما يشاهده العالم من قتل وتفجير وتعذيب لا تمارسه الوحوش الضارية، فأين الحرية؟ وأين الديموقراطية؟ وأين الحقوق؟ وأين التاريخ النزيه؟ وأين المبادئ والمواقف؟ ومع كل هذه النكسات الإنسانية والحضارية نسمع ونرى أعضاء من (الكونجرس) لا يتحرجون من جر قدمها لمزيد من التوحش مرة ثانية وثالثة. وها هم أولاء يتحرفون لمشروع قانون جديد، خاص ب (سوريا) و(لبنان), باسم قانون تحرير (سوريا ولبنان), وكان حقاً أن يطالبوا بتحرير (الجولان) و(مزارع شبعا), أو منع اسرائيل على الأقل من القتل والهدم, ومنع أمريكا من امدادها بالسلاح ودعمها بالتأييد في كل المحافل، وكان حقاً على الطابور الخامس أن يكف عن جلد الذات الإسلامية ونبش تاريخها. وإذا كانت (أمريكا) و(بريطانيا) قد خسرتا الأموال والأنفس والمعدات والسمعة في دخول العراق، فمن ذا الذي يرضى لأهله وعشيرته التورط في جناية أخرى. وعلى الرغم من كل هذه الترديات، فقد أعطى الرئيس ضوءاً أخضر لتضييق الخناق على (سوريا)، وجاء ذلك على شكل اصدار عقوبات اقتصادية. والأسلوب الفج المرفوض بكل المقاييس لن يزيد الوضع العربي إلا تعقيداً وتصعيداً، وحتى المخادعة بالاصلاح لم يتعاطف معها إلا المتعلمنون المتسطحون, وهل عاقل يقبل من دولة تحكمه أن توجه لحاجات شعبها من الخارج؟ وهل أحد يتصور أن الخطأ لا يمكن اصلاحه إلا بالضغط الخارجي؟ العالم العربي أحوج ما يكون إلى الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي، ولكنه بالوصاية لن يكون كما يريد المواطن، لا من حيث الصبغة, ولا من حيث الأولويات. وما جدوى الاصلاح الذي تحمل عليه الدولة كرهاً. وما الاصلاح الذي تنادي به دولة لها دينها وللآخرين دينهم, ولها حضارتها, ولهم حضارتهم إلا مسخ وانسلاخ. والشعوب المتطلعة إلى الاصلاح حين يخدعها المحتل، تكون كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وإذا اخترق المتشددون (الكونجرس) وأضلوا كثيراً من المعتدلين, وحملوهم على الزج بمثمنات دولتهم البشرية والمادية والأخلاقية فإن اختراقات الدول الصغيرة من باب أولى. والمجموعة المتآمرة على مصالح أمريكا في (الكونجرس) تسمى من باب المخادعة (مجموعات متشددة) والحقيقة أنها عصابات متآمرة على مصالح (أمريكا) وسمعتها، وعلى الموفين بعهدهم لها.
والتطوير والاصلاح مطلبان حضاريان، لا يجوز اتخاذهما مبرراً للتدخل. و(اسرائيل) المغروسة في الخاصرة العربية لا تريد للشعوب أن تملك ارادتها، ولا للحكومات أن تصالح شعوبها، ولا أن تصلح أوضاعها، لأن في ذلك مواجهة معها وسعياً جاداً لتقليم اظفارها. وما كانت (اسرائيل) التي غرست في (الكونجرس) عصاباتها تريد الرشاد للعباد. واقدام أمريكا على فعل عسكري أو سياسي ضد أي بلد عربي، سيمتد أثره السيئ إلى أمريكا نفسها. وها هي قد بدأت تفقد الأصدقاء والأعوان, وأخذت مصالحها تتعرض للاعتداء في آفاق المعمورة، ولن يبقى معها إلا العملاء والمأجورون، وهؤلاء غير مؤثرين، فالقبول أهم من القوة، والعدل أبقى من الظلم. ومن مصلحة أمريكا والعالم بأسره كشف هذه العصابات التي تتذرع بالشدة، وما هي في حقيقة الأمر إلا عدو متقنع، يخدم مصالح صهيونية، تضر بأمريكا وبأصدقائها، وتعرض وحدتها للتفكك. ومؤشرات افساد الأوضاع العربية، وتدمير العلاقات مع دولة القطب الواحد وجهت تلك العصابة إلى تقديم الدعم للمنظمات والأفراد داخل (سوريا) وخارجها، تحت ذرائع واهية، تتمثل بتعزيز مؤسسات المجتمع المدني، ولست أعرف كيف يكون دعم المجتمع المدني بدعم الحملة الإعلامية ضد حكومة قائمة، وتدريب فصائل المعارضة على حمل السلاح، أليس في ذلك اخلال بالأمن، وإثارة للفتن، وتحويل البلد المستقر إلى بؤرة من التوتر والصدام. وإذ نزكي أحداً، ولا ندافع عن أحد، ولا نجرم المعارضة، ولا يحق لنا التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد، إلا أننا نود تفهم التلويحات الأمريكية، والبحث عن المغررين بها المعرضين لسمعتها المضرين بمصالح الشعوب المتصالحة مع حكامها.
وأمام هذه المغامرات الهوجاء وتتابع الترديات, تنفست حكومة الظل وبدأت تعليقاتها اللاذعة للرئيس (بوش) ولسياسته الموصوفة بالرعونة، وحين يتقاطر المعلقون على الأحداث بطريقة ساخرة، يصل الفعل إلى طريق مسدود، وحتى رؤساء الحكومات الموالية لأمريكا، استهوتهم التعليقات الساخرة أو الشامتة، فالرئيس (الفنزويلي) طلب من (بوش) الركوع أمام الباب وطلب المغفرة من الانتهاكات، و(آل جور) يسخر من (بوش)، ويصف تعذيب السجناء بوصمة عار على سمعة أمريكا، وتهافت القادة والزعماء والمعارضين على اجترار الكلمات الشامتة دليل على أن اللاعبين الاذكياء فوتوا لعبهم على دولة المخابرات والاستخبارات والأقمار الصناعية لجمع المعلومات. وواجب العالم العربي انتهاز الظروف، والنفاذ من هذا الواقع المتوتر، فالأمة العربية متخمة بالمصائب مثخنة بالجراح مفعمة بالأزمات، ومصلحة الشعوب في الحِلم والأناة والسكينة، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بوحدة الصف والهدف، وتنقية الأجواء، وتفعيل المؤسسات، ومصالحة الشعوب، والسعي بمصالحها، ومبادرة الاصلاح، وتلافي الأخطاء، وفضح المرجفين والمخذلين، والاعتصام بحبل الله المتين لدرء الخطر القادم، خطر التآمر من داخل (الكونجرس)، فالمسألة ليست مسألة تشدد، ولا مسألة تعصب كنسي. المسألة مسألة ابادة للإنسان العربي من خلال التغرير بدولة ليست لديها الخبرة الكافية بأوضاع الشعوب الرافضة للاحتلال. إن الوجود العسكري على أي أرض عربية يعني تفجر الأوضاع، واستشراء القتل العشوائي، وأمريكا خارجة من المنطقة عاجلاً أو آجلاً، ومن الخير لها أن تدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:38 PM   #8
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
عندما نفجع بالنخبة أو نخدع بالمتنخوبين!(1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لكل فجيعة أو خديعة مؤشراتها، فالنخبوي حين تتشابه عليه القضايا ثم لا يعرف حمى الله ورخصه. والمتنخوب حين يتمظهر بالتماس مع الثوابت، ولا يتحرج من نسف المسلمات، أو حين يتباهى بتجريح العدول من صفوة الصفوة، تقع الأمة تحت طائلة الفجيعة والخديعة: فجعيتها على حماة يعطون الدنية في الدين، وخديعتها بأحداث يخوضون في آيات الله بغير علم. وليس من الفجيعة، ولا من الخديعة مراجعة الأقوال، ولا تعقب الأفعال، ولا الأخذ والرد عن بصر وبصيرة. فكل عالم مجتهد يؤخذ من كلامه ويرد، وكل مسؤول قصَّر أو تجاوز، يجب أن يوقف ويُسأل. ولقد قالها عمر: - (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها). وما أضر بالأمة إلا التصنيم والتعذير والسكوت عن المريب. وكم نود ألاّ يتصورنا المصطلي بنار تأوهاتنا مسلِّمين لقول، ولا مصنمين لقائل، ولا متسامين بمسؤول فوق المراجعة والمساءلة. وكم نود ألاّ يحال امتعاضنا وتفجعنا إلى ماضوية ترفض الجديد، ولا إلى فَرَقٍ يهاب الاقدام، ولا إلى تردد يفوت الفرص، ولا إلى مداهنة تزين سوء العمل، ولا إلى جهل بالمعارف والمقتضيات والمقاصد. فنحن مع النقد والمساءلة، والتجديد، والتجريب، ولنا تواصلنا ومتابعتنا للطريف والتليد عبر كل مصادر المعرفة. نستشرف المستقبل، ونعطوا إلى وارق الحضارات، ونرفض التشبع والادعاء، ونتأبّى الارتماء في أحضان الغير، ونتحفّظ على المسخ والتمييع. وفي الوقت ذاته نحترم المسؤولية، ونقدِّر المسؤول قدره، ونفرق بين الممكن والمستحيل، والواقع والمثالية، والتوازن والميل.وكل ما نحن عليه أننا نمقت المجازفة في التجهيل، ونرفض الإيغال في التسفيه، ونشمئز من الإمْعان في التجريح، ونبرأ من الجرأة على ضرب الثوابت، ونعيب اجترار ما قد فرغ من قوله المستشرقون، ومن والاهم من المستغربين. وما أضرَّ بالأمة إلاّ تعالم الجاهل، وتعجّل الصدارة من غير ذوي الأحلام والنهى. ولكل زمان أغيلمته المندفعون، وكهوله المتصابون، الذين يربكون مسيرة الأمة، ويُصدِّعون تلاحمها، ويهددون وحدتها الفكرية. ولكل أغيلمة طرائقهم في التوهين، وآلياتهم في التصديع، ورؤيتهم في تصوُّر الحرية والحقوق.وفهم الأشياء على غير مراد منشئها وقوعٌ في الفتنة. وكم حذَّرنا الرسول - صلى الله عليه وسلم- من الأحداث والأغيلمة، كقوله: - (هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش)، وكأنه يرى مغامراتهم عبر حقب التاريخ رأي العين.
وحين لم يتأدب المتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، طلب أحد الغيورين من الصحابة التنكيل به، إلاّ أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم نهاه، مبيناً ما سيخرج من ضئضئة من نوابت سوء، نحقر صلاتنا وصيامنا عندهم، يحفظون القرآن، ولكنه لا يبلغ تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لا يحملون أثراً، ولا يمتثلون أمراً. وما من متجرىء على حيازات الأمّة إلاّ ويكون فيه شبه من أولئك، ويكون وراءه من يمده بالغي، ويمكِّن له في مسارح الفكر، وفوق أنهر الصحف، وعبر قنوات البث، وهم الدعاة الذين أخبر الصادق الأمين أنهم على أبواب جهنم. وإذا طُلَّت طائفة من هذه النوابت، قامت طائفة أخرى، تقول هجراً، وتفعل نكرا، ووجدت من يعذر لها، ويخذِّل الغيورين الناصحين، بحجج واهية، ومبررات مكرورة: كحرية التعبير، وحق الاجتهاد، ومشروعية الاختلاف، دون ضابط أو شرط أو إمكان. والمتابع للمغررين والمستجيبين يشمئز من أساليبهم في التغرير ومن سرعة الاستجابة لهم على كل المستويات. فإذا سمعوا قصيدة معوجة، أو قرؤوا قصة ملتاثة، أو بدههم رأي فطير، أو تعقبوا فكرة فجة لأحداث مبتدئين، طاروا بها فرحاً، وأسبغوا عليها من الثناء ما لم تأذن به أصول المعارف. وها قد حصحص الحق، وظهر ما كانوا يخفون من زائف القول. وما يقال على مدرجة الفن، قيل ما هو أقبح منه في سوح الفكر ومطارح السياسة، وفي كل يوم تسقط أقنعة، وتحاك أخرى، والأمة تتجرع مرارات المقترفات من أبنائها.
والمتابعون للتاريخ الفكري، يقفون على محطات زمنية يعرفها الخبيرون من لحن القول، حتى يقول المسكونون بالهم والذين معهم:- إنّ التاريخ يعيد نفسه أو يكاد. ويكفي المرء توثيقاً أن يستعرض أطرافاً من تاريخ (الخوارج) و (المرجثة) و (المعتزلة) ثم ليقفز إلى التاريخ الحديث، ليشهد مصارع الحرية والحقوق على يد قادة الفكر والأحزاب والمنظمات، وليرى كم تلاقي الأمة من متناقضات صارخة وتحديات سافرة. وإذا كان لكل نحلة منهجها، وآلياتها، ومقاصد تأويلاتها، وقواعد مذاهبها فإنّ أغيلمة العصر لا يحسنون إلاّ الهدم، والتفلت، وما لأحد منهم مذهب محدد المعالم. وكيف يواتيهم الانتحال ومبلغهم من العلم أقل من أن يثبت أقدامهم على مدرجة، ولا أن يوجه أفكارهم إلى نحلة، فما هم إلا أصداء باهتة لمقروئهم الآني. ولأنهم قد يجهلون نواقض الإيمان، ويفقدون آداب الحوار، وتخفى عليهم مسلمات الحضارة فإنهم يقعون في الحمى من حيث لا يعلمون. والمتقرىء للتاريخ الحديث في تنوعاته وتقلباته: السياسية والفكرية والأدبية والاجتماعية يسمع حسيس مذاهب: ماركسية ووجودية وعلمانية وحداثوية واجتماعية، تلقتها عرابات من ملل ونحل شتى، لا تدري ما الإيمان ولا الكتاب ولا الثقافة ولا الأنساق، ومن ثم فرقت كلمة الأمة، وكدرت صفو منابعها. وهل أحد لم يتأذ من ترديات الأحوال، واستفحال الهوان؟.
والقراءة المتأنية المتأملة لفيوض هؤلاء تؤكد أن بين أظهرنا من يقتفي آثار تلك المذاهب حذو القذة بالقذة، دون وعي لمفاسدها،ودون إدراك لمناقضتها. يعنفون حتى يكون الدم كالماء، أو يلينون حتى يكون النسك والفجور سواء، أو يتعقلنون حتى لا يكون للنص مكان، أو يتسطحون حتى لا يفعِّلوا نصاً ولا يطلقوا عقلاً. والمتقمصون لهذه الظواهر يقترفونها عن قناعة واعية أو عن تقليد إمعي. وليست مصائب المشاهد في استعادة التاريخ القديم أو الحديث وحسب، ولكنها في التخلي الطوعي عما يصلح الأمة، ويجمع كلمتها، والارتماء التبعي في أحضان الآخر، بحجة أنه المنقذ من التخلف والهوان.وظنّهم الذي أرداهم تصورهم أنّ الإسلام عوَّق المسيرة، وشرعن للعنف ومهّد للضعف والتخلف.وإذ نتوقع مثل هذه الآراء من ذوي الضغائن، ولا نستغربها من اليهود والنصارى المصرين على اتباع ملتهم، فإننا نمتعض من تداولها عبر ألسنة أبناء جلدتنا وأقلامهم، ولو أن نقمتهم على تراث أمتهم وقبولهم الحسن لما عند الآخر أقال عثرتهم، وجبر كسرهم، لقلنا فضلوا النقد على النسيئة، ولكن تهالكهم المزري ما زادهم إلا ذلة وهواناً وسخرية من الذين استعبدوهم.والراصد الحصيف يعرف أن التاريخ السياسي والفكري الحديث مرَّ بدعوات جادة، تحيل إلى المشروع الغربي بعلمانيته المارقة أو إلى المشروع الشرقي بماديته الملحدة، الأمر الذي عرض الأمة للتخبط، وحرمها من هداية الله إلى صراطه المستقيم، وعطَّل فيها إمكانية الابتكار والمبادرة. وما من فترة زمنية إلا خلا فيها من يفسد فيها، ويسفك المكتسبات على كل المستويات: الفكرية والسياسية والحضارية والتربوية والأدبية والاجتماعية. وكأن هذا التنوع أريد له أن ينقض عرى الإسلام عروة عروة. وفي عصر العلم وثورة الاتصال انبجست أكثر من عين، وعرف كل أناس مشاربهم الفكرية والمدنية، إلا هذه الأمة التي لا تشرب إلا كدراً وطيناً، كما استبدت كل أمة بشأنها إلا هذه الأمة التي يقضى أمرها غائبة ولا تستأمر عند حضورها، ويا ليت نخبها إذ زهدوا بقيمهم جاد عليهم عدوهم بما يحييهم. وما من دعوة بائسة مسترفدة إلا ولها كتَّابها وصحفها ومشاهدها التي تمثل بشاعة العائل المستكبر. وما زاد التهالك أمة الإسلام إلا ثبوراً وتتبيباً. ومع أزمة الابتكار والإنتاج لا يُحسن العائلون المتكففون إلا التناحر فيما بينهم، والتطاول على رموز أمتهم، والولوع بخطابات الاحتدام والحدية. ولو أن التناقض والتناحر والاختلاف كان حول المتغيرات، لما سيئت وجوه المهتمين بأمر الأمة، ولكنه مستحر حول الثوابت التي لا يستقيم أمر الحضارة إلا بها. وما أصيبت الأمة في مفاصلها إلا ممن لا يعرفون نواقض الحضارة، ولا يميزون بين ثوابتها ومتغيراتها، يقولون في الحريات والحقوق عن غير علم، وبدون ضوابط، الأمر الذي زجّ بالأمة في متاهات الفوضى والضياع.
فدعاة الحرية لا يقفون عند حد، ودعاة التسامح لا يتمعرون من مقترف، ولا يردون يد لامس، ودعاة الوسطية لا يلتزمون بمقتضياتها، والمتنطعون لا يسدون الذرائع، ولا يدرؤون المفاسد وحسب، ولكنهم يغلقون الطرق، فلا يبيحون زينة، ولا يحلُّون طيِّباً من الرزق. وهكذا تضيع الحقائق والقيم بين تناقض المواقف، واضطراب المفاهيم.فالمتفلتو ن لا يتحرجون من شيء، ظناً منهم أن التسامح لا يتحقق إلا بالمودة والمداهنة والموالاة والهرولة والتطبيع والتمييع واستمراء العهر والكفر. والمتنطعون يقولون على الله غير الحق، ودعاة الحرية المطلقة لا تتحقق عندهم حتى يكون من حق المتكلم أن يقول ما يشاء فيما يشاء متى شاء، وحق الفاعل أن يفعل ما يشاء على أي شكل شاء. ولهذا تجدهم يتهمون الوقافين عند حدود الله ب(الإقصاء) و (الأثرة) و (السلطوية) و (المصادرة)و (الماضوية) و (الرجعية)، يسفِّهون ذوي الأحلام، ويجهلون ذوي الأفهام، ولا يملكون أدنى حد من أدبيات الحوار. وما علموا أن لكل حضارة ثوابتها ومتغيراتها ومحظوراتها ومباحاتها، وأن لكل حضارة مساحة مشتركة تتداخل فيها مع الحضارات الأخرى، وتمكن المستشرفين للمستقبل من الاشتغال في مساحات التقارب والتحاور والتلاقح والتقارض، وأن هناك حضارة ومدنية وعلماً وفناً وفكراً. وأن الحضارات تشترك في المدنية والعلم وفي شيء مما سواهما، فيما تبقى الخصوصيات في الفكر والفن، والتباين في العقائد والعبادات والمعاملات. وما علموا أن الحضارة لا تكون إلا حيث تكون المغايرة، وليس شرطها الصدام ولا الوئام، وليس من مقتضيات أي حضارة سرمدية التعايش والتصالح، فالصراع أكسير الحياة، وتلك الأيام يداولها الله بين الناس. ومتى أمكن السلام فلا مكان لغيره. ومن الفجيعة والخديعة أن ندع العلم التجريبي، والتقنية المتطورة، وإعداد المستطاع من القوة الرادعة، ونتلقى فيوض الآداب والأفكار والسلوكيات. وما مثلنا في هذا التناقض العجيب إلا كمثل من يأكل إذا عري، ويلبس إذا جاع. وما ترانا في أسواقنا وبيوتنا إلا مقلدين مستهلكين.
