بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » حـصـاد الإنـتـرنـت » شذرات المقالات ..

حـصـاد الإنـتـرنـت حصاد شبكة الإنترنت و المواضيع المنقولة

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 16-03-2014, 09:14 AM   #15
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
الفقرة الحادية عشر)

" الذاتي والعرضي "

قد علمتَ أن الماهية هي: ما به يكون الشيء نفسه، ولكي نحصل على ماهية الشيء لا بد من معرفة الأوصاف الجوهرية الأساسية التي بها يتحقق الشيء.
فتلك الأوصاف الجوهرية تسمى بالذاتيات، وبقية الأوصاف غير الذاتية تسمى بالعرَضيات.

فالذاتي هو: الوصف الأساسي الذي لو فقد فقدت الماهية.
والعرضي هو: الوصف الثانوي الذي لو فقد لم تفقد الماهية.
فلا تحقق للماهية بدون الذاتي.

ولكن يبقى السؤال المهم كيف نفرق بين الوصف الأساسي، وغير الأساسي؟
وقد أجابوا عن ذلك بأن الذاتي لا يمكن تصور الشيء بدونه.
والعرضي يمكن تصور الشيء بدونه.

مثال: الإنسان لا يمكن تصوره إلا بالحيوانية والناطقية فيكونان وصفين ذاتيين.
فلا يمكن أن نتصوره وهو غير حيوان أي غير جسم حي فحينئذ يكون ماذا هل هو صوت أو رائحة تشم أو لون يقوم بجسم، وكذا لا يمكن تصوره بدون أن يكون مفكرا عاقلا لأنه سينتمي إلى حقيقة وفئة أخرى.

بينما يمكن تصور الإنسان في الذهن من دون أن يخطر على ذهنك أنه ضاحك، أو منتصب القامة.
لأن ماهية الإنسان لا تتصور إلا بالذاتي، بينما العرضي لا دخل له في ذلك التصور.
فمع كون التفكير والضحك لازمين للإنسان لا ينفكان عنه في الواقع الخارجي، إلا أنهم قالوا إن الذهن يفرق بين النطق فيجعله وصفا ذاتيا لا يتعقل الإنسان بدونه، ويجعل الضحك وصفا عرضيا لأنه يتأتى تعقل الإنسان في الذهن بدون تعقل كونه ضاحكا.

مثال: الأربعة هي وحدات حاصلة من ضم 1+1+1+1.
فحينئذ لا يتأتى تعقل الأربعة دون تعقل تلك الوحدات المضاف بعضها إلى بعض فتكون ذاتية جوهرية أساسية وبالتالي تكون جزء من ماهية الأربعة.

بينما يمكن تعقل الأربعة بدون أن يخطر على الذهن أنها زوج.
فمع كون الأربعة لازمة لزوما ذهنيا وخارجيا للأربعة إلا أنها تعتبر صفة عرضية ثانوية خارجة عن ماهية الأربعة.

فتلخص من ذلك أن الماهية تضم مجموعة من الذاتيات، فما كان جزء من الماهية فهو ذاتي، وما خرج عن الماهية فهو عرضي.

( تعقيب )

إن التفرقة بين الذاتي والعرضي ليست بالمفيدة لطالب العم في العلوم الشرعية وغيرها، بل عليه أن يركز في استخراج الأوصاف الخاصة بالشيء لكي يحصل له التمييز بينها وبين غيرها من الحقائق.

أما إشغال الذهن بالتفريق بين الشيء اللازم والذاتي فعقيم فإن القصد هو حصول المعرفة والتمييز بين الأشياء والمصطلحات وهو حاصل بغير هذه التفرقة.
هذا مع اعتراف حذاق المناطقة بعسر التفرقة بين الذاتي واللازم الذهني الخارجي معا.

وتعقب كثير من العلماء المناطقة في هذه التفرقة وقالوا:
إنها لا دليل عليها وليس عندكم مقياس سليم للتفرقة بينهما.

وما يتصوره بعض الأذهان على أنه ذاتي يمكن أن يتصوره غيره على أنه عرضي، وأدل دليل على ذلك كثرة الاختلافات في التعاريف بل حتى في تعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق لم يسلم من اعتراضات المناطقة أنفسهم دع عنك غيرهم.

ثم إن حقائق الأشياء الخارجية لا تكون تبعا لتصوراتنا الذهنية إن تصورناها كذا، كانت في الواقع كذا بل لها وجود مستقل عن إدراكنا وتصورنا لها.

وأقوى من تعقبهم في ذلك هو الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.


( مناقشات )

1- في ضوء ما تقدم كيف تفرق بين الذاتي والعرضي عند المناطقة؟
2- من أين جاء عسر التفرقة بين الذاتي والعرض اللازم عند المناطقة؟
3- ما هو رأيك في الخلاف الدائر بين مثبتي الذاتيات ونفاتها؟
الزنقب غير متصل  
قديم(ـة) 16-03-2014, 09:15 AM   #16
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
الفقرة الثانية عشر )

( أنواع الذاتي )

قد علمتَ أن الذاتي هو الوصف الجوهري للماهية، ولا تتحقق الماهية بدون ذاتياتها، وهذه الذاتيات ثلاثة هي:
أولا: الجنس.
ثانيا: الفصل.
ثالثا: النوع.

فالجنس هو: جزء الماهية الأعم منها.
ومعنى كونه أعم من الماهية أنه يصدق عليها وعلى غيرها من الماهيات والحقائق.

مثال: الحيوان بالنسبة للإنسان.
هو ذاتي له لا قيام للإنسان بدون الحيوانية.
والحيوانية كما تحمل على الإنسان تحمل على غيره من الماهيات.

نقول: الإنسان حيوان، فهنا حملنا الحيوانية على الإنسان.
ونقول الفرس حيوان، والحمار حيوان، والكلب حيوان وغيرها، فهنا حملنا الحيوانية على غير ماهية الإنسان.
فالحيوان جنس لأنه يحمل على ماهيات مختلفة كالإنسان والفرس والحمار والكلب والأسد والفيل والنسر والصقر والسمك والتمساح فهو لذلك أعم من الإنسان لأنه كما أن الإنسان جسم نام حساس متحرك بالإرادة، فكذلك بقية الحيوانات.

مثال: المعدن بالنسبة للذهب.
هو ذاتي له لا قيام للذهب بدون المعدنية.
والمعدنية كما تحمل على الذهب تحمل على غيره من بقية المعادن.

نقول: الذهب معدن، فهنا حملنا المعدنية على الذهب.
ونقول: الفضة معدن، والرصاص معدن، والحديد معدن وغيرها، فهنا حملنا المعدنية على غير ماهية الذهب.
فالمعدن جنس لأنه يحمل على ماهيات مختلفة كالذهب والفضة والرصاص والحديد والنحاس فهو لذلك أعم من الذهب.

مثال: النبات بالنسبة للقمح. هو ذاتي له لا قيام للقمح بدون النباتية. والنباتية كما تحمل على القمح تحمل على غيره.

نقول: القمح نبات، فهنا حملنا النباتية على القمح.
ونقول: الشعير نبات، والرز نبات، والبرسيم نبات، والذرة نبات، فهنا حملنا النباتية على غر ماهية القمح.
فالنبات جنس لأنه يحمل على ماهيات مختلفة كالقمح والشعير والرز والبرسيم والذرة فهو لذلك أعم من القمح.

وأما الفصل فهو: جزء الماهية الخاص بها.
ومعنى كونه خاصا بها أنه لا يصدق إلا عليها، فلا توجد ماهيات أخرى تتصف بهذا الفصل.

مثال: الناطق بالنسبة للإنسان.
هو ذاتي له لا قيام للإنسان بدون الناطقية.
والناطقية مختصة بالإنسان فلا يشترك معه فيها بقية الماهيات التي تشترك معه بالجنس.
أي أن الإنسان والفرس والأسد ونحوها تشترك مع الإنسان في الجنس الذي هو الحيوان ولا تشارك الإنسان في الناطق فهو قد انفرد عنها بالناطقية فلذا سمي فصلا لأنه يفصل كل ماهية عن الأخرى.

مثال: الصاهل بالنسبة للفرس.
هو ذاتي له لا قيام للفرس بدون الصاهلية.
والصاهلية مختصة بالفرس فلا يشترك معه فيها بقية الحيوانات التي تشترك معه بالجنس.

مثال: المسكر بالنسبة للخمر.
هو ذاتي له لا قيام للخمر بدون الإسكار.
والإسكار مختص بالخمر فلا يشترك معه فيها بقية الأشربة كالماء واللبن والخل والعسل التي تشترك معه بالجنس الذي هو الشراب.


وأما النوع فهو: تمام الماهية.
فهو مجموع الذاتيات الجنس والفصل.

مثال: الإنسان هو نوع لأن ماهية الإنسان هي حيوان ناطق، أي أن الماهية تتم بهذين الوصفين فإذا وجدا وجد النوع الإنساني.

مثال: الفرس هو نوع لأن ماهية الفرس هي حيوان صاهل، أي أن الماهية تتم بهذين الوصفين فإذا وجدا وجد النوع الفرسي.

مثال: الخمر هي نوع لأن ماهيتها هي شراب مسكر، أي أن الماهية تتم بهذين الوصفين فإذا وجدا وجد نوع هو الخمر.

ثم إن النوع يشتمل على الأفراد.
فالجنس تحته النوع وتحت النوع الفرد.

مثال: الحيوان جنس، والإنسان نوع، وزيد وعمرو وهند أفراد للإنسان.
مثال: الحيوان جنس، والفرس نوع، وهذا الفرس وتلك الفرس أفراد. مثال: المعدن جنس، والذهب نوع، وهذا الذهب أو ذاك أفراد. مثال: النبات جنس، والقمح نوع، وهذا القمح أو ذاك أفراد.
مثال: الشراب جنس، والعسل نوع، وهذا العسل أو ذاك أفراد.
وعليه فقس.

وهنا سؤال وهو: أن الجنس يشتمل على كثرة، والنوع أيضا يشتمل على كثرة فكيف نميز بينهما؟
مثال: الحيوان يشتمل على الإنسان والفرس والأسد ونحوه، والإنسان يشتمل على زيد وعمرو وهند ونحوهم.

والجواب: إن الجنس تحته كثرة مختلفة في الماهية والحقيقة، والنوع تحته أفراد متفقة في الماهية والحقيقة.
مثال: الحيوان تحته الإنسان والفرس والأسد وكلها مختلفة في الحقيقية، إذْ أن الإنسان: حيوان ناطق، والفرس حيوان صاهل، والأسد حيوان زائر.

فالاختلاف في الفصل يعني الاختلاف في الحقيقة.
أما النوع مثل الإنسان فيوجد تحته كثرة متفقة في الحقيقة فزيد وعمرو وهند كلهم حيوانات ناطقة فلا يختلفون في الماهية والذاتيات وإنما يختلفون في العرضيات ككون فلانا ذكرا والآخر أنثى وذاك ولد في عام كذا وذاك عربي وهذا فارسي ونحو ذلك.
( مناقشات )

1- في ضوء ما تقدم كيف تفرق بين الجنس والفصل والنوع؟
2- كيف نميّز بين الأشياء المشتركة في الماهية والأشياء المختلفة فيها؟
3- لماذا لم يجعل الذكر والأنثى أنواعا للإنسان ؟

( تمارين )

رتب الأجناس والأنواع والأفراد فيما يأتي:
1- ( الصلاة- الصوم- العبادة – هذه الصلاة - الحج - هذا الصوم العبادة- هذا الحج ).
2- ( الاسم – اللفظة المفردة- ضرب- الأداة- شجرة- الكلمة- في ).
الزنقب غير متصل  
قديم(ـة) 16-03-2014, 09:16 AM   #17
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
الفقرة الثالثة عشر )

( أقسام الجنس والفصل )

قد علمتَ أن الذاتي ثلاثة أنواع: جنس وفصل ونوع، وأن الجنس هو جزء الماهية الأعم منها ثم إن الجنس والفصل قسمان:
1- قريب.
2- بعيد.

فالجنس القريب هو: ما تحته نوع.
والجنس البعيد هو: ما تحته جنس آخر.

مثال: الحيوان تحته أنواع هي الإنسان والفرس والأسد ونحوه، وتحت هذه الأنواع أفرادها فهنا الحيوان يسمى جنسا قريبا، لأنه أقرب جنس للإنسان وبقية الحيوانات.

مثال: الجسم النامي هو جنس تحته أجناس هي الحيوان والنبات فكلاهما أجسام حية نامية ولهذا نقول في تعريف الحيوان جسم نام حساس متحرك بالإرادة، فالحساس والمتحرك بالإرادة يفصلان الحيوان عن النبات لأنه ليس حساسا ولا يتحرك بالإرادة.
فيكون الجسم النامي جنسا بعيدا للإنسان ولبقية الحيوانات، وهنا ما تحت الجسم النامي أجناس وليست أنواعا، لأن الحيوان يحتوي على كثرة مختلفة في الماهية وكذا النبات.

وبعبارة أخرى إن الجنس القريب هو أقرب الأجناس إلى النوع، وما فوق هذا الجنس يسمى جنسا بعيدا لأن النوع كالإنسان يتحقق وتتقوم ذاته بالحيوان والناطق، والحيوان تتقوم ذاته بالجسم النامي وما يدخل في ماهية الجنس يدخل في ماهية النوع بلا شك.

وللتقريب نشبه ذلك بالإنسان وأبيه وجده، فالأب كالجنس القريب لابنه لأنه أصل له والجد هو أيضا جنس للحفيد ولكنه جنس بعيد، وجد الجد كذلك وما فوقه كذلك هم كالأجناس البعيدة.

مثال: الجسم هو جنس تحته أجناس هي الجسم النامي، والجسم غير النامي كالجمادات مثل الحجر والخشب والمعادن فكلها أجسام ولكنها أجسام غير نامية إذْ هي جماد.
فحينئذ يكون الجسم جنسا بعيدا للإنسان وبقية الحيوانات ولكنه أبعد من الجسم النامي.

فترتيب الأجناس هكذا:
جسم ....... جسم نام ....... حيوان ....... إنسان.
جنس بعيد - جنس بعيد - جنس قريب - نوع.
والجنس البعيد يكون ذاتيا للنوع أي يكون الجسم ذاتيا للإنسان.

مثال: الصوت جنس تحته أجناس وهي اللفظ والصوت الخالي من الأحرف، ثم اللفظ يكون جنسا أيضا وتحته أجناس هي المستعمل والمهمل ثم اللفظ المستعمل المفرد والمركب، ثم المفرد جنس تحته ثلاثة أنواع هي الاسم والفعل والحرف وتحت هذه أمثلتها.

فترتيب الأجناس هكذا:
الصوت ....... اللفظ ....... المستعمل ....... اللفظ المفرد ....... الاسم.
جنس بعيد - جنس بعيد - جنس بعيد - جنس قريب - نوع.
والجنس البعيد يكون ذاتيا للنوع أي يكون الصوت ذاتيا للاسم.

وأما الفصل القريب فهو: فصل النوع.
والفصل البعيد هو: فصل الجنس الذي فوقه.

مثال: الإنسان نوع وماهيته هي حيوان ناطق، فالحيوان جنس قريب له، والناطق فصل قريب لأنه فصله عن بقية الأنواع التي تشاركه في الحيوانية كالفرس والأسد.

مثال: الحيوان جنس وماهيته هي جسم نام حساس متحرك بالإرادة، فالجسم النامي جنس له والحساس المتحرك بالإرادة فصل للحيوان فصله عن النبات التي تشاركه في الجنس الذي هو الجسم النامي.
وحينئذ يكون الحساس المتحرك بالإرادة فصلا بعيدا للإنسان يفصله عن النبات ولا يفصله عن أنواع الحيوانات.
والفصل البعيد يكون ذاتيا للنوع أي يكون الحساس المتحرك بالإرادة ذاتيا للإنسان.

ولهذا لو أردنا أن نختصر قلنا الإنسان حيوان ناطق.
ولو أردنا أن نفصل بحيث نذكر جميع ذاتيات الإنسان نقول هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق، فهذه جميع ذاتياته.
مثال: الجسم منه نام وهو النبات والحيوان وغير نام من الجمادات.
فحينئذ يكون النامي فصلا للنبات والحيوان عن الجمادات.
وهو فصل بعيد للإنسان يفصله عن الجمادات.

مثال: الاسم نوع وماهيته هي كلمة دلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمن, مثل رجل.
فالكلمة جنس الاسم ودلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمن فصل له يفصله عن الفعل والحرف، وهذا فصل قريب.

مثال: اللفظ المستعمل المفرد الذي يسمى في النحو بالكلمة هو جنس تحته أنواع هي الاسم والفعل والحرف، فجنس الكلمة اللفظ المستعمل وفصلها هو المفرد.
فحينئذ يكون المفرد فصلا بعيدا للاسم يفصله عن المركب.
وعليه فقس.

تنبيه: ذكرنا أن النوع هو الذي تحته كثرة متفقة في الحقيقة مثل الإنسان فتحته زيد وهند وهم متفقون في الحقيقة التي هي الحيوان الناطق، ويختلفان في العرضيات التي هي الذكورة والأنوثة
فهذا يسمى بالنوع الحقيقي.

وهنالك مصطلح آخر وهو النوع الإضافي وهو الجنس إذا قسناه إلى ما فوقه.
مثال: الحيوان جنس للإنسان والفرس وهو نوع للجسم النامي.
مثال: الجسم النامي هو جنس للحيوان والنبات، وهو نوع بالإضافة إلى ما فوقه وهو الجسم.
مثال: اللفظ هو جنس للمستعمل والمهمل، وهو نوع بالإضافة إلى الصوت، وهكذا.

( مناقشات )

1- في ضوء ما تقدم كيف تميز بين الجنس القريب والجنس البعيد ؟
2- ما الفرق بين الفصل القريب والفصل البعيد؟
3- ما علاقة الجنس البعيد والفصل البعيد للنوع؟

( تمارين )

ميز بين الذاتي والعرضي مع ترتيب الأجناس والفصول من القريب إلى البعيد فيما يلي:
( الخمر جسم مائع مضر بالصحة مسكر شراب محرم شرعا فيه تبذير للمال ).


أبو مصطفى البغدادي
مشاهدة ملفه الشخصي
البحث عن كافة المشاركات المكتوبة بواسطة أبو مصطفى البغدادي

#47 25-10-11, 11:10 pm
أبو مصطفى البغدادي
وفقه الله تاريخ التسجيل: 14-08-11
المشاركات: 838

رد: ::دروس في شرح المنطق ( هل تريد أن تفهم المنطق وأنت جالس في بيتك ) تفضل بالدخول::

--------------------------------------------------------------------------------

( الفقرة الثالثة عشر )

( أقسام الجنس والفصل )

قد علمتَ أن الذاتي ثلاثة أنواع: جنس وفصل ونوع، وأن الجنس هو جزء الماهية الأعم منها ثم إن الجنس والفصل قسمان:
1- قريب.
2- بعيد.

فالجنس القريب هو: ما تحته نوع.
والجنس البعيد هو: ما تحته جنس آخر.

مثال: الحيوان تحته أنواع هي الإنسان والفرس والأسد ونحوه، وتحت هذه الأنواع أفرادها فهنا الحيوان يسمى جنسا قريبا، لأنه أقرب جنس للإنسان وبقية الحيوانات.

مثال: الجسم النامي هو جنس تحته أجناس هي الحيوان والنبات فكلاهما أجسام حية نامية ولهذا نقول في تعريف الحيوان جسم نام حساس متحرك بالإرادة، فالحساس والمتحرك بالإرادة يفصلان الحيوان عن النبات لأنه ليس حساسا ولا يتحرك بالإرادة.
فيكون الجسم النامي جنسا بعيدا للإنسان ولبقية الحيوانات، وهنا ما تحت الجسم النامي أجناس وليست أنواعا، لأن الحيوان يحتوي على كثرة مختلفة في الماهية وكذا النبات.

وبعبارة أخرى إن الجنس القريب هو أقرب الأجناس إلى النوع، وما فوق هذا الجنس يسمى جنسا بعيدا لأن النوع كالإنسان يتحقق وتتقوم ذاته بالحيوان والناطق، والحيوان تتقوم ذاته بالجسم النامي وما يدخل في ماهية الجنس يدخل في ماهية النوع بلا شك.

وللتقريب نشبه ذلك بالإنسان وأبيه وجده، فالأب كالجنس القريب لابنه لأنه أصل له والجد هو أيضا جنس للحفيد ولكنه جنس بعيد، وجد الجد كذلك وما فوقه كذلك هم كالأجناس البعيدة.

مثال: الجسم هو جنس تحته أجناس هي الجسم النامي، والجسم غير النامي كالجمادات مثل الحجر والخشب والمعادن فكلها أجسام ولكنها أجسام غير نامية إذْ هي جماد.
فحينئذ يكون الجسم جنسا بعيدا للإنسان وبقية الحيوانات ولكنه أبعد من الجسم النامي.

فترتيب الأجناس هكذا:
جسم ....... جسم نام ....... حيوان ....... إنسان.
جنس بعيد - جنس بعيد - جنس قريب - نوع.
والجنس البعيد يكون ذاتيا للنوع أي يكون الجسم ذاتيا للإنسان.

مثال: الصوت جنس تحته أجناس وهي اللفظ والصوت الخالي من الأحرف، ثم اللفظ يكون جنسا أيضا وتحته أجناس هي المستعمل والمهمل ثم اللفظ المستعمل المفرد والمركب، ثم المفرد جنس تحته ثلاثة أنواع هي الاسم والفعل والحرف وتحت هذه أمثلتها.

فترتيب الأجناس هكذا:
الصوت ....... اللفظ ....... المستعمل ....... اللفظ المفرد ....... الاسم.
جنس بعيد - جنس بعيد - جنس بعيد - جنس قريب - نوع.
والجنس البعيد يكون ذاتيا للنوع أي يكون الصوت ذاتيا للاسم.

وأما الفصل القريب فهو: فصل النوع.
والفصل البعيد هو: فصل الجنس الذي فوقه.

مثال: الإنسان نوع وماهيته هي حيوان ناطق، فالحيوان جنس قريب له، والناطق فصل قريب لأنه فصله عن بقية الأنواع التي تشاركه في الحيوانية كالفرس والأسد.

مثال: الحيوان جنس وماهيته هي جسم نام حساس متحرك بالإرادة، فالجسم النامي جنس له والحساس المتحرك بالإرادة فصل للحيوان فصله عن النبات التي تشاركه في الجنس الذي هو الجسم النامي.
وحينئذ يكون الحساس المتحرك بالإرادة فصلا بعيدا للإنسان يفصله عن النبات ولا يفصله عن أنواع الحيوانات.
والفصل البعيد يكون ذاتيا للنوع أي يكون الحساس المتحرك بالإرادة ذاتيا للإنسان.

ولهذا لو أردنا أن نختصر قلنا الإنسان حيوان ناطق.
ولو أردنا أن نفصل بحيث نذكر جميع ذاتيات الإنسان نقول هو جسم نام حساس متحرك بالإرادة ناطق، فهذه جميع ذاتياته.
مثال: الجسم منه نام وهو النبات والحيوان وغير نام من الجمادات.
فحينئذ يكون النامي فصلا للنبات والحيوان عن الجمادات.
وهو فصل بعيد للإنسان يفصله عن الجمادات.

مثال: الاسم نوع وماهيته هي كلمة دلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمن, مثل رجل.
فالكلمة جنس الاسم ودلت على معنى في نفسها ولم تقترن بزمن فصل له يفصله عن الفعل والحرف، وهذا فصل قريب.

مثال: اللفظ المستعمل المفرد الذي يسمى في النحو بالكلمة هو جنس تحته أنواع هي الاسم والفعل والحرف، فجنس الكلمة اللفظ المستعمل وفصلها هو المفرد.
فحينئذ يكون المفرد فصلا بعيدا للاسم يفصله عن المركب.
وعليه فقس.

تنبيه: ذكرنا أن النوع هو الذي تحته كثرة متفقة في الحقيقة مثل الإنسان فتحته زيد وهند وهم متفقون في الحقيقة التي هي الحيوان الناطق، ويختلفان في العرضيات التي هي الذكورة والأنوثة
فهذا يسمى بالنوع الحقيقي.

وهنالك مصطلح آخر وهو النوع الإضافي وهو الجنس إذا قسناه إلى ما فوقه.
مثال: الحيوان جنس للإنسان والفرس وهو نوع للجسم النامي.
مثال: الجسم النامي هو جنس للحيوان والنبات، وهو نوع بالإضافة إلى ما فوقه وهو الجسم.
مثال: اللفظ هو جنس للمستعمل والمهمل، وهو نوع بالإضافة إلى الصوت، وهكذا.

( مناقشات )

1- في ضوء ما تقدم كيف تميز بين الجنس القريب والجنس البعيد ؟
2- ما الفرق بين الفصل القريب والفصل البعيد؟
3- ما علاقة الجنس البعيد والفصل البعيد للنوع؟

( تمارين )