والذين يلوون ألسنتهم بالمقولات المستفزة في الفكر والأدب والسياسة يدعون أنها من عند أنفسهم، وما هي إلا ناتج اختلاس غبي وحديث في المسكوت عنه عفة أو حرمة ليكونوا بهذا الاستدعاء أصداء باهتة ممجوجة لطائفة من المفكرين المعاصرين الذين بنوا أمجادهم على أشلاء أمتهم، حتى لكأنك تستذكر بمقولات من لا يستحون ما كان قد قاله من قبل (الجابري) في مشروعه عن العقل العربي، في تكوينه وفي بنيته أو في كتابيه : (إشكاليات الفكر العربي المعاصر)و (الخطاب العربي المعاصر)، أو ما قاله (العروي)في مشروعه عن مفهوم الدولة والحرية والقومية، أو ما قاله (حرب) في نقده لمجمل الخطابات، أو ما قاله (العالم) أو (حنفي) أو (غلوم) أو (الأخضر) أو (حسين أمين) في كثير من قضايا الأمة بغياً وعدوانا، ودعك من أساطين الحداثوية ك (أدونيس) و (أبي زيد) ممن لهم وعليهم، أو ممن عليهم وليس لهم. وحتى بعض هؤلاء ترى فيهم ملامح (طه حسين) في منهج الشك ومستقبل الثقافة، وضغائن (سلامة موسى) في صليبياته الحاقدة، وانفلات (قاسم أمين) في اجتماعياته، وعمالة (عبدالرازق) في سياسياته، وضلالات (أبي ريه) في ظلماته، وماركسيات (خليل عبدالكريم) في تاريخياته. وليس لأحد من أولئك الأغيلمة إضافة ولا مبادرة ولا استقلال، ولا أخذ محكم لا يتجاوز التناص إلى الاختلاس. ولا ينخدع بالمختلسين إلا الذين قصرت أخادعهم وخطواتهم عن أن يلحقوا بأساطين الفكر الإسلامي الأصيل أو يطاولوهم، ولما يعرفوا رموز الفكر المنحرف، وأساطين الحداثة الفكرية، وفلول الوجودية والماركسية، وبقايا الصليبية الحاقدة. وما أتاح لهؤلاء المتذوقين فرص الركض في فجاج الفكر والسياسة والدين إلا مثقفو السماع الذين لم يؤصلوا لمعارفهم، ولم يحرروا مسائلهم. والمؤسسات الثقافية والإعلامية بحاجة إلى مفكرين خبروا دواخل الفكر المادي ومنطلقاته، وعرفوا غثه وسمينه، وتابعوا استدعاءاته ومبادراته، ليأخذوا بحجز المتهافتين قبل أن تعريهم المشاهد، وينبذهم الرأي العام، وتخسرهم أمتهم. فكم من طُلعة توسم فيه المتابعون الخير، تقحم الحمى، فكان أن شاهت ملامحه. وكم من مجازف أوغل في النَّيل من رموز الفكر، فأدان نفسه، وأطفأ وهجه، وكم من متجرىء على المقدسات والمنزَّهات والقطعيات أردته جرأته، فعاش ذلة الخوف والهجر، وانطوى على نفسه.
والتعديات السافرة على فكر الأمة وعلمائها الذين أجمع السلف والخلف على عراقة أقدامهم في العلم وسلامة مقاصدهم، لا ترضي إلا مرضى القلوب. وصلاح الأمة وإصلاحها في تجديد خطابها والأخذ بأسباب الحضارة والمدنية ومراجعة المنجزات الفكرية لا تقتضي الإيغال في التجريح، ولا الإمعان في السخرية، والأمة بحاجة إلى من يحميها من دخن الفتن، لا إلى من ينبش عفن التاريخ، ويحيل ضعفها إلى ماضيها. ولا يتحقق ذلك إلا بالوعي، والوعي يتحقق بفقه القضايا، وفقه الواقع، وفقه الأولويات. فلا يكون حكم إلا بعد تصور، ولا تكون رؤية إلا بمعْرفة قَدْر، ولا يكون أداء إلا بترتيب المهمات. وقادة الفكر ورواد النهضة وزعماء الإصلاح سبقوا إلى التفقه قبل التسود، ولقد قالها عمر: تفقهوا قبل أن تسودوا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:38 PM   #9
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
عندما نفجع بالنخبة أو نخدع بالمتنخوبين..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كانت الأمة قد تأذت من البغاة المفسدين في الأرض، فإنها متأذية- ولا شك- من حملة الأقلام الذين يتخذون المضلِّين عضداً، وأكثر تأذياً من المتنطعين الهالكين المميتين للدين، وانحراف الفكر أخطر من انحراف الفعل، ذلك أن فلول الإرهاب تموت بموتهم ضغائنهم وأفعالهم المستنكرة، أما أصحاب الفكر المنحرف فزهاق أنفسهم لا يمتد إلى ما خلفوه من آراء وتصورات ومواقف، و (الكلمة) و (الرصاصة) تنطلقان: هذه من فوهات البنادق، وتلك من أفواه الأناسي، فإن أصابت الرصاصة هدفها آذت، وإلا ضاعت في التراب، أما الكلمة فهي باقية ما بقي الكتاب.
وما من إرهاب مسلح، إلا وله حواضنه ومنطلقاته: الدينية الغالية، أو العلمانية المتطرفة، أو الفكرية المنحرفة، أو الثورية الطائشة، أو اللعب الماكرة.
وحسبك داءً ما ترى الأمة عليه في الراهن، وفيما هو آت من فتن تموج كموج البحر، مما يهدد أمنها ووحدتها: الوطنية والفكرية. وكيف لا يخيف الواقع و(الفتيا) وهي آلية دينية ضرورية كادت تكون مصدر التضليل والتأزيم، وحلقات الدرس ومجالس الذكر خيف من عقابيلها، وكما ارتاب الناصحون من التجمعات التي لا يرقبها راسخ في العلم، وقاف عند الحدود، مدرك للمقاصد، يفقه الواقع، ويختار أيسر الأمرين. وحتى كاد يقع في مشاهد الفكر ما وقع فيه اليونانيون مع آلهتهم، يقدسونها في طقوسهم، ويسخرون منها في تمثيلهم، وذلك ما وقع فيه مردة الروائيين الذين وتَّروا أعصاب الغيورين. وما من متعالم حدث إلا يعد نفسه ابن بجدة: الدين والفكر والسياسة. ولم يعد غريباً أن نرى قارئاً يتهجى أبجديات المعارف، تستزله الدهماء بالمكاء والتصدية، بحيث لا يجد حرجاً من القول في القضايا المصيرية بما لم يأذن به الله. وإذا قيل لهم: - ليس هذا العش عشكم فأدرجوا، لاذوا بدعوى التعبير وحق المشاركة. وما عرفنا في تاريخنا الفكري والسياسي أن الناس سواسية إلا في الحقوق والواجبات. أما في المسؤوليات فإن لكل مجالٍ رجاله، وأما في التخصصات فإن لكل علم أهله، وآيات نفور الطوائف وسؤال أهل الذكر، والنهي عن قفو ما ليس للإنسان به علم ضوابط ومعالم، نسيها الناس فنسيهم السداد والتوفيق.
وأخطر ما تواجهه الأمة الفهم السقيم ل (الحرية) و (التسامح) و (الاجتهاد) و (الوسطية)، و (سد الذرائع) و (درء المفاسد)، ولقد أشرنا لهذه النقائص أكثر من مرة، لكونها مصدر كل انحراف. فكل متقول أو متأول أو متفسخ يحيل إلى حقه في حرية القول والفعل والاجتهاد وفُسح التسامح. ولو سألته عن: حدود الحرية، وشرط الاجتهاد، ومفهوم الوسطية، لم يحر جواباً. وأكاد أصاب بالغثيان حين تجمعني الظروف السيئة بطائفة من المتصدرين للقول في الشأن الديني والفكري والسياسي، ثم أنزلق من حيث لا أريد بمجادلتهم حول بعض القضايا المتعلقة بحرية التعبير، وحق القول في الشأن السياسي أو الديني. وكيف يتصور الإنسان نفسه تصوراً صائباً، وهو يتقحم كل جدل، ويقول في كل قضية، ويحكِّم نفسه في كل مسألة، يكون فقيهاً وعالماً وسياسياً ومفكراً في آن، وكأن الله قد جمع فيه كل شيء، حتى صار من آياته الكبرى.
ومما يؤذي المتأنين والمتثبتين أحداث مبتدئون، يبتسرون الأحداث من سياقاتها، ثم يلوون ألسنتهم بالقول فيها بمعزل عن ظروفها. أو ينظرون إلى الحدث الإقليمي الآني المعروف بكل ملابساته نظرة تعميمية، لا تشفي نفساً، ولا تبرىء سقماً، وقد يجنحون من التحديد إلى التمييع، ومن الحكم الناجز إلى الوعظية المترددة، مستبعدين احتمالات اللعب السياسية، والغزو والتآمر، مؤكدين على إدانة الذات، وتزكية الآخر، والثناء عليه، والتصديق بدعوى تحرير الشعوب، وجلب الديمقراطية، وإصلاح البيت العربي. ومعولهم في كل ذلك فيوض الإعلام، والمتداول من الدعاوى الزائفة. وما يدري أولئك أن ما يقال في العلن، يختلف عما يدور في (اللوبيات) وما يدار وراء (الكواليس). وما علموا أن ما تنطوي عليه الوثائق السرية نقيض ما تفضي به اللقاءات والمؤتمرات. وكل فعل متقنع بزيف الادعاء تمتد عروقه إلى طينة اخبال، طينة السياسة. وتاريخ الاستعمار الحديث لم يدع رذيلة إلا كان له منها أوفى نصيب، ومهما تعددت المسميات فإن الاستعمار واحد، وما الدول الكبرى في تبادل الأدوار إلا كمثل المصارعة الثلاثية أو الرباعية، يجول اللاعب حتى تنهكه اللكمات، فيلامس كف صاحبه، ليقفز إلى الحلبة مسدداً الضربات إلى الضعفاء والمساكين من أبناء العالم الثالث. وكم تجرع عالمنا المنهك بفعل أبنائه مرارات الاستعمار التقليدي الغابر، وها هو اليوم يسفُّ المل من جولة جديدة، ومن يدري فقد تتلقف (الصين) الراية من بعد، فقضاء العالم العربي أن يظل مسلوقاً بألسنة ابنائه الحداد، مثخناً بتداعي آلية المستعمر عليه بحيث أصبح إنسانه هدفاً وأرضه ميداناً ومقدراته فيئاً، فكأنه طريدة لذاته ولغيره. وليس التناوش بالكلمات أقلَّ خطراً من التناوش بالسلاح، والمتداول في مشاهد الإعلام وميض نار قد يكون لها ضرام.
ومصائب الأمة تتداعى عليها، كما القصعة والأكلة، وأغيلمتها كما (براقش) التي تجني على أهلها. وليست مصائب الأمة قصراً على المتعلمنين والمتحدثنين و (المتردكلين) وإنما هي من هؤلاء، ومن كل متطرف موغل في انتمائه بغير رفيق، متعصب لمذهبه دون موارية متعنصر لعرقه دون تواضع. والمتقصي لتاريخ الملل والنحل وسير أعلام النبلاء عبر التاريخ الحضاري للإنسانية كافة يقف على محطات بلغت فيها الحدة والحدية أقصى حالات التوتر.وما من متابع حصيف ينكر أن طائفة من (الإسلامويين) يستمرئون الحجر على التفكير، ويتعشقون التضييق على الخلق، بدعوى (السَّدِّ) و (الدرء)و (التورع). وإذا كنا نتأذى ممن يحيلون إلى النص الإسلامي المبتسر أو المؤول على غير مراد المشرِّع فإننا لا نقبل ردور الفعل التي تذر الإسلام كالمعلقة باسم الحرية والتسامح، او تأخذه بجريرة المسلم الذي لم يفهمه على مراد الله. وما نسمعه من امتعاض واتهام للإسلام ومنظماته ومؤسساته ينذر بخطر يتربص بالأمة، فاستدعاء الإسلاميين ومناهجهم ومنظماتهم وروابطهم وجمعياتهم عند كل خطأ أو خطيئة انتهاز دنيء للفرص، ومسايرة غبية للمتماكرين، ومزايدة رخيصة. والمنصف من يحاسب كل الأطراف: إسلامية كانت أو غير إسلامية، فكرية أو سياسية، اجتماعية أو أدبية (مؤدلجة)، ومن لا تأخذه بالحق لومة لائم. فالأمة مطعونة بمدى أبنائها: المتأسلمين والمتعلمنين والمتحدثنين، وبمدى أعدائها المتغطرسين على حد سواء. ولا يقيل عثرها إلا العقلاء المنصفون الواثقون بنصر الله، الذين يملكون الشجاعة والإرادة لقول ما لهم وما عليهم، ولا يخافون من النقد الذاتي ولا من محاسبة النفس.
وكل معجب برأيه، متخذ إلهه هواه، قاطع بصحة ما يقول وخطأ ما يقوله غيره، لا يزيد الوضع إلا سوءاً وتعقيداً، وهذا ما نراه ونسمعه ممن ينهون عن السوء ويقترفونه، ويدعون إلى الحوار الحضاري ثم لا يحسنونه. وحاجة الأمة إلى علماء متبحرين، ومفكرين متمرسين، وساسة معتدلين، يحقون الحق بالرفق واللين، ويجادلون، أو يدفعون بالتي هي أحسن، ينشدون الحق، ولا تعنيهم الغلبة. ومن أراد الانتصار على غيره، وأخذته العزة بالإثم، فحسبه مزبلة التاريخ. وما أكثر المحتدمين والحديين الذين يعدُّون أنفسهم كما الرعاة الذين لا يتحرجون من أن يهشوا بعصيهم الخاصة والعامة، وكأنهم أوباش لا تكفيهم الإشارة، بل لا بد من أن يضربوا بالعصاء. ومع إسرافهم في جلد الذات يرمون الآخرين بدائهم، ومن المقت الكبير أن تنقم من غيرك ما تفعل، تدعو إلى الحرية ولا تمنحها، وتطالب بأدبيات الحوار ولا تتحلى بها، وتخطىء المُقْصين والمهمشين، ثم لا تجد حرجاً في إقصاء المخالف وتهميشه.
وطالب الحق يفتح أبوابه ونوافذه، يحترم التعددية واختلاف التنوع، ويقول لكل صاحب قضية يتفق معه في الحضارة والمرجعية: - هلم إلى المحجة البيضاء، نرد إليها، ثم لا تكون لنا الخيرة بعد قضائها. ويقول لكل صاحب قضية يختلف معه في الحضارة والمرجعية، ثم لا يؤدي الاختلاف إلى قتال ولا إلى إخراج من ديار ولا إلى مظاهرة: - لكم دينكم ولي دين. وإذ لم يفرط الله في الكتاب من شيء، فقد وضع معالم في الطريق إليه. فعند الاختلاف في قضايا الفكر والدين أوجب الرد إليه وإلى رسوله، وقال وقوله الحق: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} ولم يقل: كما ترى أو كما تهوى. وفيما يتعلق بأمور الدنيا جعل الرد إلى الأدرى بأمورها، وفق المقاصد الإسلامية. ومتى انبهمت الأمور جاء التوجيه الرباني: - {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}. ولا يستقيم أمر الفكر والدين والسياسة إلا بالاتفاق على المنهج والآلة والمرجعية. وحوار الطرشان الذي نعيشه في كافة المشاهد مردُّه إلى الدخول في حلبة الصراع بعواطف جياشة، وبضاعة مزجاة، وادعاء عريض، وتعالق متناقض، واعتماد على الجاهزيات. والمتقصي للمتصدرين ممن عَدَت عيونهم للأضواء، لا يراهم إلا نقلة لا يحسنون الانتقاء، ولجوجين لا يحسنون إلا الضوضاء. وإذا توفر القوي الأمين على فضلة من الجهد والوقت والرغبة وفكك مقولاتهم، وجدها عبارات مبتسرة من مقروء آني. ف (الأحداث) يبيتون ليلهم يقرؤون في كتب الفكر الحديث، حتى إذ أشرقت الشمس بنور ربها، أطلقوا العنان لأقلامهم، لتعيد إلى الناس ما كنوا قد قرؤوه، ولم يفهموه.
فالذين يطالبون بحرية المرأة وعملها وحقها- على سبيل المثال- لا يضعون أي ضابط، ولا يحيلون إلى أية نحلة. ولو قلت لهم: هلموا إلى ضابط الإسلام، لقال قائلهم:- من هنا أتيت المرأة. فكيف نقبل ب (القرار) و (الحجاب) و (القوامة) و (التعدد) و (الإشهاد) و (الإرث) و (نقص العقل والدين) و (الضلع الأعوج) و (الهجر) و (الضرب) و (الرجم) و (المُحرَم) و (الولي).
وإذا تحفظت على تهافتهم على التجربة الغربية، قالوا : - وماذا في التجربة الغربية، لقد تصدروا العالم، واسترهبوهم، وجاؤوا بعلم عظيم، وكأن الكاسية العارية المائلة المميلة هي التي أنجزت العلم والحضارة. لقد غفلوا أو تغافلوا عن امتياز كل حضارة، وعن قدر التفاعل بينهما، وعما يجوز أخذه. ومن سلم للقطيعة كمن سلم للخلطة، وما أردى الأمة في مهاوي الهلكة إلا الإفراط أو التفريط، وإلا الحدية أو الاحتدام. وليست (قضية المرأة) التي اختلف الصحابة حولها، ولما تزل في اتساع وتعقد هي القضية المستباحة، فكل قضايا الأمة مستباحة، يقول فيها الجهلة والمبتدئون، وكل متحدث يحيل إلى الحق والحرية.
وليس بمستغرب أن نصاب بالغثيان من أغيلمة طالت أذيتها سلف الأمة وعلماءها، دون تحديد للمؤاخذة، أو مناقشة علمية لأوجه المخالفة، وما كنا ممتعضين من قراءة التراث، ولا متخوفين من عنصرة الخطاب، ولا رادين عن مراجعة المنجز العلمي. فكل الناس خطاؤون، ورحم الله من تدارك على العلماء أخطاءهم، وحرر الراجح من الأقوال، وتخوفنا ممن يترسمون خطى الكنسيين في الهيمنة أو خطى المصلحين في العلمنة. والمؤسف أن المستفزين للرأي العام يجدون من يستقطبهم من صحف الإثارة وقنوات الضرار والإضرار. والأدهى والأمر أن المحيلين إلى تجربة الغرب يمجدون عدله، ويتغنون بحريته، ويتباهون بتحضره، ويجرمون مقاومته، ويمتعضون من رفض احتلاله، ويسفهون المتحفظين على أهدافه ونواياه، على الرغم من أنهم يتجرعون مرارة ظلمه وعدوانه وإفساده، ومكمن فساد رؤيتهم انهم يخلطون بين مبلغه من العلم التجريبي وما يوفره لذويه من حرية وعدل ومساواة، وما هو عليه من فساد في الأخلاق، وانحراف في الفكر، واحتقار لغير إنسانه، وتعد على حقوق الغير، وظلم وإفساد، والله لا يحب الفساد، وينهي عن التظالم. ولو فصلوا القول، وعرفوا ما له وما عليه، لكان خيراً لهم. وإذا كانوا يدينون التاريخ الفكري الإسلامي أو السياسي بسبب وقوعات وأحداث عارضة، فإننا نقدمهم في ذلك، وما نبرىء تاريخ المسلمين من تجاوزات وإخفاقات لا تحتمل. ولو أنهم قاربوا الصواب وتمثلوا المقاصد، لما آلت أحوال الأمة إلى هذا الوضع، ومن العدل تعقب الحضارة المهيمنة واستقراؤها بما هي عليه من مبادىء منحرفة، وتعد سافر وتسلط جائر، وبغي عنيف. وليس ما يفعله الغرب من الوقوعات الخاطئة، ولكنه من أجل المصالح الجائرة، إن هناك فرقاً يجهله أو يتجاهله البعض بين (فساد المبدأ) و(خطأ التطبيق). فتاريخ المسلمين مليء بالوقوعات الخاطئة التي لا تتحملها المبادىء الإسلامية، فيما نجد أن المبادىء الغربية تفرز الأخطاء والتجاوزات، وليس أدل على ذلك من التعديات المتعمدة على القيم والمبادىء الإنسانية، وهي تعديات لا تحال إلى أخطاء الممارسة، وإنما هي متطلبات (استراتيجية)، وما عذابات الشعوب الإسلامية إلا شاهد إثبات لمن ألقى السمع وهو شهيد. وإذا أباح البعض لنفسه استدعاء حادث قتل أو جور أو سوء تصرف في التاريخ الإسلامي، وتلك أحداث قد لا نعرف أسبابها وملابساتها- والتاريخ كما نعلم لا يكتبه إلا المنتصر- فلماذا لا يمتعض أولئك من القتل الحي الحاضر المرصود بالصوت والصورة، مما يتعرض له العلماء والقادة الأبرياء من شيوخ وأطفال ونساء. وهل من بشاعة ووحشية وإذلال يعدل حصد الأسر الهاربة من لهيب القصف العشوائي؟ وكم من أسْرة ذاهلة إذا اقتربت من المنافذ أمْطرها المدججون بالسلاح بوابل من الرصاص.
وأي بشاعة ووحشية تعدل ذلك؟ ودعك من تعذيب الأسرى والمساجين، مما اعترف به المقترفون. فأين هؤلاء من هذه الأحداث؟ لقد قتل في شهر واحد ألف عراقي، وجرح أربعة آلاف، وكأن الشهداء المقتولين دون أموالهم وأعراضهم ووطنهم حشرات تساقطوا بفعل المبيدات. فأين الأغيلمة المتمردون على الشقاق من هذه الوحشية؟ وهل استدعاء مأساة الحلاج عند (عبد الصبور) وقتل الجعد عن غيره وليدة صدفة أم هي تشويه للإسلام بالإنابة؟.
ومن حقنا التساؤل عن استمراء النيل من عظماء التاريخ الإسلامي من علماء وقادة ومفكرين استناداً إلى مقولات احتمالية الثبوت، فيما يغض الطرف عن وقوعات حية قطعية الثبوت، يذل فيها أهل الطاعة، ويعز فيها أهل المعصية. إنها حرب القلم، وتلك حرب السلاح. وما هُدّت الحصون والأسوار بالمدافع، وإنما هدمت بأقلام الواقعين تحت طائلة التساؤلات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:40 PM   #10
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
النقاد حاضرون في مشهدهم..!
د. حسن بن فهد الهويمل