ميز بين الذاتي والعرضي مع ترتيب الأجناس والفصول من القريب إلى البعيد فيما يلي:
( الخمر جسم مائع مضر بالصحة مسكر شراب محرم شرعا فيه تبذير للمال ).
الزنقب غير متصل  
قديم(ـة) 16-03-2014, 09:25 AM   #18
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
السعادة والاقتصاد:
في المجال الاقتصادي يفسر الاقتصاديون عادة سلوك المستهلك عندما يريد تحديد خطته الإنفاقية بقوله : إن الإنسان يرغب في الحصول على المجموعة السلعية التي تحقق له أكبر قدر من المنفعة . ويعرفون المنفعة كما يعرفها "بنثام" بأنها هي التي تخلق الإشباع والسعادة، والإشباع عند الاقتصاديين مسألة ذاتية ليس لها معايير موضوعية وتختلف من شخص إلى آخر ؛ فقدر المنفعة الناتج من الاستهلاك سلعة معينة يختلف من شخص إلى شخص ؛ وذلك لاختلاف أذواق المستهلكين . فالاقتصادي يهتم برغبات الناس الفعلية ويفترض سيادة المستهلك.
إن الفرضية القائلة بأن معايير الإشباع ذاتية – غير مسلم بها على إطلاقها . وسيأتي الحديث عن ذاتية وموضعية معايير السعادة ، وعلى أية حال فإن البحوث الاقتصادية في اعتقادي ليست ذات قيمة كبيرة في تحديد مفهوم السعادة، بخلاف الحال بالنسبة لبحوث علم النفس والأخلاق ، بل أنها تعتمد على هذه البحوث في هذين المجالين.
مفهوم السعادة والقانون والسياسة:
لم يكن أثر "بنتثام" في مجال الاقتصاد فقط ؛ ولكن كان أثره السياسي في مجال القانون والتشريع والسياسية ؛ فقد أسس القانون والتشريع على أساس المنفعة ، وكان لأفكاره هذه أثر كبير في الفكر المعاصر . واعتبر مبدأ المنفعة العامة معياراً لنقد القوانين وإصلاحها وإنشائها . وهذا يعني أن تبرير القوانين والتشريعات يكون بالنتائج التي تترتب على تطبيقها، فإذا كانت القوانين والتشريعات تؤدي إلى سعادة المجتمع وتخدم مصالحه فهي مقبولة ؛ وإذا لم تكن كذلك فهي مرفوضة . وقديماً أشار ابن مسكويه إلى العلاقة بين مفهوم السعادة والسياسية بقوله "ينبغي أن نعلم أن كل إنسان معد نحو فضيلة ما ، إليها أقرب وبالوصول إليها أحرى لذلك تعتبر سعادة الواحد من الناس غير سعادة الآخر ، لأجل هذا يجب على مدبر المدن أن يسوق كل إنسان إلى سعادته التي تخصه ".
مفهوم السعادة وعلم الأخلاق:
يحتل مفهوم السعادة مكانه كبيرة في علم الأخلاق المعياري "Normative Ethics" فهو أساس ما يعرف بأخلاق الفضيلة "Virtue Ethics" وقد نما هذا الاتجاه نمواً مطرداً في الآونة الاخيرة ،وكذلك يمثل مفهوم السعادة الأساس لنظرية المنفعة العامة إلا أن الفيلسوف "أسس الأخلاق على مفهوم الواجب والنية الحسنة وأسسها راولز" "Rawls" على مفهوم العقد.
لمحة تاريخية :
سنتحدث في هذه اللمحة التاريخية عن مفهوم السعادة عند ارسطوطاليس وعند ابن مسكويه وفي الفكر الحديث عند "بنتام" "ومل" ولكننا لا نهدف في هذه اللمحة إلى استقصاء آراء كل هؤلاء الفلاسفة ، وسنكتفي بعرض أفكارهم الأساسية.
مفهوم السعادة عند أرسطوطاليس:
تناول "أرسطوطاليس" مفهوم السعادة في كتاباته الفلسفية بالدراسة والتحليل ولقد أهتم الدارسون قديماً وحديثاً بما كتبه أرسطوطاليس عن هذا المفهوم وشرحوه وعلقوا عليه ، ولكنهم اختلفوا في فهمهم لمفهوم السعادة عنده وأعطوه تفسيرات عدة وأقرب هذه التفاسير لمقاصده أنه : عد السعادة الغاية القصوى للإنسان ، وأنها مطلوبة لذاتها لا لشيء آخر ، وأنها تامة ومكتفية بذاتها وأنها تحوي الخير الأقصى وجديرة بالاختيار .
ولكنه ليس من الواضح قوامها هل هو شيء واحد أو أشياء مختلفة ، ففي الكتاب الأول المسمى "بالأخلاق النوخوماخية" ذكر أن قوامها يعتمد على أمور كثيرة أهمها الفضائل الخلقية ، والفضائل العقلية ؛ ولكنه ذكر في الكتاب العاشر أن قوامها واحد وأنها تطابق التأمل الفلسفي وحده . ويرى أرسطوطاليس أن حدوث المصائب العظيمة للشخص تسلب صفة السعادة عنه ولا تسلب المصائب الصغيرة هذه الصفة عنه .
مفهوم السعادة عند ابن مسكويه:
قال ابن مسكويه إن السعادة أفضل خير وهي تمام الخيرات وغايتها ؛ ولكنها تحتاج في مرتبتها الأولى من هذا التمام إلى أشياء في البدن وخارج البدن ؛ أما إذا بلغ الإنسان المرتبة العليا من السعادة فإنه لا يحتاج معها إلى شيء أخر .
واستعرض رأيين متقابلين عن السعادة : رأي نسبه إلى ارسطو ، والآخر نسبه إلى فيثاغورس وبقراط وأفلاطون ثم خلص في النهاية إلى رأي أعتمده وقد ذكر ابن مسكويه في بداية حديثه ن آراء أرسطوطاليس رأيه القائل : بأن للسعادة مقومات لو اجتمعت في شخص صار السعيد الكامل ومن حصل له بعضها كان حظه من السعادة حسب ذلك ؛ وهذه المقومات هي : صحة البدن من سلامة الجوارح والحواس، واعتدال المزاج، والثروة والأعوان وان تحسن أحدوثته بين الناس وينتشر ذكره بين أهل الفضل ويكثروا الثناء عليه، وأن يكن ناجحاً محققاً أهدافه ومقاصده، وأن يكون جيد الرأي صحيح الفكر سليم الاعتقادات واخبرنا ابن مسكويه أن ارسطوطاليس علل هذا الرأي بقوله "إنه يعسر على الإنسان أن يفعل الأفعال الشريفة بلا مادة مثل اتساع اليد وكثرة الأصدقاء وجودة البخت"
ثم أورد الرأي الآخر الذي نسبه إلى أفلاطون ومن وافقه والذي أجمعوا فيه على أن قوام السعادة في قوى النفس الخلقية التي هي الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة وأجمعوا على أن هذا الفضائل كافية للسعادة ، ولا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن ولا ما هو خارج البدن ولم يضره في سعادته أن يكون سقيماً ثم ذكر أن "المحققين من الفلاسفة يحقرون أمر البخت ولا يؤهلون الأشياء خارج النفس لاسم السعادة ؛ لأن السعادة شيء ثابت لا متغير ، وأنها أرفع الأمور وأشرفها ولا يجعلون لما دون العقل والفضيلة فيها نصيباً"
وذكر لأرسطوطاليس رأيا آخر قال فيه : إن السعادة في التخلق بأوصاف الله التي يحي الإنسان فيها حياة التأمل والنظر والفكر . وحاول أن يحل التعارض بين رأي ارسطوطاليس بأن ذكر أن الرأي الأول يمثل المرتبة الدنيا من السعادة والرأي الثاني المرتبة العليا.
يقول ابن مسكويه : "فالسعيد من الناس يكون في إحدى مرتبتين: إما مرتبة الأشياء الجسمانية : متعلقاً بأحوالها السفلى بها ، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة بأحثاً عنها مشتاقاً إليها متحركاً نحوها مغتبطاً بها . وإما أن يكون في مرتبة الأشياء الروحانية متعلقاً بأحوالها العليا سعيداً بها ، وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية ـ معتبراً بها ناظراً في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة مقتدياً بها ناظماً لها مفضياً للخيرات عليها" .
"يتعلق الإنسان في المرتبة الأولى بأحواله الجسمانية ، وهو في المرتبة الثانية يتحرر منها لما توفر له من حكمة ، فهو في المرحلة الثانية لا يفعل إلا ما أراده الله منه، ولا يختار إلا ما قربه إليه، ولا يخالفه إلى شيء من شهواته الرديئة . وهو الذي يرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا التي هي من السعادات التي في بدنه والخارجة عنه كلها كلا عليه : إلا في ضرورات يحتاج إليها لبدنه الذي هو مربوط به لا يستطيع الإنحلال عنه ، إلا عند مشيئة خالقه. "
ثم ذكر ثلاث مراتب للسعادة هي :-
1. مرتبة يلبي فيها الإنسان رغبات البدن والحس ولكن باعتدال .
2. مرتبة لا يكثر فيها برغبات الجسد وشهوات النفس إلا بما تدعو إليه الضرورة .
3. المرتبة العليا مرتبة الفضيلة الإلهية المحضة التي لا يطلب فيها حظاً من الحظوظ الإنسانية ولا ما تدعو إليه الضرورة ، فتكون أفعال الإنسان كلها أفعالاً إلهية اوهذه الأفعال هي خير محض ، وأن يكون فعله لا يطلب به حظاً ولا مجازاة ولا عوضاً ، ويكون فعله عين غرضه ، أي : ليس يفعل ما يفعله من أجل شيء غير ذات الفعل ؛ لنفس الفضيلة ولنفس الخير لا لاجتلاب منفعة ولا لدفع مضرة ولا للتباهي وطلب الرياسة ومحبة الكرامة ؛ فهذا غرض الفلسفة ومنتهى السعادة ؛ إلا أن الإنسان لا يصل إلى هذه الحالة حتى تفني إرادته كلها التي بحسب الأمور الخارجية ؛ وتفني العوارض النفسانية ؛ وتموت الخواطر التي تكون عن العوارض ؛ ويمتلئ سعاراً إلهياً وهمة إلهية ؛ معرفة إلهية ؛ ويوقن بالأمور الإلهية .
والسعيد لا يخرجه من حد السعادة ولو ابتلى ببلايا أيوب ، ومهما ترد عليه من النكبات والنوائب وأنواع المحن والمصائب لا يلحقه ما يلحق غيره من المشقة ، فهو يقدر علي ضبط نفسه ولا تخرجه عن حد السعادة البتة . وقال ابن مسكوية : إن المراتب كثيرة بعضها فوق بعض ، وأسباب اختلاف مراتب الناس في السعادة يرجع الي اختلاف طبائعهم وعاداتهم وفهمهم وعلمهم وهمهم وجدهم وشوقهم ومعاناتهم .
إن ما قاله ابن مسكويه عن حقيقة السعادة كلام عميق وجذاب ويحتاج الي وقفة تأمل ونظر . وإن حديثه عن السعادة ، على الرغم مما فيه من أفكار ثاقبة يحتوي على بعض المثالب التي سنكتشف عنها ، فنظرية ابن مسكويه في السعادة كنظرية أرسطوطاليس يمكن أن تصنف على أنها نظرية للسعادة غالبة Dominant أي نظرية تغلب جانباً معيناً من الجوانب التي تسبب السعادة ، فهي تغلب جانب الفكر والتأمل بوصفها سبباً للحصول على السعادة ، فلكي يكون جانب الفكر والتأمل الجانب الغالب في حياة الانسان عليه ان يجاهد رغباته ودواعي نفسه حتى تموت ويتحكم في إرادته حتى تفنى بالكلية ، هذا الفناء الذي قال به ابن مسكويه شبيه بالفناء الذي عبر عنه ابن تيمية ووصفه بفناء الإرادة ومعنى فناء الإرادة ـ الذي هو فناء الأنبياء والصالحين ـ هو أن تفنى إرادة الانسان فيصير لا يحب إلا ما يحب الله ولا يريد إلا ما يريد الله ، فهو طائع الله طاعة مطلقة ، لكن هل يمكن أن تموت كل دواعي طباع الانسان البدنية وتصير حياته حياة فكر وتأمل صرفة ؟ وهل يمكن أن يصير مخلوقاً يعيش بالفكر والنظر ؟ وهل يمكن أن يفعل الانسان ـ كما ذكر ابن مسكويه لأجل الفعل ذاته لا لأجل غرض يناله من هذا الفعل ؟ لقد ذكر الغزالي أن القول بوجوب إماتة دواعي طباع الانسان البدنية بالكلية : غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات .. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية ، بل المطلوب ردها الي الاعتدال الذي هو وسط بين الافراط والتفريط () . وذكر أن هذه الدواعي ضرورية لحفظ النفس والنسل ، وهذا الرأي موافق للسنة النبوية ولرأي أرسطوطاليس ، وذكر الغزالي أيضاً أن من أدعى انتفاء الغرض عنده فقد ادعى الصفة الإلهية .
مفهوم السعادة في فلسفة بنتام ومل:
سنشير بطريقة موجزة الي مفهوم السعادة عند بنتام "Bentham" ومل “Mill” " وسنترك التعقيدات والتغيرات التي طرأت على مفهوم السعادة في الفلسفة المعاصرة لحين نقاش مفهوم السعادة " يقول هذان الفيلسوفان بما يسمى بنظرية المنفعة العامة في الأخلاق .
تقول هذه النظرية : إن مقياس حسن الافعال وقبحها ووجوب فعلها أو تركها يكون بما يترتب عليها من سعادة ، وما تؤدي إليه من شقاء وألم ، ويرى بنتام أن السعادة هي اللذة ويعتقد ان اللذات تتفاضل . ولقد اخترع حسابا للتفضيل بين اللذات ، فقال: تفضل لذة على لذة أخرى أما لشدتها وقوتها أو لمدتها أو لأنها يقينية الحدوث أو لقربها الزمني أو لخصوبتها أو لصفائها أو لامتدادها ، فكلما كانت اللذة قوية وشديدة فضلها صاحبها على التي هي أقل قوة وشدة ، وكلما طالت مدتها فضلها صاحبها على اللذة التي تحدث لمدة قصيرة ، وكذلك إذا كانت اللذة متيقناً حدوثها ، فهي تفضل على اللذة التي يتوقع حدوثها في زمن قريب في المستقبل على اللذة التي يتوقع حدوثها في زمن بعيد في المستقبل واللذة ذات الخصوبة ، أي : التي تأتي بلذة غيرها ، تفضل على اللذة التي لا تأتي بغيرها ، فمثلاً لذة القراءة تفضل على لذة مشاهدة مباراة كرة قدم ، لأن لذة القراءة تأتي بلذة غيرها وهي لذة النجاح : فاللذة غير الخصبة تستهلك نفسها ، أما اللذة الصافية فتفضل على اللذة غير الصافية ، واللذة الصافية هي اللذة التي لا يسبب النشاط المتصل بها ألما ويعني "بنتام" بامتداد اللذة عدد الذين يستمتعون باللذة . فكلما كان عدد المستمتعين باللذة كبيراً فضلت على اللذة التي عدد المستمعين بها أقل .
وهناك مشكلات تتصل بحساب اللذات هذه "لا نود مناقشتها" وتفترض أن اللذات يمكن أن تقارن ، وأنها لا تختلف بالنوع ، أما "مل" فقد قبل فرضية إمكان مقارنة اللذات ، ولكنه قال باختلافها في النوع ، فقد فرق بين اللذات من حيث النوع ، فقال إن هناك لذات عليا "ومثالها لذة المعرفة ولذة التذوق الفني" ولذات سفلى "ومثالها لذة البطن والفرج" .
مفهوم السعادة:
يعرف البعض حال السعادة بضدها ويقولون : بضدها تتميز الاشياء ، والأحوال التي ضد السعادة كثيرة منها : الألم والهم والغم والضيق والكرب والعسر والحسرة والإكتئاب والحزن والقلق والقنوط والتوتر والضجر والملل والسأم والخوف والإحباط والأسف والخزي والعار والوحدة والغربة والشعور بالحقارة والدونية والشك والتشاؤم، فالسعادة عندهم خلو الانسان من هذه الأحوال ، ويعرف هذا المفهوم للسعادة بالمفهوم السلبي مقابل المفهوم الايجابي ، وهو كون حال المرء في غبطة وسرور وبهجة وابتهاج وارتياح وانشراح ولذة أو طمأنينة واستقرار بال أو رضا أو قناعة . ولقد تعددت المفاهيم المتقابلة للسعادة فهنالك مفهوم للسعادة يجعل من الضروري أن تكون السعادة ممتدة حتى تشمل حياة الفرد كلها وكل جوانبها ، ومفهوم للسعادة يصف حال الفرد متلبساً بها متحققة له ، ومفهوم يشير الي أنها ستتحقق له في المستقبل ، فهي الآن بالقوة وأن شروطها ستتحقق بالفعل ، وبهذا المعنى نصف الرجل التقي الصالح الذي يمر بأحوال إبتلاء وحزن بأنه سعيد ، لما سيؤول إليه حاله في الآخرة ، وهنالك تقسيم شائع بين الدارسين() لمفهوم السعادة وهو السعادة بالمعنى الذي استخدمه أرسطوطاليس “Eudacmnia” ومعناها المعاصر ، فالمعنى الأول يشير الي شعور باللذة يصاحب نشاطاً يتصف بالفضيلة والمعنى الثاني مجرد شعور باللذة يتمثل في حاله سيكولوجية معينة . وهناك نظرة تعد السعادة أمراً ذاتياً “Subjective” ولكنها تشترك بالإضافة لتحقيق رغبات الفرد أن يكون ما تحقق يتفق مع معايير الحياة الطيبة التي يلزم الشخص نفسه بها . وهذه النظرة تختلف عن النظرة التي تعد معايير السعادة موضوعية وخارج الذات وهنالك معنى رابع نسبة ابن مسكويه إلى أفلاطون وهي حال تتصف بها النفس ، ولو كانت لا تشعر بلذة ومبتلاة بأعظم البلايا، وابن مسكويه كما تقدم عرف السعادة تعريفات عدة ، كل تعريف يمثل مستوى أدنى تلبي فيه رغبات البدن والحس ولكن بإعتدال، بالإضافة إلى الالتزام بالفضيلة .
مستوى أوسط لا يكترث فيه الفرد برغبات الجسد وشهوات النفس ؛ إلا ما تدعو إليه الضرورة .
والمرتبة العليا في الدنيا هي مرتبة الفضيلة الإلهية المحضة وحالة فناء الإرادة ؛ وفي هذه الحالة لا يتأثر الإنسان بالابتلاء ويؤدي الفعل لذات الفعل لا لحظ ناتج عنه.
ومستوى رابع يمثل سعادة الآخرة الصافية التي لا تشوبها شائبة وذكر ابن مسكويه أن هنالك سلسلة متصلة "Continumum" من مستويات السعادة
ولقد عرف سيد محمد نقيب العطاس السعادة بطريقة مماثلة لتعريف ابن مسكويه ؛ فجعل لها ثلاثة مستويات لم يكن من ضمن هذه المستويات مجرد الشعور باللذة ؛ فجعل المستوى الأول متصلاً بالأحوال السيكولوجية والدنيوية والتي يمكن وصفها بأنها عواطف وأحاسيس يتم إشباعها عن طريق السلوك القويم المتناغم مع الفضيلة ؛ والمستوى الثاني هو مستوى التحمل واختبار استقامة الفرد في السراء والضراء وفي هذا المستوى تضمحل احتياجات الفرد ، والمستوى الثالث تمثله السعادة في الآخرة وقمة سعادة هذا المستوى رؤية الله سبحانه وتعالى
سنذكر بعض الملاحظات المختصرة على هذه التعريفات ، فالتعريف المعاصر للسعادة – بانها مجرد أحاسيس وعواطف -تعريف ذاتي لا يقصى الأحاسيس والشعور الناتجة عن النشاطات الهابطة ، ولا يلتزم هذا التعريف بوجوب موافقة شعور الفضيلة ، وتعريف مرتبة الفضيلة المحضة مثالي قد لا تتحقق أحواله في واقع الأمر . أما تعريف السعادة المتحققة في الحياة الآخرة بأنها سعادة مطلقة أمر جائز جاءت به الأخبار الصحيحة ، وسوف نرد على اعتراضات جان كزانوف التي تتخيل وجود سعادة مطلقة ، أما تعريف السعادة – بأنها حال يمكن أن يتصف به الفرد في حال التحمل الذي قد يصبه ألم والذي يخلو من الشعور باللذة – فإنه يصعب قبوله.
والتعريف الذي نختاره والذي هو موافق للسنة هو التعريف الأول : الذي تلبي فيه رغبات البدن والحس باعتدال ؛ بالإضافة للالتزام بالفضيلة.
السعادة والغاية القصوى للإنسان :
الغاية القصوى هي الغاية التي يطلبها الإنسان لذاتها ؛ وليست وسيلة لغيرها إذا سألنا طالباً وقلنا له : لماذا تريد أن تذاكر؟ يقول لأنجح وأتحصل على شهادة جامعية وإذا سألناه: لماذا تريد الشهادة الجامعية ؟ يقول لأني أريد أن أجد وظيفة .
ويرى ابن حزم أن الذي يطرد الهم – حقيقة – العمل للآخرة . إن ما نشاهده من سلوك كثير من الناس يؤيد نظرية ابن حزم هذه إلى حد كبير ؛ فإن الطالب يعود من الدراسة وله هم قضاء الواجبات واستذكار الدروس وهم النجاح ؛ والكبار لهم هموم العمل وتوفير حاجات الأسرة والقيام بواجبات الصلات الاجتماعية والمحافظة على الصحة وتحسين أوضاعهم المالية والأدبية وغيرها من أسباب طرد هموم الدنيا والآخرة، فهم عادة لا يفكرون في الأشياء التي تجلب لهم اللذة والسعادة ؛ ولكن يفكرون في طرد وقضاء الحاجات ؛ هذا لا يعني أن تحقق هذه الأغراض لا يصاحبه لذة وشعور بالرضا والسعادة، ولا يعني – وهنا قد نخالف ابن حزم – أن جانبا مما نقوم به من نشاط قد نؤديه بغرض اللذة والمتعة . من ناحية أخرى فإنه قد تكون لبعض الناس كالدعاة والمصلحين وغيرهم هموم تشغل جل تفكيرهم فلا تدع لهم مجالاً للتفكير في الحصول على متع الحياة والناس يختلفون’ فيرى بعضهم أننا يجب أن نوجه الطاقات في مؤسسات الدولة – الطبية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وفي الجمعيات الخيرية والإصلاحية لطرد هموم الناس أكثر من جلب اللذات لهم ’ فنحارب المرض والفقر والجهل والإدمان ونحل مشكلات الأسرة والشباب الخ …
صحيح – كما ذكر ابن حزم – أن ما يشغل معظم الناس طرد الهموم عن أنفسهم أكثر من جلب المنافع لها ’ لكننا – كما ذكرنا – نجد بعض الناس يخطط ويهدف إلي تحقيق لذاته ’ كما أن معظم الناس يهدف في أوقات حياته إلى تحقيق لذات معينة مثلا باختيار مكان لقضاء عطلته السنوية أو قضاء عطلة نهاية الأسبوع ’ ولكننا نجد بعض الناس كالدعاة والمصلحين والمجاهدين لا يعيرون أمر جلب اللذات بالاً فنجد أحدهم لا يأكل إلا إذا شعر بالجوع والضعف ’ ولا يذهب لينام إلا إذا شعر بالتعب والنعاس.
وأخيراً هنالك سؤال يمكن طرحه وهو هل هدف الإنسان هو نيل السعادة سواء كان ذلك بمفهومها الإيجابي أو السلبي؟ على الرغم من أن مفهوم السعادة مفهوم فضفاض .فإنه من الصعب أن نصف شخصاً بالسعادة دون أن يحس بشعور إيجابي من لذة أو متعة أو ارتياح ، ومن الصعب أن نصفه بالسعادة وهو في حالة ألم وعناء إلا إذا اعتبرنا ما سيؤول إليه حاله ’ ولكن من ناحية أخرى فإن الإنسان قد يسعى لتحقيق قيمة خلقية أو دينية تحت ظروف ألم ومشقة ومعاناة مثل قيمة العدالة ’ وقد يريد تحقيق العدالة من أجل العدالة ذاتها.
ولا ينبغي أن يقال إنه فعلها ليزيل عن نفسه عدم الرضا الناتج من عدم تحقيقهاأو أن يقال إن عدم الرضا إذا لم يفعلها يكون أكبر من المعاناة الناتجة من فعلها . ولا يقال أنه فعلها لما لم يجد راحة في تحقيقها. وقد يلزم من فعل الفضيلة في واقع الأمر راحة ومن عدم فعلها ألم ، ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا قصد الفاعل ولا هدفه من تحقيقها. إن كان سببه الذي يعنيه هو تحقيق فضيلة العدالة في ذاتها لما لا يلزم عنها من نتائج. والغريب أن ابن مسكويه قد أشار إلى هذا المعنى ، ولكنه عده ضمن مراتب السعادة ، وكذلك عده محمد نقيب العطاس معنى من معاني السعادة، إلا أن آخرين قد اشترطوا في السعادة شرط اتفاقها مع الفضيلة، بالإضافة إلى ذلك انتاجها لذة وهذا الذي اعتمدناه.
هل معايير السعادة موضوعية أم ذاتية ؟
هناك من يرى أن معايير السعادة موضوعية ومن يرى أن معاييرها يجب ان تكون ذاتية ، فالقائلون بالمعايير الذاتية للسعادة يرون أن الحكم على شخص بالسعادة يجب أن يكون بمعرفة ذلك الشخص وشعوره ، فإذا اعتقد وشعر بالسعادة فإنه يكون في الحقيقة سعيداً بغض النظر عن رأينا فيه.
أما القائلون بموضوعية معايير السعادة فيرون أن الإنسان قد يعتقد أنه سعيد، ولكن يكون في حقيقة الأمر غير سعيد؛ فشعوره بالسعادة ليس مبرراً كافياً لكي نطلق عليه صفة السعادة، لأنه قد يكون غالطاً أو مخدوعاً .
واعترض بعض القائلين بأن معايير السعادة ذاتية على القائلين بموضوعيتها بحجج عدة منها أنها كانت سبباً في التدخل في حياة الآخرين وسلب حرياتهم والتعدي على إنسانيتهم والسيادة على ذواتهم ، وأنها نوع من الاستعلاء الزائف، وتمثل الموضوعية عند كثير من فلاسفة ما بعد الحداثة ضيق الأفق والتعصب والعنصرية والعرقية والغرور والسطحية وعدم الأمانة العلمية والتسلط والهمجيةوعدم التسامح
ويقولون إن الفرد أقدر الناس على معرفة رغباته وما يسعده وأن التدخل في شئونه بحجة إسعاده كثيراً ما يقود إلى تعاسته وحرمانه ، ولا حق لأحد أن يقول لغيره هذا يسعدك على الرغم من أن الآخر لا يشعر بأن هذا الشيء يسعده.
ويقولون أيضاً إذا كان هنالك ما يسعد الناس فاذكروه لنا بالتحديد وبينوا لنا لماذا أختلف الناس حول السعادة ؛ فمنهم من يراها في الأمور الروحية ؛ ومنهم من يراها في الأمور العقلية ؛ومنهم من يراها في الأمور الحسية ؛ إن بعض أصحاب اتجاه الذاتية لبراليون وبعضهم نسبيون وبعضهم لا عقلانيين.
نقول في الرد على الذاتيين ، وبالله التوفيق ، ليس ضرورياً أن يناقض القول بالموضوعية التسامح والحرية ، أما القول بأن الناس اختلفوا حول ماهيتها فهو ليس بحجة ، لأنه من الممكن أن يكون من بين المختلفين من هو على حق، أما المطالبة بتحديد الأشياء التي تسعد الناس ؛ فطلب معقول ، ولكن قد تكون الإجابة عنه صعبة . سنجيب عن هذا السؤال ضمن ذكر الحجج التي تعضد القول بالموضوعية عموماً.
إن للإنسان طبيعة معينة تميزه عن غيره من المخلوقات ، وإن هنالك نشاطات وأفعالاً تناسب هذه الطبيعة ونشاطات لا تناسبها ، وهذه الطبيعة تجعل للإنسان حاجات ومطالب .. وتجعله بالضرورة يصبو لتحقيق هذه الحاجات ويكون في حالة توتر مادامت لم تحقق له ، وعند تحققها يزول توتره ويحس بالرضا
هنالك لذات تحصل من نشاطات هابطة كتناول المخدرات والممارسات الجنسية القبيحة والتلذذ بضرر أو تعذيب الآخرين ولا يجد ممارسوها غضاضة في ممارستها .
يمكن مقارنة اللذات والسعادة ؛ فهنالك طريقة حياة ونشاطات تحدث سعادة أعظم من طريقة حياة أخرى . والدليل على ذلك أن الفرد إذا جربها سيفضلها ويحكم على أنها أعظم من غيرها.
هنالك أشياء يكاد يجمع الناس على أنها من أسباب السعادة مثل الصحة والمحبة والصلاة الحسنة بالآخرين.
على الرغم من أن للسعادة معايير موضوعية إلا انه لا يجوز وصف شخص بأنه سعيد دون أن يشعر هو بالسعادة.
مقومات السعادة وأسبابها :
تعرف السعادة بأنها رضا عام عن الحياة بتحقق الرغبات والأهداف والمقاصد أو بتحقق الذات ، وهذا الرضا يتمثل في الرضا عن الحياة الاقتصادية ، ومعناها تحقق الضروريات والحاجات والكماليات والشعور بالصحة والرضا عن الحياة الأسرية والعلاقة الزوجية ،والرضا عن العمل والعلاقات الاجتماعية الصادقة، ورضا الفرد عن سلوكه وتصرفاته الأخلاقية والدينية وأداء الواجبات المتصلة بهما والرضا عن الوضع السياسي والاجتماعي عامة، والأمن على النفس والعرض والمال والأمن العقدي بزوال الجهل والشكوك والأوهام والثبات على بعض المعارف عن الكون والإنسان والمجتمع .
الحياة الاقتصادية : تحقق الضروريات والحاجات والكماليات بالأكل والشرب والملبس والمسكن وسبل التنقل والعلاج والتعليم ووسائل الترفيه وقضاء وقت الفراغ . وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إشارة إلى هذا النوع من مقومات السعادة "أربعة من السعادة : المرأة الصالحة والمسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهنيء "
الصحة : إن من أهم مقومات السعادة الصحة فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يسلمه من عوائق السعادة والأمور السلبية كالمرض والفقر ، فكان من دعائه (اللهم عافني في سمعي، اللهم عافني في سمعي ، اللهم عافني في بصري ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ، لا إله إلا أنت).
والصحة عبارة عن سلامة الجوارح والحواس والخلو من الأمراض والعاهات وعدم الضعف والعجز ؛ كما أن من أهم مقومات السعادة الضرورية الصحة العقلية والنفسية .
العلاقة الزوجية : يقول الله تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "الزواج من سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني" "هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك" "تزوجوا الولود الودود" إن المتزوجين أكبر سعادة – بوجه عام – من العزاب والأرامل والمطلقين .
ولكن ليس ما يسعد الزواج ؛ ولكن نوعية الزواج . والرجال يحصلون على إشباع أكثر من الزواج إذا ما قورنوا بالنساء . ومما يساعد على السعادة الزوجية استعداد الزوجين للمساعدة العملية والصحية وكثرة الوقت الذي يقضيه الزوجان معاً، والاتفاق على المسائل المشتركة كالأمور المادية والبحث عن الحلول للمشاكل التي تطرأ على العلاقة والدعم المتبادل.
الصداقة والإخاء: الإخاء ضروري لحياة الفرد ولبناء المجتمع ومؤسساته ، وضروري للبناء الحضاري للأمة الإسلامية ، وعليه تعتمد سعادة الفرد والمجتمع.فالإنسان لا يمكن أن يحقق ذاته ورغباته إلا في جماعة ولا يستطيع تحقيق القيم الخلقية إلا في جماعة ، وقد قيل الإنسان كثير وقوي بإخوانه وأصدقائه . وإن كل شخص محتاج إلى صديق عند حسن الحال وسوء الحال ، فعند سوء الحال محتاج إلى معونة الإخوان وتسليتهم عند الهموم ، فالأخ يبث همومه لأخيه ، فينفس عنها ، وعند حسن الحال يفرح بهم ويأنس بهم ، فالأخ زينة الإنسان يجد في حبه للآخرين وعونه لهم سعادة لا تدانيها سعادة ، لأنه يشعر بأنه سبب سعادتهم وتخفيف آلامهم ، يقول صلى الله عليه وسلم "ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان ، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله " قال الغزالي : الأخوة محبة والمحبة تتبع المؤاءمة والموافقة ، وإن أخوة الإسلام تنتج من العقيدة والفكر المشترك ومن وحدة الهدف والغاية ولعل أول ما يوفره الأصدقاء بعضهم لبعض التحسين الفوري للحالة المعنوية بالمساعدة العملية والدعم الاجتماعي في صورة تعاطف أو نصائح والمشاركة في الأنشطة فالإسلام يحث على السلام عليه إذا لقيه ؛ وعيادته إذا مرض ويتفقده ؛ ويواسيه ؛ وينصحه ؛ ويدافع عنه ، كما يحث على الدعاء والوفاء والإخلاص له وإظهار المحبة له "أن يخبره إذا أحبه أنه يحبه" فاكتساب الأصدقاء والحفاظ عليهم يعتمد على القدرة على التدعيم وأداء الالتزام والمجاملة والتعبير عن المحبة.
السيرة الحسنة بين الناس : إن من الأمور التي تدخل السعادة والرضا في نفس الإنسان؛ السمعة الحسن والسيرة الطيبة بين الناس، لكن المؤمن لا يبتغي ابتداء من أعماله ثناء الناس عليه، ولكن ثناء الناس عليه قد يلزم من أفعاله دون قصد منه لذلك ،وواجب على أفراد المجتمع الثناء على المحسنين منهم . ويختلف مفهوم السيرة الحسنة عن مفهوم الشهرة والصيت التي يعبرون عنها بأنها شعور الشخص باعتراف الناس بما قدم من أعمال واللذة الناتجة ، والتي باعثة للعمل ، فإذا ساعد الفقراء فإنه يفعل ذلك لكي يقال إنه شخص محسن، وإذا ألقى حديثاً أو كتب كتاباً أو بحثاً فإنه يريد أن يقال إنه عالم أو مفكر أو أديب أو غيرها من عبارات الثناء والمدح ، وقد تصل رغبة الإنسان لنيل المكانة والشرف إلى حبه العلو والسيطرة والحصول على القوة والنفوذ ؛ هذه الرغبات كاذبة ومنحرفة وينهي عنها الدين ، فالإسلام ينهي عن التطلع إلى الشهرة والصيت وحب العلو ويحث أن يكون العمل لله .
لقد انتشر بين المسلمين طلب الشهرة والصيت والمكانة ، وصارت حظوظ الدنيا هي التي تدفع معظمهم للعمل ، وعلى هذا نربي ابناءنا وإلى هذا تهدف معظم وسائل أعلامنا ومؤسساتنا ،ولكي نتغلب على هذا الداء العضال نحتاج إلى جهاد للنفس كبير وإلى تربية أبنائنا وأنفسنا لكي نخلص العمل لله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من سمع سمع الله به ومن يرائي يرائي الله به " ويقول "إن الله تعالى يحب العبد التقي الغني الخفي".
وفي القرآن : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:83) .
العمل: يعتمد الرضا عن العمل على العلاقات الإنسانية داخل التدرج الوظيفي ، فالمرؤوسون يكونون أكثر سعادة في ظل أساليب معينة من الإشراف ، وخاصة تلك التي تتصف بالتقدير من جانب المشرف والتشجيع على المشاركة في اتخاذ القرار ، ومما يسبب عدم الإرتياح في العمل ممارسة المشرفين على العمل ضغوطاً من أجل مزيد من العمل أو عندما يعطون أوامر تلقائية دون استشارة العاملين . ومن أسباب الرضا عن العمل الأجر المجزي والمقدرة والكفاءة على أدائه والرغبة فيه .
وكذلك تعتمد السعادة على حسن العلاقة بين الفرد والأقارب والجيران والأطفال والآباء والناس، والشعور بالنجاح والإنجاز يؤدي إلى السعادة ؛ وكلما حقق الإنسان أهم رغباته ازدادت سعادته، ولكن إذا قارنا سعادة الأفراد بعضهم ببعض فإن الرضا بالحال قد يكون في مستوى أدنى من الإنجاز ؛ فمستوى الحياة ونوعيتها والإنجاز الذي يحققه الفرد يحدد قوة السعادة وشدتها ؛ فقديماً قال سقراط : أريد أن أكون سقراطاً غير راض من أن أكون حيواناً راضياً . فنوعية الحياة تؤثر في مستوى السعادة ؛ لكن هنالك تعقيداً في هذه العلاقة ، لأن نوع النشاط نفسه قد يحدث سعادات متفاوته باختلاف الأشخاص ، لأن بعض التجارب تحتاج إلى من يتذوقها ، ويحدث ذلك عادة بممارستها والتعود عليها ، وقد يحتاج إلى نوع من المجاهدة والصبر عليها في بداية الأمر. وقد اختلف المفكرون في النشاط الذي يحدث أعظم قدر من السعادة ؛ فمنهم من رأى السعادة في تحقيق اللذات الحسية ، ومن رآها في قمع الشهوات بالكلية والزهد في الحياة المادية حتى يحيا حياة روحية خالصة ، ومنهم من يرى السعادة في حياة الفكر والتأمل والنظر ، لكن السعادة في اعتقادنا لا تقتصر على جانب واحد من حياة الإنسان ؛ فإنها تشمل كل جوانب حياته المادية والعقلية والروحية والسلوكية والذوقية ، فجانب الحياة المادي ينبغي أن يشمل ما هو ضروري وحاجى وكمالي، ويتحقق الجانب النفسي من حياة الإنسان مثلاً بصحته النفسية بزوال الخوف والشعور بالأمن والطمأنينة ووجود علاقات اجتماعية للفرد وصداقات ؛ وذلك بمشاركته للآخرين أفراحهم وأتراحهم ومشاركتهم له في ذلك وفي محبته لهم، ومحبتهم له وتتمثل الصحة النفسية في الإتزان الإنفعالي والعاطفي ؛ وذلك بتجنب الغضب والحسد والحقد مثلاً وأن يتجنب كل عاطفة رذيلة، وألا تخلو نفسه من العواطف المناسبة في المواقف المثيرة لتلك العواطف، بأن يتسم بالرحمة والشفقة والمحبة وغيرها من العواطف النبيلة .
ويشمل جانب الحياة الذوقية تذوق الجمال والفن والأدب ويعد هذا الجانب من الحياة عادة جانباً كمالياً ، ويختلف الناس في السعي لتحقيقه وطلبه . ويتمثل جانب الحياة العقليةفي التأمل والفكر والنظر وسعي الإنسان لإكتساب العلم والمعرفة ورغبته في الكشف عن الحقائق وفي حل المسائل والمعضلات والمشكلات وغوامض الأموروفي زوال الشكوك والتخلص من التيه الفكري والحيرة؛ إنها الرغبة في الأمن العقدي والمعرفة ، النافعة واللذة المصاحبة لتلك المعرفة وأعلى مراتب الأمن العقدي هي معرفة الله ومعرفة ما شرع وأخبر.
وهنالك المقومات الروحية التي تشمل العبادات الظاهرة كالصلاة والصوم والحج والزكاة والعبادات الباطنية كالإيمان وإخلاص النيه والتوجه بالعمل لله سبحانه وتعالى وما يتبع تلك العبادات والطاعات من أحوال وتجارب ولذات وما يشعر به المؤمن من متعة وطمأنينة وأنس ورضا نتيجة لذلك . * فلا ينبغي أن يركز الإنسان على الجانب الروحي دون المادي ولا المادي دون الروحي ولا العقلي أو الذوقي دون الجوانب الأخرى ، لأن الإنسان يحتاج إلى تلبية كل الجوانب الأخرى ، لأن الإنسان يحتاج إلى تلبية كل الجوانب ، فإن الإنسان لا يمكن أن يحيا حياة عقلية أو ذوقية بحته ؛ فمن المجرب والمشاهد أنه إذا نال من إحداها معيناً فإنه قد يمله ويكون عائد الاستمتاع به متناقضاً . ولقد نهى الرسول e الصحابة الذين أرادوا ترك الأكل والنوم والزواج .وإن طبيعة الإنسان تحتم عليه تلبية كل الجوانب .من ناحية أخرى فإن الناس متفاوتون في رغبتهم وتذوقهم لجانب دون جانب ؛ كما أن بعض الجوانب قد يكون أكثر لذة ومتعة من الجوانب الآخرى .فقد ذكر أحد العباد عن جانب العبادة مقارناً له بجانب الثروة والماديات فقال: لو علم الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف .وقد يحتاج الإنسان إلى شيء من الممارسة والتعود حتى يتذوق جانباً من الجوانب.
ويشمل الجانب الأخلاقي والسلوكي التزام الإنسان بالقيم الأخلاقية كالصدق والعدل والإحسان والطهارة والعفة والشجاعة والأمانة والرحمة ؛ إن الالتزام بهذا الجانب يحدث رضى وسعادة في نفس صاحبه ويحدث آثاراً حسنة في حياته وحياة غيره من الناس .كما أن من مقومات السعادة أن يعيش الإنسان في مجتمع فاضل تتحقق فيه قيم معينة كقيم التكافل والأخوة والمحبة والرحمة والشورى والعدل والطهارة والوحدة والنجدة والتناصح والتآزر والتناصر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيثار والإيمان والحرية والتقوى والعلم والمعرفة وغيرها من القيم النبيلة .
ولكن مهما حقق الإنسان من مقومات الحياة المادية والذوقية والروحية والسلوكية والعقلية والنفسية ، ومهما حقق من رغبات وأهداف ، ومهما حقق من نجاح ، فإنه لن يشعر بالسعادة إذا لم يصاحب ما حقق وأنجز شعور بالرضا والقناعة ؛ لأن مطالب الإنسان قد لا تنتهي ؛ ولأن الإنسان قد يهتم بتحقيق أمر يرى فيه قمة سعادته كالحصول على درجة علمية معينة أو الزواج من فتاة معينة ؛ ولكنه عندما يحصل على مقصوده تقل رغبته فيه ولا يحس بسعادة وهو حاصل له، ولكن الإنسان القانع الراضي يحس بالنعم التي أنعم الله بها عليه فيكون سعيداً بذلك.
وسائل السعادة :
إن مقدرة الفرد على تحقيق رغباته وأهدافه ومقاصده لا تعتمد فقط على سعيه وجهده ؛ ولكنها تعتمد أيضاً على قدراته وعلى الظروف المحيطة به . من ناحية أخرى فإنه السعي يتطلب*.
-اكتساب العلم بما يسعد
محبة الإنسان لما علم
معرفة الأسباب التي تحقق ما علم وأحب
السعي لتحقيق هذه الأسباب
الصبر ومجاهدة النفس في السعي لتحقيق هذه الأسباب.
قال ابن القيم "ومعلوم أن كمال العبد هو بأن يكون عارفاً بالنعيم الذي يطلبه والعمل الذي يوصل إليه ، وأن يكون مع ذلك فيه إدارة جازمة لذلك العمل ومحبة صادقة لذلك النعيم ، وإلا فالعلم بالمطلوب وطريقه لا يحصل إن لم يقترن بذلك العمل ، والإرادة الجازمة لا توجب وجود المراد إلا إذا لازمها الصبر "
على المسلم أن يسعى بشتى الوسائل لنيل السعادة ويرجو الله ويدعوه أن يتم له ذلك في الدنيا والآخرة ، وفي الدعاء (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201) وعلى الإنسان أن يسعى بالفكر والروية قبل العمل ، وعليه أن يكتسب المعرفة ، يقول ابن القيم "إن الإنسان قد يحب الضار وقد يحب النافع" إن النافع يعلم بالشرع والعقل ، ولكن أصدق الطريقين إليه الشرع لخفاء صفات الأفعال وأحوالها ونتائجها ، وأن العالم بذلك على التفاصيل ليس هو إلا الرسول صلى الله عليه وسلم فأعلم الناس وأصحهم عقلاً ورأياً واستحساناً من كان عقله واستحسانه وقياسه موافقاً للسنة .* وأن يبذل الجهد والمثابرة والصبر ، يقول الله تعالى : ()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة:153) وأن يقابل إحباطات الحياة وإبتلاءاتها بروح عالية ما وسعه ذلك ، وأن يكون أمله في الله كبيراً "ولا يقنط من رحمته" )يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87) وأن يكون في حال رجاء دائم في أن يحقق الله له خيري الدنيا والآخرة ( فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(النساء: من الآية104) وأن يستشير في أموره أهل الرأي والمشورة وأن يستخير الله عندما يقدم على أي أمر من الأمور فإذا أخذ بالأسباب توكل على الله وأقدم ولم يتردد وكان قوى الإرادة والعزيمة ؛ وأن يلح ويكثر من الدعاء (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186) ولقد وردت أدعية كثيرة يجدها القارئ في كتب الأذكار المختلفة . ومن أسباب السعادة لزوم الاستغفار قال صلى الله عليه وسلم : "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ".* إن ما يؤلم الإنسان وينقص سعادته اقترافه الذنوب وشعوره بالذنب ، لكن المؤمن يزول منه هذا الشعور عندما يقرأ قول الله تعالى : )(َلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (التوبة:104) فالله سبحانه و تعالى يمدح التائبيين المستغفرين ويعدهم بالمغفرة : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135) ومن أسباب السعادة الإيمان بالله والتوكل عليه يقول الغزالي "إن التوكل هو ثمرة التوحيد وهو عبارة عن اعتبار المؤمن أنه لا فاعل إلا الله واعتقاده أن الله متصف بتمام العلم وتمام القدرة على كفاية العباد وأنه يتصف بتمام العناية والعطف والرحمة ". * ولا يعنى بالتوكل ترك السعي.
وإذا قرر الإنسان وعزم بعد التروي والمشورة والاستخارة فلا يتردد ويتوكل على الله ويشرع في تنفيذه ما عزم عليه قال تعالى : ( وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)(آل عمران: من الآية159) ومن أسباب السعادة الطموح قدر المقدرات وترقية المقدرات .
ينبغي على الفرد معرفة مقدراته وإمكاناته ومحاولة استثمارها ، وعليه ألا يتطلع إلى تحقيق أهداف لا تتناسب مع هذه المقدرات والإمكانيات ، فإن ذلك سوف يشعره بالإحباط والفشل . ولكن هذا لا يعني ألا يجتهد ويسعى إلى تحسين مقدراته بالعلم والتدريب وغيرها من الوسائل فالحياة الخالية من الطموحات والأهداف والرغبات حياة خاملة ومملة ؛ فينبغي ألا يكون الإنسان في حالة طموح كاذب ، أو حالة خمول معقد ، ومن أسباب السعادة والنجاح الالتزام بقدر الطاقة ، فينبغي للفرد ألا يلتزم بالقيام بأعمال كثيرة لا يستطيع الوفاء بها كلها، أو أعمال يمكنه القيام بها ولكن ترهقه وتؤثر في حسن أدائه لها، أو تجعله يقصر في واجبات أخرى ، فالإنسان عادة يقبل ويلزم نفيه بالقيام بأعمال كثيرة فوق طاقته إرضاء لمن يطلب مساعدته أو رغبة منه في تحقيق أكبر عدد من الأهداف في أقل زمن ممكن ، ومن أسباب السعادة تنويع الأهداف فيحسن للفرد أن ينوع من أهدافه وغاياته ولا يجعل له هدفاً واحداً ، لأنه قد يفشل في تحقيق هذا الهدف . فإذا نوع من أهدافه في أقل زمن ممكن . ومن أسباب السعادة تنويع الأهداف فيحسن للفرد أن ينوع من أهدافه وغاياته ولا يجعل له هدفاً واحداً ، لأنه قد يفشل في تحقيق هذا الهدف . فإذا نوع من أهدافه وحدث أن فشل في واحد منها فإنه قد ينجح في تحقيق هدف آخر ، فإن في ذلك سلوى عظيمة له "علماً بأن الأهداف الأساسية قد لا تتغير".
ومن أهم أسباب السعادة تكيف الفرد مع الظروف والمجتمع الذي يعيش فيه ، وهذا التكيف بالنسبة للمسلم محكوم بقواعد الإسلام السمحة ، فليس للمسلم أن يتكيف مع أي مجتمع وبأي شكل من الأشكال ، وليس على حساب المبادئ والقيم والمثل الإسلامية .
إن من أهم أسباب السعادة كذلك مقدرة الفرد على التوفيق بين رغباته وأهدافه . ويمكن أن يتم هذا التوفيق بأن يكون له نظام لدرء التعارض بين رغباته وأهدافه وواجباته . وهذا قد يكون بالتخلي عن بعضها أو بوضعها في ترتيب بحسب أوليتها ، أو أن يجمع بينها بطريقة من الطرق . فالفرد قد يرى من الواجب عليه إرضاء أسرته وخدمتها وصرف جل وقته في ذلك ، وقد تكون له رغبة في الوقت نفسه في تحقيق طموحاته الشخصية ، وقد يرى أنه من الواجب عليه خدمة مجتمعه ، أو تحقيق مبادئ وأهداف معينة في الحياة وقد تتعارض هذه الواجبات والرغبات والأهداف مع بعضها .
إن أفضل طريقة لدرء التعارض بين الرغبات والواجبات هي الاحتكام لقوانين الشريعة الإسلامية، وإلى داعي العقل فيما لم يرد فيه نص شرعي ؛ فإذا عجز عقله استشار أهل الرأي والاختصاص والحكمة ، فإذا صعب اتخاذ قرار معين يقرأ دعاء صلاة الاستخارة . فيقدم على ما يجد نفسه تميل إليه متوكلاً على الله سبحانه وتعالى .فالإنسان قد لا يستطيع أن يهتدي 4في كثير من الأمور بعقله وتجاربه إلى أختيار بديل من بين البدائل المختلفة لقلة المعلومات ، أو لصعوبة تقييم الموقف ، أو لشعور قوى في نفسه يدعوه إلى فعل أمرين متناقضين ، أو لغيرها من الأسباب ؛ إما إذا كانت هنالك جهة يثق في حكمتها وجميل اختيارها فإنه سيلجأ إليها وهو راض . وهذا اللجوء يزيل القلق ويخفف من الصراع الناتج من اتخاذ القرار.
أما إذا كان النزاع بين رغبات النفس وواجبات الدين ؛ فإن الإنسان يحتاج للتغلب على النزاع الناشئ في نفسه إلى مجاهداتها ؛ وقد يعاني الفرد في البداية الطريق ، ولكن النفس تسكن وتسعد بطاعة ربها وتوكلها واعتمادها عليه ورضاها بما أوجب وحكم (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ )(الأحزاب: من الآية36).
لا شك أن معرفة حكم الله قد تحتاج في بعض الحالات إلى جهد كبير وقد يقع الامر المراد معرفة حكم الله فيه تحت نصوص قد يبدو أنها متعارضة ؛ فيحتاج المجتهد إلى التوفيق بينهما ، ولكن سلواه قول الرسول صلى الله عليه وسلم :""إذا حكم الحاكم فاجتهد فاصاب فله أجران وإذا حكم واجتهد ثم أخطأ فله أجر.
تجدر الإشارة هنا إلى أنه كلما كانت النفس مستقرة على فعل الخير ولا صراع في داخلها كان ذلك أفضل ، ولكن من ناحية أخرى فإن الذي تنازعه نفسه لفعل الشر ويختار الخير أفضل سعيد ؛ باعتبار ما سيؤول إليه حاله في الآخرة ، وباعتبار أنه إذا تجاوز هذه الحالة واستقرت نفسه على فعل الخير سعيد سعادة حقيقة ، إن التخلص من صراع النفس بالاستجابة لدواعي الشهوة والرغبة الحرام "والمدمرة في حقيقة الأمر"أو إزالة الصراع بغرض التكيف مع المجتمع الذي يمارس الحرام ، قد يحدث راحة ، ولكنها تكون راحة زائفة وكاذبة وفي مستوى أدنى الحياة الروحية والخلقية التي يقاوم الإنسان فيها دواعي الشهوة والهوى . إن رفض دواعي الشهوة رفضاً كاملاً حلالاً كانت أم حراماً ورفض التكيف مع المجتمع مهما كان كان والتنطع في التعامل معه أمر غير طبيعي وغير سليم.
فإن المؤمن يجب أن تستقر نفسه في امر إشباع رغباته وعلاقاته بأفراد مجتمعه على ما تسمح به الشريعة الإسلامية وما تتطلبه ، إن من أهم أسباب الصراع النفسي عند كثير من شباب المسلمين وشيبهم جهلهم بأحكام الشرع وعدم معرفتهم بما هو مشروع وحلال من شهوات النفس ورغباتها وماهو حرام ، علاج هذا هو التفقه في الدين ومعرفة أحكام الشرع.
ومن أسباب السعادة أن ينظر الإنسان إلى محاسن الآخرين ويغض النظر عن مساوئهم قال رسول الله : "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضى منها آخر" لأنه إذا تتبع عوراتهم ونقائضهم لم تنم بينه وبينهم محبة وتصعب عليه معايشتهم ، هذا لا يعني عدم إسداء النصح لهم ولا يعني ترك أمرهم بالمعرف ونهيهم عن النكر.
ومن أسباب السعادة : أن ينظر الفرد إلى من دونه وليس لمن فوقه، وإلى ما حقق وليس إلى ما لم يحقق، وتذوق نعم الله التي لا تحصى، وشكر الله على تلك النعم ( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ )(ابراهيم: من الآية7). وعلى الفرد ألا يؤخر عمل اليوم لغد ، وأن يفرغ من واجباته أولاً بأول فالإنسان عادة إذا واجهه عمل صعب أو غير محبب أخره لغد ، لأن النفس عادة تخلد إلى الراحة ، ولكن تأخير ما لابد منه يزيد من مشكلاته ومصاعبه خاصة إذا ظهرت له أعمال أخرى تحتاج إلى وقت وجهد كبير ، فعليه بالصبر والمجاهدة حتى ينجز ما ينبغي عليه عمله . ومن أسباب السعادة تعود النظام والحفاظ على الصحة وصدق الالتزام والشجاعة والمرونة والتفاؤل والثقة بالنفس ووضوح الهدف وقوة الدوافع الداخلية والتحكم في السلوك والشعور بالمسئولية . وعلى الرغم من أننا ذكرنا عدداً لا بأس به من العوامل المساعدة على تحقيق السعادة ، ولكن كان ذلك دون استقصاء لكل العوامل والأسباب.
دور الجماعة والدولة في سعادة الفرد:
كان تركيزنا فيما سبق من حديث على الدور الذي يمكن أن يقوم به الفرد في تحقيق السعادة ، ولقد كانت الحلول والنصائح التي قدمناها موجهة للفرد.
لا شك أن للفرد دوراً كبيراً في تحقيق السعادة لنفسه ولغيره ، ولكن من ناحية أخرى لا يخفى ما للجماعة والدولة من دون الضروريات من المأكل والمشرب والملبس والمركب والزواج والعلاج وغيرها من ضروريات الحياة وحاجتها وكمالياتها، ولا شك أن المجتمع الذي يقوم على أساس من العقيدة الصحيحة ، والذي يوفر الأمن لأفراده ، والذي تسوده روح العدالة والحرية والمساواة والتعاون والمحبة والتكافل والتساند والإحسان والرحمة والشفقة والعفة والطهارة والفضيلة والعمل والبذل والتضحية والعزة والكرامة والشورى وغيرها من قيم الإسلام ومثله وفضائله ، وتنفي فيه الرذيلة ، وينتفي فيه الظلم والتفرقة والعنصرية والحسد والأنانية والبغض والغل والانتهازية والتكبر والاستعلاء والاستغلال ، لا شك أن هذا المجتمع يخلق للفرد حالة أمنية واقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وعقدية وتؤدي إلى سعادته . وهذا الحالة تتهيأ للفرد من كل المجتمع الإسلامي.
إمكانية السعادة:
تعتمد إمكانية السعادة على تعريفها وعلى إمكانية حدوث أسبابها ؛ فالسعادة قد تعرف بطرقة يلزم منها استحالة تجريبية ؛ فإذا عرفنا السعادة بأنها صافية وغير مشوبة بالهموم والغموم والآلام فإنه سيكون من المستحيل تحققها في الدنيا ، فالسعادة الصافية غير ممكن حدوثها في الدنيا ، ونعني بالسعادة الصافية السعادة بمعنى تحقق الراحة الكاملة والمتعة الكاملة والمتعة الكاملة وتحقيق جميع الرغبات وإنتفاء جميع الاحزان والهموم والمتاعب والآلام والأمراض والمصائب والمكدرات.
وتحقق السعادة يعتمد على تحقق أسبابها ، وهناك ثلاثة أنوع من أسباب السعادة : استعداد الفرد وما يملك من مقدرات لنيل السعادة ، والظروف الخارجية التي تؤثر في نيل السعادة ، وسعى الفرد لتحقيقها .والاستعداد فيه ما هو مكتسب وفيه ما هو غير مكتسب ؛ فالاستعداد غير المكتسب قد يكون استعداد جسمياً أو عقلياً أو نفسياً ، والاستعداد المكتسب هو الذي يكتسبه الفرد بإرادته وجهده وسعيه . والظروف الخارجية فيها ما يمكن أن يتحكم فيه ظروفهم واستعداداتهم مواتية لنيل السعادة وبعض الناس تكون استعداداتهم وظروفهم غير مواتية لنيل السعادة . فالاستعدادات والظروف أقدار ، فالسؤال هل يمكن للفرد أن يتحكم فيها بإرادته وبسعيه مهما كانت استعداداته وظروفه . أن السعادة شيء داخلي لا يؤثر فيها عامل خارجي ، وتخضع لإرادة الإنسان ، فالإنسان يمكنه أن يتغلب على كل مشكلة وكل صعوبة تواجهه ويقبل كل مكروه يقع عليه ؛ إنه يمكن أن يرضي بالفقر والحرمان والأمراض والآلام مهما كانت . وسنناقش هذه المسألة عند الحديث عن مفارقة الرضا وعند الحديث عن مفهوم الإبتلاء.
خصائص السعادة :
اعتماداً على ما تقدم ذكره يمكن ذكر بعض خصائص السعادة بإيجاز على النحو التالي:
- إن للسعادة معايير موضوعية يمكن بموجبها الحكم على سعادة الأفراد والجماعات .
- تتحقق السعادة بأمور متنوعة "مادية ، نفسية ، عقلية ، روحية ، ذوقية ، وسلوكية" .
- تتصل السعادة بكيان الإنسان كله وحياته كلها.
- تتحقق السعادة بالتزام الفرد والمجتمع بنظام وقيم معينة .
- يخضع تحقيق السعادة لظروف وعوامل خارج إرادة الإنسان.
- تعرض الأفراد لهذه العوامل والظروف يختلف من فرد إلى فرد.
- يمكن أن يسيطر الإنسان على هذه الظروف والعوامل إلى حد ما ، لأن الإبتلاء قد يكون فوق قدرته وطاقته في التحمل ؛ ولا يعني هذا تحمل الابتلاء والتضجر منه.
معتقدات خاطئة عن السعادة
المال والسعادة :
يرى كثير من الناس أن السعادة تتحقق بجمع المال ، فبالمال يمكن للإنسان أن يحصل على متع الحياة ولذاتها ، لكن هذا الرأي لا يقوى للاختبار ، لأن في جمع المال والحفاظ عليه مشقة ،وكذلك تنتج مشكلات مختلفة عند إنفاقه . يقول ابن القيم عن المال "إنه مقرون بالخوف والحزن فصاحبه حزين قبل حصوله خائف بعد حصوله "وقال إن هنالك نصباً في تحصيله وجمعه وضبطه وقال : "إن غني المال يستدعى الإنعام على الناس والإحسان إليهم فصاحبه إما أن يسد على نفسه الباب وإما يفتحه ، فإن سده على نفسه اشتهر عند الناس بالبعد عن الخير والنفع فابغضوه وذموه واحتقروه .. وإذا عرف من الخلق أنهم يمقتونه ويبغضونه ولا يقيمون له وزناً تألم قلبه غاية التألم وأحضر الهموم والغموم والأحزان .. وإن فتح باب الإحسان والعطاء فإنه لا يمكنه إيصال الخير والإحسان إلى كل أحد ؛ فلا بد من إيصاله إلى بعض دون الآخر، وهذا يفتح عليه العداوة والمذمة من المحروم والمرحوم أما المحروم فيقول كيف جاد على غيري وبخل علي؛ أما المرحوم فإنه يتلذذ ويفرح بما حل له من الخير والنفع فيبقي طامعاً مستبشراً لنظيره على الدوام، وهذا قد يعتز غالباً فيفضي ذلك إلى العداوة الشديدة والمذمة . فالمال لا يحصل إلا بالمشاق والآلام . ولتعلق القلب بالمال وحفظه وحراسته ؛ فإن صاحبه لا يصبح إلا مهموماً ولا يمسى إلا مغموماً ، فهو بمنزله عاشق مفرط المحبة قد ظفر بمحبوبه والعيون من كل جانب ترشقه ؛ فأي عيش ولذة لمن هذه حالة وقد علم ان أعداءه وحساده لا يفترون عن سعيهم في التفريق بينه وبين معشوقه . إن لذة الغني بماله مقرونة بخلطة الناس ؛ وإن لم يكن إلا خدمة وأزواجه وسراريه وأتباعه ، إذ لو انفرد الغني بماله وحده من غير أن يتعلق بخادمه أو زوجه أو أحد من الناس لم يكتمل انتفاعه بماله ولا التذاذه به، وإذا كان كمال لذته بغناه موقوف على اتصاله بالغير ، فذلك منشئ الآفات والآلام ؛ ولو لم يكن إلا اختلاف الناس وطبائعهم وإراداتهم ؛ فقبيح هذا حسن هذا ، ومصلحة ذلك مفسدة هذا ، ومنفعة هذا مضرة هذا ، وبالعكس فهو مبتلى بهم ، فلا بد من وقوع النفرة والتباغض والتعادي بينهم وبينه ، فإن إرضاءهم كلهم محال . وهو جمع بين الضدين،وإرضاء بعضهم وإسخاط غيرهم سبب الشر والمعاداة . وكلما طالت من جانب الغني بالمال . أما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فإنهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من أذى الخلطة إنما حصلت من جانب الغني بالمال . أما إذا لم يكن فيه فضيلة لهم فإنهم يتجنبون مخالطته ومعاشرته فيستريح من أذى الخلطة والعشرة .
ولكن المال يمكن أن يكون سبباً في السعادة إذا أحسن الإنسان التصرف فيه وأنفقه في سبيل الله ، عن أبي هريرة رضى الله عنه "أن فقراء المهاجرين أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ولهم فضل أموال يحجون ويعتمدون ويجاهدون ويتصدقون فقال: ألا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم قالوا بلى يا رسول الله قال : تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة وثلاثين قال أبو صالح الراوي عن ابي هريرة رضى الله عنه لما سئل عن كيفية ذكرهن قا ل: يقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون فيهن كلهن ثلاثاً مرة " قال صلى الله عليه وسلم : نعم المال الصالح للرجل الصالح . المال إبتلاء يجب تحمله بحسن التصرف فيه . فإذا اعتبر هدفاً في ذاته تسبب في الكثير من البلايا والهموم والغموم والآلام والمال سبب في إدخال السرور إلي نفوس المحتاجين وبذاك يكون سبباً في إدخال السرور علي منفقه .
العلم والسعادة :-
يري ابن القيم أن العلم بخلاف المال يحدث لذة وسعادة حقيقية ، ولكني أري انه مثل المال قد يحدث لذة أو ألماً لان لذة العلم مشوبة كذلك، لان العلم يتحصل عليه الإنسان بالمعاناة كما هو الحال بالنسبة للمال، وقد يكون للعالم حساد ومعارضون يفسرون كلامه بطريقة غير صحيحة وغير منطقية وغير منصفة، فيحرف فيقول أنه قال كذا وكذا دون أن يكون قال ذلك، وهذا يحزنه وقد ينتقد كلامه من ليس أهلاً للنقد ، وقد يتحامل عليه النقاد وينتقدونه نقداً غير عادل، وقد يفضل عليه في من هو أقل منه علما،ً وقد يجره علمه إلي السجن والضرب كما حدث لكثير من العلماء، إن العلم مسئولية فالعالم إن تحدث أو كتب يخاف الخطأ، وإن سكت وكتم يخاف عقوبة الكتمان، إن العلم واسع ولا حدود له والعمر قصير قد يصرف الإنسان وقته في علم "كما حدث لبعض العلماء" ويتبين له أن صرف في علم لا يفيد كثيراً، وهنالك مشكلات تتعلق بالنشر، فقد تنشر ما لا يستحق النشر ولا ينشر ما يستحق النشر، وقد تمنح الدرجات والتقريرات والجوائز لعلماء لا يستحقونها ولا تمنح لمن يستحقونها، وغيرها من الأسباب التي تكدر التلذذ بالعلم ولكن من جعل علمه لخدمة المسلمين ولمرضاة الله ووطن نفسه علي ذلك فأنه يسعد بعلمه .
من ناحية أخرى فأنه لا شك أن العلم سبب من أسباب سعادة المجتمع وركن يعتمد عليه قوامه وبه تكون قوته العسكرية والاقتصادية والثقافية والإعلامية .
أسباب السعادة الآخري :-
كذلك إذا نظرنا إلي الأسرة الزوج والزوجة والأولاد بوصفها من اسباب السعادة نجد انها قد تكون سبباً من أسباب المعاناة: معاناة الأنفاق علي افرادها والسهر علي راحتهم وقضاء حوائجهم، بالإضافة إلي هذا فإن صاحب الأسرة قد يواجه مشكلة تربية الأولاد وضمان مستقبلهم، وغيرها من المشكلات وما يتصل بها من إبتلاءات، ولكن إذا وفق الإنسان في أسرته فأنها لا تصفو لأحد، وهكذا في جميع مسببات السعادة الدنيوية فانها لا تصفو لأحد قلما توجد سعادة صافية إلا في الدار الباقية حيث لا هموم ولا أحزان ولا أكدار يقول الله تعالي : (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر:34) ما بعد السعادة :
الابتلاء والسعادة :-
إن الدنيا دار إبتلاء فالله سبحانه وتعالي يبتلي الناس فيها بأصناف شتي من الإبتلاءات بالهموم والغموم والآحزان والهزائم والقتل وبما يكرهون أنه يبتليهم مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين يقول تعالي : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) (آل عمران:185) ويقول تعالي : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة:214) ويقول تعالي : (إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) (الإنسان:2) ويقول تعالي : ( وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (البقرة:49) وضرورة من ضروريات الحياة "ولكنه ليس سبباً كافياً " فالعلم من الأمور التي يجد فيها بعض الناس سلوى عظيمة وملجأ جميلاً من تعب الحياة ومشقاتها وفيه متعة وترويح وبه تزول شكوك الإنسان وظنونه وحيرته والشبهة التي ترد عليه .
إن أفضل العلم عظيم في نبال الإنسان العليا يوم القيامة )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة:11) لكن السعادة المتصلة بالعلم لا تصفو إلا إذا اراد به صاحبة ثوابه ومرضاته بالإضافة إلي ما ذكرنا فالعلم سبب من أسباب سعادة ) : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران:152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (آل عمران:153) فالمؤمن يبتلي بالمكارة للتمحيص والإختبار والتطهير من الذنوب والصقل وأذا صبروأحتسب يجد الجزاء الأوفى في الآخرة ،أى كرباً بعد كرب قتل من قتل من اخوانكم وعلو عدوكم عليكم وما وقع في أنفسكم من قول قتل نبيكم فكان متتابعاً عليكم غماً بغم
وافضل البشر رسول الله وجد من اذى الكفار 0ما وجد ففي غزوة احد إصيبت رباعية رسول الله صلي الله عليه وسلم ويحزن لتكذيب الكفار ومكرهم به قال تعالي : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) (الأنعام:33) ولقد تقدم أنه شرع الدعاء وورد عنه صلي الله عليه وسلم، فالمؤمنون تصيبهم المكارة من أمراض وغيرها ففي حديث إبي سعيد الخدرى رضي الله عنه : دخل رسول الله صلي الله وسلم المسجد سفي غير وقت الصلاة فإذا برجل به يقال له ابو أماماة جالسا فيه فقال يا ابا إمامة مالي اراك جالساً في المسجد في غير وقت الصلاة قال هموم لزمتني وديون يا رسول الله قال صلي الله عليه وسلم (افلا اعلمك كلاماً إذا قلته اذهب الله همك .. إلي اخر الحديث )
يقول بعض الناس : أن الإنسان قد يصل إلي درجة في العبادة لا يشعر فيها الإ باللذة ومتعة دائمة . هذا امر ينافى ما ذكرناها من ادلة إن المؤمن الذى تكون له أسرة وعمل واطفال يود تربيتهم والعناية بهم، الذى يتعامل مع الناس بالبيع والشراء وانواع المعاملات، والذى يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر والذى يجاهد في الكفار والمنافقين، لابد ان يجد عنتاً ومشقة في ذلك ولابد ان يجد ما يكره من الأعراض أو المخالفة أو الأذى، والمؤمن الذي يحزن إذا تفوق الكفار علي المسلمين في القوة والعتاد – وهو الحال اليوم ويحزن لأذلال المسلمين والبطش بهم، ويحزن لموالاة بعض المسلمين للكفار، ويحزن لكيدهم بعضهم بعضا،وإذ تصورنا أن المسلم اليوم قد لا يحزن لحادثة من حوادث الدنيا ومما يجد فيها من مكاره، فان المؤمن يخاف من مصيره ٍفي الآخرة يخاف من الحساب وهول العقاب وشدته، ومن الصراط والميزان يقول الله تعالي : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) إى يتصدقون وقلوبهم خائفة يظنون أن ذلك لا ينجيهم من عذاب الله لأنهم راجعون وسبب الوجل هو أنهم يخافون ألا يقبل منهم ذلك علي الوجه المطلوب
السلوى :-
سلوى المؤمن تشتمل علي في رجائه رفع البلاء ورجائه ثواب الآخرة يقول تعالي : (وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً) (النساء:104) )وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139) يقول تعالي : )إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران:140) ،و الله عز وجل وعد المؤمن إما الشهادة أو الفوز بالجنة وإما النصر لكن سلوى المؤمن إنه ما من شئ يصيبه إلا كتب اله له اجراً يقول صلي الله عليه وسلم "ما من شئ
يصيب المؤمن حتى الشوكة تصبيه إلا ما كتب الله بها حسنة أو حطت عنه خطيئة وقال صلي الله عليه وسلم "ما يصيب المؤمن من وصب ولا تعب سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته " ومن سلوى المؤمن آن الله يلطف بعباده ويخفف البلاء عنهم يقول الله تعالي : ( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (لأنفال:11) ومن سلوى المؤمن هنالك دواعي للرضا بالابتلاء، ذكر منهم إبن القيم الجوزية ستين داعياً نذكر بعضها ونترك التفصيل عند الحديث عما سميناه بمفارقة الرضا إن من دواعي الرضا إن الابتلاء قدر من أقدار الله وان الله يبتلي المؤمنين بحسب درجاتهم اشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحين والمؤمن يرضى لانه مفوض والمفوض بكل ما اختاره له من فوض إليه ولا سيما إذا علم انه جاهل بعواقب الأمور وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه والمؤمن يرضى البلاء لانه يعلم بأنه إذا رضي انقلبت الأمور في حقه نعمة ومنحة وخف عليه حمله واعين عليه، وإذا سخط تضاعف عليه وثقل كله ولم يزد إلا شدة، فلو أن السخط يجدي عليه شيئاً لكان له فيه راحة أنفع له من الرضا، ومن سلوى انه يرجو رفع البلاء في الدنيا وثواب الآخرة فيشعر بنفحات السعادة تتحلل أوقات الألم والهم والحزن.
مفارقة الرضا : -
يقول إبن القيم الجوزية "وليس من شرط الرضا ألا يحس بالآلم والمكاره بل أن لا يعترض علي الحكم ولا يسخطه ولهذا أشكل علي بعض الناس الرضا بالمكروه وطعنوا فيه، وقالوا هذا ممتنع عن الطبيعة وإنما الصبر وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهة وهما ضدان. وأعطى حلاً لهذه المفارقة فقال " والصواب إنه لا تناقص بينهما وإن وجد التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضا كرضاالمريض بشرب الدواء الكريه، ورضا الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ ورضى المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح وغيره "
الرضا رضي بمكروه وبشيء غير محبب للنفوس والشيء غير المحبب للنفوس كالآلام والهم والغم، إذن فالرضي رضى بشيء لا يرضى به الإنسان لكن إذا عرفنا بأنه رضي بمكروه لغيره، فأن ما هو مكروه لغيره قد لا يكون مكروهاً له، والمكارة إبتلاءات يبتلي بها المؤمن، ولا يمكن أن يبتلي المؤمن بما يحب، والحل الذي أشار إليه إبن القيم أنه يرضي به لآجل محبوب كرضا المريض بالدواء لكي يجد نعمة العافية، فرضا المؤمن المبتلي بالآلم والهم والغم يكون لآجل اللذة والمتعة والسعادة التي يجدها في الآخرة، فهو يرضى بقدر الله تعالي ويصبر ويحتسب رجاء ثواب الله في الآخرة، فسعادة المؤمن يتمنى ويرجو زوال المكروه في الدنيا، لذلك دعا الرسول صلي الله عليه وسلم لزوال المكاره، وشرع ذلك وشرع التداوي، ووردت أدعية كثيرة عنه صلي الله عليه وسلم يدعو بها الصحابة والصالحون : قد يستثني بعض المتصوفة من ذلك، فقد كانوا يتمنون المكارة لكي يجدوا ثواب الآخرة " وتجدر الإشارة إلى أن المعاناة كانت سبباً في إبداعات ومساهمات عظيمة في تاريخ البشر، وأن المعاناة في كثيرمن الأحيان يتبعها إنجاز و تتبعه سعادة ورضى .