يثار بين الحين والآخر تساؤل عاتب عن غياب النقاد أو تخاذلهم في تلقي الإبداعات: الشعرية والسردية -المحلية على الأقل-. وقد يستدعي المثيرون نقاداً بأعيانهم، وقد يُضرب المثل بشعراء بأسمائهم، وليس هناك ما يمنع من مثل هذه الإثارات، غير أن بعض المثيرين يحيل إلى أسباب واهية. وعثرات المشاهد من الإطلاقات والتعميمات، ومن السهل أن يقول الكاتب ما يعن له، ولكن من الصعب الإتيان بالبراهين. ومما هو في هذا الصدد ما أثير من قبل على صفحات (المجلة الثقافية) 22-2-1425هـ الملحقة (بجريدة الجزيرة)، من أن المشهد النقدي متلفع بالصمت لأنه لم يفِ بحق شاعر كبير كالدكتور (عبدالرحمن العشماوي). والمحفز للحديث استدعاني من بين من يلام، بوصفي أنموذج المقصرين بحق من لا يستحق التقصير. وكأني عاقلة النقد، وحمَّال التقصير النقدي، وكأن أمر المشهد لن يستقيم حتى أثير عجاجته، وألزَّ في مضاميره، وليس فيما اقول امتعاض ولا استياء، ولكنه محاولة لدفع الالتباس، والحد من الإطلاقات التي تنحي باللائمة على سائر النقاد، وتصف المشهد بالتصوح، وقد تنفي وجود نقد متكافئ مع الإبداعات. ومعاناة المشاهد من هذه التعميمات التي لا يلقى لها المعنيون بالاً لفقدها الموضوعية، نقرؤها مكتوبة في الصحف والمجلات، ونسمعها أحاديث يتفوه بها المحاورون عبر الإذاعات والقنوات. ومثل هذه الإطلاقات تثبط العزائم، ولا تحيي موات النقد، وقلَّما تكون كالرياح اللواقح. وإذ أشكر للمستدعي ثناءه وتلطفه بالمؤاخذة، وتوسمه بي خيراً، أحب أن أطمئنه بأن النقد المحلي بخير، وأن الدراسات النقدية تكتنف الظواهر الأدبية والأعمال الإبداعية من كل جانب، وأن شاعراً مثل (العشماوي) يعيش حضوراً يليق بمثله، وليس بحاجة إلى من يقدمه إلى الجمهور. ولقد ذكرني ذلك بمقولة أحد الشعراء، وأحسبه (الصافي النجفي) حين لم يشأ تقديم ديوانه بالأسلوب المتعارف عليه، وإنما سماه (التيار) وكتب في مستهله:- (مقدمة التيار ما سوف يجرف).
وحين لا يمارس المشهد النقدي الاحتفالية بشعر شاعر ك (العشماوي) بالقدر الذي يتطلع إليه المعجبون به، فليس معنى هذا أنه لايستحق ذلك، ولا أن النقاد يرون شعره دون المستوى المطلوب، ولا أن النقد لم يكن حاضر المشهد. وإشارة المعاتب إلى قولي في تسجيلات (أحد) بخصوص موقفي من الشاعر إشارة مبتسرة. فالشاعر حين يفوق الشعراء ببعض خصائص الشعر ومقوماته، فإن هذا لا يمنع من توقع الاختلاف معه حول السمات:اللغوية والفنية والدلالية. وليس شرطاً أن يكون هذا الاختلاف ناتج ضعف أو تقصير، إذ ربما يكون ناتج تباين في الذوائق والانطباعات والرغبات، وتفاوتاً في سلم الأولويات عند المتلقي. فعشاق الهمس يعيبون الخطابية، وطلاب اللمحات يمتعضون من البسط، وهواة الغموض يضيقون ذرعاً بالمباشرة. ودعاة الفن للفن لا يقبلون خدمة الحياة والعقيدة، والذاتيون لا يرحِّبون بالغيرية، ولا يقبلون شعر المناسبات، والحالمون المسترخون على الأنغام الهادئة لا تطربهم الصلصلة ولا الجلبة، وإنما يميلون إلى الإيحاء الذي يدب في الأوصال كالخدر، والذين يرون الشعر إنشاداً يطلبونه عالي النبرة، وطوائف أخرى تراه مجازاً وإيجازاً وانزياحاً، وآخرون من المتلقين يرونه بسطاً وإيضاحاً. ودعك من الاختلاف حول الوظائف والمهمات والأشكال والمباني والموضوعات والمعاني. ولكل مورد وُرَّاده، فلا تسأل الناس عن ذوائقهم. وما من شاعرٍ سلَّم له النقاد، وما من شاعرٍ عظيم إلا وكان مصدر عظمته اختلاف الناس حوله.
ولقد كان من عادتي اصطحاب بعض الدواوين الشعرية كي أتخفف بقراءتها من عناء المغالبة لكتب الفكر والفلسفة، فكان أن صحبت في وقت واحد (إبراهيم ناجي) و (بدوي الجبل) وإذ لا يختلف أحد حول تألق الشاعرين، فقد وجدت (إبراهيم ناجي) شاعر مقطعات، و(بدوي الجبل) شاعر مطولات، وأحسست أن الشاعرين مأخوذان بهذه السمات، على الرغم من تألقهما. وما أحد لاقى من الإطالة والبسط بقدر ما ألاقيه من امتعاض، ومع ذلك لا أجد غضاضة من معايشة أصحاب المطولات: المتقدمين منهم ك (ابن الرومي) و(أبي العتاهية) والمتأخرين ك (الفقي) و(الأميري) و(بدوي الجبل). ودعك من هؤلاء وأولئك، وانظر إلى (المتنبي) في عصور الازدهار، وإلى (شوقي) في عصر النهضة، ينام أحدهما عن شوارد شعره، ليسهر الناس جراها ويختصموا، فيما يجزع الآخر، ويستعدي (القصر) على خصوم شعره. لقد بالغ خصومهما في النقد حتى كادوا يبلغون نفي الشاعرية عنهما، كما لقي (المتنبي) من العنف والحسد ما لم يلقه شاعر من قبل أو من بعد، وما قصر في المنافحة عن أصالة شعره، حتى لقد استنجد ب(سيف الدولة) ولما لما ينتصر له عاتبه عتاباً مؤلماً،
ولم يجد بداً من مفارقته وهو يردد:-
(إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم).
والذين قادوا الحملة ضده من عمالقة الشعر وأساطين النقد، والذين نافحوا عنه كذلك، ومن ثم لا نعرف الصادق من الكاذب. وحكاية (المتنبي) مع النقاد والنحاة والشراح حكاية لا تنتهي.
وهذا (أبو تمام) من قبلهم سن في الشعر ما لم يأذن به النقاد الذين عرفوا الشعر على غير ما جاء به، فناصبوه العداء، ونفوا الشاعرية عنه، ووجد النقاد الحداثويون المحدثون سبيلاً إلى توهين الخصوم، وذلك بجعل مواجهته مثلاً لكل متحفظ على التجديد، والصراع مع الحداثة ليس مرتبطاً بالتجديد، وإنما هو صراع فكري خالص، وقد نعود إلى مثل هذا الالتفاف الغبي. والنقاد الحكميون شاعت مقولاتهم، واتخذها البعض قضايا مسلمة، مثل مقولة: (المتنبي، وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري) ولو مضينا مع جاهزيات الأحكام لخرج من مشهد الشعر كل الشعراء، وبقيت سوحه خالية، ومع ذلك ظل كل واحد ممن نفي من مملكة الشعر كأنه علم في رأسه نار. وما انصرف النقاد إلا عمن لم يجدوا فيه إثارةً أو خروجاً على السوائد والمألوفات، وما أكثر الذين يعبرون الساحة لا لهم ولا عليهم.
وأود في ضجة القول المتناقض طمأنة المتخوف على مكانة شاعره الذي ملأ عليه أقطار نفسه، ان شاعره يحتل في المشهد وفي النفوس ما يليق بمثله، وانه يعيش حضوراً استنه لنفسه، ولم يكن كأصحاب التشايل والتنافخ، ممن تبدو محاولاتهم الفجة تحت الأضواء كأسوأ ما يكون الشعر، حتى لقد تمنوا أنهم ما دفعوا بأنفسهم، ولا دفع بهم غيرهم. فأين هم الآن؟ لقد ذرتهم رياح الحقائق، كما ورق الخريف. ومع تثبيطي لهمة المتسائل فإنني لو وجدت فسحة من الجهد والوقت لتعمدت الاختلاف مع الشعراء الذين ملكوا ناصية الشعر بما توفروا عليه من شرفٍ في اللفظ وشرفٍ في المعنى. ولما استدعيت محاسنهم البادية للعيان، وإنما نقبت عن مثالب شعرهم، وجميل جداً أن أختلف مع شاعر بوزن (العشماوي)، فالأصالة ليست وقفاً على الثناء الزائف، وتثبيت الأقدام لا يكون بالإعجاب وحده، ولقد قيل:-
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
فكم أود لو أن النقاد أشعلوا النار من تحت أقدام الشعراء الذين نواليهم، لينتشر عبقهم، فما ثبتت ظواهر ولا مذهب إلا بفعل الخصوم. لقد ظل (شوقي) شاعراً لا يثير، يوم أن كان (شاعر القصر)، ويوم أن حشدت له حاشية القصر الشعراء والكتاب من كافة أنحاء الوطن العربي ليجعلوه أمير الشعراء، ويوم أن عمل القصر على إنشاء (جماعة أبوللو) لتكون في وجه (مدرسة الديوان)، ويوم أن قال حافظ:-
(أمير القوافي قد أتيت مبايعاً
وهذي وفود الشعر قد بايعت معي
وهو حقيق بالإمارة، وإن غضب الشاعر والأديب معالي الدكتور(غازي القصيبي) الذي ملك عليه (المتنبي) نفسه وذوقه واحتل ذاكرته. وإذا كنا نقبل بإمارة شوقي فإننا لا نمانع من (إمبراطورية) (المتنبي). وشوقي المتألق بفنه أعشاه الثناء عن هنات شعره، فما كان يسمع إلا المكاء والتصدية. وحين تلَّه (عباس محمود العقاد) للجبين، وقسا في نقده، وتجاوز الحد في ذلك، تدارك أمره، وراجع شعره، ونفى منه أضعاف ما أخرج للناس، حتى جاء من ينقب في الصحف والمجلات ليخرج (الشوقيات المجهولة) وبعد تعهده لشعره ما كان من الناس المحبين والناقمين إلا أن وقفوا، لينظروا كيف يبني قواعد الشعر وحده، على حد قول الشاعر عن قومه:-
(وقف الناس ينظرون جميعاً
كيف أبني قواعد المجد وحدي)
ومضت دواوين العقاد الأحد عشر دون ذكر، فيما بقي شوقي شاعر العروبة والإسلام. لقد كان من الشعراء الأفذاذ، وكان (العقاد) من المفكرين والنقاد الأفذاذ، فما زاد الجور شوقياً إلا شيوعاً وتجذراً، وما زاد العنف العقاد إلا حضوراً وتألقاً، مع أن (العقاد) متحامل على (شوقي) وحجته داحضة. وقليل عندي من يعدل (شوقياً) باستثناء (المتنبي)، ولا أحسب أحداً من المفكرين يعدل العقاد.
وإذا كان المحب المعجب ب(العشماوي) يحسب أنه بحاجة إلى من يقدمه بالثناء إلى المشاهد فإنه يظلمه، ويظلم شعره. وحين لا يختلف المتلقون مع الشعراء تخمل سوح النقد، وتكسد سوقهم، وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً، بل لا تراهم إلا مفتعلين للقول، وجميل أن يبدئ النقاد ويعيدوا، وعلى المترددين أن ينظروا إلى المدارس النقدية والمذاهب الأدبية التي خلفها خصوم (أبي تمام) و(المتنبي)، لقد كان الاختلاف معهم سبباً في نشوء مذاهب نقدية، ولو سلَّم الناس لهما لما عُرفا إلا من خلال أعمالهم الشعرية وحسب. وما من شاعرٍ مرَّ به النقاد مرور الكرام أو سلموا له إلا كان أقرب إلى الانطفاء. وخمول المشاهد ناتج التسليم، وثراؤها ناتج الاختلاف المحكوم بضوابطه ودواعيه وتميز نقاده وشعرائه. وكل مضطلع بمهمة النقد يجد ما يلوم عليه، على حد:- (من نوقش الحساب عذب) والإعجاب لا يعشي العيون، وعداوة الشعراء في الراهن ليست بئس المقتنى، فما عاد الشاعر قادراً على الدفاع عن نفسه بشعره، وتقديراً للعتاب الرقيق من الأخ (فيصل العبودي)، سوف أغالب ظروفي، وأقرأ شعر العشماوي ناقداً لا متمتعاً، وأصدقكم القول فما من صعوبة تعادل صعوبة النقد لمن يملؤك حباً وإعجاباً، لأنك كلما أوغلت في الثناء، أحسست أنك تبتعد عن الموضوعية، وكلما تخلصت من عواطفك أحسست أنك تصَّعَّد في السماء. وقد صدقت الإعرابية التي سئلت عن:- أي أبنائها أفضل؟ فجالت بنظرها في خفايا خصالهم ثم قالت:- (ثكلتهم إن كنت أعرف، إنهم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها).
وهكذا أنا مع طائفة من الشعراء السعوديين، فالحب قد يعمي ويصم، ولا أريد لأحد منهم، ولا لنفسي أن نتبادل أنخاب الثناء على حساب رسالة النقد. والتقريظ المجامل يضر بالشاعر، وما عهدنا أنفسنا مدَّاحين ولا متشايلين، وهل نفع المتذيلين للحداثة زائف المدح. لقد صدرت كتب بحالها، تتناول قصيدة واحدة لشاعر حداثي، ربما كان أغنى الشعراء عن مثل ذلك، ومع ذلك ظل كما هو في عيون المنصفين، وبعض المتعملقين على أكتاف المجاملات الزائفة ظلوا نكرات، وظل شعرهم كسقط المتاع. وحين يستعد الناقد الذي يحترم نفسه وقراءه للدخول في عالم شاعر ك(العشماوي) فإن ذلك يتطلب التفرغ لقراءة أعماله كلها، ليقف على أنساقه الثقافية، وسياقاته الدلالية، وسماته اللغوية، وتشكيلاته الموسيقية. فما من شاعر إلا وله عوالمه الممتدة معه من أول بيت حتى آخر قصيدة. والمتابعون يعرفون أن إبداعاته تشكل أشواطاً دلالية، تواكب النوازل، وترصد لأحداث عربية وإسلامية، وتنافح عن قضايا أمة مستباحة، وترافع ضد الظلم والتسلط والاستبداد. إنه شاعر يطربني بإنشاده وهمه وسلاسة لغته ونقاء موسيقاه وانسيابية قافيته وثورة عواطفه واحتدام مشاعره. وقد أقول مثل ذلك من المآخذ، وأكون صادقاً في الأولى، وغير كاذب في الثانية، وكأني بصاحبنا المعنف للمشهد النقدي يستذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:- (إن من البيان لسحرا)، فلقد قالها في موقف كهذا، رضي المتحدث فقال أحسن ما يعرف، وسخط فقال أسوأ ما يعرف.
ومع كل ما سبق أعترف بكل مرارة أن مشاهدنا النقدية لم تفِ بما عليها إزاء المبدعين من الشعراء والسرديين، وإن وفت بما سوى ذلك، وأخاف أن نكون كمن لا يطربه زامر الحي. ولولا ما أخشاه من امتعاض البعض لسحبت البساط من تحت عشرات تعدهم المشاهد من الشعراء، ولكشفت عن سقطات لغوية ونحوية وصرفية وفنية ودلالية لا تُقْبل من السوقة. ولولا ما أخشاه من كشف عورات في الإبداعات السردية لزدت مئات القصاص والروائيين، وأعدتهم بمحاولاتهم الفجة إلى مقاعد الدراسة، وهم من هم عند أنفسهم وعند من لم يفرقوا بين القول والإبداع القولي، والنقد والنقاد مدانون حين يغمضون في الرديء أو حين يقولون كلمة زائفة تمنح الشاعرية لغير الشعراء والأدبية لغير المبدع السردي، وما أتيت المشاهد النقدية إلا من خلال المجاملات الزائفة والتنافخ الفارغ، أو من خلال كتبة يعدون أنفسهم نقاداً، وما النقد إلا موهبة وثقافة ودربة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:42 PM   #11
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
جامعة القصيم.. إياك أعني.. واسمعي يا جارة!
د. حسن بن فهد الهويمل