سعادة الآخرة:
إن السعادة في الإسلام تشمل سعادة الدنيا وسعادة الآخرة وسيتضح أن السعادة الحقيقية هي سعادة الآخرة . وهذا البحث يهتم في المقام الأول بسعادة الدنيا – إمكانياتها ومقوماتها وأسبابها – لأجل ذلك سيكون حديثنا عن سعادة الآخرة موجزاً . إن الحديث عن وجود سعادة الآخرة يحتاج إلي برهان وجود الجنة كما وصفها القرآن الكريم وكما وصفتها السنة الشريفة . على هذا الأساس عندما يقال عن إنسان إنه سعيد قد يقصد بذلك سعيد الدنيا ’ لأنه حقق ما يريد ’ وقد يقصد به أنه سيكون سعيداً أي ستؤول حاله إلي حال سعيدة ’ فقد نصف شخصاً مثلاً بأنه سعيد ’ لأنه سينتقل إلي مكان وبلد يكون عيشه فيها سعيداً ورغداً . وكذلك يقال عن المؤمنين الصالحين إنهم سعداء" في عالم الذر وفي علم الله أو هم أجنة في بطون أمهاتهم " لماسيؤول إليه حالهم في الأخرة من النعيم المقيم واللذة والمتعة الدائمة . ويقال عن الكفار أشقياء لما سيؤول إليه حالهم من العذاب الأبدي . والقرآن وصف سعادة الآخرة ووصف فيها لذات حسية ومعنوية مع الفارق مقارنة بلذات الدنيا . ذكر جان كزنوف في معرض نقده لمفهوم السعادة في الإسلام كلاماً قال فيه : إن القرآن يصف نعيم الجنة التي فيها سعادة المسلم بأنه يحوى لذات حسية ويصف هذا النعيم بأنه دائم والحياة فيه خالدة فقال ناقداً لصورة النعيم التي وردت في القرآن"إن الخلود يبعث على الملل وهل تعرفون شهوات لا يؤول أمرها إلي الغثيان ’ ولا سيما عندما ينالها أصحابها بدون كفاح وعندما يكفى أن يمدوا أيديهم للحصول عليها.. أي ملل نشعر به إذا ما قدمت إلينا باستمرار وإذا لم يتح لنا الوقت لاشتهائها ’ ولكن لا بد أن تجرى الأمور على هذا النحو في جنة النعيم ’ وذلك لانكم لو أدخلتم إليها الانتظار والحرمان لكنتم على درب الألم’’. نقول أن سعادة الجنة ينالها أصحابها بكفاح في الدنيا مثلهم مثل عامل كد وتعب أثناء العام وحصل بعد ذلك على عطلته السنوية وقضاها في فندق مريح . ومما يزيد سعادة الفرد أنه إذا كان في الماضي يكد ويتعب وصار له حاضر سعيد ’ فإن سعادته تزداد بتذكره عناء الماضي (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين)’(الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن)’(لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب). وإذا كان في الحاضر شقياً وفي الماضي سعيداً فإن شقاوته في الحاضر تزداد بتذكره الماضي .(إن الخاسرين الذي خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين).
وقال: "إن أوجه الشهوات من النساء والشراب والأكل إنما جعلت لإرضاء ذوق العربي " لكن تنبه الكاتب بعض الشيء لما قد يكون رداً على اعتراضاته ’ فقال قد يقال "لا تحكموا على الفردوس بأذواقكم وأحكامكم الأرضية". لا تتحدثوا عن الملل والسأم والقلق ’ لكن جان كزنوف لا يعجبه هذا الرد فيعترض عليه بقوله :"إننا سنكون أمام أوصاف للجنة لا تخاطب الخيال والحساسية".
نقول رداً على هذا الكاتب أن القرآن ذكر لذات حسية ولذات معنوية، والملذات الحسية التي ذكرها القرآن مثل لذة أكل الفاكهة وشرب الخمر والاستمتاع بالنساء ’ وليست فواكه الجنة وخمرها ونساؤها كفواكه الدنيا وخمرها ونسائها، إنها وصفت بهذه الصورة – والله أعلم – لكي يدركها الإنسان ’ ولكي يكون لديه إحساس بها يولد حافزاً للعمل لنيلها . ولكن القرآن لم يكتف بوصف الجنة بهذه الطريقة إنما وصفها بأوصاف الكمال ’ فقال عز من قائل (لهم مايشاءون فيها ولدينا مزيد)(ق:35). وللإنسان أن يطلق لخياله العنان في تصور ما بها من نعيم، وكذلك يصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . كما أن الملذات التي وردت في القرآن في وصف لذات الجنة ليست حسية فقط – مع أنني لا أرى مبرراً للتقليل من قدر هذه الملذات الحسية وعدم اعتبارها لذات تؤدي إلي سعادة حقيقة – فالقرآن يصف أصحاب الجنة بأنهم (على سرر متقابلين)(الصافات:44). يستمتعون بلذة الصحبة والمحادثة . إن إلذ الأمور في الجنة وأكثرها بهجة ومتعة النظر إلى وجه الله الكريم قال تعالى للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)(يونس:26). قيل "الحسنى" :نعيم الجنة "وزيادة": النظر إلى وجهه الكريم . ويقول الله تعالى(ورضوان من الله أكبر)(التوبة:72)’ عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ’ فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ’فيقول :هل رضيتم ’ فيقولون ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحداً من خلقك ’ فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك ’ قالوا: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك’ قال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً.
إن جان كزنوف ظن خطأ أن أهل الجنة يصيبهم الملل والأم ’ وأن الخلود قد ينتج منه الرغبة في زواله ’ لكن القرآن يثبت أن أهل الجنة لا يريدون زوال ما هم فيه من نعيم يقول تعالىخالدين فيها لا يبغون عنها حولاً)(الكهف:108). وهذا أمر متصور عقلاً’ وكذلك يمثل وجوداً لأن العليم الخبير أخبر عنه . إن لذات الدنيا مشوبة بالألام والهموم والأحزان ’ ولكن لذات الجنة خلاف ذلك يقول تعالى (لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون)(الصافات:47) ’ يقول تعالى (وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن)(فاطر:34). لأجل ذلك لا يريد الإنسان زوالها.
إن المشكلة التي أثارها الكاتب هنا هي مشكة الحديث عن عالم مغاير ووجود مغاير للعالم الذي نعيش فيه. ولقد بحث هذه المشكلة علماء المسلمين عندما واجهتهم مشكلة فهم صفات الله سبحانه وتعالى. وفي اعتقادي أن اللغة يمكن أن تتخطى عالم الشهادة وتتحدث عن عالم الغيب والعالم العلوي.