خطوات وئيدة, ولكنها ثابتة وقوية وقاصدة, خطاها التعليم الجامعي في القصيم.. كانت الخطوة الأولى يوم ان تم افتتاح فرع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية قبل ربع قرن, وكنت إذ ذاك مدرساً في التعليم العام, وشرفت بالتعاون مع الفرع, لإعطاء محاضرات عن (الأدب العربي في المملكة) فما كان حينذاك من المتعاقدين من يعرف شيئاً عنه, بل كان البعض منهم لا يصدق بوجوده، وكانت طائفة من أدبائنا مخدوعة بالقومية التي لا ترى الاقليمية ولا المواطنة القطرية, وترتاب من التجزيئية، الأمر الذي أضاع أدبنا المحلي في ضجة الآداب المحلية, حتى إذا بادرته الدراسات العليا, كان حضوره الذي يليق بمثله.. ولما حصلت على الدكتوراه بادرت الانتقال إلى كلية العلوم العربية والاجتماعية في الفرع, ولمَّا أزل بعد التقاعد استاذاً غير متفرغ للأدب الحديث, ممتعاً نفسي بالنظر إلى غراسي الذي أينع وأعطى ثماره.. وهل من فرحة تعدل فرحة الاستاذ, وهو يرى طلاب الأمس وزملاء اليوم من حملة الدكتوراه والماجستير, يمارسون التعليم, وينهضون بمهمات العمادات, ويؤثرون أساتذتهم, وهم من هم في علمهم وأخلاقهم، وما من أحد يرضى أو يسلم بتفوق أحد عليه إلا الآباء لأبنائهم، وإلا الأساتذة لطلابهم.
وجاءت الخطوة الثانية بافتتاح فرع ل(لجامعة الملك سعود).. ولما كان فرع جامعة الإمام يلحق بالأصل في اعتماد الكليات النظرية, اتخذت جامعة الملك سعود الجانب العلمي، وسار الفرعان جنباً إلى جنب في نمو مطرد, وتنافس شريف, وتنوع مطلوب.
وجاءت الخطوة الثالثة بشراء موقع الجامعة المرتقبة, والبدء في تنفيذ البنية التحتية, وبناء بعض الكليات والمعامل والمختبرات، وتلتها الخطوة الرابعة متمثلة بانشاء جامعة في القصيم, ليكون الفرعان نواة لها, واستبشر الناس, وانطوت مشاعرهم على فرحة غامرة بهذه المبادرات، ثم توجت تلك الخطوات بالخطوة الأهم, خطوة البدء الحقيقي, وذلك بتسمية الجامعة وتعيين مديرها.
نسبت الجامعة إلى الأرض التي منها خلقنا, وفيها نعود, ليكون رفاتنا بعض أديمها, أرض الخيرات والكفاءات, أرض السنبلة والنخلة والرمال والتلال, أرض البطولات في مرحلة تكوين هذا الكيان العزيز بقيادة الملك عبدالعزيز, الأرض التي تمثل واسطة العقد الأجمل, عقد البلاد الفريد بكل مقدساته ومناطقه ومدنه وقراه ورجالاته.. ثم وقع الاختيار لإدارة الجامعة على كفاءة علمية عملية, عركته التجارب الأكاديمية, وحنكته المسئوليات المتعاقبة من تدريس وعمادة ووكالة وأمانة, وتلك التقلبات مكنته من الدربة والدراية, وستمكنه من توظيف هذه المكتسبات لمزيد من النجاحات.. وتعويلنا على من بيده ملكوت كل شيء، ثم عليه وعلى كوكبة العاملين معه من أبناء الجامعتين الأساس.
وحين نستبشر بهاتين المبادرتين: مبادرة التسمية والتعيين, فإننا نتطلع إلى تحرف جديد, وتحيز مفيد, لتكون (جامعة القصيم) الأخيرة في الولادة السابقة في التحديث والتطوير, مبتدئة من حيث انتهت رصيفاتها.. فالعصر العصي لم يعد قابلاً للتردد أو التهيب أو النمطية, إنه عصر المبادرات والمفاجآت والمتغيرات, ومن هاب اقتحام العصرنة المتوازنة عاش دهره في المؤخرة, ومن لم يسدده تقديره الدقيق وتدبيره الحصيف قعد به تسويفه أو تاهت به مجازفاته.
وإذ واجهت مخرجات التعليم الجامعي بعض الاخفاقات, بسبب ضعف التحصيل وضخامة التخصصات النظرية, فإن على الجامعة الجديدة الخلوص من تلك المعوقات, واعتماد (هيكلة جديدة), ترفع من كفاءة الخريجين, وتحول دون التضخم النظري, على أن تتفادى التعرض للانكماش الذي يحول دون استيعاب حملة الثانوية العامة.
فالقصيمي لايريد ان توصد الأبواب في وجهه, وهو يعيش الاحتفالية بولادة جامعة طال انتظاره لها, كما أن أولياء الأمور يودون ان يكون التعليم مرتبطاً بالعرض والطلب, إذ لا مزيد على ما يعانيه خريجو بعض التخصصات من ترقب ممل لفرص العمل.. وإذ تكون مثل هذه الاجراءات مرتبطة بالسياسة العليا, فإننا نود أن يصل الصوت السليم إلى هذه السياسة, لتكون قراراتها وفق المتطلبات، فالسياسة العليا تنصت للمطالب والرغبات, وترصد التطلعات, وهدفها إرضاء الجميع, وتحقيق أفضل النتائج, وقراراتها لا تنزل من السماء, ولكنها تتشكل من الواقع ومما يشير به المنفذون. وإذا تفاعلت السلطات التشريعية مع التنفيذية, نسلت القرارات الراشدة, وتجسد العمل السليم, وأمر الأمة في النهاية شورى, ولأهميته استحضره الخالق في أكبر قضية: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}, وأشار إليه في أصغر قضية: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}, والنصيحة جزء من المشورة.
إن أمام المدير الجديد عدداً من المطالب الملحة, لعل من أهمها استكمال متطلبات الأجواء الجامعية. فالجامعة (مكتبة) و(معمل) و(مختبر) و(قاعات) و(ساحات) و(ملاعب) و(مساكن) و(خدمات) و(مطاعم) و(حدائق) تستوعب آلاف الطلبة, وتعتمد اليوم الدراسي, متخلصة من الساعات الفصلية التي تجعل المباني خاوية طوال الثماني عشرة ساعة. ولأن الجامعة مجرد اطلاق تسمية, ولأن طلبة الفروع من قبل يفوق عددهم الخمسة عشر ألف طالب, وهم بازدياد مطرد, ولأن حاجة السوق تتطلب تخصصات معينة فإن المؤشرات تتجه صوب النوعية لا الكمية, وذلك منعطف حساس, يحتاج إلى جهد استثنائي وتفكير عميق, يجنب العملية التعليمية غزارة الانتاج وسوء التوزيع. وعلى المسئولين في كل جامعاتنا توعية الرأي العام المتخوف من الاصلاح المتحفظ على التغيير, وذلك بالتأكيد على أن التعليم صناعة واعداد للمستطاع من القوة: الحسية والمعنوية, وأنه يكون بالنية الصالحة عبادة, وأن من حق المواطن أن تصنعه المؤسسات التعليمية وفق حاجة الأمة, وأن إغلاق قسم وفتح آخر أو التوسع في تخصص دون آخر، لا يرتبط إلا بحاجة المجتمع وبمصلحة المواطن, وعلى الجامعات أن تكون واعية لمتطلبات المرحلة, بحيث تسعى جهدها لسد حاجات الأمة, وعلى (مركز خدمة المجتمع) في كل جامعة التأكيد على أن المفاضلة بين تخصص وآخر مرتبط بإغناء الأمة عن خدمة الغير. وقدر البلاد الأصعب ان عنصر الشباب والانفجار السكاني وتعميم التعليم, تفوق الإمكانيات, وإذا لم تبادر جهات الاختصاص بجهد استثنائي أصبحنا أمام أزمات مستعصية.
والإذعان للرغبات غير الواعية يفوّت على الأمة فرص الاكتفاء الذاتي في كثير من المجالات العلمية والطبية والفنية والحاسوبية والهندسية واللغوية وغيرها, كما أن الطرق التعليمية الحشوية والالقائية انعكست آثارها السلبية على التحصيل الكمي والمهارات الإجرائية, الأمر الذي أشاع الضعف, وبطَّأ بالاكتفاء الذاتي, وأسهم في خلق بطالة غير متوقعة وغير معقولة. ودولة تستوعب أكثر من سبعة ملايين وافد, لا يمكن ان تبادرها البطالة بهذه السرعة, وبتلك الفداحة. ومؤشرات الاخفاق أن تمارس بعض الجهات غير المعنية إدارة توطين الوظائف عن طريق الضغط والإلحاح. إن هناك خللاً مرده إلى مواد التعليم, وتخصصاته, وطرائق أدائه, وشح إمكانياته، وعلينا في مرحلة التطوير أن نجعل (الحبل) و(الفأس) اللذين أعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم- للمتسول نبراساً لكل تغيير, لقد أبعده عن صحبته, وأقصاه عن مواطن نزول الوحي, ووجهه صوب الوهاد والنجاد, ليعفه من ذل السؤال. والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يدفع عن الفاضل إلى المفضول إلا بمسوغ، وآية النفور ركزت على التبعيض, بحيث يكون التفقه والإنذار لطائفة من الأمة, فيما تبقى الطوائف الأخرى في مواقعها العملية.. فملازمة الرسول أفضل, وتفقه الإنسان في الدين أنفع, ولكن عارض الحاجة جعل المفضول فاضلاً، وذلك يؤكد أهمية (فقه الأولويات), والمسلم مطالب بالتعادلية, فلا مساس بين مطالب الحياتين, كما أنه في عبادة في مسجده وفي بيته وفي سوقه وفي مصنعه متى حمل همَّ الأمة, ونصح لها, وقصد إغناءها, ولهذا كان أمر المسلم كله عجباً، وإصلاح المناهج يتجه صوب التخصصات وطرائق الأداء، وإقحام (الأسلمة) أو (العلمنة) مزايدة رخيصة وانتهازية مقيتة, ف(العقيدة) و(الوطن) خطاب القيادة, وهما كثنائية (الروح) و(الجسد), ومن أراد العز بغير الإسلام خذله الله، وفي النهاية فنحن لانريد أن يعود المتخرجون إلى بيوتهم, ليكونوا عبئاً على آبائهم, كما لا نريد مدرس الضرورة, ولا نريد وضع الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب.
وإذ تكون الجامعة لملمة لفرعين قديمين منتميين لجامعتين عريقتين, لكل واحدة منهما اهتماماتها, ونظامها, وأسلوب تعاملها فإن الأمر تجاوز مرحلة التأسيس إلى معضلة التجنيس والدمج, وطرح الذات المنعتقة من التنميط.
ومع تباين الأداء بين الفرعين, يقوم تباين في المواقع, وتفاوت في القابلية, يضيق أحدهما عن الاستيعاب, فيما يتسع الآخر للاستيعاب, وتتوافر القابلية والأهلية في موقع, فيما تحول ظروف المكان والتصميم دون ذلك في الموقع الآخر, ولكيلا تضيع الجهود بين موقعين متباعدين, يحسن حسم الوضع, وتوجيه الاهتمام صوب الموقع الأصلي القابل للتوسع, ووضع خطة مرحلية لجمع الأشتات, وتفادي العمل المؤقت, وإن كان المثل الانجليزي يقول: (لا يدوم إلا المؤقت)، وليس هناك ما يمنع من تحويل الموقع المستغنى عنه للطالبات بعد تحصينه وتحسينه.
ولقد أشرت أكثر من مرة إلى أن الجامعة أحوج ما تكون إلى توفير الأجواء الجامعية, وبخاصة أنها لم تكن في عاصمة ك(الرياض) المليئة بالمكتبات والمعامل والمختبرات والقاعات المساندة.. والأجواء الجامعية ليست ميسورة بالقدر الذي يتوقعه البعض, ف(المكتبة) -على سبيل المثال- في الفرعين بإمكانياتها ومواقيتها وآلياتها لا تسد أيسر الحاجة, وطلبة الكلية فضلاً عن طلبة الدراسات العليا يجدون حرجاً من شح المراجع, فضلاً عن فقد المكتبتين لمتطلبات الخلوة والحاسوبات والتواصل مع مكتبات العالم.
والمعامل والمختبرات ومجالات التطبيق العملي كل ذلك يتطلب مزيداً من التوسع, ومزيداً من التحديث والمتابعة وتحسين النوعية والأداء.. ولن تكون الجامعة قادرة على الندية والمنافسة حتى تتغلب على أجوائها ومسانداتها, وحتى تهيئ لأعضاء هيئة التدريس كل الإمكانيات والفرص والوسائل المتوافرة لزملائهم في جامعات الحواضر, كالمساكن والخدمات ومدارس الأبناء وسائر المميزات.. ولن نتحدث عن تطلع أعضاء هيئة التدريس إلى كادرهم الموعود, فذلك شأن السياسة العليا, وهي السباقة إلى كل مكرمة، وكل ما نقول تطلعات تختلج في النفوس يمسك بعضها برقاب بعض:




(وما استعصى على قوم منال
إذا الأقدام كان لهم ركابا)


ومن حق كل مواطن أن يفكر بصوت مرتفع, ليُسمع القادرين على تحقيق الطموحات, فنحن أمة هيأ الله لها ما لم يهيئه لغيرها، والوقوف دون هام السحب إخلال بالأهلية على حد:



(إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم)


والهواجس والتطلعات على قدر العزمات و(على أقدر أهل العزم تأتي العزائم...) ومعولنا على الوضع الجديد التخلص من هاجس الفرعية, فإمكانيات الفروع ما كانت لتفي بأقل المتطلبات, كانت من قبل بيوتاً مستأجرة وإمكانيات متواضعة, ثم انتقل فرع (جامعة الإمام) إلى المقر الجديد, وتكدست كل الكليات في مبنى كلية واحدة, ثم بدأ التوسع وفق الإمكانيات, وكان فرع (جامعة الملك سعود) لا يقل في أوضاعه المؤقتة عما كان عليه رصيفه, حتى انتقل إلى المدينة الجامعية المرتقبة.
ولما تزل الأجواء دون المؤمل على الرغم من كونها من أولويات المطالب, ودعك من عمادة البحث العلمي والدراسات العليا, وما يتطلبه ذلك من الإمكانيات البشرية والحسية, ولو أن أحداً أصاخ لما يدور بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس وكافة أفراد المجتمع من طموحات وتطلعات لتصور أن الأمر كالغول والعنقاء والخل الوفي, غير أن المسألة دون ذلك بكثير, وتعبنا في الطموحات التي لا تحد, وما على المسئولين من سبيل إذا سددوا وقاربوا وبشروا, والتكليف وفق الوسع.
لن يفوتني وأنا أجمجم عما في نفوس الناس أن أشير إلى جهود مشكورة, واكبت مشروع التعليم الجامعي في القصيم وأنشأته من لا شيء, تبنتها كوكبة من المسئولين, يقدمهم صاحب السموّ الملكي أمير المنطقة المتابع لكل صغيرة وكبيرة في المسيرة التعليمية, كما أنني بثناء لا يحد على جهود الجامعتين الأصليتين: (جامعة الإمام) و(جامعة الملك سعود) ومن ورائهما معالي وزير التعليم العالي. والشكر موصول لكل من يحمل همَّ أمته, أو يباشر العمل بصدق وإخلاص وأهلية.. وكل عامل ناصح ينال حظه من شرف الخدمة للدين والوطن, وكل عامل متفانٍ يؤدي واجبين: واجب المسئولية وواجب المواطنة, ولا يكتم أفضال المتفضلين إلا العققة.. وكل مسلم على ثغر من ثغور الوطن, والسعيد من يسطر على صفحات تاريخه ما يشرفه, ويشرف انتماءه لهذا الوطن الذي أعطى الكثير, ولم نرد له أيسر حقوقه.
ولما لم يكن في حسابنا ان تختط الجامعة الجديدة لنفسها خطة منفردة, ولا أن تكون في معزل عن أنساقها وسياقاتها ورصيفاتها, ولا أن تقفز فوق الحواجز والإمكانيات فإننا نربط أنفسنا ونقيد طموحاتنا بمعطيات الواقع, وهو واقع مواتٍ, وقادر على تخطي العقبات.. ومن أراد ان يطاع فليطلب المستطاع, وليس من المنطق الخنوع لما يتصوره المتشائمون واقعاً غير مواتٍ.
وإشكالية البعض تكمن في وقوعه تحت طائلة (نكون كما نريد, أو لا نكون), فيما يكون الأفضل أن نشتغل في المساحة المتاحة, ونحاول استغلال أقصى طاقات المتاح, على مبدأ (خذ وطالب), والجامعة في بدايتها لن تحقق كل الطموحات, ولكنها بالتدبير والمواربة وترتيب الأولويات والمطالبة الملحة ستجتاز مشاكل البدايات, وهي مشاكل مقدور على تذليلها.. وكم نحن سعداء بهذا الحدث التاريخي الذي طال انتظاره, فجاء مولوداً سوياً, وجاءت بوادره كالمبشرات, ورهاننا رهين الكفاءات والإمكانيات والأجواء وحسن النوايا, وهي قائمة فيمن وُكِّلَ إليهم الأمر, نحسبهم كذلك, ولانزكي على الله أحداً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:43 PM   #12
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
الجهود الأدبية للعلامة العبودي
د.حسن بن فهد الهويمل