إن الحمد لله نحمدة ونستعينه ونستغفرة ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا اله الا الله وحدة لا شريك له المشكور بكل الجوارح والأركان والمحمود بالقلب واللسان والمعبود في كل الأزمنة والأوطان لا يعجزه شئ في الأرض ولا في السماء خلق الإنسان وسواه ثم اختاره لحمل الإمانة واصطفاه فجعل السعادة لمن أطاعه وثبته على الحق والطاعة فعاش عيش السعداء ومات موت الشهداء أما من عصاه فلا يجد إلا الضيق والشقاء فعاش عيش الأذلاء ومات موت الجبناء كأنما يصعد في السماء...

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بعثه الله بالإسلام ليخرج الناس من عبادة الأوثان إلى عبادة الواحد الديان ليسلكوا طريق الأنبياء فيعيشوا بذلك سعداء فكان بمثابة الكوكب الدري الذي يضئ في الفضاء خير من مشى على الأرض وعرج في السماء0000 الذي خاطبه ربه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً "} [الأحزاب46:45] ثم أمر المؤمنين فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيما} [الأحزاب:56].
صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الأنقياء وعلى أصحابه المجاهدين الأتقياء وتابعيهم بإحسان من الصالحين و الصديقين والشهداء وعلى جميع مشايخنا من الدعاة والعلماء.........

أما بعد :
فهذه مجموعة كلمات تحوي الكثير من الفوائد والعظات كتبتها بقلبي واعترف أني كثير السيئات ولكني أعقل من أن أترك النصيحة بسبب تقصيري وزلتي:
لئن لم يعظ العاصين من هو مذنب *** فمن يعظ العاصين بعد محمد؟!
فكلنا ذو خطأ.... لذا فلا نضاعف هذا الخطأ بترك النصح والتوجيه
من ذا الذي ما أســاء قط *** ومن له الحســـنى فقط؟
لذا أوجه هذه الكلمات إلى كل من يبحث عن السعادة من الشباب والفتيات والى الآباء والأمهات وكل من ضاقت به الدنيا فلا يجد للحياة طعما ولا يرى لها لونا ولا يشم لها رائحة فاختلطت عليه المفاهيم والحقائق فلم يدرك معنى السعادة ولا يعرف حقيقة الالتزام فوجد الضيق والهموم والآلام والغموم فارتفعت بذلك الأنات والصرخات من قلة الحسنات ووفرة السيئات وكثرة السقطات و ذهبت الألفاظ والعبارات وبقيت الدموع والعبرات.
فصار يتساءل ......، لماذا خلقنا ؟ أين السعادة ؟ ما هو الحل؟ .. .ما هي الغاية؟ وهنا تجد الحل في طريقين ليس لهما ثالث وداعيين لا يفارقونك وأنت الثالث طريق أخره الجنة ومفتاحه القلب السليم وطريق آخرة النار ومفتاحه القلب السقيم وهذا الأخير له دعاة من الذين يتبعون الشهوات ويريدون تضليل الشباب والفتيات ليضيعون الأوقات بالجلوس أمام الشاشات ويعرضون لهم الأفلام والمسلسلات وأبطالها الكاسيات العاريات لتنتشر الفضائح والزلات . فيجلسون أمامها بالساعات وناهيك عن تلك الأغنيات التي يسمونها بالكليبات وبعضهم لا يعرف كثيرا عن هذه الزلات لكنه لما جلس أمام القنوات تعلم الدخان والمخدرات وشرب الخمر والمسكرات وقارف المعاصي والمنكرات ونسي أنه سيموت ثم لا يضمن الثبوت حتى يوضع في قبره فلا تسمع له خفوت فيقف أمام ذي العزة والجبروت.فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم وينظر أشأم منه فلا يرى الا ما قدم وينظر أمامه فلا يرى الا النار.....
كل حي سيموت ليس في الدنـيا ثـبوت
حركات سوف تفنى ثم يتـلوها خفـوت
وكـلام ليس يحلو بعـده إلا السـكوت
أيها السـائر قـل لي أين ذاك الجـبروت
كنت مطبوعا على النطق فما هذا الصموت
ليت شـعري أ همود ما أراه أم قـنــوت
أيـن أملاك لهم في كـل أفـق ملكـوت
زالت التيجان عنهم و خلت تلك التخوت
أصبحت أوطانهم من بعدهم و هي خفوت
لا سميع يسمع القـول و لا حي يصـوت
عمرت منهم قبور وخلـت منهـم بيـوت
خمدت تلك المساعي وانقضت تلك النعـوت
إنـما الدنـيا خيال باطل سـوف يفـوت
ليــس للإنسـان فـيها غـــير تقـوى اللـه قــــوت
ولا تكون النهاية عند الموت إذاً لارتاح كل من فارق الحياة ولكن :
ولو انا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا اذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شئ نعم. بعد الموت قبر وبعد القبر بعث وبعد البعث حشر وبعد الحشر حساب وبعد الحساب ميزان وبعد الميزان صراط وبعد الصراط إما جنة وإما نار..
أما والله لو علم الأنام لما خلقو لما هجعوا ونامـوا لقد خلقو لأمر لو رأته عيون قلوبهم شاخوا وهامـوا ممـات ثم حشر ثم نشر وتوبيـخ وأهـوال عظـام ليوم الحشر قد عملت أناس فصلوا من مخافته وصاموا ونحن إذا أمرنا أو نهينا كأهـل الكهف أيقاظ نيـام .
هذا ما يريده الذين يتبعون الشهوات " أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ }{البقرة:221} والطريق الثاني يدعوا إليه الله جل وعلا :
{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } {النساء:27}.

دعوة للتأمل :
تأمل أخي صورتك.... قف مع نفسك لحظة...
يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك :
من الذي خلقك على هذه الصورة ومن الذي عدلك هذا التعديل :{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ }(التين:4) العينان في الوجه والأنف بينهما واليدان في الجانبين والرجلان من أسفل،،، كيف لو أن عيناً نبتت لإنسان في ركبته ؟!
أو يداً ظهرت في رأسة ؟!
أو أنفاً في ظهرة ؟!
فسبحان من خلق فسوى وقدر فهدي.....
{هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }(لقمان :11 ).
أنظر إلى صورتك وأنت من الناس فتقول سبحان الله ...
ثم تعال معي واقرأ قوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }(غافر:57 ) فتجدها تحلق بك في السماء الدنيا التي فيها الشمس والقمر والكواكب والنجوم وهذا كله في مجرة واحدة من العديد من المجرات.........
وكل هذا الفضاء في سماء واحدة فكيف بسبع سماوات طباقا ؟!
فتقول يا الله! ما أعظمك!
فمن أنت حتى تعصى الجبار جل جلاله ؟!
ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك ، وأطعمك من رزقه وسقاك ، وإذا سألته ، أعطاك وحين عصيته ما جفاك ، بل تاب عليك وهداك ، وكنت ضعيفا فقواك ، وكنت مريضاً فشفاك... فذلكم الله ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال...........أإله مع الله ..
وكأني أسمعك تقول بالطبع لا.
ولكن أخي لسان حالك يقول غير ذلك. انظر إلى عملك؟ أأنت عبد لله أم عبد للدرهم أم للخميصة أو عبد للهوى.
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه .......
أرأيت بالإنسان يدعى للصلاة يقـول تبـاً للـذي نـاداه.
أسمعت بالإنسان يفطر عامداً شهر الصيام! أما يرى عقبـاه؟ أو ما ترى الإنسان يكفر جاحدا بالله ؟ عجبا ما الذي أغراه؟..
"ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين؟"
كلما تأملت عظمة الخالق كلما تبين لك ضعفك فكيف تتجرأ عليه؟!
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }[الزمر:67].
فما الذي غرك بربك الكريم وما الذي خدعك وأغراك {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}{ عبس23:17} المعنى الحقيقي للسعادة :
فإذا عرفنا الأشياء التي تجعل العبد يغتر بربه وينخدع بالدنيا الزائلة وتجنبناها عرفنا المعنى الحقيقي للسعادة التي من أجلها خلق الإنسان والتي جاء بها القرآن ودعا إليها خير الأنام فالسعادة الحقيقية في اتباع ما أمرالله لأنه سبحانه قد جعل الذل لمن عصاة وكتب العزة والسعادة في الداريين لمن أطاعة لأنه ما خلقنا إلا لذلك فانظر الى المخترع الذي يصنع جهاز أو آلة مثل الثلاجة فهي لا تصلح الا لتبريد الطعام والشراب واذا استخدمناها في غير ما صنعت اليه لا نجد نتيجة الا التعب والمشقة فهل يصلح استخدامها كدولاب للملابس أو كرف لحمل المستندات ........ فهذا لا يعقل ، لا نجد إلا المشقة والتعب وكذلك المصباح هل يصلح استخدامه ككرة قدم! أو يصلح استخدام السيارة لتعبر بها البحر! أو استخدام السفينة لتمشي على البر؟!
إنه أمر طبيعي لا يختلف فيه اثنان ولا ينكره عاقل وما اعتقد انه يخفى على الجاهل ( أن كل شئ لا يصلح إلا لما صنع له).......
فكيف بك تستخدم نفسك في غير ما خلقك الله من أجله...؟ أتبغي بعد ذلك سعادة!
كلا ....
لا يكون ذلك الا بالطاعة وعبادة الله وهذا ما خلقنا الله من أجلة يتضح في قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . تأمل معي هذه الآية العظيمة الفوائد ، فما خلقنا لنلعب ولا لنلهوا ولا لنأكل ولا لنشرب ونتزوج ونتكاثر.......
نحن نحتاج الآن الى إجابة قاطعة لسؤالين،، لماذا نحيا ؟ ولماذا نموت؟ انما نحيا لنعبد . وإنما نموت لنحيا ، هذه هي الحقيقة التي تخفى على كثير منا فالسعادة ليست بالمعاصي والشهوات وأقصد بذلك سعادة الدنيا والآخرة فلا يجد العصاة طعم السعادة أبدا وأضرب لك مثال على ذلك دولة من بلاد الغرب كالسويد مثلا- عليهم من الله ما يستحقون - تجد نسبة حالات الإنتحار مرتفعة جداً وفي نفس الوقت مستوى دخل الفرد مرتفع ولا يعانون مما نعاني من الفقر وسوء الأوضاع وكل شئ مباح هناك من زنا وخمور وكل ما تتخيل من الإباحية وما يسمونها الحرية بزعمهم فإذا كانوا سعداء حقا ما فكروا في الانتحار ولا التخلص من حياتهم وقس على هذا حال هؤلاء العصاة من المسلمين ولكن السعادة الحقيقية في تحقيق معنى العبودية لله ، السعادة الحقيقية لا تكون إلا بذكر الله أما هم يمتعون سمعهم بالألحان والأغنيات ويمتعون بصرهم بالعاريات الساقطات ويمتعون بطونهم بشرب المسكرات أما السعادة الحقيقية في الحياة والمستمرة بعد الممات محلها القلب .

العلاقة بين القلب . وسعادة الإنسان :
فالقلب هو ملك الجوارح..،
إذا كان سعيدا تكون الجوارح سعيدة واذا كان شقيا فتشقى بذلك بقية الجوارح وأشار بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ) رواه البخاري ومسلم.
لذا فقضية سعادة الإنسان متمثلة في راحة القلب..، فكيف يستريح القلب ؟!
نجد ذلك في قوله تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }[الرعد:28].
فلا راحة ولا طمأنينة للقلب إلا بذكر الله ؛ نعم .، لا سبيل لغير ذلك.. فالله تعالى خلق القلب وجعل غذاؤه في ذكره فإذا رأيت أخي ضيقاً في صدرك فاعلم أنك قصرت في ذكر الله ولأن هؤلاء العصاة بعيدون عن ذكر الله إذاً لا يجدون السعادة أبداً بل يجدون الضيق والشقاء في الدنيا والآخرة كما قال الله تعالى :
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }[طه:124].

فهؤلاء العصاة يأكلون ويتمتعون ولكنهم كما قال الله جل وعلا:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ }[محمد:12 ]
تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء في مغبتها *** لا خير في لذة من بعدها النار
فالسعادة الحقيقية في ذكر الله... الذي يجلي القلوب كما قال ربنا:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }[الأنفال:2].
وأيضاً قوله في سورة ق: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }[ق:37].
فالذكر سهم موجه للقلب فإذا أخطأ القلب فلا حياة لهذا القلب ..نسأل الله تبارك وتعالى أن يصلح قلوبنا وينفعنا بذكره.

بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة السعادة

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته في هذه التظاهرة الثقافية الرائدة التي تقوم بها جمعية البر والخدمات الاجتماعية تحت مظلة مهرجان حمص الثقافي؛ هذه الجمعية التي عُرفت من خلل مساعدتها المادية للفقراء تقدم اليوم نموذجاً جديداً للمساعدة في التنمية الثقافية معتمدة أن التنمية في المجتمعات يجب أن تكون في جميع المجالات.
وفي الحقيقة ففي أول يوم كلفتني إدارة الخيمة الرمضانية للحديث عن حقيقة السعادة أثارت في نفسي تساؤلات غريبة وعجيبة ومتنوعة ورحت أبحث في أعماق نفسي عن السعادة وعن تعريفاتها المتنوعة وصرت أسال من حولي عن تعريفات السعادة وبدأت أسأل كل من أجده في طريقي عن السعادة من الشرائح الاجتماعية المختلفة وكل إنسان أسأله يمهلني يوماً على الأقل ليخبرني عن تعريفه للسعادة باستثناء بعض الأشخاص الذين كانوا يجيبوا بسرعة وتساءلت في نفسي لماذا لا يحفظ أحدنا تعريفاً للسعادة ولماذا نحتاج إلى برهة ولو قليلة لمعرفة كنه السعادة وكيف نعيش السعادة؛ لقد كان ذلك بمثابة مؤشر حقيقي على أن جل الناس لا يعرفون السعادة ولا يعيشونها.
لقد اختلفت تعريفات الناس للسعادة باختلاف طباعهم واهتماماتهم وتطلعاتهم وحتى بيئتهم؛ لقد كانت تعريفاتهم أشبه بأصوات الآلات الموسيقية المنبعثة من الآلات المختلفة؛ فكل تعريف أشبه بمقام موسيقي له أبعاده وله جماله و لكن له حدوده, ولو أننا جمعنا مجمل هذه التعريفات لوجدت عندنا جملة موسيقية رائعة لشكلت تحفة فنية اسمها السعادة الحقيقية؛ مع أنني لا أخفي القول عليكم أنّ بعض التعريفات التي وصلتني من الناس كانت بسيطة ومضحكة بعض الشيء لكن لها أبعادها ومكانها في السعادة فمثلاً:
أحد التعريفات للسعادة كان من قبل أحد الأشخاص يقول فيه سعادتي أن أنجح في البكالوريا ولو شحط (الثانوية العامة ), والآخر أن أتزوج, والثالث أن أجد عملاً محترماً, والرابع أن يهدي الله أولادي, والخامس أن أتخلص من جاري المزعج, وهكذا وهذه التعرفات كلها إن وضعتها تضعها في موضع الأهداف إذ الفرق واضح بين الأهداف وبين السعادة, صحيح أن الإنسان يسر إذا تحقق هدفه ولكنه لا يشكل تحقيق الهدف إلا جزءاً من السعادة.
ثم إنّ بعض التعريفات أخذت معنى معنوياً فبعضهم عرف السعادة بأنها مساعدة الآخرين, والآخر عرفها بأنها الاكتفاء الروحي, والآخر قراءة القرآن بعد الفجر.
وبعض التعريفات أخذت معنى رومنسياً كقول بعضهم السعادة قرب الحبيب وبعد الطبيب, والآخر السعادة هي الحب فأن تكون محباً فهذا أمر لذيذ لكن أن تكون محبوباً فهذه هي السعادة.
وبعض التعريفات أخذت معنى الحكمة فبعضهم يقول السعادة هي التحصن من الأمراض العضوية والنفسية؛ والآخر السعادة صحة في بدن وأمن في وطن .
وبعض التعريفات أخذت معنى مادياً فبعضهم عرف السعادة بأنها المال والبنون, ومنهم الكرسي والمنصب والآخر بيت وشاليه وسيارة وهكذا ...
وبعض هذه التعريفات أخذ معنى عدوانياً فالسعادة عند أحدهم أن يرى كل الناس محتاجين له, والآخر أن يتخلص من حماته......
لكن العجيب أنّ أكثر من واحد عندما سألته هل أنت سعيد قال: لا أعرف!!
إذاً فأنت ترى أنّ تعريفات السعادة تختلف من إنسان إلى آخر ومن مجتمع إلى آخر حتى وضعت بعض الجهات الدولية سلماً اسمه سلم السعادة بين الشعوب وأرادت أن تعرف أي الشعوب هو أسعد الشعوب وأعطت درجات لهذا السلم وقامت باستقراءات مختلفة؛ لكن النتيجة كانت مفاجأة للجميع فقد كانت شعوب الولايات المتحدة الأمريكية أكثر الناس بؤساً وليس سعادة ولم تحصل إلا على علامات متدنية؛ مع أننا نعرف كم هي الرفاهية الموجود للفرد الأمريكي في بلده , والغريب جداً أن شعب نيجيريا هو الذي نال أكبر درجة من العلامات وهو أسعد الشعوب مع وجود الفقر المدقع .طبعاً العرب لم يدخلوا في سلم السعادة لأسباب عديدة منها أنّ درجات السلم عندهم مكسورة ......

تعريفات السعادة عند القدماء:
اختلف الفلاسفة وعلماء النفس قديماً وحديثاً حول ماهية السعادة وكيفية تحصيلها واختلفوا في البداية حول تعريفها :
فأما أفلاطون فاعتبر السعادة هي فضائل النفس (الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة ) واعتبر أن الإنسان لا يسعد السعادة الكاملة إلا بعودة روحه إلى العالم الآخر.
أما أرسطو فاعتبر السعادة هبة من الله وهي تتكون من خمسة أبعاد:
1- صحة البدن وسلامة الحواس.
2- الحصول على الثروة وحسن استخدامها.
3- النجاح في العمل وتحقيق الطموحات.
4- سلامة العقل وصحة الاعتقاد.
5- السمعة الطيبة والاستحسان من الناس.( علم النفس في الحديث الشريف ص177).
وفي علم النفس يمكن فهم السعادة بوصفها انعكاسا لدرجة الرضا عن الحياة .. أو بوصفه انعكاساً لمعدلات تكرار حدوث الانفعالات السارة.(سيكولوجية السعادة مايكل أرجا يل ترجمة فيصل عبد القادر).
أما في المعاجم اللغوية فإنّ السعادة : الرضا والاطمئنان (معجم الإرشاد باب العين ).
أما في العصر الإسلامي فقد اهتم علماء المسلمين بماهية السعادة واعتبروها في تحقيق التوازن بين مطالب الجسم والروح؛ وبين مطالب الفرد ومطالب الجماعة؛ وبين إعمار الدنيا وإعمار الآخرة؛ فالسعادة عند علماء المسلمين الجمع بين هذه الثلاثة؛ كما اتفق علماء المسلمين على أنّ السعادة في الدنيا مهما بلغت فهي سعادة ناقصة؛ لأنّ الدنيا دار اجتهاد وعمل وامتحان, والآخرة دار الحساب ومن فاز فيها حصل على السعادة.لذلك نلاحظ أنّ كلمة السعادة لم ترد في القرآن الكريم إلا في إطار الآخرة قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ }(هود108) وقال:{يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }(هود105)
أما في الحديث الشريف فقد وردت تعريفات السعادة أيضا في نفس الإطار يجمع أحدكم في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه ملكاً فيأمر بأربع كلمات بكتابة عمله ورزقه وأجله وشقي أم سعيد"وفي الحديث الآخر" أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة" (البخاري).
إذا فلم ترد كلمة السعادة واضحة في القرآن والحديث إنما جاءت بتعبير آخر وهو تعبير الحياة الطيبة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }(النحل97)
{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ }(الجاثية21).

إذا نتيجة لهذه التداخلات والرؤى المختلفة والتعريفات المتنوعة للسعادة وقبل أن نصل للتعريف النهائي للسعادة لا بد أن نضع ملامح و إضاءات ومعالم حول السعادة:

1- يجب أن نعرف أنّ السعادة غير اللذة:
وكثير ما يحصل الخلط بين مفهوم السعادة وبين مفهوم اللذة فهما مجتمعان من جهة ومفترقان من جهة أخرى؛ مجتمعان في كون كل منهما يدخل السرور إلى النفس ولكنهما يفترقان؛ والفرق بينهما في أن اللذة تقطف قطفاً وتذهب نشوتها فوراً بعد الانتهاء من قرينتها وربما حصلت بعدها ندامة وتعاسة ما بعدها تعاسة وأما السعادة فتبقى تصاحب صاحبها فترة ليست بقليلة.
وهذا الخلط يكون أحيانا التباساً من الشخص نفسِه فيظن كلَّ لذة سعادة؛ و أحياناً يكون هذا اللبس مقصوداًً من جهات محددة؛ فكثير من الجهات تحاول أن تسوّق اللذات المختلفة على أنها عين السعادة وجوهرُها وهدفهم من ذلك السيطرة على العقول وتحريكها باتجاهات مختلفة فالشاب الذي يتناول المخدرات يتناولها في بدايتها للذة الموجودة فيها ثم بعد ذلك يتحول دمية في يد من يموله ويعينه.
فينساق الشخص وراء اللذائذ المختلفة فلا يترك لذة إلا ويقارفها ويظن بأنه لو حصّل اللذائذ كلها حصل على السعادة ولكنه يفاجئ بأنه أبعد الناس عن السعادة
فلذائذ الدنيا متنوعة ومتعددة ومتغيرة الشكل والوصف ولكن ليست كل لذة فيها سعادة
فالشهرة لذة لا تقابلها لذة أن تكون مشهوراً ومعروفا بين الناس يقدمك الناس في المجالس ويمدحون نتاجك ولكن كثيراً من المشاهير كانت حياتهم كئيبة وانتهت بالانتحار فمن المعلوم أن ديل كارنجي صاحب كتاب دع القلق وابدأ الحياة وهو الكتاب المفيد الممتع الجميل أنهى حياته منتحراً فقد قال للإنسان : دع القلق وابدأ الحياة انتحر وهو صاحب أروع الكتب في فن التعامل مع الناس ، وصاحب أكثر الكتب مبيعاً في العالم ، حيث بيعت ملايين النسخ من كتبه ، وترجمت إلى أكثر اللغات العالمية ، فهو صاحب كتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس
وقد وضع قواعد رائعة في كيفية طرد القلق والانطلاق في الحياة العامة بكل سعادة وثقة .
ولكن كل ذلك لم يمنع القلق من أن يسيطر على حياة كارينجي ، فعصفت الكآبة بحياته ، وسادت التعاسة والشقاء أيامه ، فقرر هو أيضاً التخلص من حياته عن طريق الانتحار .
وكان له ذلك . وكذلك المطربة المصرية المشهورة داليدا قبل أن تنتحر: كتبنت رسالتها الأخيرة وقالت فيها : الحياة لا تحتمل .. سامحوني. وغيرهم وغيرهم ممن يطول ذكرهم .
ومن اللذائذ الأخرى الطعام المليء بالسكريات ولكنه مؤذ للجسد.
والعلاقات المحرمة لذيذة لكن فيها خراب الأسر والبيوت وتهديم المجتمعات واختلاط الأنساب ومشاهدة الأفلام الهابطة لذيذ لكن في تحطيم للروابط المقدسة واعتداء صارخ على عفة المجتمع وحصانته.

2- يجب أن نعرف أنّ السعادة ليست بالراحة: بل قد تكون المشقة عين السعادة أحياناً, فلو اضطررت لأن ترمي نفسك في بئر لتنقذ طفلاًّ وقع فيه ستكون سعيداً على الرغم من كل الجروح والآلام التي تعانيها جراء نزولك في البئر. وقد كان لزين العابدين بن علي ندباً في ظهره لأنه كان يحمل الطعام للفقراء ولا شك أنه كان سعيداً في ذلك على الرغم من المشقة التي كان يلاقيها.وللرافعي رحمه الله تعالى كلام جميل في ذلك بقوله: " ليست السعادة في الراحة والفراغ ولكنها في التعب والكدح والمشقة حين تتحول أياماً إلى راحة وفراغ"(وحي القلم 42/1).
وتلك المشقة التي يكابدها العلماء وطلاب العلم أثناء التحصيل العلمي تضفي عليهم السعادة وترفعهم إلى مراتب من النشوة عالية على الرغم مما يعانونه من مشاق كبيرة ولهذا يشير الإمام الشافعي رحمه الله تعالى بقوله:
سهري لتنقيح العلوم ألذ لي من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربا لحل عويصة أشهى من الدوكاه والعشاق
وألذّ من نقر الفتاة لدفها نقري لألقي الرمل عن أوراق
أأبيت سهران الدجى وتبيتُه نوماً وتبغي بعد ذاك لحاقي
(ديوان الشافعي)
وهذا أمر مهم للجيل الناشئ فيظن البعض أن السعادة في الراحة فيعمد إلى أن يسند ظهر إلى جدار الكسل فلا يعمل شيئا ولا ينشئ شيئاً ويضيع عمره ووقته في اللهو واللعب وهؤلاء الناس هم أبعد الناس عن السعادة.
بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب
لولا المشقة ساد الناس كلهم

3- يجب أن نعرف أن السعادة هي انسجام بين القول والفعل:
من أهم أسباب السعادة أن يتحقق التناغم بين ما يعتقده الفرد وبين ما يقوم بتطبيقه؛ فليس عنده ما يعيق تطبيق ما يؤمن به ويعتقده وهذا الأمر عبر عنه الله تعالى بالمقت فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ{2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ{3} (الصف 2-3)
لذلك ورد أن المسلم الذي يعصي الله بأنه غير سعيد لأنه يؤمن بأن الله يراه ومع ذلك خالف فعله اعتقاده " إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه "(البخاري 5833).
فكلما اقترن القول بالفعل لم يكن عند الإنسان عقد في حياته فيقترب أكثر فأكثر من السعادة.
فمثلا إنسان يريد أن يصلي أحد الأوقات ووجد نفسه في مكان لا يستطيع أن يؤدي ما يعتقده وما يؤمن به إنه إنسان متوتر ومضطرب

4- يجب أن نعرف أنّ السعادة تفاؤل:
غالباً لا يسد باب إلا ويفتح مقابله أبواب ولكننا دائما ننشغل بالباب المغلق عن الأبواب التي فتحت.
سيفتح باب إذا ما سد باب نعم وتهون الأمور الصعاب
ويتسع الحال من بعدما تضيق المذاهب فيه الرحاب
فسرطان السعادة القاتل هو اليأس والترياق الناجع هو التفاؤل ولم يعرف التاريخ تفاؤلاً كما عرفه العرب والمسلمون؛ فالإسلام جاء ليضفي السعادة على البشر جميعاً فكانت تعليماته كلها تصب في بحر التفاؤل فلا تكاد تجد أية أو حديثاً إلا ويحمل معنى التفاؤل بين طياته؛ حتى إنّ أسماء سور القرآن لوحدها تعبر عن التفاؤل فنحن عندنا سورة الفتح وعند سورة النصر وسورة الأنفال _ وهي الأموال التي يغتنمها المقاتلون في الحرب_ حتى إن الإسلام ذهب إلى درجات في التفاؤل أبعد من ذلك فنهى فطلب من الإنسان إذا وقع في مصيبة أن يدعو بهذا الدعاء" اللهم أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها" (أحمد) ففي خضم المصيبة يجب أن تكون متفائلاَ بفرج الله سبحانه وتعالى وبذلك قال تعالى : فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا وقال علماء العربية: إن المعرف إذا كرر فإنه يكون نفسه, وإن النكرة إذا تكرر فإنه يتغير فلما جاء بالعسر معرفاً عرف أن نفس العسر السابق,ولما جاء اليسر نكرة عرف أنه غير اليسر السابق لذلك قالوا لن يبلغ عسر يسرين.
ولا يخفى على أحد الأثر الذي يتركه التفاؤل في النفس البشرية فالإنسان المتفائل إنسان سعيد حتى ولو كان في خضم المحنة ولذلك أشار الشاعر بقوله :
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لذلك من أحد مقومات السعادة وأركانها أن تكون ذا أمل وأن تكون متفائلاً؛ رأى المسيح عليه السلام رجلا يعمل في الأرض وبيده المسحاة فقال: اللهم انزع منه الأمل فترك الرجلُ المسحاة وقطّب وجهه وجلس إلى الأرض .ثم قال المسيح: اللهم رد إليه الأمل فقام الرجل يعمل بجد ونشاط فإذا لم يكن هناك أمل فإن الإنسان تعيس وأي تعاسة.

5- يجب أن نعرف أنّ سعادة الدنيا سعادة ناقصة:
يروى أنّ ملكا بنى بناء فأحسنه وجعل فيه من كل شيء أكمله وأجمله وأفضله ثم جمع الحكماء وسألهم هل في هذا البناء عيب؛ فكلهم مدح هذا البناء ومدح حسنه وجماله إلا رجل قام وقال: يا ملك الزمان إنّ فيه عيبان , فغضب الملك وهو الذي أنفق كل جهده ليقيم هذا البناء الرائع والضخم وقال له: قل فقال: يا ملك الزمان أما العيب الأول: فإنك مهما جلست فيه فسوف تغادره وأما العيب الثاني: فإنه مهما طال بناؤه فسوف يتهدم.
وكلّ الفكاهات مملولة وطول التعاشر فيه القلى
وكلّ طريف له لذة وكل تليد سريع البلى
ولا شيء إلا له آفة ولاشيء إلا له منتهى
(ديوان أبو العتاهية ص19)
لذلك كانت نظرة العرب المسلمين هي النظرة الشاملة للسعادة فجعلوا السعادة قسمين قسم يحقق فيه الحياة الطيبة في الدنيا وهو قسم لا محالة زائل وقسم يحقق فيه السعادة في الآخرة وهو السعادة الأبدية؛ ومهما بلغت سعادة الدنيا مبلغها فإنها لا تساوي شيئاً بالنسبة لسعادة الآخرة إذ مهما بلغت السعادة في الدنيا فإنّ فيها من الكدورة ما ينغصها, ومهما كان فيها من الشقاء فهي لا تساوي لحظة عذاب واحد في الآخرة.

6- يجب أن نعرف أنّ السعادة تكون في إزالة التوتر الداخلي والخارجي للفرد:
إذا اعتبرنا أن مجمل علاقات الإنسان تكون في اتجاهات ثلاث: علاقة الإنسان بخالقه.
وعلاقة الإنسان بنفسه. وعلاقة الإنسان مع المحيط الذي يعيش فيه.
فإن السعادة تكمن في حل هذه المعادلات الثلاث وإيصالها إلى درجة التوازن؛ والتعاسة تصل إلى الإنسان من خلال اضطراب في إحدى هذه المعادلات الثلاث.
لذلك جاء الإسلام ليحل هذه المعادلات الثلاث من خلال إزالة الاضطراب فيها ليحقق (طمأنينة الداخل وتنظيم الظاهر)
أما طمأنينة الداخل فإنّ علاقة الإنسان بربه فإنها تنطوي على أن يكون أكثر قرباً من خالقه وكلما كان الإنسان قريباً من خالقه كان سعيداً حتى قالوا إنّ العاصي إنسان متعب جداً لأنه يسير في عكس الكون كله فالسموات والأرض علاقتها مع خالقها علاقة طاعة؛ وهو علاقته مع ربه علاقة معصية قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }(فصلت11). فهو يسبح بعكس الكون فهو متعب يشعر بالتعب والإرهاق دائما اما الطائع فهو ذلك الإنسان المتناسق مع الكون كله فالكون طائع وهو أيضا طائع لله .
وأما علاقة الإنسان بنفسه فلا بد أن يزيل التوتر فيها ويتصالح مع نفسه لذلك كان أحد تعريفات السعادة: أن يجد الإنسان نفسه ويتصالح معها؛ لذلك كان من أهم أسباب التعاسة أن الإنسان لا يجد نفسه ولا يعرف أين موقعه في المجتمع ومن هو وما هي مكانته وماذا يستطيع أن يقدم، حتى ولو كانت مكانته بسيطة وأعماله قليلة في ظن الناس لكنه وجد نفسه, لقد طرد أديسون من المدرسة لكنه وجد نفسه في اختراعاته فكان فضله على البشرية كبير جداً المهم أن تتصالح مع نفسك حتى تكون سعيداً وتعرف مكانتك وتعرف قدراتك.
أما علاقة الإنسان بمن حوله وهي التي عنينا بها بتنظيم الظاهر بأن تكون علاقاته منضبة بضوابط الذوق الرفيع والأدب الجمّ فالأشخاص الذي يعيشون في حالة فوضى في علاقاتهم هم في شقاء وتعب وجهد ونصب يكابدون ما يكابدون لأنّ علاقاتهم غير متوازنة وغير منضبطة؛ فعلاقاتهم قائمة على الأنانية والحسد والظن السيئ والتآمر والترصد كل ذلك يجعل الإنسان غير سعيد وغير راض وتجعله إنساناً متوتراً ومتحفزاً ويعاني من شدة دائمة وتوتر مستمر فمن أين تكون له الراحة والسعادة .
أما الإنسان الذي نظم حياته وعلاقاته على مبدأ الحقوق والواجبات فهو يؤدي واجباته ويتساهل في حقوقه ويتجاوز عن خصومه هو إنسان سعيد بلا شك.
ومن أشعار محمد إقبال في ذلك قوله:
لم ألق في هذا الوجود سعادةً كمودة الإنسان للإنسان (ديوان محمد إقبال).
والمودة أرقى درجات التعامل الإنسان مع أخيه الإنسان فالود يعني المحبة والألفة واللهفة

7- يجب أن نفهم السعادة أنها شكر النعم و استثمارها بالطريق المشروع:
إنّ أحد المشاكل التي يعاني منها البشر اليوم أنهم يفكرون بما ينقصهم ولا يفكرون بما يملكون فالإنسان يملك الكثير الكثير من مقومات السعادة فالإنسان صاحب العافية لا يبيع بصره بكنوز الأرض كلها
لذلك قال أحد العلماء:
زر المشفى ولو مرة في العام لتعرف نعمة الله عليك بالصحة
زر دار العجزة مرة لتعرف نعمة الله عليك في اولادك
زر المحاكم مرة في العام لتعرف نعمة الله عليك في أن عافاك
فالإنسان يملك نعماً لا تعد ولا تحصى ولو أنه استثمر هذه النعم فبل أن ينظر إلى غيرها لكان في سعادة وهناء
على الرغم من أن كثيراً من الأمور التي يفكر بها الناس اليوم هي أمور كمالية. وفي الحقيقة لقد أشقت الكماليات الناس وأتعبتهم, فالإنسان إذا دخل محور الاهتمام الزائد بالكماليات فغنه سيكون في تعاسة ونحن نجزم بأن من يتبع الموضة اليوم من الشباب والبنات هم ليسوا سعداء لأن الذي يتبع هذه الأمور إنسان يحتاج إلى مال كثير لينفق على هذه الموضة كما انه إنسان متقلب المزاج متأثر وليس مؤثراً غير راض عن نفسه ولا عن شكله وبذلك جاء وصف متتبع الموضة في الحديث الشريف " تعس عبد الخميصة( الثوب ) إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض تعس وانتكس "(البخاري2673).
أي هو في تعاسة دائمة وانتكاس دائم.

8- يجب أن نفهم السعادة أنها عطاء وليست تملكاً:
أكثر الناس سعادة هم الأشخاص الذين يعيشون لغيرهم فهو دائم العطاء فإن كان صاحب علم فيعطي علمه للناس وإن كان صاحب مال فيتصدق على الفقراء ويشعر من خلال ذلك بنشوة عظيمة

ومهما عرفنا السعادة ووضعنا حولها الملاحظات فإنّ هناك اختلاف كبير في معانيه ولكننا نحاول أن نضع مقومات عامة للسعادة أو أركان السعادة:
أركان السعادة تنقسم إلى قسمين:
1- معنوية 2- مادية
أولاً الأمور المعنوية :
1- طيب النفس من النعيم:
فإذا كان الإنسان خبيث النفس فإنه لن يجد طعم السعادة أبدا فلا بد أن يكون الإنسان طيب النفس وهذا جزء من حديث رواه ابن ماجه" وطيب النفس من النعيم " ومعنى طيب النفس أن يكون متساهلاً متسامحاً محباً متجاهلاً عن أخطاء إخوانه مترفعا عن ذلاتهم لا يحمل في نفسه حقداً عليهم أو كراهية لهم وهو بذلك يكن جميل النفس, والإنسان طيب النفس تكن الحياة له جميلة وبذلك يقول الرافعي في وحي قلمه: " في جمال النفس يكون كل شيء جميلاً إذ تُلقي النفس عليه من ألوانها فتنقلب الدار الصغيرة قصراً في سعة النفس لا في مساحتها؛ وتعرف لنور النهار عذوبةً كعذوبة الماء على الظمأ؛ ويظهر الليل كأنه معرض جواهرَ أُقيم للحور العين في السموات؛ ويبدو الفجر بألوانه وأنواره ونسماته كأنه جنة سابحة في الهواء؛ في جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الخليقة؛ وَيْ كأن الله أمر العالم ألا يعبس للقلب المبتسم.(وحي القلم 42/1).
2- الأمن والأمان لذلك قال العلماء: ألذ فراش الأمن.فالإنسان لو كان يملك ما يملك ولكنه لا يأمن على نفسه ولا على ماله وأولاده فإنه يعيش حالة تخرجه من دائرة السعادة إلى دائرة القلق وما أصعب هذه الحياة وما أقساها.
3- الرضا بالقضاء والقدر: "من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله له ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله له" (الترمذي).

ثانياً: أما الأمور المادية :
1- الصحة: فالمريض لا يعرف السعادة ولا يذق طعمها وكم من غني تمنى أن يأكل طعام الفقراء او يشرب كأس ماء او يتناول الحلوى ولكنه ممنوع من ذلك كله فماذا ينفعه المال وقتئذ
2- القوت : ففي الحديث الشريف" من أصبح معافى في بدنه آمنا في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بأسرها "(الترمذي).
وسأل مرة مسلمة بن عبد الملك جلساءه من أسعد الناس قيل له: أنت فقال: وأين ما ألقى في الثغور فقالوا أمير المؤمنين فقال: وأين ما يلقى من أعدائه فقالوا من أيها الأمير فقال رجل له زوجة يحبها وتحبه قد رزقه الله كفافا لا نعرفه ولا يعرفنا.
3- المأوى والسكن: فمن ليس له مأوى ياوي إليه أو بيت يسكنه هو في حالة قلق لذلك لما جاء الإسلام ضمن لكل رعايا دولته بان يكون له بيت يؤويه لذلك كان من أسس السعادة الزوجية تأمين السكن المستقل للزوجة.

رؤيتي للسعادة
واسمحوا لي في نهاية هذه المحاضرة أن أدلي بدلوي في فهمي الخاص للسعادة
رؤيتي للسعادة: السعادة هي استعداد النفس للحياة وتقبلها بسرائها وضرائها, والانتصار عليها, والعمل الدؤوب الدائم حتى يلقى الإنسان الله وهو راض عنه.
وكل ذلك مأخوذ من سورة من القرآن الكريم سورة الانشراح
قال تعالى :
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ{1} وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ{2} الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ{3} وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ{4} فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{6} فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ{7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{8}
فانشراح الصدر الذي هو احد مظاهر السعادة مرتبط بأمور خمسة:
1- غفران الذنب: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ. فكم هي سعادة ابن آدم أن يشعر بان الله سبحانه غفر له ذنوبه.
2- والسمعة الطيبة: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ.فالسمعة الطيبة من السعادة بمكان وهي تمثل المخزون الذي يختزنه الإنسان عند الناس.
3- التفاؤل: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً{5} إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً.وكما ذكرت لكم فإن التفاؤل محور السعادة
4- العمل المتجدد: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ . علاقة الانشراح انشراح الصدر بتجدد العمل ظاهر في الآية إذ إن انشراح الصدر مرتبط بتجدد العمل وتجدد الأهداف : فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ{7} وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ{8} والسؤال فإذا فرغت من ماذا؟ وانصب أي ابدأ بأي شيء؟
أي فإذا فرغت من عمل فابدأ بعمل جديد فإنه يبق صدرك منشرحاً وهذا يدفعنا إلى العمل دائماً.لذلك كان أكثر النس سعادة هم العاملون والمحققون لأهدافه يضع هدفا ثم يعمل له فإذا وصل إليه وضع هدفا آخر وغزل حوله..... وهكذا فإنه يقضي حياته على هذا المنوال وهو بذلك يحقق نشوة السعادة بشكل دائم كلما وصل إلى هدفه.
5-والرجوع إلى الله: وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ . "إن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة "(أحمد).
جناحي السعادة: الزواج الناجح والأصدقاء المخلصين.
قلب السعادة: الرضا بالقضاء.
رأس السعادة: العمل المنتج الدائم.
رئة السعادة: النجاح.
يد السعادة: العطاء.
قمة السعادة: لقاء الله وهو راض عنك.

وأختم بقول أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله تعالى:
فإنّ السعادة غير الظهور وغير الثراء وغير الترف
ولكنها في نواحي الضمير إذا هو باللوم لم يكتنف
وبقوله تعالى:
{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }(النحل97).
أرجو أن أكون قد وفقت في وضع ملامح للسعادة وأسأل الله لي ولكم سعادة الدارين
وفي أول وآخر يطيب الحمد لله رب العالمين
والسلام عليكم ورحمة الله




14/5/1414هـ
(( حقيقة السعادة )) في مبدأ القول يقال : إن كلمة ( السعادة ) لها رنين خاص في السمع ، يصاحبها شعور وجداني – ترجمته : إن هذه الكلمة محببة في النفوس ، وحصول مُقتضياتها من أعظم الأماني – وهذا كما يُقال : ( لا يتنازع فيه اثنان ولا يتناطح فيه كُبشان ) .هذا لا إشكال فيه وإنما يبقى الإشكال في مفهوم حقيقة السعادة .فمفهوم السعادة عند غير المسلمين هو توفر المأكل والمشرب والمركب والمأوى بغض النظر إلى ما عداها وهذا المفهوم يَردُ عند شريحة كبيرة من المسلمين والمصيبة أنهم جعلوا هذا المفهوم الذي يشمل بعض معنى السعادة جعلوه مفهوما كليا للسعادة بل لحقيقة السعادة ، وهنا مكمن الخطأ .وبيان ذلك من وجوه ، أهمها وجهان :أولاً : أن كثير ممن توفر لهم ما سبق ذكره من مأكل ... الخ ، يعيشون في قلق نفسي وصداع داخلي يؤكد هذا ويقرره ما يُسمع ويُقرأ من حوادث الانتحار والاغتصاب والسلب المستمرة آناء الليل وأطراف النهار ، وهذا في بلاد الكفر خاصة ، وفي بعض دُول الإسلام التي جرفها تيار التغريب عامة .ثانياً : أن ذلك المفهوم للسعادة مقتصر على الأمور الظاهرة دون الأمور الباطنة ، وهنا خلل كبير .وإذا كان ذلك فأي سعادة يشعر بها من مَلَك الأموال والمراكب الفارهة والقصور الواسعة وهو يشعر بالضيق والكآبة ؟ وأي سعادة يشعر بها من لا همّ له ولا هدف إلا جمع الدرهم والدينار ، يفرح لقربها ويحزن لبعدها ؟ بل أي سعادة يعيشها إنسان أخشى ما يخشاه الموت لأنه بزعمه قاطع ملذاته وشهواته ؟ إنّ هذا لشيء عُجاب ! .بعد هذا العرض الميسر يطرح سؤال نفسه : ما مفهوم حقيقة السعادة ؟ وهنا محط الركب وبيت القصيد .وخلاصة جواب هذا السؤال أن يقال : إن حقيقة السعادة لا تكون ولا تحصل إلاَّ بارتباط المخلوق بخالقه تعالى ، وذلك بطاعة أمره واجتناب نهيه ، وأن يكون هذا في شأنه كله : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين } .فإذا حقق العبد ذلك حصلت له السعادة في قرارة نفسه : { فمن يريد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } .أما السعادة في الأمور المحسوسة فهي فرع من السعادة المعنوية في قرارة نفس العبد .فإن حصل الفرع مع الأصل فنور على نور ، وإن كانت الأخرى فهو على خير وإلى خير .ومن شواهد هذا ما حكي عن بعض الزهاد أنه قال : [ لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من نعمة لجالدونا عليها بالسيوف ] .وخير من قوله قول النبي  : (( من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه ، وفرّق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له )) أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله تعالى عنه والكلام في هذا المبحث يطول ، ولعل ما تقدم يكفي في إيضاح المقصود .الله نسأل أن يشرح صدورنا ، وأن ييسر أمورنا ، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا .وأن يرزقنا السعادة النفسية والبدنية .والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
أخوكم/


تـقـديـــم:
ليس يخفى، أن الفلسفة تنقسم إلى ثلاثة مباحث كبرى وهي : مبحث المعرفة ومبحث الانطولوجيا ومبحث القيم . ويطرح كل واحد من هذه المباحث جملة مفاهيم وإشكالات. ومن بين جملة تلكم المفاهيم التي يطرحها مبحث القيم، نلفي مفهوم" السعادة ". فما هي دلالة هذا المفهوم ؟
الدلالة المتداولة:
يتباين الناس في تمثلهم للسعادة، فمنهم من يرى السعادة في الصحة ، ومنهم من يراها في المال، ومنهم من يراها في الصداقة، ومنهم من يراها في راحة البال، ومنهم من يراها في تلبية كاملة للرغبات، وتحقيق المتعة في شتى أشكالها … والعلة في اختلاف الناس في تمثلهم للسعادة هو جانب النقص الذي يعاني منه كل إنسان، فالفقير يرى السعادة في المال، والمريض يرى السعادة في الصحة، والأعزب يرى السعادة في الزواج وهكذا…
هذا، ويلفت الانتباه في تمثلات الناس للسعادة، أنه يغلب عليها الجانب المادي الذي يقترن بما هو إرضاء للحواس.
الدلالة اللغوية :
أ‌- لسان العرب : ابن منظور
جاء في" لسان العرب" : سعد السعد بمعنى اليمن، وهو نقيض النحس. والسعود خلاف النحوسة، والسعادة خلاف الشقاوة . ونقول سعد يسعد سعدا وسعادة فهو سعيد ، نقيض شقي والجمع سعداء .
ويشتق من نفس الجدر ثلاثة ألفاض تشترك في نفس المعنى وهي : الساعد والسعدان والسعد.
فلفظ الساعد يدل أولا، على ساعد الإنسان أو الطير أو القبيلة : فساعدا الإنسان ذراعاه ، وساعدا الطائر جناحاه ،وساعد القبيلة رئيسها. ويدل ثانيا، على مجرى المياه ، فسعيد المزرعة نهرها الذي يسقها. ويدل ثالثا ، على مخرج اللبن في الناقة . أما لفظ السعدان فيدل على نبات ذي شوك من أطيب مراعي الإبل. وأما لفظ السعد فيدل على الطيب ذي الرائحة الزكية.
إن ما يمكن استنتاجه من هاته الدلالات هو :
أولا : اقتران السعادة بالإرضاء و الارتواء. فالنهر الذي يسقي المزرعة يرويها، ولبن الناقة يروي ويشبع صغيرها، ومنبت شوك النخل يشبع جوع الإبل، والطيب يشبع النفس برائحته العطرة.
ثانيا : اقترانها بالعضوين اللذين يدبران الجسد، وهما: الساعدان.
ومن هنا يكتسب اليمن دلالتين :
الأولى : تشير إلى ما هو مادي محسوس، وتتمثل في الإرضاء والإشباع.
الثانية : تومئ إلى ما هو عقلي، وتتمثل في التدبير، فعمدة المدينة وساعدها هو رئيسها وعقلها المدبر لشؤونها والمسير لها نحو ما هو أفضل لها. ولا يمكن في هذا السياق تصور سعادة بدون تعاون واجتماع.
يتضح من كل ما سبق، أن التعريف اللغوي للسعادة قد وسع من دلالتها، بشكل جعلها تنفتح على عنصر لا مادي، من طبيعة عقلية واجتماعية وسياسية تتعلق بالتفكير والتدبير.
الدلالة الفلسفية :
أ- المعجم الفلسفي : جميل صليبا [1]
السعادة هي الرضا التام بما تناله النفس من الخير. والفرق بينها وبين اللذة أن السعادة حالة خاصة بالإنسان، وأن رضا النفس بها تام. إذ من شرط السعادة أن تكون ميول النفس كلها راضية مرضية، وأن يكون رضاها بما حصلت عليه من الخير تاما ودائما. في حين أن" اللذة " حالة مشتركة بين الإنسان والحيوان، وأن رضا النفس بها مؤقت .
وإذا كانت السعادة هي حالة إرضاء وإشباع وارتياح تام للرغبات يتسم بالثبات، فانه متى سمت إلى مستوى الرضا الروحي ونعيم التأمل والنظر، أصبحت غبطة . و إن كانت هذه أسمى وأدوم.
وللفلاسفة في حقيقة السعادة آراء مختلفة: فمنهم من يقول إن السعادة هي في إتباع الفضيلة (أفلاطون)، ومنهم من يقول إنها في الاستمتاع بالملذات الحسية المدرسة (القورينائية)، أما أرسطو فانه يوحد الخير الأعلى و السعادة ، ويجعل اللذة شرطا ضروريا للسعادة لا شرطا كافيا. وعين الأمر يقول به أبيقور الذي اعتبر اللذة هي غاية الحياة ، وان كان هو يقيم فروقا بين اللذات. أما الرواقيون فإنهم يرجعون السعادة إلى الفعل الموافق للعقل، وهي- أي السعادة- في نظرهم غير ممتنعة عن الحكم ، وان كان طريقها محفوفا بالألم .
ب‌- موسوعة لالاند الفلسفية : أندريه لالاند [2]
السعادة هي حالة رضا تام تستأثر بمجامع الوعي .
السعادة هي إرضاء كل الميول وإشباعها.
يتبدى لنا من كل ما سبق، أن مفهوم السعادة تتداخل فيه دلالات متباينة قاموسية وفلسفية وتمثلية .كما يلوح لنا أن هذا المفهوم تتقاطع فيه حقول مختلفة بيولوجية واجتماعية وسياسية وميتافيزيقية وسيكولوجية . فضلا عن أنه يتاخم جملة من المفاهيم الفلسفية الأساسية: كاللذة و الألم والفضيلة والخير الأعلى والعقل والنفس والسياسة والعدالة والخيال و الفطرة و المحاكاة و الواجب والغير و الإرادة …
هذا، ويطرح مفهوم السعادة جملة من الإشكالات من أهمها : ما هي السعادة؟ هل طلب السعادة غاية كل الناس ؟ ولماذا ؟ هل نطلب السعادة من أجل ذاتها أم من أجل أشياء أخرى ؟ ولماذا؟هل يمكن تحقيق السعادة ؟ وبأية وسائل ؟ ما هي علاقة السعادة بالواجب ، هل هي علاقة تكامل أم علاقة إعاقة ؟ بمعنى أخر هل تكمن السعادة أساسا في أن نفعل ما نريد أم في انصياعنا للواجب والقانون ؟ هل السعادة واجب نحو الذات أم نحو الغير أم هما معا ؟
كل هذه الإشكالات التي أثارها مفهوم السعادة و أخرى، سنحاول التعرف على إجابتها من خلال نصوص بعض الفلاسفة الذين تناولوا هذا المفهوم تحديدا واستشكالا…
المحور الأول : تمثلات السعادة
تـقــديــــم :
يختلف الناس و الفلاسفة على السواء في تمثلهم للسعادة. فالعوام يربطونها بالثروة و الجاه و النفوذ و تحقيق المتعة في شتى أشكالها و عموما يمكن القول أن التمثل العامي للسعادة يهيمن عليه المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة الجسدية. أما الفلاسفة فهم أيضا يختلفون في تمثلهم للسعادة ،فمنهم من يراها في علاقتها بالفضيلة و التأمل العقلي و منهم(فلاسفة الإسلام) من حاول التوفيق بين التأمل العقلي و ما هو ديني أي السعادة الاخروية ، و هناك من يرى أن كل هذه التمثلات حسية و جزئية ، أما عندما نتحدث عن مفهوم السعادة نكون محتاجين إلى " كل مطلق ". و هناك من الفلاسفة من يعتبرها فردية و منهم من يعتبر أن السعادة لا تكون إلا داخل دولة . و آخرون يقولون بأنه من المستحيل أن نستدل على وجود السعادة بل يجب أن نعمل على تحصيلها فهي ممارسة .
أمام هذا التعدد في تمثل السعادة نجد انه لابد من طرح بعض الإشكالات :
*هل السعادة ممكنة ؟
* هل يمكن أن نستدل على وجودها ؟
*هل هي غاية كل الناس ؟
*هل يمكن بلوغها ،و بأية وسائل ؟
*هل نطلبها من اجل ذاتها أم من اجل أشياء أخرى ؟
الموقف الأرسطي :
إن الغاية من السياسة باعتبارها ،هي تحقيق الخير الأسمى الذي هو السعادة و هذا النعت للخير الأسمى بالسعادة يشترك فيه كل من العامي و الفيلسوف «فالعامي كالناس المستنيرين يسمي هدا الخير الأسمى سعادة»[3] إلا انه و على الرغم من هدا الاتفاق فإننا نجد أن هناك بونا شاسعا في تمثل المفهوم بين العامي و الفيلسوف و« انقسام الآراء هذا مرده إلى الاختلاف بشان طبيعة السعادة و أصلها» [4] فمتمثلات السعادة لدى الطبائع العامية تختلف من شخص لآخر فالمريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب المال و العاشق يراها في الزواج من معشوقته . « إنها ليست إلا شيئا نافعا و مطلوبا لأشياء أخرى غير ذاتها» .[5]
أما الفيلسوف فهو يرى عكس ذلك فالسعادة عنده هي غاية بل غاية الغايات و هي تطلب لذاتها «ينبغي وضع السعادة بين الأشياء التي تختار من اجل ذاتها إذ هي قائمة بذاتها» [6] و كل الأشياء الأخرى إنما تطلب كوسيلة لتحقيقها« كل ما يمكن تصوره إنما يطلب من اجل ما عداه إلا السعادة إذ هي غاية بحد ذاتها » [7]
وعموما يمكن القول أن التمثل العامي يختلف عن تمثل الحكماء دلك أن التمثل العامي يغلب المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة و اللذة لدلك يرى أرسطو انه« لا يوجد ..إلا ثلاثة صنوف من العيشة يمكن على الخصوص تمييزها .أولها هده العيشة التي تكلمنا عليها انفا (عيشة العوام) ،ثم العيشة السياسية أو العمومية ،و أخيرا العيشة التأملية و العقلية» و يرتبط بكل نوع من هده العيش ثلاث أنواع من السعادة، فأما العيشة الحسية وهي سعادة اللذة الجسدية ، لذة الطعام والشراب والجنس وهي لذة يشترك فيها الإنسان والحيوان ، وهي سعادة وقتية ولو طلبت لذاتها لأدى ذلك الإسراف فيها ، ثم إلى فقد الإحساس باللذة ثم تنتهي إلى الألم والمرض ، فتحققها ليس من السعادة بشيء ، أما الثانية فهي السعادة السياسية مطلوبة من الكثير من الناس ، ولكنهم ما يلبثوا أن يشعروا بالتعاسة عندما يفقدوا مراكزهم ، ويعرفوا أن الناس كانوا يعظمونهم لأجل الوظائف التي يمثلونها وليس لأشخاصهم ، كأن هذه السعادة وقتية وهي متوقفة على الناس يمنحونها ويسلبونها وفقاً للمركز الشخصي لا للقيمة الذاتية ، إذاً هي ليس خير في حد ذاتها وليس دائمة فقد يعقبها الإهمال والتحقير . السعادة الثالثة هي السعادة العقلية فهي التي ترمي إلى تحقيق الفضيلة باعتبار أنها العمل بمقتضى الحكمة ، والحكمة ملكة عقلية تكتسب بالتمرين والتعود على طلب الحق والخير الصحيح وفضائل الحكمة عملية ونظرية ، وتبين لنا الحكمة العملية أن الفضيلة قوة تكتسبها عن طريق ممارسة أعمال تتوفر فيها الإرادة الحرة والمعرفة والنزوع إلى الخير . وإذا بحثنا عن الفضائل نجد أنها تقع في الوسط ما بين المغالاة " الإفراط " والتقصير "التفريط " مثل الشجاعة وسط بين رذيلتين هما التهور والجبن ، والكرم وسط بين الإسراف والبخل والعدل وسط بين المحاباة والظلم ، وتحكم العقل والإرادة في تعيين الفضيلة يتم عن طريقهما الممارسة الواقعية للفضيلة ، فإذا عود الإنسان نفسه أن يتلمس الفضيلة دائماً ويقوم بها فإنها تصبح طبيعة فيه يتجه إليها من دون تردد وبذلك تتحقق له السعادة .
موقف ابن مسكويه :
يحاول ابن مسكويه تقديم التمثلات السائدة عن السعادة لدى كل من الحكماء و العوام و هو اد يُفصل في هدا فيقول إن الحكماء من أمثال فيتاغورس و بقراط و أفلاطون لما قسموا السعادة جعلوها كلها في قوى النفس ،أي القوى الثلاث : القوة الغضبية،القوة الشهوانية ،و القوة العاقلة القوة الشهوانية التي تحرك الإنسان إلى ما يشتهيه أو يجذبه من الملذات والخيرات. والقوة الغضبية التي تحركه إلى "الغضب" عدوانا أو دفاعا أو نجدة. والقوة الناطقة العاقلة وهي التي يحصل بها التمييز والروية والتفكر. ولكل من هذه القوى فضيلتها: ففضيلة النفس الشهوانية العفة، وفضيلة النفس الغضبية النجدة، وفضيلة النفس العاقلة الحكمة. ومن اعتدال هذه الفضائل الثلاث ومن نسبة بعضها إلى بعض تحدث فضيلة رابعة هي كمالها وتمامها وهي العدالة و اجمعوا على أن« هده الفضائل هي كافية في السعادة و لا يحتاج معها إلى غيرها من فضائل البدن و ما هو خارج البدن»[8] و بالتالي فالسعادة عندهم هي سعادة نفس و« سائر الأشياء الخارجة عنها ،فليست عندهم بقادحة في السعادة البتة»[9]
أما الرواقيون فجعلوا السعادة في النفس غير مكتملة إذا لم تقترن بالجسد أو حتى ما هو خارج الجسد هدا بخلاف المحققين من الحكماء الدين لا يربطون السعادة بما هو خارج الجسد فيعتبرونها تابثة لا تتغير و لا يلحقها زوال و لاتغيير .
أما العامة فتختلف طبائعهم في تمثل السعادة بحسب حاجياتهم ،فالمريض يراها في اكتساب الصحة ، والمعوز في اكتساب المال والغريب في العودة لوطنه و عموما يمكن القول إن التمثل العامي للسعادة يهيمن عليه المعنى المادي الذي يرى في السعادة ضربا من ضروب المتعة و اللذة . و الحكماء يرون أن كل هذه التمثلات سعادة و لكن شريطة أن تكون «عند الحاجة و في الوقت الذي يجب و كما يجب و عند من يجب، فهده سعادات كلها، و ما كان منها يراد لشيء أخر ؛فلذلك الشيء أحق باسم السعادة »[10] فالمريض مثلا يجد السعادة فيما يحتاج إليه و هي الصحة .
موقف الفارابي :
لما كان المقصود من الوجود الإنساني بلوغ السعادة عن طريق إدراك المعقولات او المبادئ التي يتاسس عليها وجود الكون و الإنسان ثم كانت هده المعقولات لدى جميع الناس أصحاب الفطر السليمة و التي « يسعون بها نحو أمور و افعلا مشتركة لهم ؛ ثم بعد دلك يتفاوتون و يختلفون فتصير لهم فطر تخص كل واحد و كل طائفة »[11] لزم عن اختلاف الفطر عدم قدرة كل إنسان على أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة و لا ان يعملها ،فوجب بدلك ضرورة وجود معلم أو مرشد يرشده إلى الكيفية التي تمكنه من ان يجعل السعادة غايته ثم « يعلم الأشياء التي ينبغي أن يعملها حتى ينال بها السعادة»[12] و تبعا لاختلاف الفطر جب على المعلم أن يسلك طرقا مختلفة باختلاف الطوائف و الأمم ،فقد يتم ذلك بطرقة نظرية خالصة (الخاصة) أو بطريقة تعتمد على المحاكاة كفن للتبليغ و التخييل (العامة).
الموقف الأفلاطوني :
ليست السعادة حسب أفلاطون شأنا شخصيّا بقدر ما هي قضيّة تتعلّق بالمدينة ككلّ وبالتّالي لا يمكن تحقيق الكمال إلاّ في مدينة محكمة التّنظيم. «إننا لم نستهدف في تأسيس دولتنا جلب السعادة الكاملة لفئة معينة من المواطنين و إنما كان هدفنا أن نكفل اكبر قدر ممكن من السعادة للدولة بأسرها »[13] السٌعادة بالنٌسبة لأفلاطون عندئذ هي سعادة المدينة ككلٌ والتي تتحقٌق بالانسجام بين جميع أطرافها وشرائحها، فكما يجب أن يوجد انسجام في الفرد بين النٌفس العاقلة والنٌفس الغضبيٌة والنٌفس الشهوانية. فإنٌ المدينة كذلك يجب أن تنقسم إلى حرٌاس يسيٌرون شؤونها العامٌة وجنود يسهرون على الأمن ورعيٌة تقوم بالأعمال الأخرى الضٌروريٌة مثل الفلاحة والصٌناعة….إلخ. أما إذا لم يحترموا هدا النظام فإننا « نحض حراسنا و حماتنا بالوعد أو نرغمهم بالوعيد كما نفعل مع غيرهم من المواطنين على أن يؤدوا على خير وجه ما يصلحون من الوظائف»[14] فبدلك تتحقق العدالة و تزدهر الدولة و بازدهار هده الأخيرة« وعندما تزدهر الدولة بأسرها... نترك لمكل طبقة أن تتمع بالسعادة على قدر ما تؤهلها لذلك الطبيعة » [15]
الموقف الكانطي :
يحاول كانط في كتابه " أسس ميتافيزيقا الأخلاق " و بالضبط في النص الماثل أمامنا أن يحدد العلاقة التي تربط السعادة بالعقل و الخيال . بمعنى هل نتمثل السعادة بالعقل أم بالخيال. و كمحاولة للإجابة عن هدا السؤال يرى كانط أن تصور السعادة لا يمكن أن يكون بالعقل بل بالخيال،كيف ذلك ؟ إن "جميع العناصر التي تؤلف تصور السعادة ..لزم أن تستعار من التجربة " إما عندما نتحدث عن مفهوم السعادة نكون محتاجين إلى " كل مطلق " ما معنى ذلك؟
إن أمر السعادة ينصب على الوسائل الضرورية لانجاز هده الغاية ،ذلك لأنه ينجم تحليليا من الغاية التي يسعى إليها الإرادة ،تبعا للصيغة التي غدت قولا مأثورا :من يروم الغاية ،يروم الوسائل (تبعا للعقل)اللازمة للوصول إليها و التي هي في مقدوره و بالتالي فجميع العناصر التي تؤلف تصور السعادة هي في جملتها عناصر تجريبية ،أي انه يلزم أن تشتق من التجربة . أما عندما نريد أن نتحدث عن فكرة السعادة فإننا نحتاج إلى كل مطلق ،إلا أننا نجد انه من المستحيل للإنسان ككائن متناه ،محدود بحدود التجربة « أن يكون لنفسه تصورا محددا لما يبغيه هنا على الحقيقة »[16] هل يريد حياة طويلة ؟ فمن يضمن له إلا تكون شقاءا طويلا و بالتالي فمن الصعب عليه أن حدد كيف يكون سعيدا . فليس ثمة في هذا الشأن أمر يمكنه أن يقرر بالمعنى الدقيق للكلمة أن نفعل ما يجعلنا سعداء « دلكم لان السعادة هي مثل أعلى لا للعقل بل للخيال»[17] فلا يمكن انطلاقا من نتائج هي في الواقع لامتناهية أن نعطي تحديدا للسعادة .
موقف ( إميل شارتي) ألان :
يعتبر ألان أن الأمل في السعادة هو السعادة ،ألان أن الأمل في السعادة لا يعني أن ننتظر السعادة لتأتي الينا و صوبنا ،ولا يعني كذلك استحالة الحصول عليها او بلوغها ،و لا انها وهم ،بل يعني هدا أن " نعمل على تحصيلها الآن[18] دلك أن « السعادة ليست شيئا نطارده بل هي شيء نتملكه ،و خارج هدا التملك فهي ليست سوى لفظ» [19] إلا أن هدا التملك للسعادة مشروط بالرغبة في أن نكون سعداء ،لدلك يجب على المرء « أن يطلب سعادته و أن يصنعها »[20] إن ألان يؤكد هنا وخاصة في كتابه "PROPOS SUR LE BONHEUR" ان السعادة لا تتوقف على العالم الخارجي او المحيط بالشخص و إنما يتوقف على الشخص ذاته أي أن فعل السعادة لا يتحقق إلا بالإرادة .دلك أن تحقيق السعادة لا يتأتى إلا بالصراع ضد المعيقات التي تحول دون ذلك و لا يجب الاعتراف بالهزيمة طالما لم نتجاوز هذه المعيقات .*[21]