كلما جمعتني المناسبات بالعلامة معالي الشيخ (محمد بن ناصر العبودي) طُوِيت أمامي بوادر الشيخوخة، وعزمات الكهولة، وذكريات الشباب، ليندلق عبق الطفولة بكل طهره وبراءته. وليس من السهل أن يقفز الإنسان بذاكرته نصف قرن، ليستعيد واقعاً بدائياً مفعما بالبساطة والعفوية.
كانت تلك اللحظة المترائية لي من بعد في إحدى صباحات صفر من عام 1374هـ أي قبل إحدى وخمسين سنة. كنت يومها في الصف الرابع الابتدائي، وكان (المعهد العلمي) قد فتح أبوابه في ظل إدارة معاليه، والناس إذ ذاك ينظرون إلى تلك المعاقل وأناسيها على أنهم خلق آخر. ولن أنسى أول ليلة صعدت فيها منبر (نادي المعهد) الأسبوعي، لأقدم ركن الفكاهات، الذي اختارني له معاليه، موصياً بالتنقيب عن النوادر في العقد والمستطرف، وأخبار المغفلين والنوكى والأذكياء عند ابن الجوزي. وكان ذلك مؤذناً بالتعرف على كتب التراث الأدبي، وما زلت أذكر أول نكتة أملاها عليَّ من كتاب العقد الفريد:-




يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
ولو يستطع لتقتيره
تنفس من منخر واحد


وبعد دراسة متعثرة امتدت ثلاث سنوات، تفرقت بنا السبل، فما عدت أراه إلا من خلال منجزاته. وكلما نظرت إليه وإلى ما تركه من كتب، تذكرت الموسوعيين في القديم ك(الجاحظ) و(السيوطي)، وفي الحاضر ك(الطنطاوي) و(عبدالسلام هارون). وكلما قرأت في سير أعلام النبلاء، أو في علم الطبقات، تبدت لي ملامحه. فغالب علماء السلف تتعدد اهتماماتهم، وتتنوع مقروآتهم، يحقرون المناصب والأضواء في سبيل التحصيل المعرفي والإنجاز العلمي.
ورجل أنجز مئات الكتب: إنشاءً وتأليفاً واختياراً في مختلف المعارف، لا شك أنه ترك الدنيا خلف ظهره، وصحبها بلا آمال زائلة. والحديث عن الجانب الأدبي في عطاءاته، يتطلب العودة إلى أنساقه وسياقاته وظروفه التي عاشها، ولأني واكبت بداياتها عن قرب، فإنه من اليسير تبين ملامحها. كانت مكتبة (المعهد العلمي) منطلق الصبغة الأدبية، لأنها ذات منزع أدبي، فأبرز محتوياتها الموسوعات الأدبية: ك (الأغاني) و(العقد الفريد) و(البيان) و(صبح الأعشى)، والمختارات ك (المفضليات) و(الأصمعيات) و(الحماسيات) و(الجمهرة) و(دواوين الشعراء الجاهلين والأمويين والعباسيين)، وكتب العلوم العربية ك (المعاجم) و(النحو) و(الصرف) و(البلاغة)، وكتب التاريخ ك (البداية) و(المروج) و(علم الرجال) و(الطبقات) و(السير)، وهذه التركيبة التراثية المتنوعة مؤذنة بتشكل نزعة أدبية مفعمة بثقافة تراثية عميقة وشاملة. والنص الأدبي حين يحفظ التوازن بين الجماليات الحسية والقيم الدلالية يحوز شرفي اللفظ والمعنى.
وكتب العبودي تراوح بين القيم الدلالية واللفظية، وتتوخى الوسطية، ولقد عرفت المشاهدُ الأدبية كتاباً انصبت اهتماماتهم على جماليات الصياغة، وآخرين عنوا بالمعاني، فيما جمعت طائفة بين جمالية النص وثقافته، وتلك سمة الموسوعيين، ويند عن هؤلاء وأولئك العقلانيون والفلاسفة والمفكرون. والمشاهد بحاجة إلى هؤلاء وأولئك. ف(العقاد) مفكر تشغله الفكرة عن العبارة، و(المنفلوطي) عاطفي تشغله العبارة عن الفكرة، فيما يأتي (أرسلان) معرفياً بيانياً، ويمتد خيط الجمالية متواشجاً مع الدلالة عند (طه حسين) و(أحمد حسن الزيات) و(الرافعي)، فيما تغرق العقلانية ب (أحمد أمين)، ولقد شغلت (الأسلوبية)، بكل مفاهيمها وتحولاتها طائفة من النقاد، وراوحت بين التنظير والتطبيق، فكان أن أغرق اللغويون في البنائية، وأغرق الدلاليون في التكوينية، وقامت بينهم ملاحاة لم تنته بعد.
وفي ظل هذه الاندفاعات المتناقضة سيئت وجوه البيان والمعاني والبديع على حد سواء، وما كان لعالم أديب ك (العبودي) أن يشغله لغط النقاد وتلاحيهم، ذلك أنه يكتب عن هم وسليقة، وهو يرسل كلمته مستبطناً همَّه متوخياً إيصال فكرته، فأصحاب القضايا يعتمدون الإمتاع والاستمالة والإقناع.
وتقصي أدبية النص عند موسوعي ك (العبودي) تبدو من المعضلات، لتنوع اهتماماته وتداخلها. حتى لا تكاد تفصل بين الديني والأدبي والتاريخي والجغرافي، وتلك سجية المسكونين بهم الثقافة. ولو عدنا مثلاً إلى الدراسات التي أنجزت حول (الجاحظ) مثلاً، لرأيناها أخلاطاً من الفكر والأدب والنقد والعلم والتاريخ وسائر المعارف. وكل دارس يجد مراده، حتى ليظن أنه المصيب للمخر، ويبقى (الجاحظ) يرقب دارسين آخرين، يكتشفون قضايا في عالمه المعرفي.
و(العبودي) من هذه النوعية، ومن ثم حاولت حصر دراستي في خمسة كتب من مؤلفاته أحسبها جماع الجهود الأدبية في تنوعات أدائه هي:-
- أخبار أبي العيناء اليمامي.
- كتاب الثقلاء.
- نفحات من السكينة القرآنية.
- سوانح أدبية.
- صور ثقيلة.
وهذه الكتب كما يبدو من عناوينها تراوح بين الجمع والدراسة والإنشاء: المقالي أو القصصي. ولقد حاولت أن أشير إلى محورين هامين في جهوده الأدبية:
- أدبية النص.
- والموضوع الأدبي.
وبين المحورين عموم وخصوص. فأمَّا (أدبية النص): فهي خاصة بجمالية اللفظ من حيث الكلمة والجملة والعبارة والأسلوب ومراعاة الجماليات: الصوتية في الجرس والإيقاع، والصورية في التخيل والحركة. وقد تمتد الأدبية إلى فنية الأداء كالقص والرواية أو الشعر. ويجب أن أشير إلى أن سلامة النص غيرُ جمالياته، فقد يتوفر الكاتب على سلامة اللغة وقواعد النحو وضوابط الإملاء، بحيث لا يلحن في اللفظ، ولا يتوهم في المعاني، ولا يخطىء في الرسم، ولكنه لا يتوفر على الجمالية الأدبية. فالمؤرخون والعلماء والفلاسفة لا يلحنون، ولكنهم لا يبدعون. وإشكالية الفصل بين السلامة والأدبية والدلالية لما تزل قائمة في المشهد النقدي، على أن طائفة من السرديين عولت على (واقعية اللغة)، وأحالت على (مراعاة مقتضى الحال) فهبطت باللغة إلى درك العامية.
و(أدبية النص) كما يشير (توفيق الزيدي) في كتابه (مفهوم الأدبية في التراث النقدي) تقوم على (التحول) و(الإيقاع) و(التقنية) و(الخصائص) ومتى عول الكاتب على عنصرين هامين في العملية الإبداعية هما:-
- المجاز.
- والانزياح.
توفر على أدبية النص، وسلم الأدبية يتفاوت، إذ ليس كل متوفر على المجاز والانزياح بقادر على توفير أسلوب أدبي متميز، وامتلاك المفاتيح لا تتحقق معه الرغائب، فالأسباب تهيىء المجال ولا تحقق النتائج. والسؤال البدهي: هل يستحضر العلامة (العبودي) هذه الضوابط، وهو يكتب في الموضوع الأدبي على الأقل، أم أنه يتوفر عليه طبيعة وسجية؟ لقد تبدت الأدبية: الموضوعية والأسلوبية في مجمل تناولاته، ولم تحل بينه وبين التعددية المعرفية، فهو حين يكتب في الجغرافيا أو في التاريخ أو في الرحلات تبدو أعناق الأدبية من خلال كتاباته، إذ هو أديب بطبعه واهتمامه، وتحول الاهتمام من الأدبي إلى الشرعي، لم يخلص عالماً ك (ابن القيم) من أدبية النص.
أما (الموضوع الأدبي) فقد سبق لي أن جسدته في الحديث عن (أدب الرحلة) عنده ليلة تكريمه في (المهرجان الوطني للتراث والثقافة)، وجاء البحث مركزاً على متطلبات هذا اللون من الأدب. و(أدب الرحلة) تتنازعه معارف متعددة، كالأدب والتاريخ والجغرافيا والسير الذاتية. وكل هذه المعارف تعوِّل على أدبية النص بمفهومه القديم والحديث وتحيل إلى الموضوع الأدبي.
و(العبودي) من الكتّاب الذين يهتمون بتدوين المعلومات والملاحظات، ما دق منها وما جلَّ، دون تكلف أسلوبي أو معاضلة تعبيرية، وما في كتبه من صياغة أدبية فصيحة فإنما هي قدرة ذاتية كسبية، فهو عالم بالتراث، ومؤلف معرفي قبل أن يفرغ لأدب الرحلة، والمتابع لكتبه لا يقدر على تصنيفه لا جغرافياً، ولا اجتماعياً، ولا سياسياً. ومن ثم فهو أقرب إلى الموسوعيين، لتوفره على القيم العلمية والأدبية، واللغة التي يعتمد عليها، ويتوسل بها لغة فصيحة سليمة، لا يعمد فيها الى التزوير ولا إلى التنقيح، ولكنه يكتب كما يتحدث، وذلك سر الإكثار والقبول. وبعض الأساليب توصف بالسهل الممتنع، ف (طه حسين) كاتب جذاب وممتع، ولا تستطاع محاكاته، ولو كانت عند العلامة عناية لغوية أو أدبية أو معرفية دقيقة محددة، لكان أن قل عمله وانحصر مريدوه. ومع العفوية احتفظ بمستوى أدبي ولغوي ومعرفي يجعله في مصاف غيره من الأدباء الممارسين للكتابة الأدبية. لا تجده ناقداً ولا منظراً، وإن كان يستبطن التساؤل والمراجعة، كما في مداخلاته اللطيفة مع المفسرين في كتاب (نفحات من السكينة القرآنية).
على أنه لم يوجه اهتمامه لصناعة الأدب، ولم يشأ الاشتغال المنقطع لشيء من فنونه، وإن جود آلياته النحوية والصرفية واللغوية والبلاغية، فإنما ذلك بوصفها علوم العربية لا بوصفها آليات الأدب. وحفوله بالأدب حفول المتمتع، لا المحترف. كما لم تكن له إلمامات أدبية حديثة، بل كان ولما يزل مع التراث ينتقي منه ما يحلو له من الحكايات والأخبار والنوادر ولطائف التفسير، وعزماته الجادة تراها رأي العين فيما سوى الأدب من معارف إنسانية، ومتى وضع يده وحدد مهمته أعطى عطاء العلماء المتمكنين من معارفهم ومناهجهم وآلياتهم.
ومن هنا قلنا بأنه لم يكن جادا في ممارسته الأدبية، ولم يشغله الأدب بصفته الفنية مثلما شغلته اللغة وأدب الرحلة والأمثال والجغرافيا. وما كان الأدب عنده إلا من جهة أدبية النص، وسلامة اللغة، وثراء المعارف، وتنوع الاهتمامات، ومحاولات مترددة في القص جاءت في (سوانح أدبية) وفي مخطوطات لم تر النور.
وموسوعيته جعلته يأخذ من كل شيء بطرف، وتلك سجية العلماء الأوائل، وما أصابتنا أمية التخصص إلا بعد أن أصبح العلم صناعة والتعليم وظيفة، وإلا بعد أن تنازعتنا الرغبات، فكانت عين في الكتاب وعين في الوظيفة. وأما اهتمامه ب(العامية) فلأنها مصدر معرفي أو تاريخي، ولم يهتم بها كلغة رديفة، ومن ثم ألف في الأمثال، وفيما انقرض من الألفاظ. ولما لم أكن حفيا بمثل هذا الاهتمام، فقد عدلت عنها، ووقفت منها موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من (الضب)، لم يحرمه، ولكن نفسه تعافه.
ومسميات الكتب الأدبية تشي بالاهتمامات والدلالات والخطرات، وأقرب ما توحي به أن الأدب عنده للإمتاع أولا ثم للانتفاع ثانياً. فلقد صرف همه إلى ما يمكن تسميته بالضحك الهادف، بحيث تقصى أخبار الثقلاء والنوكي والمغفلين ونوادر الأخبار، نقلها بروايتها وأسانيدها تارة، وعلق على بعضها و تولى روايتها بنفسه تارة أخرى. أما في (سوانحه الأدبية) فهو منشىء أو مبدع، وكأني به يتخفف بهذه الإلمامات من جد العمل، ولقد سلف من كبار العلماء من جعل الممارسة الأدبية انتباذا غير قصي عن جد العمل. نجد ذلك عند (ابن حزم) في (طوق الحمامة)، وعند (ابن الجوزي) في (صيد الخاطر)، وعند (ابن قيم الجوزي) في (روضة المحبين)، وفي (عقلاء المجانين) ل (النيسابوري)، وفي (كتاب التطفيل) ل (البغدادي). وكتابه (أخبار أبي العيناء اليمامي) من ذلك اللون الذي أشرنا إليه، وكل جهده يتمثل في التنقيب والبحث فلا هو دراسة ولا ترجمة ولا نقد، وإنما هو جمع وتخريج للاستمتاع والتملح والتفكه. وأجمل قاعدة نقدية قالها:- أن النقد والتقويم (شأن من يرى لا من يروي).
و(أبو العيناء) شغل طائفة من الموسوعيين والأدباء، فقد انتثرت أخباره في الموسوعات، ولو عدنا إلى الإحالات في الهوامش لهالنا عددها، ولم يكن من بينها (نثر الدرر في المحاضرات) ل (الآبي) الذي استل منه الدكتور (نعمان محمد أمين طه) كتاب(نوادر أبي العيناء ومخاطباته)، وقد أسِف على فَقْد مخطوطة (أخبار أبي العيناء) للصاحب بن عباد، وسمى كتابه باسمه ومع التشتت والضياع جاء كتابه أوسع وأشمل وأدق وأوفى من مستل (نعمان طه) الذي اقتصر فيه على تحقيق ما يخص (أبي العيناء) في المخطوطة.
ومعضلة هذه النوعية من العلماء الموسوعيين صعوبة التصنيف فليسوا بالفقهاء ولا بالأدباء. ولقد امتعض (الطنطاوي) من حالة (الأعراف) التي يعيشها، فالأدباء يذودنه عن حقولهم، والفقهاء يكبرون أنفسهم عن اهتماماته، فلا هو فقيه مع الفقهاء ولا أديب مع الأدباء، وإن كان يبز هؤلاء وأولئك. ولو استدعينا (أدب الرحلة) عند العبودي لكان فيه علماً من أعلام الأدب، ولو استدعينا (المعجم الجغرافي) لكان فيه علماً من أعلام البلدانيين، ولو استدعينا (الأمثال العامية في نجد) لكان فيها علماً من أعلام المحققين. ولكن إمكانية تصنيفه ضاعت بين قبائل العلم، فكان أمة وحده، وكان من حقه أن يقول لكل داع له إلى الصدارة:- الصدر حيث أكون.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:45 PM   #13
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
تسديد النقد (المؤدلج) وتفعيله..!
د. حسن بن فهد الهويمل


تقوم بين الناقدين (سعد البازعي) و(عبدالعزيز حموده) وشائج تقارب وافتراق, وكأني بهما يقتسمان الهم والمهمة والرؤية والتصور, ويتحسسان عن مواقع التيه والرشاد للنقد الحديث. واقتراب أحدهما من الآخر يوطئ له تجانس المصادر والموارد, إذ يتظامَّان في التلقي المنضبط من الآخر, ويقتربان من وعي الحد المسموح به. وما أكثر المتلقين وأقل الواعين.
فالذين ذهبوا إلى الغرب أو الشرق, وتلقوا معارفهم على أيدي أساطين الاستشراق, عادوا إلى حضارتهم واعدين أو متوعدين. فطائفة من المبتعثين استوعبت الحضارة الغربية, وعرفت مكوناتها ومحركاتها ومقتضياتها. وهذا حسن ومطلوب, ولكن عيبها أنها استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير, ظناً منها أن الحضارة الاسلامية ترفض مدنية الآخر وعلمه, وأن إظهار الدين وإقامة شعائره عقبة في طريق المعامل والمختبرات وسبر الآيات في الآفاق والأنفس, ولم تكتف بالاستبدال, وإنما تجاوزت ذلك إلى الوقيعَة والتوهين والمساس بأهلية الحضارة الأحق بالوجود الكريم, وتحميلها تقصير أهلها المشهود بالصوت والصورة. ومن زكى أحوال المسلمين فقد واطأ على التخلف. وطائفة أخرى لم تكن قادرة على الاستيعاب, فعادت متورمة متشبعة, كالعائل المستكبر, أو كلابس ثوب الزور, تدعي تضلعها, وتدعو إلى أوهامها, وهذه الطائفة هي التي تملأ الرحب, وتستأثر بوسائل التوصيل, إذ تغامر ببدنها, والغريق لا يخشى من البلل, والذي لا يلوي على شيء لا يخاف من المغامرات, والنظارة تستهويهم البهلوانيات. وطائفة ثالثة تضلعت من الطارف والتليد, واختطت لنفسها طريقاً قاصداً, متيحة فرص التفاعل بين الأشباه والنظائر. إذ ما من حضارة إلا ولها مع سائر الحضارات مناطق لقاء وافتراق. والحصيف المتضلع من يدق نظره, ويلقي سمعه, ويفقه ذاته, ويستوعب غيره, حتى إذا التطمت في فكره أمواج الحضارات, أخذ من الطارف ما ينقص حضارته من قيم علمية أو فنية أو مدنية, واستدعى من التليد ما لا تقوم الحضارة إلا به من ثوابت, هن أم الحضارة.
وكل حضارة لها حيازاتها التي تميزها, ومشاركاتها التي تفعلها. إذ ليس هناك نص محض, ولا حضارة محض. والإسلام استوعب طائفة من قيم الجاهلية, والرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض أخلاق القوم وممارساتهم, وأثنى على خيارهم في الجاهلية, واستحسن إبداعات بعض الشعراء, وقال عن شعر (أمية) أسلم لسانه وكفر قلبه - أو كما قال - وأحسبه تمنى رؤية بعض الشعراء, وأكبر (سفّانه) لأن أباها يحب مكارم الأخلاق, وفضّل عمر بن الخطاب رضي الله عنه شعر (زهير), وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد زعماء القبائل بعد إسلامه: - (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة). فهل (الشيوعية) تنصف (الرأسمالية)؟ وهل إحداهما تذعن للحق, وتسلم له, مثلما سلّم له الإسلام؟ ذلك بعض ما غفل عنه المبهورون, وأنكره المأجورون. وما أشرنا إليه دليل على تداخل الحضارات, وتقارضها, وتفاعلها. ومن تصور نفسه على غير ذلك, فقد أضر بحضارته وبغيرها, وما أصاب الأمة من الانكماش أو الضياع إلا الاحتباس أو الاندفاع غير المبررين.
والذين ينقمون على حضارتهم, ويباهون بالآخر, ويبشرون به, ويقدمون بين يدي تبشيرهم التقليل من شأن موروثهم, لا يزيدون راهنهم إلا ارتكاساً في حمأة التبعية, وتعميقاً للخلاف. وهؤلاء القوم إما مخدوعون, أو مواطئون, أو جهلة بنواقض الحضارات, وأصول المبادئ, وحدود الحريات. والتاريخ الحديث تشف صفحاته عن مفكرين وأدباء وعلماء منهم الصالحون, ومنهم دون ذلك, ومنهم الذين مردوا على الوقيعة ممن يعرفهم الراصدون للحراك الفكري والسياسي والثقافي. وهل يخفى على المتتبع الحصيف ما تتجرعه الأمة من البأس الشديد بين أبنائها, وما يصنع فيها ولها من لعب؟. وإشكالية المشاهد جهل الحدود وأمداء القبول بالآخر ومفهوم الوسطية والتسامح والحقوق.
وما أحوج الأمة في ظروف التخطف إلى من يقسم بالله على الوفاء والولاء للعقيدة بمثل قسم الرسول صلى الله عليه وسلم, حين عرضت عليه الدنيا ليتخلى عن رسالته. والمتعمدون لتوهين مفردات الحضارة الإسلامية لا يجدون حرجاً من جر الأقدام بأي ثمن, وعبر أي وسيلة. وضعفاء النفوس يتهافتون على شهوات الغرائز أو على شهوات الرغائب. وكل مدع للمعرفة مباه بالابتعاث غير مبلغ عن حضارته ولو آية مأخوذ من مأمنه أو من شهواته. وما اخترقت التحصينات إلا بمن غلبت عليهم شهوات المتع أو أضواء الشهرة. وما من لعبة مضرة إلا ولها كتّابها المأجورون أو المخدوعون.
فالألسنة والأقلام ليست بأقل أثراً من القاذفات والراجمات, ومن استخف بالكلمة, وقع في الحبائل. والمواجهة بين الحضارات لا تعتمد المناجزة والحسم بالسلاح, إن هناك سياسة النفس الطويل المتمثلة بالتحيز والتحرف والتقدير والتوقيت والترغيب والترهيب والغزو والتآمر والتماكر والتشكيك. وليس بغريب أن يواجه المسلم كل هذه الخطط, سواء نهض بها المستشرقون أو ناب عنهم المستغربون, وسواء تولت أمرها المحافل الماسونية او الصهيونية أو السياسية, وليس شرطاً أن يكون كل حائد عن جادة الصواب من هؤلاء, ذلك أن المفاهيم والاستعدادات تختلف من مفكر إلى آخر, والغزو والتآمر لا يبرئان من المسؤولية وقابلية الاستعمار.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة نحن أحوج ما نكون إلى الوسطية والتوازن والدفع بالتي هي أحسن, وتفادي سوء النوايا والأثرة, وأحوج ما نكون إلى استبدال الصدام بالحوار. فالعالم المادي يحكم قبضته على الضعفاء بآلته النافذة ومؤسساته الثابتة, ومن قلل من أهمية علمه أو من أسلوب مؤسساته الدستورية والتشريعية والتنفيذية, فقد ضلّ الطريق , وأطال أمد تخلفه. وإذا كان الغرب ينطوي على مثمنات ومناهج وآليات وأنماط حياة هي ضالة المسلم, فإن على قادة الفكر العمل على تمثل الحسن منها دون استهجان للذات, أو تعقب لعثرات الدعاة والمصلحين, ودون تفكير بحسم الاختلاف المشروع, والهم الإسلامي على أي مستوى لا يقتضي المنابذة ولا الصدام ولا تعمد الإفساد. وواجبنا أن نحاور ما أمكن الحوار, وأن نتفاعل ما أمكن التفاعل, وأن نستفيد ما أمكنت الاستفادة. وليس هناك ما يمنع من التتلمذ على الآخر بالذهاب إليه أو باستقدامه. والمسلم البصير بمقدوره ان يتعلم على أساطين الكفر ما يحتاج إليه الإسلام, دون أن يمس ذلك عقيدته أو يخل بولائه, أو يفسد أخلاقه, وما أضر بالأمة إلا القطيعة المطلقة أو الارتماء المطلق. وإشكالية المشاهد الفكرية والأدبية أنها أوزاع بين متهافتين أو متصومعين, ولما ينبري من يجمع بين الحسنيين: يلتزم الثوابت الإسلامية, ويستفيد من منجز الآخر. والإسلام دين الحضارة والمدنية, دين العلم والفكر, دين العمل والعبادة, فمن ظنه غير ذلك فقد أساء إلى نفسه وإلى أمته.
أقول قولي هذا وأنا أستعرض ما يمكن ان أسميه مشروعاً أدبياً تبنّاه الاستاذ الدكتور (عبدالعزيز حموده) من خلال ثلاثة كتب, أثارت حفائظ البعض وضيقت الخناق عليهم وأفقدتهم صوابهم, وجاء معه أو من بعده الأستاذ الدكتور (سعد البازعي) يحمل ذات الهم وذات النفس وذات الإمكانيات في كتابه (استقبال الآخر الغرب في النقد العربي الحديث) والمؤلف يستخدم دلالة (الاستقبال) في التلقي والتوجه, كما استقبال القبلة, ولعله يقصد الدلالة الأكثر مؤاخذة. وجميل من استاذ درس في الغرب أن يبتدر الأخذ بحجز المتهافتين عليه دون وعي, وجميل من نقاد متخصصين ومتمرسين يرصدون للتحولات والانتكاسات والتهافت بمصداقية واقتدار, ويقدمون أنجع الحلول للخلاص من التهلكة. والمؤلم ان مثل هؤلاء يزور عنهم المتابعون, ويمر بهم الإعلاميون مرور الكرام, فيما تبتدر وسائل الإعلام المخفين. والمثير أن المخفين أسرع وأشيع, على حد مقولة (المتنبي) عن الجيش والقتام, ولهذا تراهم الأكثر حضوراً والأكثر تأثيراً, وما ذاك إلا لأن بضاعتهم أشبه باللغط الإعلامي الذي يروق للدهماء. ولقد يخرج إلى الناس كتاب لا يقول شيئاً ذا بال, ثم تراهم يتسابقون عليه. والفاجعة ليست في خلو الكتاب من الجدوى, ولكنها في خلو أدمغة الدهماء, ووجود من يغرر بهم. وإشكالية العزوف ليست قصراً على من نمضي معهم, وإنما تمس من نختلف معهم, ممن نحترم التكثيف المعرفي والدقة المنهجية في أطروحاتهم, وسنعرض لبعض أولئك, لإثبات أننا مع الحق, وإن كان مع من نختلف معه.
والدكتور (سعد البازعي) الذي يعبر كتابه الساحة دونما صخب يعرض لإشكالية عصية, هي إشكالية التواصل مع الغرب في النقد الأدبي الحديث خاصة. وإن كانت الإشكاليات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية أشد خطورة وأعمق تأثيراً. واشتغاله في هذا الجانب المهم جعله يتتبع حركة النقد العربي من خلال تواصلها مع المناهج الغربية, وموقف النقاد العرب منها: تبنياً او رفضاً أو تأصيلاً. وقد مسح البحث فترة زمنية تبدأ بمرحلة التأسيس أو بدايات الاستقبال, وتنتهي بمرحلة التأصيل. وفي هذا المسار اكتفى ببعض المناهج الأكثر شهرة ك(الرومانسية) و(الواقعية) و(الشكلانية) و(البنيوية) و(التقويضية) مغفلاً الفلسفات التي تأسست في ظلها هذه المناهج وغيرها ك(الوجودية) و(المادية) و(التاريخانية) وما انبثق عنها من مناهج ونظريات نقدية عديدة. لقد اتيحت لي قراءة الكتاب مع طائفة من الزملاء, وكنت أكثرهم احتفاء به, واكثرهم تحفظاً على بعض رؤاه, ولقد أحسسنا معاً بتعالقه مع مشروع الدكتور (عبدالعزيز حموده) وهو تعالق لا يمت بصلة إلى التناص أو الاستلاب, بل أكاد أجزم أنه لم يرجع إلى أطروحات (حموده), ولكن الهم المشترك أوجد التجانس.
والدارس يفترض سؤالاً عن كيفية استقبال الآخر, ويتخذ موقفاً نقدياً محدداً ومبرراً من سائر النقاد, فمنهم المتخذ للمناهج الغربية على علاتها, نتيجة انبهار وتسليم كلي, ويصدق على هذه الفئة اتخاذ الغرب قبلة. ومنهم المؤصّل الذي يدعو إلى التمحيص والتصفية, بحيث يتفاعل ولا ينفعل, فيما أغفل المؤلف موقف المتلقي الثالث الرافض لكل ما يأتي من الغرب, وإن كانت له أصوله في التراث العربي, ومتضمناً في نظريات النقد الغربي الحديث. فالمناهج والنظريات لم تأت طفرة, وليس هناك أمة أحق بها من غيرها, لأن التفاعلات الحضارية وما صاحبها من صراع فكري وسياسي و(أيديولوجي) وثقافي أو مثاقفة لم تتم بمعزل عن الملابسات التاريخية.
والباحث يراوح بين اجراءات الاستقبال والمثقافة, فالاستقبال يعني خلو المتلقي من رصيد معرفي نقدي مواز لرصيد الآخر, وبالتالي يصبح تابعاً او مقلداً, في حين تعني (المثاقفة) موازنة الوافد على ضوء الموروث, وفتح حوار بين ندين متساويين فكراً وحضارة. وذلك ما يفقده المستغربون الذين يراهنون على جياد (الحداثة) و(الفرانكفونية) و(الاستغراب).
الباحث يرى أنه ليس هناك خصوصيات محضة في نشأة المناهج النقدية الغربية انطلاقاً من التفاعلات التاريخية بين الحضارات المتتالية, وما أفاده الغربيون من الحضارة العربية الاسلامية في الفلسفة والفكر العلمي، ولقد أومأ (العقاد) إلى ذلك في كتاب مقارن ألمح فيه إلى التعالق الفني ونقده.
والباحث ضرب مثلاً بمنهج الشك الديكارتي, وكيف ابتدعه (ديكارت), ثم طوره (هوسرل) في منهجه الظاهراتي, وهذا المنهج له جذور تاريخية في الدراسات العربية, يراها البعض عند (أبي حامد الغزالي) في عنصرين: عنصر اليقين في الثوابت, وعنصر الشك في المتغيرات. وقد نقله إلى أوروبا خلال القرن الثاني عشر المستشرق (أدلر أوف) بعنصر واحد هو عنصر الشك, بوصفه باحثاً غير ملتزم باليقينيات الدينية كما هو الشأن لدى المسلمين. ولما جاء (طه حسين) حاول تطبيقه في دراسته للشعر الجاهلي بعنصر واحد أيضاً, مغفلاً العنصر اليقيني في الثوابت القرآنية, ولم يراع سياقه وملابساته التاريخية, ومن هنا جاءت خطيئته القاصمة التي أدت إلى محاكمته وإدانته.
وتمتد رؤية الباحث إلى التيار الواقعي بوصفه أدباً, وهذا يحفز إلى استشعار واقعيات: فنية واشتراكية ومادية ووجودية... ولعل إغفال هذا التمييز هو ما حدا ببعض النقاد العرب مثل (محمد مندور) كي يجعل الواقعية مرادفة للأدب الملتزم أو الأدب المسؤول.
والدارس يرى أن البنيوية تفرعت من (الشكلانية) و(الواقعية), ولم يشر إلى دواعي ظهور (الشكلانية) وملابسات إعادتها إلى بيت الطاعة (الماركسية) تحت مفهوم (التكوينية). والباحث يعود محدداً عمومية الرؤية أو مناقضاً لها بالقول عن تلبسها بأحد التيارات أو طرق التفكير. و(التفرع) و(التلبس) متباينان. كنت أود لو أسس لبحثه بمقدمة عن الجذور الفلسفية للبنيوية بأبعد مما ذهب إليه (فؤاد زكريا), ثم هو يعدها منهجاً تحليلياً, وهي كذلك, ولكن التحليلية ليست من خصوصيتها, فالبنيوية صفة نص تستدعي آلية ومنهجية تفكك النص, وحتى كلمة (تفكيك) تكون إجراء, وتكون رؤية, وإشكالية المشتغلين عدم التمييز بين الرؤية والإجراء, وهذا ما أشار إليه الباحث, وهو يتحدث عن (التفكيكية), ولأهمية هذا الكتاب وحاجة المشهد إلى مثله فسوف تكون لي عودة تفصيلية لبعض وجوهه, وبخاصة عند حديثه عن (البنيوية التكوينية).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 24-11-2006, 02:47 PM   #14
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
إذا سَلِمْتَ..!
د. حسن بن فهد الهويمل