المحورالثاني : البحث عن السعادة.
تـقــديــــم :
يطرح هذا المحور الثاني من درس السعادة،إشكالين اثنين رئيسيين وهما : بأي شكل تكون السعادة ممكنة ؟ أو بعبارة أخرى هل يمكن تحقيق السعادة ؟ وإذا كان الجواب بالاجاب ، فما السبيل إلى تحقيقها ؟ وعن هذين الإشكالين الرئيسيين تتفرع جملة من الإشكالات الفرعية : هل تحقيق لذاتنا كفيل بتحصيلنا السعادة ؟ وهل كل اللذات تحقق لنا السعادة ؟ ما علاقة السعادة بالزمن ؟ هل السعادة أمر دائم أم أمل عابر ؟ وما علاقتها بالفنون والذوق؟…
موقف سينكا :
يطرح سينكا في هذا النص إشكال ماهي الكيفية أو الوسيلة التي من خلالها يمكننا تحقيق الحياة السعيدة ؟ فإذا كانت السعادة هي مبتغى الناس أجمعين في هذه الحياة ، فما هي الكيفية التي بواسطتها نستطيع أن نحصلها؟ بيد أنه لاحظ أنه بمجرد ما يطرح هذا السؤال حتى تختلط علينا الأمور. وحتى يزول هذا الخلط على الإنسان- في نظر سينكا- أن يحدد هدفه بكل دقة، ثم بعد ذلك ينظر في كل الاتجاهات عن السبيل الكفيل بأن يقوده إلى تحقيق هدفه بأقصى سرعة، هذا الطريق أو السبيل الذي ينبغي أن يكون مستقيما حتى نتمكن من أن نعرف كل يوم كم تقدمنا وكم اقترفنا من هدفنا ، هذا الهدف الذي تدفعنا نحوه الرغبة اللازمة لطبيعتنا. و حتى نتمكن من اختيار الطريق المستقيم الذي وحده سيقودنا إلى تحقيق هدفنا علينا أن نستعين بإنسان خبير أو مرشد حكيم يكون سبق له وأن اختبر الهدف الذي نقصده . هذا ، ويحذرنا سينكا عند عزمنا السفر بحثا عن السعادة أن نسلك الطريق الأكثر استعمالا. إذ هو الأكثر تضليلا ،وما هذا السبيل الأكثر استعمالا إلا طريق أو سبيل العامة,بل بالضد من ذلك، علينا أن نبتعد عن طريق المحاكاة ،أي الاستقلال عن الطريق الذي تتبعه العام في تحصيل السعادة وإتباع طريق" العقل". [22]
موقف أبيقور :
إن المتأمل في هذا النص بأجل نظر وأدقه، يتبدى له أن أبيقور يطرح فيه قضية السعادة في علاقتها بمبدأ اللذة .هذه القضية التي يمكن صوغها في اشكلين اثنين وهما: هل تحقيق لذاتنا كفيل بتحصيلنا السعادة ؟ وهل كل اللذات تحقق لنا السعادة ؟
يجيب أبيقور عن الإشكال الأول بالا جاب فيقول : " إن اللذة هي مبدأ الحياة السعيدة وغايتها ". بمعنى أخر أن تحقيقنا للذاتنا، وتجنبنا للألم- كما سيذكر في موضع آخر من النص-هو ما يجعلنا سعداء . وبهذا تكون السعادة عند أبيقور هي:" لذة تلحق النفس والجسد ". لكن، دون أن يعني هذا أن كل ا لذات تحقق لنا السعادة - من وجهة نظر أبيقور- . إذ من الذات ما يكون مفعولها عكسيا ، بمعنى أنه عوض أن تحقق لنا السعادة تتسبب لنا في الألم . والعكس صحيح ، فمن الآلام ما يكون وراء الصبر عليها تحصيل لذة أعظم. ومن هنا فلا ينبغي علينا أن نبحث عن كل اللذات وبالمقابل علينا ألا نتجنب كل ألآلام . هذا، ويشدد المذهب الأبيقوري على فضيلة القناعة ،أي أن نقنع بما نملك وان كان قليلا . إذ المتعة التي نجدها في تناول الطعام البسيط، ليست أقل من تلك التي نجدها في المآدب الفاخرة، بشرط أن يزول ألألم المتولد عن الحاجة . فقليل من خبز الشعير والماء يجعنا نشعر بلذة عظيمة إذا كانت الحاجة إليهما شديدة. والى جانب تشديده على فضيلة القناعة يؤكد أبيقور على العيش البسيط، دونما أن يعني ذلك التقشف. فالقناعة و العيشة البسيطة لهما أفضل ما يضمن لنا الصحة الجيدة ، وما ييسر لنا الاستجابة لمتطلبات الحياة الضرورية، كما أنهما يجعلننا عند وجودنا أمام ما لذ وطاب من الأكل، قادرين على التمتع بذلك حق التمتع. فتناول ما لذ وطاب من الأكل يوميا ينقص من لذة تمتعنا به. فضلا عن أن تشبثنا بفضيلة القناعة والعيشة البسيطة يجعلننا لا نخشى تقلبات الدهر .[23]
موقف شوبنهاور:
يطرح شوبنهاور في هذا النص إشكالين وهما : ما هو الأصل في هذا العالم؟ أهو الألم و العذاب أم المتعة و الإشباع ؟ وهل السعادة أمر دائم أم أمل عابر ؟
يعتبر شوبنهاور أن حقيقة هذا العالم أو ماهيته هي الألم والعذاب و الحرمان ، أي أن الأصل في الحياة هو الألم والحرمان أم الإشباع و البهجة فهما ليسا سوى أمل عابر أمام الألم والعذاب والشقاء الدائمين. وشوبنهاور ينعت هذه السعادة غير الدائمة العابرة اللحظية بالسعادة" السالبة" ، لأنه سرعان ما يعقبها :"إما شرا مستجدا وإما فتورا وانتظارا" لسعادة لحظية عابرة أخرى .وإذا كان الأمر هكذا، فان هذا ما يفسر لنا عدم اكترتنا بما لدينا من ممتلكات وامتيازات ،لأن السعادة التي تمنحنا إياها ليست سوى إعفاءا لنا من بعض العذابات. ويدلل شوبنهاور على أطروحته بالفن وبخاصة الشعر، حيث نجد موضوع القصيدة الملحمية أو المأساوية لا يمكن أن يكون سوى شجارا أو جهدا أو معركة . وهذه المواضيع كلها تمثل الألم والشقاء الذي يتحمله الإنسان في سبيل تحقيقه سعادة سالبة، أي سعادة لحظية عابرة.
ومن كل ما سبق، نخلص إلى أن الأصل في الحياة بحسب شوبنهاور هو الألم والشقاء، وأن السعادة هي مجرد لحظات عابرة ، تتخلل بين الفينة و الأخرى هذا المسير من الألم والعذاب الذي يحكم حياتنا كلها.[24]
موقف دافيد هيوم :
يعالج دافيد هيوم في هذا النص إشكال علاقة السعادة بالفنون والذوق .إذ يميز هو بين نوعين من الرهافة :" رهافة الإحساس" و"رهافة الذوق".
فالأفراد الذين لهم رهافة في الإحساس يكونون بالغي الحساسية تجاه عوارض الحياة وحوادثها، فأنت تجدهم فرحين بالحياة مقبلين عليها كلما كان هناك أي حدث طيب يمسهم . وبالضد من ذلك شديدي التألم عندما يمسهم ما يحزنهم. وعين الانفعالات التي يحس بها من لديه رهافة الإحساس عند مصادفته لحدث طيب أو لحدث مؤلم، يشعر بها من لديه "رهافة الذوق"، عند مصادفته كل جمال أو قبح أو تشوه . فلما نقدم له قصيدة شعرية أو لوحة فنية، فان رهافة ذوقه تجعل كل جوارحه ترتعش أمام ما يقدم له ، فيتذوق جمال الخطوط التي خطتها يد الرسام، ويتذوق الكلمات التي كتبها الشاعر. وبالمقابل نجده يشعر بالاشمئزاز أمام كل ما ليس بجميل، أمام كل فعل تم انجازه بدون دقة. وبالجملة، فحتى نحصل السعادة - بحسب هيوم – علينا" تهذيب ذوقنا" ليكون راقيا، حتى نتمكن من اختيار وفهم الفنون الأكثر نبلا التي ستشعرنا بالسعادة ، سواء كانت شعرا أو نثرا أو موسيقى أو رسما .[25]
المحور الثالث׃ السعادة و الواجب .
تـقــديــــم :
ﺇن الإنسان باعتباره كائن طبيعي- اجتماعي كان لزاما عليه الدخول ﺇلى القيم اﻷخلاقية،لكي يتحرر من دوافعه الغريزية وما يمكن ﺃن يترتب عنها من عنف تجاه الآخرين. فباﻹضافة ﺇلى ازدواجية الطبيعي والاجتماعي التي تشكل حقيقة اﻹنسان هناك ازدواجية ثانية تطبع وجوده اﻷخلاقي هي ازدواجية اﻹلزام و اﻹلتزام،ﺇلزامية أخلاقيه تفرضها قيم المجتمع ,والتزام أخلاقي يستمد مبادئه من وعي الإنسان.
من داخل جدلية اﻹلزام و اﻹلتزام يطمح اﻹنسان ﺇلى خلق توازن لبلوغ السعادة باعتبارها الغاية القصوى للفعل الإنساني المتجه نحو تجسيد قيم أخلاقية فردية وجماعية،وتحديد الواجبات التي على كل فرد القيام بها سواء نحو ذاته ﺃم تجاه الغير.وﺇذا كان اﻷمر كذلك فان السعادة تبنى داخل علاقات ﺇنسانيه يتشابك فيها واجب ﺇسعاد الذات بواجب ﺇسعاد الغير مما يحفزنا على طرح التساؤلات التالية׃
ما هي علاقة السعادة بالواجب ،هل هي علاقة تكامل ﺃو علاقة ﺇعاقة؟
بمعنى ﺁخر، هل يكمن ﺃساس السعادة في فعل ما نريد،ﺃم في الانصياع للواجب و القانون،طبيعيا كان ﺃو ﺃخلاقيا؟
وإذا كانت هناك علاقة بين السعادة والواجب فهل السعادة واجب نحو الذات ﺃم نحو الغير, ﺃم هما معا؟
وفي الختام كيف يمكن بلوغ السعادة في ظل تمفصلاتها مع مفاهيم الواجب والغير والإرادة؟
موقف ابكتيت :
ﻠﻺجابة عن هده التساؤلات يمكن الاستئناس بأحد المواقف الفكرية التي حاولت ربط السعادة بالواجب والإرادة والمتمثلة في الفيلسوف الرواقي "ابيكتيت" epectète" ( 125-50) الذي يعتبر من أهم أعلام الفلسفة الرواقية التي ظهرت في نفس الفترة التي ظهرت فيها الأبيقورية وكانت معارضة لها. تنطلق هذه المدرسة من فكرة أن في الطبيعة قانون و عقل و اﻹنسان جزء من هذه الطبيعة و ﻫﻨا العقل.وإذا استنتجنا من ﻫﻨﻩ الفكرة في نظرية المعرفة نتائجها الأخلاقية نجد ﻫﻨﻩ المدرسة تدعو اﻹنسان إلى أن يحيا وفق ﻫﻨﻩ الطيعة إذا أراد ﺇدراك السعادة و تجنب الشقاء، وﺇلا سيكون متمردا على
القانون الطبيعي.
ويتعرف الإنسان على قانون سيرته في ﻫﻨﻩ الحياة بالرجوع إلى ميوله الأساسية التي وضعتها الطبيعة فيه لتدله على ما يريد. والميل الأول ﻫﻮ حب البقاء الذي يهديه لتمييز ما يوافقه وما يضاده. و اﻷبيقورية في نظرهم على ضلال حين رأت أن الميل الأول طلب اللـﻨة، فما اللذة و الألم ﺇلا عرض ينشأ حين يحصل الإنسان على ما يوافق طبيعته أو بضادها لذلك تنقلب اللذة ألما وشرا ﺇن ظلت لذتها دون النظر ﺇلى مدى مطابقتها للقانون الطبيعي و اﻹرادة الكلية،ففي تلك المطابقة وحدها الحكمة والخير والفضيلة والسعادة.ولعل ابكتيت لايخرج عن تعاليم مدرسته،فهو يرى على غرارها أن الطريق الموصل ﺇلى السعادة هو الخضوع للقانون الطبيعي و اﻹردة الكلية التي هي مبدأ كل ما يحدث.ففي العالم أشياء تتوقف علينا وأشياء خارجة عن إرادتنا، فكلما تحركنا في دائرة الأفعال التي تخصنا توصلنا ﺇلى السعادة، في حين يؤدي التحرك خارج ﻫﻧﻩ الدائرة أو التطلع ﺇلى الأشياء الخارجة عن ﺇرادتنا أو التي توجد تحت سيطرة الغير ﺇلى اﻹاضطراب والشكوى ،وبالتالي ﺇلى التعاسة. [26]
ﺇن مايجلب للناس التعاسة ليست اﻷشياء في ذاتها بل اﻵراء التي لديهم عنها، فالموت حسب ابيكتيت ليس شرا وألما في ذاته ولو كان كذلك لبدا لسقراط كذلك.بل إن الشر يكمن في الرأي الذي لدينا عن الموت بأنه شر وألم فذاك هو الشر أما الموت في ذاته،مطابق للقانون الطبيعي و اﻹرادة الكلية.فكل اﻷشياء العرضية كالموت وغيره ليس متعلقا بإرادتنا وليس خيرا أو شرا بالذات بل متعلقا باﻹرادة الكلية والقانون الطبيعي،فمن الحماقة أن نهلع لمرض أو نحزن لنكبة وما هذه اﻹانفعالات لمجدية لدفع هذه اﻷخطار بل من الواجب أن نعتصم بإرادتنا الفردية ونحتفظ بحريتنا لنرتفع بأنفسنا فوق كل شيء لانخاف،لانحزن بل نقبل كل مايصبنا من رزايا.فمن واجب اﻹنسان ﺇذا أرادا أن يحيا سعيدا وبإمكانه ذلك أن يعمل على مطابقة ﺇرادته الفردية مع اﻹرادة الكلية.
موقف كانط :
ﺇذا كانت الرواقية في شخص ابيكبيت قد رأت أن الطريق الموصل ﺇلى السعادة هو الخضوع للقانون الطبيعي، فان "ﺇيمانويل كانط"﴿1724-1804﴾يرى أن هذا القانون أخلاقيا وليس طبيعيا،عقليا وليس مستمدا من الميول الأساسية عند اﻹنسان.فالسعادة عنده لا يمكن أن تكون مستقلة عن القانون الأخلاقي وعن مبدأ الواجب،لأن ميدان الأخلاق والذي تعتبر السعادة غايته ليس ميدانا لتحليل العواطف الإنسانية كما ذهب إلى ذلك دفيد هيوم،وﺇلا لكانت المبادئ الأخلاقية مبادئ متنازع عليها. [27]كما أنه لايمكن أن يكون مستمدا من الميول ا لأساسية التي وضعتها الطبيعة في الإنسان كما ذهب إلى ذلك ابيكتيت. معنى هذا أن للأخلاق أصول عامة شامله وصادقة في كل زمان ومكان .ولكن ما الذي يدفعنا لأن نخضع لهذه المبادئ اﻷخلاقية؟ يجب كانط: «مامن منفعة تدفعني إلى هذا إذ لو كان الأمر كذلك لما أمكن قيام أمر أخلاقي مطلق.». [28]لأن مبدأ الأخلاقية مستقل تمام الاستقلال عن طبيعتنا الحسية فهو مستمد من الصورة الخالصة للعقل دون الاستعانة بالحساسية.كما أن اﻹنسان نظرا لتميزه بالعقل في غير حاجة ﺇلى الفلسفة أو العلم لفعل ما يجب عليه القيام به،ففي تجربة الصراع بين الضمير والأهواء ينبثق المبدأ العقلي للواجب الذي يلزم ﻹنسان بتطبيق القانون ﻹخلاقي حتى ولو تعارض مع ميولا ته ومنطلق هذا الواجب هو اﻹرادة الخيرة، ﺇﺫلا قيمة للفضائل بدون ﻫذاﻹرادة.
من هذا المنطلق صرح كانط أن السعادة باعتبارها كل مطلق مركب من مجموعة من الرغبات يصعب تحقيقه أو تعريفها،ﻹن جميع العناصر التي تؤلفها هي في جملتها مستعارة من التجربة مما يجعلها مفهوما للخيال وليس للعقل.في حين نجد اﻹنسان لكونه كائن متناه عاجز عن تحقيق تصور محدد لما يريد.لكن لو انتقلنا من تصور يشرط السعادة بتحقيق رغبة ما أو إقصائها إلى تصور يجعل منها غاية تبنى داخل مجال العلاقات اﻹنسانية ويجعله منها أيضا موجها لتصرفاته سواء نحو ذاته أم نحو الغير،لأمكن الأمل فيها متى كنا مؤهلين لها بقانون أخلاقي.الشيء الذي يحيلنا على طرح مجموعة من التساؤلات يمكن صياغتها على الشكل التالي:هل السعادة واجب نحو الذات أم نحو الغير،أم هما معا؟وكيف يمكن إسعاد ﺫاتي وﺇسعاد الغير؟وما علاقة السعادة بالرغبة و اﻹرادة؟
موقف راسل و ألان :
ﺇن اﻹجابة عن ﻫﺫا التساؤلات تقتضي منا التمييز بين موقفين،موقف يرى أن اﻹهتمام بالغير بمودة تلقائية للتعرف عليه وفهم خصوصيته وتفرده يشكلان مصدر ﺇسعاد الغير؛وبالتالي سعادة الذات؛وهو" لبرتراند راسل"وموقف آخر يرى أن السعادة ممكنة عندما تتوفر لدى اﻹنسان ﺇرادة طلبها،غير أنها لايمكن أن تتجه للغير دون اﻹلتزام بإسعاد الذات أولا،وهو"ألان" بالنسبة لراسل يدافع عن حق كل ﺇنسان في السعادة، دون أن يكون ذالك على حساب الآخرين، لكن من زاوية أن السعادة الحقيقية لا تكمن في أنواع الموضات والهوايات و التي تعد بمثابة هروب من الواقع بل تنبثق من فكرة التضحية بالذات التي يفرضها اﻹحساس بالواجب ، بوصفه أمرا أخلاقيا مطلقا وملزما كما ذهب ﺇلى ذالك كان كانط. لهذا تراه- مثلا- يقف على مظاهر الإحراج الذي يطرحه مشكل الواجب الأسري تجاه الأبناء من صرامة وعناية من جهة،ومن جهة أخرى الحرص على المعاملة الطيبة بغية إفساح المجال أمام المشاعر الإنسانية من عطف وحب وسعادة، ولعل هذا الموقف يتضامن مع نظرته للفلسفة التي جعل مهمتها تناول المنطق الخالص و الرموز والتركيبات ولا تعنى بالتشريع لما هو واقعي. ففي عالم الكيانات و العلاقات المنطقية المجردة تنزوي الفلسفة و العقل بعيدا عن تقلبات الشهوة و الانفعال. فراسل يطرد العقل من مجال الأخلاق وهذا ما جعله عندما يتحدث عن سعادة الغير يقول: "* ربما كان حب كثير من الناس تلقائيا وبدون مجهود، أعظم مصادر السعادة الشخصية"* معنى هذا أن الآخر يجب أن يكون محبوبا وليس مقبولا على مضض. في المقابل نجد ألان ''إميل شارتي'' يصرح بإمكانية السعادة إذا توفرت للإنسان إرادة طلبها،فمن السهل على المرء أن يكون مستاء، و من السهل عليه أيضا أن يرفض ما تقدمه الحياة من عطايا، لكن بالمقابل من السهل عليه أن يصنع من أشياء قليلة وبسيطة مظاهر السعادة التي يلتمسها في علاقته ب الآخر. بذلك يناشدنا آلان بعدم الاستسلام عند مواجهة الصعوبات وألا نعترف بالهزيمة قبل مواجهة ومقاومة نبذل فيها أقصى ما نملك من القوة. فالسعادة لا توجد هناك بل مرتبطة برغبتنا وإرادتنا. فمن الواجب علينا أن نصنعها ونناضل من أجلها ونعلم الآخرين فن الحياة السعيدة وذلك بعدم التحدث أمامهم عن تعاستنا. فالشقاء واليأس منتشران في الهواء الذي نستنشقه جميعا، هذا يعني أن السعادة واجبة نحو الذات لأن سعادتنا تعني مباشرة سعادة الغير و تعاستنا تعني تعاسة الغير.[29]
إن رفض السعادة حسب ألان هو السبب فيما تعرفه الإنسانية من مآس وحروب، فهذه الجثث و الخراب و التبذير، و التقوقع هي من أفعال أناس لم يعرفوا في حياتهم قط، كيف يكونوا سعداء، ولا يطيقون رؤية كل من حاول أن يكون سعيد. فنحن مدينون بالاعتراف و التتويج، لأولئك الذين تغلبوا على هذه السموم وعملوا على تنقية جو الحياة الاجتماعية. لتصبح السعادة في نهاية المطاف قيمة أخلاقية توجه تصرفات الإنسان في علاقته بذاته وبالآخر.
إذا كان كل من برتراند راسل و آلان قد تحدثا عن السعادة بوصفها غاية تبنى داخل مجالات العلاقات الإنسانية، فإن الفيلسوف المؤمن يؤمن بوجود سعادة أخروية تمثل لذة بلا عناء وكمالا بلا نقصان. ولعل الغزالي لم يحدثنا عن هذا التصور في كتابه" المنقذ من الضلال"حيث يحاول تكييف ثوابت العقيدة الإسلامية مع التجربة الصوفية المتحررة من ظاهر النص في مقاربته لمفهوم السعادة.
إن الشرط الأساسي لتحصيل السعادة عند الغزالي هو قطع علاقة القلب بالدنيا، و كف النفس عن الهوى، ومجاهدة الجسد لكبح رغباته، ثم المواظبة على العزلة و الخلوة والإعراض عن شواغل الحياة التي تشوش صفوة الخلوة وتقليد الأنبياء في المواظبة على العبادات، لأن السعادة تحصل بالقلب وليس بالعقل.
خاتــــــمـــــة :
يسمح النقاش الفلسفي حول مفهوم السعادة أولا بوضعه داخل المجال الأخلاقي القيمي بدلا من النظر إليه من زاوية شخصية فردية ،و ثانيا بادراك تعقيد و لبس هذا المفهوم حتى و إن كان الجميع متفق على أن السعادة هي الغاية القصوى الموجهة لكل سلوك أو فعل إنساني .كما يسمح هذا النقاش بادراك تمفصلات هذا المفهوم مع مفاهيم أخرى كمفهوم الرغبة و الإرادة و الحرية ،و أخيرا وضع هذا المفهوم في اطار العلاقات الأساسية لتصبح السعادة قيمة أخلاقية يلتزم فيها الإنسان بواجب إسعاد ذاته وواجب إسعاد الغير .

تقـــــــــــــــديم عـــــــــام :
لعل المتأمل في تاريخ الفلسفة، يدرك على أنه يتأرجح بين ثلاثة مباحث كبرى، مبحث انطولوجي يهتم بالوجود من حيث هو موجود، ومبحث ابستمولوجي يعنى بالقضايا التي تنتمي إلى المجال المعرفي وأخيرا مبحث اكسيولوجي يجعل من القيم موضوعا للدراسة. ويعد موضوع السعادة، إحدى المواضيع الفلسفية التي تضاربت حولها آراء الفلاسفة، واختلف في التنظير لها على مر عصور الفلسفة ، وبالأخص المرحلتين اليونانية والإسلامية، مما يضفي على المفهوم صبغة فلسفية، وقيمة معرفية.ويرجع تعدد دلالة ومعاني السعادة، إلى اختلاف المرجعيات الفكرية والمشارب الثقافية فضلا عن المكانة الاجتماعية التي يعتليها كل شخص. فهناك من يرى أن السعادة تكمن في حسن العيش والحياة الكريمة بامتلاك المال والثروات وتلبية الرغبات، وهناك من ينظر إليها باعتبارها سلوكا فاضلا، والمريض يراها في اكتساب الصحة، والغريب في العودة لوطنه، والوحيد في الصداقة، مما يجسد البعد الذاتي في تحديد السعادة، والتركيز على جانبها المادي الملموس. بيد أن واقع الحال يؤكد أن السعادة تشمل الجانب المادي كما الروحي، وإلا ما الغاية من الحديث عن تهذيب الأخلاق، والخلود إلى النفس والبحث عن الاطمئنان الروحي. وغني عن البيان، أن نعرج على الرابط العلائقي بين السعادة والأخلاق، بحيث نجد الغاية القصوى التي من أجلها كانت الأخلاق هي تحقيق وتحصيل السعادة، علاوة عن تحقيق الرفاهية الإنسانية والتي تتجلى أساسا في كمال إنسانيته. فإذا كانت الأخلاق ترتبط بالفرد وكيفية تحقيق سعادته، فإن السياسة تعقد أواصرها مع المدينة، وبحثها الدءوب في الرفع من شأن الجماعة الاجتماعية، انطلاقا من تحقيق سعادتهم العقلية والخلقية.
وللخوض في مضمار مفهوم السعادة، لا يسعنا إلا الركون إلى الفلسفة الأرسطية لتبيان منزلة السعادة في فكره، باعتبارها فضيلة تتوسط الإفراط والتفريط، فالسعادة عنده مسألة إرادية في تحديدها للقصد، وعقلانية في تحديدها للوسائل الموصلة لهذا القصد، مما يعني أن السعادة فضيلة علمية وعملية. فإذا كانت الفلسفة الأرسطية توضح إلى حد ما نظرة اليونان لمفهوم السعادة على الرغم من بعض الاختلافات، فإننا لا نجد أدنى حرج في العودة إلى الفلسفة الإسلامية، قصد معرفة وجهة نظرها وكيفية تأصيلها وتقعيدها للسعادة، انطلاقا من هرمين فلسفيين لهما وزنهما في الساحة الفكرية. تبوأ ‘الفارابي’ من خلالها لقب المعلم الثاني. إذن كيف نظر "الفارابي" للسعادة ؟

للإجابة عن هذا الإشكال، لابد من الرجوع إلى كتابه “تحصيل السعادة“. الذي نستشف من خلاله أن غاية الإنسانية هي تحصيل السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، اعتمادا في ذلك على فضائل نظرية وفكرية وخلقية والصناعات العملية. وتحقيق السعادة يتوقف على نيل العلم والمعرفة. أما 'ابن مسكويه' فهو الأخر ينظر إلى السعادة بكونها فضيلة نفسانية ناطقة تنال بواسطة العلوم والمعارف، في حين أن الشوائب البدنية تصرف النفس الإنسانية عن فضيلة النفس هذه.

1- السعادة عند أرسطو:
يعد كتاب "الأخلاق إلى نيقوماخوس" أهم الدراسات التي قام بها أرسطو في مجال الأخلاق بما فيها السعادة,فضلا عن "أخلاق أديمو ",و"الأخلاق الكبيرة ","ثم "رسالة في الفضائل "فهو يربط السعادة بتحقيق بالخير ".
ترتبط السعادة في نظر "أرسطو" بتحقيق الخير، والسعادة تتحدد باللذة، والفضيلة التي تقود إلى السعادة ليست عاطفة أو قوة بل هي عادة إرادية: إتباع الاختيار الذي يمليه التأمل والتمعن، فالقصدية المستقيمة هي ما يعطي للفعل الأخلاقي قيمته. ولعل الظرف الخاص الذي ميز الإطار التاريخي لهذا النوع من الفكر، يجعل من الضروري المزج بين السعادة الذاتية وسعادة المدينة الدولة، وإيجاد انسجام وتناغم بين البعدين.
لقد أكد "أرسطو" والفكر اليوناني على مركزية الصداقة في العلاقات الاجتماعية. فالسعادة الحقيقية سرعان ما تتحول إلى عشق ميتافيزيقي وإلى سعادة فكرية وروحية (تأثير سقراط وأفلاطون...) كما أن السلوك القويم وفق السعادة يرتبط بتصور فلسفي للسعادة وللنفس البشرية .
يشير 'أرسطو' إلى أن كل فن أو بحث أو تفكر يهدف عامة إلى تحقيق خير ما، لذلك كان من الأصح تحديد "الخير" كغاية نقصد إليها كيفما كانت الظروف.غير أن هاته الغايات متفاوتة وتضع لتراتبية معينة، كما أن هناك غايات عامة تحدد غايات ثانوية، أي أن الأولى هي التي تحدد معنى وقيمة الثانية. و في نفس السياق يؤكد 'أرسطو' على وجود غاية قصوى تمر عبر مجموعة من الغايات، ذلك أن الغاية القصوى هي ما تشكل الخير الأسمى.
ويخلص أرسطو إلى أن الخير الأسمى للإنسان هي السياسة، علما أن السعادة مسألة جماعية وليست فردية. فالتجربة الحياتية تلعب دورا في تهيئ المستمع للاستعانة ببعض المعارف، كعلم السياسة والأخلاق، إذ تبقى غاية هذه العلوم نفسها غاية عملية، أما "السفهاء"عديمو التجربة فلا فائدة من تقديم المعرفة السياسة والأخلاقية ين أيديهم. وحدهم الذين يخضعون سلوكاتهم لمعيار العقل وليس الدوافع والانفعالات أهل لهذه المعرفة.
كما أن لكل شيء غاية، فالغاية القصدية للسياسة هي السعادة، ويقترح "أرسطو" كمنهج تركيبي يوصل إلى الخير الأسمى الانطلاق مما هو معروف نظريا وممارسة، وما هو نسبي ومطلق، لذلك فمن السهل محاورة وإقناع من له تجربة سابقة أخلاقية أو سياسة .
يصنف "أرسطو" أنواع السعادة كالتالي:
السعادة المرتبطة باللذة الحسية (حياة الملذات): ونجدها عند السواد الأعظم من الناس الأكثر غلظة (غير أن أرسطو لا يندد بها).
السعادة المرتبطة بأنواع الشرف والتشريفات:ونجدها لدى الطائفة السياسية والتي تجعل من الحياة السياسية موضوع نشاطها .
أما الصنف الثالث فهو الذي يقيم السعادة على أساس التأمل.

يشير "أرسطو" إلى أن مسألة تحديد الخير تثير إشكالية الموضوعية ومراعاة المعرفة الحقة: فالحقيقة أمر مقدس، يجب أن تعلو على الآراء الشخصية خاصة بالنسبة للفيلسوف. ويقيم "أرسطو" مقارنة بين الإخلاص للصداقة والإخلاص للحقيقة، إذ يعتبر الإخلاص الأول أقل قيمة من الثاني. كما يعترف أرسطو بأن الخير مفهوم معقد وصعب التحديد، فهو كجوهر يمكن أن يعني "الخير الأسمى ",الإله والعقل .وكصفة يعني الفضائل، وكم يقصد به القياس العادل، وكعلاقة يشير إلى كل ما هو نافع. لذلك يمكن أن نحدد الخير من خلال عدة مقولات، لهذا تعددت أشكال الخير والمعارف والفنون الخاصة به. ويراهن أرسطو على تعريف الخير المستهدف في حد ذاته، وليس الخير من جهة المجموعات والأفراد أو الخير الوسائلي.
يميز "أرسطو" بين الخير من حيث هو غاية لذاته، وما هو غاية وسائلية تدخل في برنامج تحقيق غايات أسمى، وهذا ما ينطبق على السعادة أيضا، فالشرف والمتعة والفكر ليست في نهاية الأمر إلا سبيلا يقود إلى السعادة ,فالسعادة كخير مطلق، تشمل الجميع (الآباء والأبناء,الأصدقاء والمواطنين)، باعتبار الإنسان كائنا اجتماعيا. فالأحاسيس والانفعالات شيء مشترك بين الإنسان والحيوانات لهذا لابد من وأن تكون للإنسان خاصية تميزه تتجلى في السعادة كقيمة.وهكذا يختص الإنسان بنوع مستمر للحياة ,هو نشاط الروح المرافق لأفعال معقولة وهو ما يجعل هذه الأفعال تحضى بصفتي الخير والجمال .