حمداً لله على ما أصاب.
وحمداً لله على ما أنعم.
ومثلما ألمنا للعارض، سعدنا بجلائه، وهكذا الدنيا فيوض من الأفراح والأتراح، وما كنا قادرين على احتمال أي حدث محزن، ولا سيما في ظروف تداعت فيها الأيدي الآثمة على مثمنات البلاد وأهلها، وإن كنا لا نقدر على رد القضاء، ولا نملك إلا الصبر والاحتساب وسؤال اللطف فيه. وكم تكون الشدائد خيِّرة معطاءة، لما تكشفه من معادن الرجال وقيم المجتمعات، ولما تعود به من فرج؛ إذ لا فرج إلا بعد شدة، ولن يغلب عسر يسرين، وما العارض الصحي الذي ألمَّ بالأمير العزيز (سلطان بن عبدالعزيز) إلا حلقة في سلسلة الابتلاء الذي يتعرض له الأفراد والجماعات والكيانات، وما هو إلا مجسٌّ تبدت فيه قيم نعرفها من قبل، ولكننا لم نكن نتصورها بهذا الحجم:
- تلاحم أسري.
- وتلاحم شعبي.
- وتقدير عالمي.
وبقدر ما أفزعنا الحدث، وتشعبت بنا قراءاته وتنبؤاته إلا أن فيوض المحبة أسعدتنا، كما سرتنا بوادر التظاهرة الإنسانية التي أحيط بها سموه من أشقائه وأبناء وطنه ورجالات العالم، وكل ما أفرزه العارض من اهتمام: محلي أو عربي أو إسلامي أو عالمي تحال قِيمه إلى الأمة التي أنجبت المحتفى به، وإلى الشعب الذي ينتمي إليه، وإلى السياسة المتوازنة التي تتصف بها مؤسسات البلاد، وهو رجل فاعل من خلالها، وما من أحد إلا ويتمنى أن يرى مكانته في النفوس، ويسمع شيوع ذكره الحسن على كل لسان. و(الذكر للإنسان عمر ثانِ). وما تَقاطُرُ الملوك والرؤساء وكبار الشخصيات على جناح سموه إلا تجسيدٌ عملي لمكانة البلاد ورجالاتها ووزنها الرزين في المحافل الدولية. وفي مثل هذه المظاهر تختلط مشاعر الزهو بمشاعر الخوف، حتى لا يكون بينهما برزخ فاصل.
ومثلما فزع (المتنبي) بآماله إلى الكذب من الخبر الذي طوى الجزيرة حتى بلغه فزعنا للأنباء المفاجئة عن الوضع الصحي لسموه الكريم، ولما لم يدع صدقه أملاً، عللنا أنفسنا بما صاحب ذلك من تدافع رجالات العالم للاطمئنان على صحته. وللعارض وتبعاته تداعياتهما وأثرهما في اضطراب المشاعر بين إشفاق واشتياق، غير أن ألسنتنا لم تتعثر في أفواهنا، كما تعثرت في فم المتنبي، بل أكثرنا من الحمد والشكر والدعاء أن يذهب بأس سموه، وأن ينعم عليه بالشفاء العاجل. ولا شك أن المحبين لسمو الأمير، العارفين بأفضاله، لا يحتملون ما تعرض له من وضع صحي أطال غيبته عن كافة المشاهد التي هي أحوج ما تكون إلى مثله، وليست لأحد القدرة على رد ما أراد الله، ومع كل ذلك يبتهج المحبون لسموه بهذا الاحتفاء المنقطع النظير، والتظاهرة التي قادها الأمير الإنسان (عبدالله بن عبدالعزيز) بزياراته المتكررة، بددت الخوف، وقوَّت العزمات، وخففت الآلام.
وتعرض سموه لهذه الوعكة، وما استدعته من تدخل جراحي في ظروف ضاغطة: محلياً وعربياً وعالمياً، وما تطلبته من فترة للنقاهة امتدت كأطول ما يكون الامتداد، وهي مدة أثارت الكثير من المواقف والتوقعات والهواجس، فما كان هناك متسع من الجهد، ولا فائض من الطاقة لاحتمال مزيد من المفاجآت غير السارة، وما كان من إجراء عملية جراحية ناجحة لسموه أدخل المهتمين بالشأن المحلي في دوامة من التساؤل والترقب، فما كان من السهل احتمال مثل هذا النبأ في ظل هذه الظروف العصيبة التي تجتاح العالم بأسره، وينفذ إلينا دخنها معكراً صفو أمننا واستقرارنا وسائر شؤوننا، ورجل مثل النائب الثاني لا يمكن الاستغناء عن مثله في ظل هذه الأوضاع المستحكمة.
فتعرض مسؤول بحجم سموه لحالة مرضية قد تبطئ بعودته إلى وضعه الطبيعي ومواصلة أدائه إلى جانب أشقائه ومواطنيه، والغياب الاضطراري سيترك أثراً في نفوس عارفيه ومحبيه، وسموه الذي شهد ما يكنه الناس له سيكون أرفع معنوية، وأقدر على مواجهة العارض وتحمل عقابيله، والمهتمون بوضعه الصحي تغمرهم السعادة من خلال التطمينات التي بثتها المؤسسة الصحية، وبعد أن تشرف بالسلام على خادم الحرمين وولي عهده الأمين تمهيداً لعودته إلى قواعده سالماً معافًى.
وانعكاسات الحدث وأثره على نفوس المواطنين عبرت عنه الزيارات المتكررة لسمو ولي العهد يوم أن كان طريح الفراش، ومن المبشرات أن الله لن يتر المؤمن الذي عرفه في الرخاء عمله، وأمر المؤمن كله عجب، فإذا أقعده المرض عن فعل الخير، كتب له ما كان يعمل من قبل، وإذا شِيك كتب له أجر ما يناله من ألم، وكل مسلم مرتهن بمرض أو أي عارض تمضي صدقاته الجارية في تعويض ما فات، وتمضي نيته الصالحة في كسب الخير، ولا شك أن وقع الحدث أشد أثراً على آلاف المستفيدين من فيوض إحسانه، من فقراء ومساكين وغارمين وأرامل وأيتام ومرضى، فوجئوا بهذا العارض على غير توقع، وكل مَن قيدهم إحسانه: (ومَن وجد الإحسان قيداً تقيَّدَا) يمطرونه بدعائهم الصادق، سائلين الله أن يذهب عن سموه البأس، وأن يكتب له الأجر والعافية، وأن يسبغ عليه نعمه الظاهرة والباطنة؛ ليستأنف سعيه في دروب الخير والعطاء، ويستأنف عمله في تصريف شؤون أمته عضداً قوياً وأميناً لأخويه اللذين شملاه بالعطف والرعاية وكل الذين يحملون همَّ أمتهم ويعرفون أوضاع المعوزين يشاطرون المشمولين بأفضاله فرحتهم.
وكم نحن متفائلون وواثقون ببشارة الصادق الأمين: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء).
والصدقات والأقدار تصطرع بين السماء والأرض، والصدقة تطفئ غضب الرب، وهي برهان على صدق الإيمان، وما من ساعٍ في حاجات الناس إلا وله مَن يسعى في حاجته، وكم هو الفرق بين سعي الله وسعي المخلوق، وعلى الذين أنعم الله عليهم من أهل الدثور والوجاهة أن يقتدوا، وأن يكبحوا جماح النفس الأمَّارة، وأن يبادروا بالإنفاق من مال الله الذي آتاهم، وأن يبذلوا ما أنعم الله به عليهم من الوجاهة، لتسهيل مهمات ذوي الحاجات. والمؤمن المفعم بحب عباد الله، العامر القلب بفضائل الأخلاق، يحبه الناس، وهذا الحب العفوي يحفزهم على الدعاء له بظهر الغيب ممن يعرفه وممن لا يعرفه، وممن شمله بإحسانه وممن سمع عن كرمه وإحسانه، وأبواب الله مفتوحة، وقد وعد بالاستجابة وطمأن بالقرب، وكم من رجل لا يُؤبه له لو أقسم على الله لأبره، والله عند وعده، ومَن أوفى بعهده من الله، ولقد قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}.
وما من مسلم سعى الأمير في حاجته إلا ويلهج بالثناء والدعاء، وكل مسلم عامر القلب بحب الخير لعباد الله مستغنٍ بما أنعم الله به عليه عما سواه يحب مَن أحب العباد، ومن ثَمَّ يكون الدعاء من أسير الإحسان ومن حبه للآخرين، وإجماع الناس على الحب والثناء يوجب القبول، وفي الحديث قصة الميتين اللذين مرت جنازتاهما على الناس، فأثنوا على واحدة، وذموا الأخرى، فما زاد الرسول صلى الله عليه وسلم على قوله: (وجبت، فالناس شهود الله في أرضه). وقوله تعليم واستنهاض.
والسعيد السعيد مَن سلم الناس من لسانه ويده، فكيف إذا طال الناس الإحسان من يده، والكلم الطيب من لسانه، وفاق برأيه وحكمته ومحتده وطلاقة وجهه. وتلك التظاهرة الاحتفائية تذكرة لمَن قعد بهم التسويف ممن أفاء الله عليهم بالمال أو بالجاه أو بالعلم أو بالمسؤولية، أو بهم جميعاً أو ببعضهم، وما أكثر ما يحول الشيطان بيننا وبين فضائل الأعمال، وكم يَعِدُنا بالفقر، ولو عرف المسوِّفون أنهم سيأتون الله فرادى تاركين ما خوَّلهم وراء ظهورهم لكان أن هانت عليهم نفوسهم ووجاهاتهم وأموالهم ثم تسلطوا عليها ينفقونها لإقالة العثرات وسد الفاقات.
لقد حرصت ألا تفوت مثل هذه الفرصة دون موعظة وتذكير، فلسنا مادحين، وليس سموه متطلعاً إلى المدح، ولكنها المناسبات السعيدة تحمل على الحمد والشكر والدعاء.
وهذه الوعكة التي ألمت بسموه ثم أنعم الله عليه بالصحة والعافية وأعاده إلى حيث كان ساعياً في حاجات الناس وحاجات وطنه، استدعت ما كنا نحفظه من عيون التراث العربي، وليس بدعاً أن تتداعى المتشابهات، وليس أقرب إلى الذاكرة من تلك الرائعة التي قالها أبو الطيب المتنبي بعدما عُوفي مثله الأعلى (سيف الدولة):




المجد عُوفي إذ عُوفيت والكرمُ
وزال عنك إلى أعدائك الألمُ
صحَّت بصحتك الغارات وابتهجت
بها المكارم وانهلَّت بها الدِّيَمُ
وما أخصُّك في برء بتهنئة
إذا سَلِمْتَ فكل الناس قد سلموا


فالمتنبي استدعى مكارم الأخلاق وخصال البطولة والإقدام وسداد الرأي، ومَن لم يكن ذا يسار وجاهٍ فقد وجَّهه المتنبي الوجهة السليمة:



(لا خيل عندك تهديها ولا مالُ
فليسعد النطق إن لم تسعد الحالُ)


لقد كنا في (جدة) يوم أن كان سموه على السرير الأبيض يتلقى فيوض المهنئين، وكان مرتَّباً لوفد (جامعة القصيم) أن يلتقي بولي العهد وسموه وسمو وزير الداخلية غير أن فترة النقاهة حالت دون ذلك، ولما يزل محبوه في (القصيم) يترقبون ما عوَّدهم عليه من زيارة سنوية أخوية، يطلع فيها على أحوالهم، ويلبي مطالبهم، ويزور أعيانهم.
اللهم أنزل لنا القبول في الأرض، واستعملنا في طاعتك، وشدَّ أزرنا لنسعى في حاجات عبادك، وجنِّب بلادنا وقادتنا وكل مخلص لدينه ووطنه غوائل الدهر وفجاءات النِّقم، فأنت وحدك مجيب المضطر إذا دعاه، وأنت وحدك كاشف السوء.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية

أدوات الموضوع
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 01:04 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)