إذا كانت السعادة ترتبط بالفضيلة بصفة عامة ,فإن الاستعداد الروحي للأخلاق لا يكفي، بل يجب إضافة الاستعداد المعرفي والعقلي، ممارسة وفعلا. وعلى سبيل المثال، لا يكفي للعداء أن يكون على قدر من الجمال والقوة، لا بد له وأن يشارك في مباريات العدو كي يستحق التنويه.
تميل الروح حسب "أرسطو" إلى الأشياء المتسمة باللذة، والتمتع يختلف تبعا للميولات لدى الأفراد.غير أن غالبية الناس لا تتفق على تحديد واحد للذة .كما أن الفضيلة جميلة في حد ذاتها وعليه تكون السعادة بمثاية الخير الأسمى. مما يعني أن "أرسطو" لا ينفي أن تكون السعادة مرتبطة إلى حد ما بأنواع الخير الخارجية وموارد السعادة المادية (الصحة,الثروة,الجمال...).
ويتساءل "أرسطو" إن كان بالإمكان تحصيل السعادة؟ يجيب "أرسطو" بالإيجاب,فهي عطاء إلهي، فضلا عن كونها استحقاقا نكتسبه عبر ممارسة الفضيلة وتعلمها. فالسعادة تدخل إذن في مجال الحقل النظري والعملي في نفس الوقت. كما أنها ترتبط في الأخير بعلم السياسة، أي أن تجعل من المواطنين أفرادا سعداء عن طريق ممارسة الصدق وحفظ الشرف. فالسعادة بهذا المعنى خاصية إنسانية تدخل الإنسان في بعد الألوهية.

يشير "أرسطو" إلى صعوبة الإقرار بسعادة شخص ما بعد موته، لأن ذريته وسلالته هي التي قد تشقى بعد موته.فالإنسان متقلب الأحوال كالحرباء ,لذلك فمن العبث أن نربط السعادة بالأحوال المتقلبة للإنسان ,بل علينا أن نربطها بما هو قار و تابت. ومنه فالسعادة مسألة حكمة وتريث ,ومسألة عقل أو الجانب المتعقل في الروح.
انطلاقا مما سبق نخلص مع "أسطو" إلى أن السعادة ترتبط بالسلوك وبالفعل آنيا وزمانيا، أي إخراج الفضيلة والسعادة من منطقة الصدفة والقدسية الميثولوجية أو النخبوية الأرستقراطية، فالفرد فاضل بسلوكه وليس بميراتها الرمزي. كما أن السعادة ترتبط بحاضر الإنسان، لكنه حاضر يستشرف الأفضل عبر توجيه السلوك حتى في وجه القدر ودوائر الحياة السلبية.
2- تصور الفارابي للسعادة ( 874 – 950 ):
في مستهل كتابه “تحصيل السعادة“ يتحدث "الفارابي" عن الأشياء الإنسانية التي إذا حصلت في الأمم وأهل المدن، حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، أربعة أجناس : الفضائل النظرية والفضائل الفكرية والفضائل الخلقية والصناعات العملية .
وغني عن البيان، أن الفارابي ينظر إلى السعادة، ليس في بعدها الفردي أو بالأدق السعادة الشخصية، وإنما الأمر يتجاوز ذلك إلى السعادة الجماعية التي تعلى بأهل المدن. فإذا كانت الفضائل النظرية هي مختلف العلوم التي يكون الغرض الأقصى منها أن تحصل الموجودات، وهذه العلوم منها ما يحصل للإنسان بشكل فطري، ومنها ما يحصل بتأمل ويأتي نتيجة فحص واستنباط، اعتمادا على التعليم والتعلم. فإن الغرض من ورائها هي التمكن من معرفة الغايات والكمال الأقصى الذي لأجله كون الإنسان، ومعرفة كذلك المبادئ الطبيعية التي في الإنسان. وبما أن الفضائل النظرية لوحدها غير قادرة على تحقيق كمال الإنسان، فإن محتاج إلى مبادئ نطقية وعقلية يتم بموجبها تحقيق كماله،انطلاقا من ميزة العقل التي تخول للإنسان التميز بين ما هو حق وما هو باطل، الخير والشر... وبالتالي التميز بين جميع الأشياء التي بها يبلغ الإنسان ذلك الكمال إذ ينتفع في بلوغها؛ وهي الخيرات والفضائل والحسنات ويميزها عن الأشياء التي تعوق الإنسان في بلوغ ذلك الكمال؛ وهي الشرور والنقائص والسيئات.

وقد سلمنا سابقا، بأن الفارابي يبحث في الأشياء التي بها تنال السعادة لأهل المدن والاجتماع، كل واحد بمقدار ما له أعد بالفطرة. ويتبين له أن الاجتماع المدني، والجملة التي تحصل من اجتماع المدنيين في المدن، شبيه باجتماع الأجسام في جملة العالم ويتبين له أيضا في جملة ما تشمل عليه المدينة والأمة نظائر ما تشمل عليه جملة العالم. وفي هذا الصدد نجد "الفارابي" يقر بأن المعقولات الإرادية أو لنقول الأفكار الإرادية توجد في الروح في حين أن الأفكار الطبيعية التي تنتمي إلى علم المبادئ توجد في الجسد، وبالتالي السعادة غاية في ذاتها، ما دامت تطلب لذاتها بعيدا عن أية مصلحة حيث السعادة في نظره لا ترتبط بالبدن وليست إشباعا للذة بدنية، لأن هذا الإشباع هو فعل مشترك مع الحيوان لذا يصبح الفعل العقلي التأملي هو ما يميز الإنسان ، فالسعادة لا ترتبط بعالم الحس والجسد إنها لذة عقلية، لكن السؤال الأساس عند الفارابي هو كيف تحصل هذه السعادة، ما دامت غير متوفرة في عالم الحس والإحساس، لا نولد سعداء وإنما نصبح كذلك هو ما يعني أن تحصيل السعادة فعل مشروط بعملية عقلية تأملية تحترس من الجسد وتتجاوز رغباته.
وهو ما يعني ممارسة فعل التفكير والتأمل والاحتكام إلى المنطق لأن السعادة، لا تحصل إلا بجودة التمييز بين الصحيح والخطأ ، لازم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي ننال بها السعادة ، وهي التي تحصل لنا بجودة التميز وكانت جودة التميز إنما تحصل بقوة الذهن على تحصيل الصواب وقوة الذهن تحصل متى كانت لنا قوة نقف بها على الحق فنعتقده ونقف بها على الباطل فنتجنبه، بهذا تصبح السعادة أمرا إنسانيا مكتسبا ما دام الإنسان يملك عقلا يتأمل به،و بواسطته يستطيع الوصول إلى عالم الحكمة والمعرفة، فالحكيم وحده سعيد والجاهل حتما تعيس لأن ممارسة فعل التأمل والتفكير يعني لحظة خاصة في حياة الفيلسوف ، لحظة الخروج من عالم الحس ، وعدم الثقة في الجسد والابتعاد عن الإحساس، بالتأمل والتفكير يستطيع الحكيم أن يتصل بالعقل الفعال ويرى الصور النقية الخالصة الطاهرة قبل أن تمتزج بالمادة بعد نزولها إلى العالم الأرضي، وهو ما يعني مكانة الفيلسوف الوسائطية، بين عالم السماء وعالم الأرض، بذلك تصبح مهمته تنويرية في الوقت ذاته. أي أن السعادة هي الخير المطلق ما دامت معرفة للحقيقة وكل ما يعوق الوصول إليها هو شر مطلق بالضرورة يكون هذا الوصول إلى الحقيقة عن طريق القوة الناطقة النظرية بعيدا عن القوى الأخرى مثل القوة الناطقة العملية أو القوة النزوعية أو القوة المتخيلة أو القوة الحساسة.

السعادة إنما تنال بالأشياء الجميلة وهذه الأخيرة لا تصبر ممكنة إلا بصناعة الفلسفة والتي تحصل بجودة التمييز وقوة الإدراك الذي من خلاله نميز بين الحق والباطل وبالصناعة التي تعنينا على ذلك هي صناعة المنطق الذي تقف عند الحق فتعتنقه ويقف عند الباطل فنتجنبه وبذلك تكون الفلسفة حسب الفارابي هي السبيل الوحيد لنيل السعادة باعتبارها أعظم الخيرات وأكمل الغابات التي يتشوق لها إنسان. وربما هذا التقسيم بين النفس والجسد راجع إلى الأدبيات الأفلاطونية، في خضم حديثه عن ثنائية النفس والجسد، في فلسفته الأخلاقية عندما أقر بأن الإنسان عليه أن يكون زاهدا بمطالب الجسد، لا بل عليه أن يقمعها ويتجاوزها ليحقق إنسانيته الفاضلة عن طريق الحكمة، والشوق الدائم إلى الاتصال بالحقائق الأزلية في عالم المثل حيث وجود النفس.

ويؤكد على أن كل إنسان محتاج لتدبير قوامهم وبلوغ أفضل كمالاته إلى جماعة يقوم كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه فلا يمكن للإنسان أن ينال كماله وسعادته إلا بالاجتماع بجماعة يسودها التعاون والتآزر يسمى الفارابي هذا النوع من الاجتماع الذي يتعاون على نيل السعادة "الاجتماع الفاضل" أما الجماعة التي يقصد الاجتماع فيها التعاون للظفر بالسعادة "المدينة الفاضلة" فهي بمثابة الجسد من جسم الإنسان الذي يتكون من أعضاء مختلفة تتعاون على حفظ توازن الجسد و بقاءه، فكذلك الشأن بالنسبة للجماعة التي لا غنى لأعضاء ها عن التعاون والتآزر لنيل السعادة ولكي تكون هذه الجماعة فاضلة لا بد أن يقودها حاكم فاضل يجمع بين فضيلتي الحكمة والشريعة. وكما هو الشأن بالنسبة للفضائل النظرية، فإن الفضائل العقلية تستنبط ما هو أنفع وأجمل باعتباره غاية قصوى عن طريق التعليم والتعلم. وبخصوص الفضيلة الخلقية، فهي مرتبطة بالفعل والممارسة ،التي تكتسي صبغة خلقية كالشجاعة والقوة عند المجاهدين، وكذا سائر الصنائع التي تتغي غرض يهدف إلى كل ما هو خير، ويميز الفارابي بين الفضائل التي هي أعظم قوة، والجزيئات التي هي أصغرها قوة . فالفضيلة الفكرية التي هي أعظمها قوة والفضيلة الخلقية التي هي أعظمها قوة لا يفارق بعضها بعضا. وأن الفضيلة الفكرية الرئيسة جدا لا يمكن إلا أن تكون تابعة للفضيلة النظرية، وإذا اختلت إحدى هذه الفضائل فهي تؤثر لا محالة عن بقية الفضائل،ومنه عدم تحقيق الغاية القصوى وكمال الإنسان.

علاوة عن كون السعادة، هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود،إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة...وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام في جملة الجواهر المفارقة للمواد وأن تبقى على ذلك الحال دائما وأبدا، إلا أن رتبتها تكون دون رتبة العقل الفعال...وإنما تبلغ ذلك بأفعال لا إرادية بعضها أفعال فكرية وبعضها أفعال بدنية... وليست بأي أفعال اتفقت بل بأفعال محدودة... وذلك أن الأفعال الإرادية ما يفوق عن السعادة. وغني عن القول، بأن الأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة والهيئات والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل. وهذه خيرات هي لا لأجل ذواتها بل هي خيرات لأجل السعادة، والأفعال التي تعوق عن السعادة هي الشرور وهي الأفعال القبيحة والهيئات والملكات التي عنها تكون هذه الأفعال هي النقائص والرذائل.

وعموما، يمكن القول على أن السعادة عند "الفارابي" هي “ الخير المطلوب لذاته وليست تطلب أصلا، ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيئا آخر... وليس وراءها شيء آخر يمكن أن يناله الإنسان أعظم منها’’.
3- السعادة عند ابن مسكويه:
بادئ ذي بدء، قبل التطرق إلى مفهوم السعادة، لا بأس من أن نعرج على خصائص فلسفة مسكويه الأخلاقية، حيث حاول أن يوفق في فلسفته بين النظريات اليونانية وبين المنظور الإسلامي للأخلاق. فيكشف في كتابه المشهور “تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق“ عن ربطه بين الأخلاق والتربية، حتى نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، ويكون ذلك بصناعة وتفكير تعليمي، متوخيا الوصول إلى تربية خلقية سليمة، ولكن وفق منهج تربوي مدروس. فالأخلاق عنده تحصل بالعادة والاكتساب، ويلزمنا شرط اجتماعي لتحقيق السلوك الأخلاقي، بمعنى أخر أن الحياة الأخلاقية الفاضلة لا تتم بطريقة منفردة بل تحصل بالاجتماع الإنساني. كما يرى انه لو فهمت الشريعة فهما صحيحا لكانت مذهبا خلقيا أساسه حب الإنسان للإنسان، فالدين رياضة للنفوس كي تحد من ذاتها في سبيل الآخرين. ومن ثمة، تكون الأخلاق الفاضلة هي الحكم الفصل في تحقيق السعادة الروحية على غرار السعادة المادية ، مما يدل على أن هناك مراتب للسعادة ، صنفها "ابن مسكويه" في مرتبتين أساسيتين: سعادة دنيوية وتظهر من خلال تعلق الإنسان بأحواله الجسمانية كالطعام والشراب مثلا مع تطلعه نحو الأمور الشريفة وسروره بها تلبية لحاجاته الجسمية بطرق وأساليب شريفة. فيذهب "ابن مسكويه" قائلا "صار الإنسان إنسانا، بأفضلية النفس الناطقة وليس النفس البهيمية التي هي أخس النفوس، ولا النفس الغضبية التي هي أوسطهم، فبالنفس الناطقة شارك الملائكة، وباين البهائم،فأهل الكمالات يتفاضلون بعقولهم وسعة معارفهم." (بتصرف) هذه النفس الناطقة هي أسمى النفوس تتصدر المرتبة الأولى حيث تكشف عن صنفان من السعادة وهي السعادة الأخروية أي السعادة الروحانية التي تتم في لذة التأمل والتجرد عن المادة .

فيخلص "مسكويه" أن السعادة جسمية ونفسية معا، لأن للإنسانية طبيعة مزدوجة نفسية تعكس فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة، وجسدية تنم عن فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام ،فهو إذن (الإنسان) مركب من خير جسماني يجعله يقيم في العالم السفلي،وإذا ما ظفر بمرتبة الكمال ارتقى بنفسه إلى مصاف العالم العلوي، ولا تتم السعادة له إلا بتحصيل العالمين معا. فالسعادة الدنيوية على حد قوله ناقصة نظرا لانطلاقها من عالم الحس، فلابد لصاحبها أن يتعرض للألم والحسرات، فعلى سبيل المثال، حتى نشعر بلذة الطعام يجب أن نشعر بألم الجوع. أما السعادة الأخروية هي الأكمل، فصاحبها يتمتع بالخير الأقصى وهو مقيم بروحه بقرب الملأ الأعلى ويستنير بالنور الإلهي، لذلك يكون خاليا من الألم والحسرات. والمرور بالمرتبة الأولى ضروري لبلوغ المرتبة الثانية التي تنعت بالكمال الأقصى.
ومادامت الأخلاق هي غاية السعادة ، فعلينا تهذيب الخلق وتقويمه لبلوغها ، وذلك بالبحث عن السبل الكفيلة للمحافظة عن الأخلاق السليمة، وهذا ما يسمى بالوقاية الأخلاقية. أما العلاج الأخلاقي فهو العمل على استعادة الأخلاق في حالة ضياعها.فالإنسان إما يكون طفلا وعندها يكون تهذيب خلقه حسب تعاليم الشريعة، وإما أن يكون راشدا، حينئذ ينبغي أن يعمل على حفظ صحته بمعاشرة أمثاله من الناس الأخيار وتجنب الأشرار. والتزام الحكمة ،وتحكيم العقل في التصرفات الشهوانية والغضبية. ومحاسبة النفس وكشف عيوبها، وإما أن يكون الإنسان ذا نفس مريضة. وهنا يتوجب عليه أن يجتهد في علاجها.

استنــــــــــــتاج عام :
لقد دأب الفلاسفة على التنظير والتقعيد لمفهوم السعادة، انطلاقا من تشبعهم الفكري والمعرفي الذي استمد من بيئتهم الثقافية.إلا أنه ورغم الاختلاف الحاصل في تعريفهم لذات المفهوم،فإن هناك إجماع على أن السعادة مرتبطة بالبعدين الذاتي والموضوعي المتمثل في إدراج السعادة في الجاني الإيطيقي والسياسي على حد سواء. وهذا ما ظهر بشكل جلي في الفلسفة الأرسطية التي أقرت بضرورة إلمام رجل السياسة بفضيلة السعادة. باعتبارها آلية تخول للإنسان الوقوف على جانبه الروحي والمادي، مما يعني أن السعادة عند "أرسطو" تجمع بين الجانب الفكري والعملي، كما أنها لا تبقى حبيسة اللذة وإشباع الرغبات البدنية، وإنما الأمر يتجاوز ذلك إلى التحصيل العلمي والمعرفي. علاوة عن كون السعادة تتجسد في تحقيق الخير الأسمى. أما بخصوص الفارابي فهو الآخر لا يبتعد كثيرا عن الفكر الأرسطي، حيث عمل على جعل السعادة غاية تطلب لذاتها لا لشيء آخر غيرها، ويؤكد عن علاقة السعادة بالفضائل الأربعة من نظرية وفكرية مرورا بالخلقية فالصناعات العملية. وإذا كان الإنسان لا يولد سعيدا وإنما يصبح كذلك،فإن هاته السعادة لا تتحقق إلا في ظل وجود فكر تأملي. يسعى إلى إسعاد نفسه كما أهله وهذا ما يتضح من التشبيه الذي أقامه الفارابي بين الجسم والمدينة، كما أقر على أن السعادة لا ترتبط بسعادة البدن، وإنما الأمر يتعدى ذلك إلى سعادة العقل والفكر، التي لا تتأتى إلا بالتحصيل العلمي والمعرفي.ومن خلال كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق لصاحبه "ابن مسكويه"، يتضح على أن هذا الأخير يقيم علاقة بين الأخلاق والتربية متوخيا من وراء ذلك الوصول إلى تربية خلقية، نتيجة التعلم والاكتساب وفق أسس وضوابط تربوية دقيقة ومضبوطة . ويرى أن الأخلاق لا تحصل بشكل إنفرادي، بقدر ما تحصل داخل الاجتماع الإنساني حتى تصل إلى مرتبة الأخلاق الفاضلة. ناهيك عن تقسمه للنفس الإنسانية إلى نفس عاقلة وغضبية وشهوانية، فإذا كانت العاقلة صفة بشرية والشهوانية صفة حيوانية،فإن الغضبية تتوسطهما.

السعادة من أبرز الأفكار الدينية والفلسفية التي شغلت بال الكثير من رجالات الفكر الإنساني، حيث شكلت محورا من أبرز محاور الاهتمامات السياسية والاجتماعية والأخلاقية على حد سواء.
أما في ما يتعلق بالفكر الفلسفي الإسلامي؛ فإنها تعتبر بمثابة حجر أساس في هذا الفكر، وقاعدة رئيسية رمى إلى رفع أعمدتها ونشر ألويتها كل من المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة، فضلا عن كونها أشد ثراء في محيط هذا الفكر من أي فكرة أخرى على الإطلاق. ومما يؤكد كلامنا هذا، أن المنطق الداخلي لمذاهب فلاسفة الإسلام - على تعددها - كان يقودهم حتما لبحث فكرة السعادة، مما جعلها تشكل ركيزة أساسية لتأملاتهم حول الله والمجتمع والإنسان.
وآية ذلك، أن الكندي (185 - 252هـ) أول فلاسفة الإسلام، أكد أن تحصيل السعادة يعد بمثابة غاية الحياة البشرية كلها!! وفي الواقع، لم يكن رأيه هذا رأيا عرضيا بالنسبة لرجالات الفلسفة الإسلامية؛ بل إن ثمة عناوين كثيرة لأعمالهم المختلفة تحمل لفظة السعادة، أو إحدى مشتقاتها، من بينها: «السعادة» و«تحصيل السعادة» لكل من الفارابي (259 - 339هـ)، وابن سينا (370 - 428هـ)، و«السعادة والإسعاد» لأبي الحسن العامري (300 - 380هـ)، تلميذ الفارابي، و«كيمياء السعادة» لحجة الإسلام أبو حامد الغزالي (توفي 505هـ).
أيضا شكلت السعادة غاية قصوى عند كل من: ابن باجة (توفي 529هـ)، الفيلسوف الأندلسي، وصدر الدين الشيرازي (توفي 1050هـ) أحد أعظم العرفاء المتألهين في تاريخ الإسلام الفكري. ففي حين عارض أولهما تصور الغزالي للسعادة، كما هي ممثلة في اللذة الصوفية، مؤكدا أنه يتوجب على «المتوحد» أن يشتاقها في حياته ويسعى جاهدا لتحصيلها، اهتم ثانيهما ببحث مسألة السعادة الفلسفية مع ميل واضح للحديث عنها ونقيضها (الشقاوة) ضمن إطارهما الغيبي الأخروي.
وواقع الأمر، أن مسألة السعادة قد تحولت مع مرور الزمن إلى واحدة من أهم المقولات الرئيسية في الفلسفة الإسلامية، مما يستدعي البحث عن سبب ذلك! وفي هذا السياق، ثمة من يرجع الاهتمام بها إلى تأثير الفلسفة اليونانية على فلاسفة الإسلام، وموقع السعادة منها، على اعتبار أن فكرة السعادة يونانية المصدر أساسا! غير أن هذا لا يعد سببا كافيا في اعتقادنا، فمع أنه لا سبيل مطلقا لإنكار ما للفلسفة اليونانية من أثر بالغ على توجهات فلاسفة المسلمين؛ فإن ذلك لا يقوم دليلا على نفي أي آثار أخرى. فثمة أثر إسلامي يبدو بصورة جلية عند التعرض لبحث إشكالات خلود النفس وسعادتها الأخروية، وثمة أثر أساسي يتمثل في تفاعل فلاسفة الإسلام مع معطيات بيئاتهم الحضارية والسياسية الاجتماعية، التي كانت في الغالب الأعم نظما استبدادية لا توفر قسطا معقولا من الحرية أو العدالة، ولا تشيع مناخا من الرفاهية الاجتماعية لأغلب الطبقات المهمشة والمطحونة في قاع الهرم الاجتماعي.
وآية ذلك، تلكم التقلبات الحادة التي سادت أحوال فلاسفة الإسلام من وضع القريب المحسود إلى وضع الطريد المنبوذ!! فابن سينا - على سبيل المثال - أمضى جزءا كبيرا من حياته متخفيا هربا من ملاحقات السلطان محمود الغزنوي، ومن مطاردات جند شمس الدولة!! وقضى ابن باجة مسموما!! وتم التشهير بأبي الوليد بن رشد الذي عانى بدوره مرارة النفي والاغتراب! وبالإضافة إلى ما سبق؛ فإنني أعتقد أن من أبرز الأسباب التي دعت فلاسفة الإسلام إلى الاهتمام بفكرة السعادة، هو محاولة تصديهم لمدلولات السعادة العرفية الشائعة على المستوى الشعبي! فقد لاحظ جموع الفلاسفة والمتصوفة أن ثمة تفضيلا بينا للملذات الحسية وما يتبعها من انغماس حاد فيها، مع ما يجره ذلك من ابتعاد عن منظومة الفضائل الروحية والأخلاقية.
أما على المستوى التنظيري، وهو الأهم بنظرنا، فيمكننا ملاحظة أن محاولات الفلاسفة قد استهدفت - ضمن ما استهدفت - النيل من تصورات بعض الفقهاء والمفسرين عن السعادة الأخروية وماهيتها، التي لم تبتعد بحال من الأحوال عن التصور الشعبي السابق!! صحيح أنه لا يمكننا تأكيد مثل هذا التأويل لموقف فلاسفة الإسلام من السعادة وبواعثه، ولكن على أقل تقدير يمكننا إدراك أن عقلانية وروحانية السعادة لدى فلاسفة ومتصوفة الإسلام كانت على النقيض تماما من التصور الفقهي التفسيري للسعادة الأخروية وتجلياتها! وقد يعد ذلك سببا كافيا، ودلالة تفسيرية كذلك، لتأكيد الفلاسفة والمتصوفة على هاتين الصفتين (عقلانية وروحانية السعادة) ونفي ارتباطهما بالجوانب المادية الحسية، وإن كانت ممارسات بعضهم العملية أبعد ما تكون عن ذلك!! ومن هنا، فإنه على الرغم من تنوع منهج دراسة السعادة عند كل من الفلاسفة والمتصوفة، فإن ثمة اتفاقا عاما بينهما على عدة نقاط رئيسية في مقدمتها: اتفاقهما حول غائية السعادة وروحانيتها، وضرورة تحقق الاجتماع البشري من أجل حصولها، وأنها تكمن في المعرفة العقلية الخالية من أي مصلحة أو منفعة شخصية.
ومع ذلك، فإن ثمة اختلافا واضحا كذلك بين كل من الطريقة الفلسفية العقلية والطريقة الصوفية العرفانية، وبخاصة في ما يتعلق ببحث مسألتي المعرفة والسعادة! ففيما يقرر الفلاسفة أن أصناف الغايات التي يطلبها المرء في حياته متعددة، وأن اللذة - حتى في أشرف أشكالها (اللذة العقلية) - لا تمثل غاية بحد ذاتها – كما الشأن عند المتصوفة -، يخلط بعض المتصوفة في تصورهم بين مفهومي السعادة واللذة، ناهيك عن أنهم عادة ما يقصرون حديثهم على السعادة الأخروية دون الدنيوية!! هذا في ما يخص الرؤية العامة لمسألة السعادة؛ أما في ما يتعلق بارتباطها كإشكالية فلسفية بإشكاليات أخرى، فمن الملاحظ أن الفلاسفة يؤكدون حصول السعادة عن طريق التحصيل واكتساب العلوم النظرية البحتة، كما يؤكدون أيضا استحالة حدوث «الصور الروحانية» من خلال المجاهدة الصوفية، وذلك بخلاف المتصوفة الذين - رغم تأكيدهم ضرورة الجمع بين الطريقتين الفلسفية والصوفية - فإنهم يميلون إلى القول بأن المعرفة تحدث في الأساس عن طريق الكشف والإلهام الصوفي، أكثر مما يتم تحصيلها عن طريق العقل والبرهان الفلسفي!!



ذهب عامة الباحثين في التصوف، من المتصوفة وغيرهم إلى:
- أن التصوف مذهب قديم قبل الإسلام، في الثقافات: الفارسية، والهندية، واليونانية.
- وأن المتصوفة المسلمين أخذوا أفكار وتعاليم المتصوفة القدماء وتأثروا بهم.
ومن الباحثين من رد أصل التصوف وبدايته إلى المصادر الأجنبية عن الإسلام، وأما الذين ردوه إلى أصل إسلامي، فإنهم لم ينكروا تأثره بالعناصر الأجنبية، في فترات لاحقة.
فقد اتفقوا على تأثر المتصوفة بالتصوف القديم، واختلفوا متى كان ذلك التأثر ؟.
هذا الاتفاق حمل الجميع على البحث في هذه المصادر، والمقارنة بين التصوف في الثقافات السابقة للإسلام، والتصوف في الإسلام، وقد عني بالبحث في هذه المقارنة كثير من الباحثين، مثل:
1- البيروني في كتابه عن الهند: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة".
2- الدكتور عمر فروخ في كتابه: "التصوف في الإسلام".
3- الدكتور علي سامي النشار في كتابه: "نشأة الفكر الفلسفي".
4- إحسان إلهي ظهر في كتابه: "التصوف: المنشأ والمصادر".
5- الدكتور الشرقاوي في كتابه: "الاتجاهات الحديثة في دراسة التصوف الإسلامي".
والأفكار المقارنة عديدة، مثل: الفناء، والمحبة، والمعرفة، والمجاهدة.. إلخ.
ويكفي في هذا المقام أن نعرض لمقارنة واحدة، تفصح عن المسألة، وتكشف عن حقيقة التوافق بين التصوفين:
فقد رجع بعض الباحثين والمؤرخين، المختصين بعلوم الديانات القديمة: الهندية والفلسفية. من غير المتصوفة، بكلمة "صوفية" إلى أصل يوناني، هو كلمة: "سوفيا".
وكلمة "سوفيا" تعني بالعربية: الحكمة..
وأول من عرف بهذا الرأي: البيروني. في كتابه الآنف الذكر، وتبعه عليه جمع، حيث قال وهو يحكي اعتقادات الهنود:
"ومنهم من كان يرى الوجود الحقيقي للعلة الأولى فقط، لاستغنائها بذاتها فيه، وحاجة غيرها إليها، وأن ما هو مفتقر في الوجود إلى غيره، فوجوده كالخيال غير حق، والحق هو الواحد الأول فقط.
وهذا رأي (السوفية) وهم الحكماء، فإن (سوف) باليونانية الحكمة، وبها سمي الفيلسوف (بيلاسوبا)، أي محب الحكمة.
ولما ذهب في الإسلام قوم إلى قريب من رأيهم، سموا باسمهم، ولم يعرف اللقب بعضهم فنسبهم للتوكل إلى (الصفة)، وأنهم أصحابها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم صُحّف بعد ذلك، فصُيّر من صوف التيوس"[1].
وبهذا قال كل من: المستشرق الألماني فون هامر، ومحمد لطفي جمعة، وعبد العزيز إسلامبولي، ذهبوا إلى ما ذكره البيروني آنفا.[2]
وقال به الدكتور محمد جميل غازي: "الصوفية كما نعلم اسم يوناني قديم مأخوذ من الحكمة (صوفيا) وليس كما يقولون إنه مأخوذ من الصوف".[3]
ولهذا الرأي أدلة ترجحه، فمن ذلك:
أولا: اتحاد المدلول.
اتحاد مدلول الكلمتين: "سوفية"، "صوفية"؛ فمدلولهما: الحكمة.
فأما الأول فتقدم دليله من كلام البيروني.
فالكلمة: "سوف" يونانية، وترجمتها العربية هي: "الحكمة".
و"الفيلا سوف" هو: "محب الحكمة".
وأما الثاني فدليله: أن "الصوفي" عند الصوفية هو: "الحكيم"، وهو صاحب الحكمة.
وهم يكثرون من ذكره، ويجعلونه وصفا لازما للصوفي، فمن لم يكن حكيما فليس له حظ من اللقب، هكذا يقرر ابن عربي – وغيره – فيقول: "ومن شروط المنعوت بالتصوف: أن يكون حكيما ذا حكمة. وإن لم يكن، فلا حظ له من هذا اللقب"[4].
فإذا كانت:
- "الحكمة" هي: "سوف"، و"الحكماء" هم: "السوفية".
- و"الحكمة" هي: "التصوف"، و "الحكماء" هم: "الصوفية".
فهل جاء هذا التوافق صدفة ؟!.
يقول نيكلسون:"بعض الباحثين من الأوربيين يردها إلى الكلمة الإغريقية: سوفوس، بمعنى ثيو صوفي".. [5]
وكلمة: "ثيوصوفي" الإغريقية تعني: الحكمة الإلهية. (ثيو = إله)، (صوفي = الحكمة).[6]
وقد ذكر الدكتور النشار عن طائفة من الهنود القدامى، يعرفون باسم: "جيمنو صوفيا" ومعناه: الحكيم العاري. كانوا يقضون حياتهم في السياحة، متأملين الله تعالى.
وهذا أيضا مذهب يعتنقه الصوفية في الإسلام: السياحة، والتأمل.[7]
فهذا اتفاق في الاسم: "الحكيم"، واتفاق كذلك في نوع الأعمال المتعاطاة.
نعم، هذا التوافق بمفرده ليس دليلا على الانتساب، لكن جمع الأدلة بعضها إلى بعض، وقد سبق منها شيء ليس بالقليل، وتحليل مضمون تلك الأعمال بما يظهر التوافق، حتى في أدق التفاصيل: إثباتات برهانية، يصعب إهمالها.!!.
ثانيا: اتحاد الهدف.
هدف التصوف يوافق هدف الفلسفة، فكلاهما يرميان إلى التشبه بالإله، وهذا يتبين من تعريف "التصوف" و "الفلسفة":
ففي تعريف الفلسفة قال الجرجاني: "الفلسفة: التشبه بالإله بحسب الطاقة البشرية، لتحصيل السعادة الأبدية، كما أمر الصادق صلى الله عليه وسلم في قوله: (تخلقوا بأخلاق الله)[8]؛ أي تشبهوا به في الإحاطة بالمعلومات، والتجرد من الجسميات"[9].
وفي تعريف التصوف:
- أورد الدكتور عبد الحليم محمود عن النوري قوله:"ليس التصوف رسما ولا علما، ولكنه خلق، لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة، ولو كان علما لحصل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله، ولن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم"[10].
- الغزالي يقول: "فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية، حتى قيل: تخلقوا بأخلاق الله"[11].
- وابن عربي يقول:
- "فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا لأنه خلق فانظر ترى عجبا"[12].
- والجيلي يقول: "ولهذا أمرنا السيد الأواه فقال: تخلقوا بأخلاق الله؛ لتبرز أسراره المودعة في الهياكل الإنسانية، فيظهر بذلك علو العزة الربانية، ويعلم حق المرتبة الرحمانية"[13].
- وجاء في اصطلاحات الصوفية للكاشاني: "التصوف: هو التخلق بالأخلاق الإلهية"[14].
فهذا المعنى عند الصوفية يتفق عليه حذاقهم، كالنوري، والغزالي، وابن عربي.
فالتشبه والتخلق أمرهما واحد هو: التمثّل.
- المتشبه بشيء ما: يتمثل صفاته.
- والمتخلق بخلق شيء ما: يتمثل صفاته.
وقد جرى تعديل مسّ شكل المصطلح، ولم يمسّ جوهره، كما جرى تعديل الاسم سابقا:
- فقوله: "التشبه". عدّل ليكون: "التخلق".
- وقوله: "بالإله". عدّل ليكون: "بأخلاق الله".
- وبعد أن كان مقيدا: "على قدر الطاقة". انتفى عنه القيد.
وهذه تعديلات شكلية، لا أثر لها؛ فالتشبه في معنى التخلق، فمؤداهما واحد في الفلسفة والتصوف، فكلاهما يقرر إمكانية الوصول إلى تحصيل الصفات الإلهية، بدليل:
أنهما يقولان بالحلول والاتحاد الذاتي، بين الإنسان والله تعالى سبحانه.
فالنهايات فيهما واحدة، والاختلاف في تسمية الطريق.
وأما التقييد فلا أثر له؛ لأنه إذا كانت الفلسفة تقرر قدرة الإنسان على الاتحاد بالله تعالى بواسطة تحصيل جميع الصفات، لم يعد لهذا التقييد معنى، إلا من جهة اختلاف قدرات البشر، فمنهم من يقدر على هذه المرتبة، ومنهم من لا يقدر.
وهذا التفاوت يقرره الصوفية كذلك، متفقين في ذلك مع الفلاسفة.

ثالثا: التصوف والخلق.
إذا لم يكن التصوف هو الزهد، فما هو إذن ؟.
ذكر المتصوفة: "الخلق" موضوعا للتصوف. وعند البحث في تراث الصوفية التعريفي:
نجد هذا المعنى ظاهرا، عكس الزهد. في بضعة تعريفات مهمة، أهميتها من كونها تعريفات أئمة محققين بارزين في التصوف، مثل: الجنيد، والنوري، والغزالي، وابن عربي. ويلحق بهم: الجيلي، والكاشاني.
ففي تعريفات هؤلاء: تفسير التصوف بالخلق، بلفظ صريح، لا احتمال فيه، إلا ما كان من تعريف الجنيد، فإنه جاء بإشارة صريحة كذلك، لا تحتمل التأويل. وهذه أقوالهم:
1- أورد الدكتور عبد الحليم محمود عن النوري قوله:"ليس التصوف رسما ولا علما، ولكنه خلق، لأنه لو كان رسما لحصل بالمجاهدة، ولو كان علما لحصل بالتعليم، ولكنه تخلق بأخلاق الله، ولن تستطيع أن تقبل على الأخلاق الإلهية بعلم أو رسم"[1].
2- يقول الغزالي: "فالذي يذكر هو قرب العبد من ربه عز وجل في الصفات التي أمر فيها بالاقتداء والتخلق بأخلاق الربوبية، حتى قيل: تخلقوا بأخلاق الله"[2].
3- يقول ابن عربي:
"فاعلم أن التصوف تشبيه بخالقنا لأنه خلق فانظر ترى عجبا"[3]
4- جاء في اصطلاحات الصوفية للكاشاني: "التصوف: هو التخلق بالأخلاق الإلهية"[4].
5- قال الجيلي: "ولهذا أمرنا السيد الأواه فقال: تخلقوا بأخلاق الله؛ لتبرز أسراره المودعة في الهياكل الإنسانية، فيظهر بذلك علو العزة الربانية، ويعلم حق المرتبة الرحمانية"[5].
6- في الرسالة للقشيري: " سئل الجنيد عن المحبة، فقال: دخول صفات المحبوب على البدل من صفات المحب" [6].
"الخلق" أمر متفق عليه بين الناس: مدحا، وطلبا..
وذكر الصوفية له، وتفسيرهم التصوف به، ليس عليه اعتراض ابتداء، فلا شيء يمنع من أن يكون هذا هو موضوع التصوف، إذا قدروا على الاستدلال له، وسوق البينات.
إنما الأمر الذي يسترعي الانتباه: بعض الألفاظ والجمل، التي وردت في هذه التعريفات، مما هي زائدة على مجرد "الخلق"؛ الذي معناه: الفضائل، والقيم العليا، والسماحة. مثل قولهم:
تخلق بأخلاق الله (النوري).. تخلقوا بأخلاق الله (الغزالي، الجيلي).. تشبيه بخالقنا (ابن عربي). التخلق بالأخلاق الإلهية (الكاشاني)..التخلق بأخلاق الربوبية (الغزالي).. دخول صفات المحبوب على البدل (الجنيد).
والمتفق عليه بين المسلمين:
- أن الله تعالى، وهو: الإله، والرب، وله الألوهية، والربوبية. له أوصاف تليق به، ليست كأوصاف المخلوقين.
- والإنسان له أوصاف لائقة به، ليست كأوصاف الله تعالى.
لقوله تعالى: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}. [الشورى 11]
والذي يلحظ في هذه الأقوال:
- أنها تقرر: اكتساب الإنسان صفات (= أخلاق. بتعبيرهم) الله تعالى.
- وأن هذه العملية الاكتسابية التخلقية هي: موضوع التصوف.
هذه النتيجة واضحة في كلام هؤلاء الأئمة، من دون استثناء، حتى في كلام الجنيد، وإن استعمل كلمات غير التي استعملها البقية.
فتارة قالوا: أخلاق الربيوبية. والربوبية ليست إلا لله تعالى.
وتارة قالوا: الإلهية. والإلهية له وحده، لا شريك له.
وفي ثالثة قالوا: أخلاق الله تعالى. مصرحين بالاسم الخاص.
وفي تعريف الجنيد: وصف لمحتوى هذه العملية: أنها عملية بدلٍ، وليست تبادل، فالمحب يستبدل صفات المحبوب بصفاته؛ بمعنى أنه يترك صفاته ويتخلص منها، ليتلبس بصفات محبوبه، ويتخلق بها. والمحب هنا هو الإنسان، والمحبوب هو الله تعالى.
فهاهنا أمران، احتوتهما هذه التعريفات:
- الأول: اكتساب الإنسان صفات الله تعالى (= أخلاقه. بتعبيرهم). أو تركه صفاته، واكتسابه صفات الله تعالى.
- الثاني: أن هذه العملية الاكتسابية، التخلقية، الاستبدالية: عملية كاملة كلية، ليست ناقصة جزئية.
هذا المعنى هو الجديد الملاحظ في هذا التفسير؛ ولذا تقدم أنه ليس مجرد تخلق، أو خلق.
فمجرد التخلق والخلق أمر مألوف، معروف. أما هذه المعاني الزائدة، ففيها من الغرابة، وحتى النزاع ما لا يخفى. وهذا الاعتراض نلخصه فيما يلي:
أولا: قولهم: "أخلاق الله"، مصطلح جديد، منسوب إلى الشريعة، لم يعرف قبل المتصوفة، الذين انفردوا به، فالمعروف استعمال مصطلحات من قبيل: أسماء الله، صفات الله. وهي قرآنية المورد والمصدر. تتضمن معاني لائقة بالله تعالى. أما هذا فلا يمتاز بذلك، بل هو منتزع من قول الفلاسفة، بالتشبه بالإله على قدر الطاقة. [7]
ثانيا: أن التعبير عن الأوصاف الإلهية بالأخلاق فيه محذور، هو: أن الأخلاق، أحوال مكتسبة؛ فالمتخلق مكتسب للأخلاق، هذا هو المعنى الغالب عليه، وعليه فلا يليق أن ينسب إلى الله تعالى؛ لأن أوصافه ذاتية، غير مكتسبة.
ثالثا: أن هذا المصطلح يفيد: أن بقدرة الإنسان تحصيل جميع الأوصاف الإلهية اتصافا، أو تخلقا، بحسب تعبيرهم، ليس فيه قيد، ولا تخصيص، ولا تحديد، بل إطلاق وتعميم. والمحذور في هذا لا يخفى؛ فإن أوصاف الله تعالى على ثلاثة أنواع من جهة اتصاف العبد:
1- نوع في قدرة الإنسان الاتصاف بمعناها، دون مماثلة، ويحمد عليه، مثل الرحمة.
2- نوع في قدرة الإنسان الاتصاف بمعناها، دون مماثلة، ويذم عليه، كالتكبر.
3- نوع يستحيل على الإنسان الاتصاف بمعناها، كالخلق، والبرء، والتصوير. [8]
وهذا المصطلح لا يفيد هذا التفصيل، فليس فيه إشارة إلى ما يمكن الاتصاف به، وما لا يمكن، وما يحمد عليه، وما يذم، فهو عام شامل، وهو بهذا المعنى منحرف؛ لأنه يفضي إلى المماثلة في الكمّ؛ أي في عدد صفاته، وهو محال. قال تعالى: {ولم يكن له كفوا أحد}. [سورة الصمد]
رابعا: أن هذا المصطلح يفيد كذلك: أن في قدرة الإنسان تحصيل الصفات الإلهية نفسها، في كيفها، فيكون له نفس حدود كل صفة، كما هي لله تعالى، فتكون رحمته كرحمته، ووجوده كوجوده، وقدرته كقدرته..إلخ، وهذا المعنى فاسد، لبطلان المماثلة في الكيف؛ أي في كيفية وكنه صفاته، والله تعالى يقول: {هل تعلم له سميا}. [مريم 65]
* * *
فقد تبين: أن تفسيرهم التصوف بهذه الجملة فيها من المحذورات، ما يشوش عليها، ويفسد معانيها، ويمنع منها شرعا وعقلا.
فإذا رفضوا تلك المعاني، وقالوا: ما أردنا ذلك، وما قصدنا..
فمنهم الصادق في قوله، غير أن ذلك لا يصحح هذه الجملة (= أخلاق الله)؛ لأن الحكم لم يتجه إلى النيات والمقاصد، إنما إلى الجملة، والكلمة، والمصطلح نفسه، فإنه لا يحتمل التأويل الصحيح، والمحاذير لا تنفك عنه؛ كونها مرتبطة بالمصطلح نفسه، بمفرادته، وتراكيبه، سواء أرادها المتكلمون أم لا، ولا يمكن قلب المعنى إرضاء أو جبرا للخواطر، فهذا إفساد للكلام واللغة، والذوق. وتحوير وتبديل ممن لا يملك ذلك، ويؤول إلى عدم الثقة بالألفاظ.
وإذا كان ولا بد من فعل شيء، فلتعدّل هذه الجملة، بما ينفي عنها هذه المحذورات، فبدل أن يقال: "التخلق بأخلاق الله"، ليكن البديل:
- الدعاء بأسماء الله الحسنى. لقوله تعالى:{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. [الأعراف180]
- أو إحصاء أسماء الله. كما في قوله عليه الصلاة والسلام: (إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة)[9].
- أو التعبد بأسماء الله وصفاته. فالتعبد صفة العبد، ولله الأسماء والصفات، فلا محذور. [10]
فإذا أمكن الرجوع إلى هذه المصطلحات، وتفسير التصوف بها، والاستغناء عن ذلك المصطلح المبتدع في لفظه، المبتدع في معناه: حينئذ يكون خالصا سائغا. يبقى بعد ذلك تصديقه بتطبيقه على وجهه الصحيح.
أما مع الإصرار عليه، فإنه حينئذ يقال: هذا دليل على أن التصوف ليس من السنة في شيء.
ودليل آخر يضاف إلى ما سبق تحصيله، من نفي الصلة بين التصوف والزهد.
والحال: أن المتصوفة ما تركوا هذا المصطلح بهذا اللفظ المخترع (= التخلق بأخلاق الله)، وما غيروا منه شيئا، ولم ينقدوه، بل ساروا عليه، وتواطؤوا على قبوله ..؟!!.
والخلاصة: أنه لا اعتراض على تفسير التصوف بالخلق، كما حصل في تفسيره بالزهد، نعم هو خلق وتخلق، لكن بمعنى خاص، غير معروف، ولا مألوف بين الناس والعقلاء، يخرج حتى عن الحدّ الشرعي، وفي هذا الحال هو دليل لمن أنكر على التصوف.
* * *
قال القائل: أليس قد تواتر عن الأئمة: الجنيد، والتستري، والداراني..وغيرهم كثير، قولهم بوجوب التقيد بالشريعة؟.. أفلا يمكن تخصيص ذلك اللفظ العام (=التخلق بأخلاق الله) بهذا القيد الخاص، فيكون المعنى: التخلق بما يصح شرعا ؟.
والجواب: أن هذا يعتمد على التزام الصوفية بهذا القيد، وتطبيقه على المصطلح، فإن هم فعلوا فنعمّا ما فعلوه، وإن لم يفعلوا لم يفدهم هذا القيد بشيء. وهذا يُعرف فيما يأتي.
ثم أيضا: الواجب ضبط المصطلح نفسه، قبل كل شيء، حتى لا يحتاج إلى قيود أخرى. فما الذي يمنعهم من ذلك، وهو أمر في قدرتهم فعله، وليس من العسر في شيء ؟!.
لا شيء يمنعهم منه، فلسانهم لا يشكو عجمة، والغفلة عن هذا الضبط ممتنعة؛ فلا يصح أن يجتمعوا على نسيان ضبط مصطلح كهذا، ويتواطئوا على المعنى نفسه، دون أن يتنبه إلى ذلك ولو واحد، كيف يمكن أن يكون هذا سهوا، يجتمع عليه أقطاب التصوف ؟!.
الزنقب غير متصل  
قديم(ـة) 17-03-2014, 12:49 AM   #19
الزنقب
كاتب مميّز
 
تاريخ التسجيل: Jun 2007
المشاركات: 2,132
أ- معنى الأمل في اللغة:

الأمل في اللغة يعني الرجاء(1)؛ يقول صاحب مختار الصحاح: الأمل: الرجاء، يقال: أمّل خيره يأملُ بالضم أملاً بفتحتين، وأمّله أيضاً تأميلاً(1).

2- معنى الأمل في الاصطلاح:

بعد بيان معنى الأمل في اللغة لابد لنا من معرفة معنى الأمل في الاصطلاح، وهذا ما نعرض له كما يأتي:

عند النظر في معنى الأمل في الاصطلاح وجدت له المعاني الآتية:

أ- قال المناوي: الأمل: توقُّعُ حصول الشيء، وأكثر ما يستعمل فيما يُستبعد حصوله(2).

ب- وقال ابن الكمال: هو تَعلُّق القلب بحصولِ محبوبٍ مستقبلاً(3).

جـ- وقال الإمام الراغب: هو ظنّ يقتضي حصول ما فيه مَسرّة(4).

وبعد، فهذا ما وقفنا عليه من تعريفات للأمل عند أهل العلم، وعليه فيمكننا أن نعرف الأمل بقولنا: هو توقع حصول التمكين لهذه الأمة، والنصر لها على أعدائها، والجبر لكسرها، على الرغم مما أَلمَّ بها من ملمات وخطوب ومصائب أثقلت كاهلها، توقعاً أكيداً يزيد على الظن بمقدار زيادة اليقين في النفوس.

تنبيه:

وليعلم هنا أننا ما نريد بالأمل ذلك الأمل المذموم الذي حدث عنه ربنا فقالويلههم الأمل)(1) – الذي هو حبُّ الدنيا(2) والاغترار بشهواتها بما ينسي الآخرة وسعيها، وإنما نريد به هنا الشعلة التي يجب إيقادها في قلوب الناس بتوقع حصول الخير لهذه الأمة في قادمات الأيام بعون الله تعالى، بما يدفع الناسَ إلى حُسنِ يقينٍ بوعد الله تعالى لعباده المؤمنين، ومزيد تصديق لبشارات النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر لهذه الأمة، والإقالة لعثْرتها، والجبرِ لكسرها؛ ليزيد ذلك من حسن ظن الناس بربهم ودينهم، وليكون عند الناس مزيدُ تعالٍ على جراحاتهم الدامية، وأحزانهم المُتَّقدة، وضعفهم الذي يتراءى للناس في زمان أُثخنت فيه أمتنا بالجراح، وكثرت في جسدها الندوب، وتوالت عليها الخطوب، حتى أنها أفقدت الحليم حلمه، وصاحب التجربة تجربته، ذلك لأن هذه الشعلة لابد لها من إيقاد في النفوس، ومتابعة حتى لا تذوي وتموت، حتى لا تطفئها رياح اليأس، وأعاصير الإحباط التي استحكمت في قلوب الناس، فلم يعد للأمل وحديثه مقام عند الناس في مجالسهم، ولا في منتدياتهم، بل ولا في حديث النفس عند كثير منهم.

(2) حكم الأمل وشرعيته:

بعد بيان معنى الأمل الذي نريده، لابد لنا من ذكر حكم الأمل في دين الله تعالى بالمعنى الذي ذكرناه، وهذا ما نذكره كما يأتي:

الأمل بالمعنى –آنف الذكر- فرضٌ على كل مسلم، ووصفٌ لكل مؤمن، ولا يتم إيمانٌ إلا بتحقُّقِه، ولا تُقبل لنا طاعة إلا بوجوده.

أدلة فرضية الأمل:

نستدل على فرضية الأمل –بالمعنى الذي ذكرنا- بالأدلة الآتية:

أولاً – من كتاب الله عز وجل:

هناك أكثر من آية في هذا الباب تدل على المراد، نذكرها على النحو الآتي:

1- قول الله عز وجل على لسان نبيه يعقوب عليه الصلاة والسلامولا تايئسوا من روح الله إنه لا يايئس من روح الله إلا القوم الكافرون)(1).

وفي معنى هذه الآية نعرض شذرة من كلام المفسرين:

أ- قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى: "فيمتنع أن يكون للأنبياء يأسٌ من روح الله، وأن يقعوا في الاستيئاس، بل المؤمنون ما داموا مؤمنين لا ييأسوا من روح الله"(2).

ب- وقال الإمام النسفي رحمه الله تعالى: "لأن من آمن يعلم أنه مُتقلِّبٌ في رحمة الله ونعمته، وأما الكافر فلا يعرف رحمة الله ولا تقلُّبه في نعمته فييأس من رحمته"(3).

جـ- ويقول شيخ الإسم أبو زكريا الأنصاري رحمه الله تعالى: "إنما ييأس من روح الله الكافر لا المؤمن؛ عملاً بظاهر الآية، فكل من أَيِسَ من روح الله فهو كافر حتى يعود إلى الإيمان"(1).

د- ويقول العلامة البيضاوي في تفسيره: "فإن العارف المؤمن لا يقنط من رحمته في شيء من الأحوال"(2).

هـ- ويقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى: "وأمرهم أن لا ييأسوا من روح الله؛ أي: لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يَرُومونه ويقصدونه، فإنه لا يقطع الرجاء، ولا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون"(3).

و- ويقول الإمام ابن جُزَي الكلبي رحمه الله: "إنما جُعلَ اليأسُ من صفة الكافر لأن سببه تكذيب الربوبية أو جهلاً بصفات الله من قدرته وفضله ورحمته"(4).

وحول كون الآية تدل على وجوب الأمل أقول: مفهوم الآية ينهانا عن اليأس، ويجعله من صفات الكافرين، ومنطوق الآية: (مفهوم المخالفة يأمرنا بالأمل ويجعله من صفات المؤمنين).

وحول اتصاف المؤمنين بضد ما يتصف به الكافرون يحدثنا الأستاذ سيد قطب رحمه الله فيقول: "فأما المؤمنون الموصولةُ قلوبهم بالله، النَّديَّةُ أرواحهم بروحه، الشاعرون بنفحاته المُحْيية الرَّخيَّة، فإنهم لا ييأسون من روح الله، ولو أحاط بهم الكَرْب، واشتد بهم الضيق، وإن المؤمن لفي رَوْحٍ من ظلال إيمانه، وفي أُنسٍ من صلته بربه، وفي طمأنينة من ثقته بمولاه، وهو في مضائق الشدة ومخانق الكروب"(1).

وعن الاستنباط من الآية يحدثنا العلامة عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله تعالى- فيقول: "ودلّ هذا على أنه بحسب إيمان العبد يكون رجاؤه لرحمة الله وروحه"(2).

هذا ولا يفوتني أن أنبه هنا إلى أن اليأس من روح الله، والقنوط من رحمته قد عدّه كثير من أهل العلم كبيرة من الكبائر؛ وهذا صنيع القرطبي في تفسيره(1)، والذهبي في كتابه الكبائر(2)، والسيوطي في كتابه الإكليل(3)، وابن حجر الهيتمي في كتابه الزواجر(4).

2- قول الله تعالىومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون)(5).

قال العلامة الراغب: "والقنوط هو اليأس من الخير"(6).

وفي معنى هذه الآية يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى: "وبرزت معها الحقيقة الكلية أنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون، الضالون عن طريق الله الذين لا يستروحون روحه، ولا يحسون رحمته، ولا يستشعرون رأفته وبِرَّهُ ورعايته؛ فأما القلب النديُّ بالإيمان، المتصل بالرحمان، فلا ييأس ولا يقنط مهما أحاطت به الشدائد، ومهما ادلهمت حوله الخطوب، ومهما غام الجو وتَلبَّد، وغاب وجه الأمل في ظلام الحاضر، فإن رحمة الله قريب من قلوب المؤمنين المهتدين)(1).

3- قول الله تعالىيريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون)(2).

4- وقول الله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"(3).

وفي التعقيب على هذه الآية يقول الشيخ سعيد حوى، رحمه الله تعالى: "وفي الآية بشارة عظيمة لأهل الإسلام في عصرنا حيث يرون أن مراد دول الكفر وأممهم وأذنابهم في الداخل إطفاء نور الله، ولكن حين يتعارض مرادان: مراد الله ومراد خلقه، فإرادة الله هي النافذة، وإرادة الله إتمام نوره على رغم الكافرين، فالمستقبل إذاً لهذا الدين"(1).

ويقول الأستاذ سيد قطب، رحمه الله تعالى: "ولقد كانت تلك الآيات حافزاً للمؤمنين المخاطَبين بها على حمل الأمانة التي اختارهم الله لها بعد أن لم يَرْعَها اليهودُ والنصارى، وكانت تطميناً لقلوبهم، وهم ينفذون قدر الله في إظهار دينه الذي أراده ليظهر، وإنْ هم إلا أداة، وما تزال حافزاً ومُطَمئناً لقلوب المؤمنين الواثقين بوعد ربهم، وستظل تبعث في الأجيال القادمة مثل هذه المشاعر حتى يتحقق وعد الله مرة أخرى في واقع الحياة بإذن الله"(2).

ثانياً – من السنة:

وردت في كتب الحديث الشريف جملة من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبشر بنصر الإسلام، وامتداد ملك أهله، والتمكين لهم في الأرض، وهي بحمد الله كثيرة منتشرة في دواوين السنة المشرفة، نذكر هنا باقة منها:

1- عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله روى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإنّ أمتي سيبلغُ مُلكُها إلى ما زُويَ لي منها)(1)؛ زوي: أي جُمعَ(2).

2- عن تميم الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلملَيبلغنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدرٍ ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ، أو بذلِّ ذليل، عزاً يعزُّ الله به دينَ الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)(1).

3- عن المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوللا يبقى على الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله الإسلام بعز عزيز أو بذل ذليل)(2).

4- عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو ابن العاص، وسئل أي المدينتين تُفتح أول: القسطنطينية أو روميا؟ فدعا عبد الله بصندوق له حلق، قال: فأخرج منه كتاباً، قال: فقال عبد الله: بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أول: القسطنطينية أو روميا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مدينة هرقل تفتح أولاً، يعني قسطنطينية)(1).

5- عن أُبيَ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمبَشِّرْ هذه الأمة بالسناء والدين والرفعة، والتمكين في الأرض، فمن عملَ منهم عملَ الآخرة للدنيا، لم يكن له في الآخرة من نصيب)(2).

6- وعن أبي عبيدة ومعاذ بن جبل قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلمإنَّ أول دينكم نُبوةٌ ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثم يكون مُلْكاً عاضاً، فيكون فيكم ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعه الله جل جلاله، ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة تعملُ في الناس بسنةِ النبي، ويلقي الإسلام بجِرانهِ في الأرض يرضى عنها ساكنُ السماء وساكن الأرض، لا تَدعُ السماء من قَطْرٍ إلا صبَّته مِدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها وبركاتها شيئاً إلا أخرجته)(1).

7- وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلملا يزال هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابةٌ من المسلمين حتى تقومَ الساعة)(2).

وبعد، فهذه طائفة من الأحاديث المبشرة بنصر الإسلام والمسلمين؛ وفي التعقيب على هذه الأحاديث وأمثالها يقول الدكتور عبد الله عزام رحمه الله تعالى:

"هذه الأحاديث تُطمئن القلبَ أن هذا الدين سيعود لينقذ الإنسان المعذب، ليأخذ به من الهوة السحيقة إلى المرتقى السامق، سيطهره ويُريحه، ويقدم له إنسانيته التي فقدها، سيجد الإنسان أنه ولد من جديد، سيتذوق السعادة والطمأنينة ويشعر أنه مخلوق كريم إن شاء الله"(1).

ثالثاً – دلالة الواقع:

إن الأمم الجادة لا يمكن لها؛ بل ولا يجوز لها أن تيئس من تحقيق مطلوبها، على الرغم مما أصابها من مصائب ومحن وأزمات، فهذه كلها دافعة لها إلى أن تعمل للنصر، وتدفع أبناءها إليه. وما أخبار الأمم المستضعفة في هذه الأيام ببعيدة عن أسماع الناس؛ كما هو الحال في كمبوديا، وفيتنام –على كفر أهلها- إلا أنها حققت ما تريد بالرغم من قلة الإمكانات وقوة العدو؛ لكن الإرادة الصلبة لابد أن تنتصر، وأمتنا –بلا شك- أكثر رصيداً في الحياة، وأكبر إمكانات، وأنصع تاريخاً، وأكثر تجارب، ولهذا فهي مؤهلة لأن تعود جَذعةً فَتِيَّة يَهابها عدوها، ويحسب لها ألف حساب بعون الله عز وجل.

رابعاً – إفلاس المبادئ الأخرى:

لقد افلست المبادئ الأرضية وبان زيفها، وهذا مبشر من مبشرات الخير لهذه الأمة؛ فانحدرت الشيوعية إلى غير رجعة، وكفر بها أهلها، والعالم الرأسمالي يسير نحو الهاوية؛ فلم يبق إلا وَعْدُ الله ودينه الذي هو الدواء الناجع لعلل الناس أجمعين. ومن تبصر في هذا ونظر فيه، حرم عليه اليأس، ووجب عليه الأمل، وإلا فليس هو من هذه الأمة؛ يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها، ويحدوه حاديها. وبناء على ذلك: فلا يجوز لأحد أن يبقي لليأس في قلبه مكاناً، بل لابد له من ملء قلبه بالأمل الواعد بأن النصر لهذه الأمة ولدينها –على وفق شرط ربها سبحانه وتعالى- فهو القائلإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم)(1).

(3) أهمية الأمل:

وبعد ذِكرنا لأدلة فرضية الأمل لابد لنا من معرفة ما للأملِ من أهمية بالغة في حياة الناس، حتى يكون هذا دافعاً للأمل، ومُعرِّفاً به، وحاضاً عليه، وهذا ما نذكره بعون الله تعالى في النقاط الآتية:

1- الأمل مصدرُ تحريكٍ ودفعٍ للعمل، ذلك لأن العمل بحاجة إلى أداة دافعة محركة وهذه الأداة هي الأمل. وفي هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: "الأمل قوة دافعة تشرح الصدر للعمل، وتُقوِّي دواعي الكفاح من أجل الواجب، وتبعث النشاط في الروح والبدن، وتدفع الكسول إلى الجد، والمداوم إلى المداومة على جده والزيادة فيه"(1).

أقول: وإذا نظرتَ في واقع الحياة وجدت أن مَنْ فقدَ الأمل أصابه الخمول واليأس، وترك ما هو بصدده من العمل؛ بخلاف صاحب الأمل فهو مُجِدٌّ مِعطاء؛ فالمزارع مثلاً: لا يرمي بذوره في الأرض إلا وأملٌ كبير يملأ نفسه بأن هذه ستنبت بإذن الله تعالى؛ والطالب لا يدرس إلا وفي نفسه أن هذا سبيل النجاح؛ والمجاهد لا يجاهد إلا وفي نفسه أن الله سينصره. وإذا مات الأمل في نفس المرء أصابها الذبول وآثرتِ السكونَ على الحركة وفي هذا فتكٌ بها، وإفسادٌ لطاقاتها.

2- الأمل يعني التفاؤل والبِشْر في النفوس؛ ذلك لأن الآملَ متفائلٌ بما يلقاه في الحياة، مستبشر بأيامه القادمات يحمل ما يراه على المحمل الحسن، وهذا يؤدي به إلى مزيد عطاء، وانطلاقة خير. أما اليأس فهو عنوان التشاؤم الذي يؤدي إلى توقف العطاء وانعدام الخير والنظرة السلبية إلى الحياة ومجرياتها، وهذا –بلا شك- يُفوِّتُ على صاحبه الخيرَ الكثير والأجر العميم.

3- الأمل عنوان الإيجابية في الحياة؛ ذلك لأن صاحب الأمل مشرق النفس عالي الهمة، مُقتنصٌ للفرص؛ لا يدعُ فرصة مواتية للبذل والعطاء إلا اغتنمها وسارع إليها. بعكس صاحب اليأس الذي أظلمت نفسه وخَبتْ فيها نزعة الخير؛ ولذا فكم من فرصةٍ سانحة أضاع، وكم من عمل بَنَّاء توانى عنه، وكم من مجد نَكَصَ عنه، ولذا فللناظر أن يقارن بين الحالين، وليخترْ أحدَ الوصفين؛ وكلُّ امرئ حسيب نفسه.

4- الأمل عنوان التجدد والتغيير؛ فإذا نظرنا إلى صاحب الأمل وجدنا نفسه متوثبةً إلى كل جديد، ساعيةً إلى كل تغيير يعود بالنفع على المرء وما حوله؛ فهي نفس مشرقة مُحلِّقة لا تستقر في مكان، ولا تقف عند عقبة، تبحث عن التغيير لواقع صاحبها في كل مكان؛ فالتائب مثلاً: مغيرٌ لحاله، مجددٌ لواقعه، محرك لهمته، مُتلافٍ لتقصيره في السابق؛ وكذا كلُّ عامل في الحياة يَحدوهُ الأمل ويحدوه الرجاء.

وإذا نظرنا إلى فاقد الأمل؛ أعني صاحب اليأس؛ فإننا نجد نفسه جامدة لا تقبل تغييراً ولا تطلب تجديداً، ولا تبحث عن دافع مُحرِّكٍ يحركها من مقامها التي هي فيه؛ فاليائس من رحمة ربه لا يُقبل بنفسه على التوبة، لأنه قد أُشربَ اليأسَ وقطع مسارب الأمل من نفسه؛ وكذا كلُّ متخلفٍ عن أي عمل دنيوي أو أخروي بسبب يأسه، تجده لا يغير نفسه، ولا يجدد قلبه ولا يعمل على تحريك ساكن حوله؛ فهو ميتٌ في ثوب حي.

5- الأمل عنوان القوة، واليأس عنوان العجز والضعف. والمسلم مامور بعدم العجز؛ فالمؤمن القوي خير وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1)

والأمل ينافي العجز ويضاده، وصاحبه ممتثل لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، واليأسُ دافعه العجز، ولُحمْته وسداه الضعفُ، والله عز وجل يحب المؤمن القوي. وصاحب الأمل قويٌ في حياته وفكره، وفي نظرته إلى الحياة؛ ذلك لأن الأمل دافع للحركة، باعث عليها، والحركة والعمل عنوان القوة. فالقوي هو الذي يتحرك ويحرك، والضعيف هو الذي لا يتحرك ولا يعمل على تحريك غيره، وكلٌ أعمال الدنيا والآخرة تحتاج إلى تَوجُّه النفس لفعلها والإقدام عليها، ولا يكون ذلك إلا لنفسٍ يملؤها الأملُ ويحدوها الرجاء، وتملؤها القوة النابضة التي تعمل في معترك الحياة ولا تقبل بالسكون، ولا تستصعب شيئاً.

6- الأمل مصدر تَوثُّب النفس وتحليقها، وبما أن صاحب الأمل قويٌ متحرك وصاحب إرادة دفَّاعة فهو لا يرى لنفسه مكاناً يقرّ فيه، ولا يقبل المكث في مكان ما إلا لينطلق منه إلى ما سواه، تحدوه المعالي ويتراءى له العطاء، فهو باحث عن رفعة نفسه، وسَدادِ مسيره، وكثرة عطائه، وتغيير واقعه إلى الأفضل، مطلوبهُ العُلُوُّ، ونفسه توّاقة؛ كما قال الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: "إنَّ لي نفساً تواقة"(1).

هذه حال صاحب الأمل، وأما صاحب اليأس فمتأخر عن أقرانه، في نفسه عُزوفٌ عن كل مَكْرُمة، راضٍ بما هو فيه –وإن كان الدُّون- غير مُبارحٍ لمكانه، مُحجِمٌ عند الإقدام، صامتٌ عند الكلام، ضعيف الهمة عند مقارعة الخطوب، مُتبرِّمٌ عند اشتداد الكروب، لا توثبَ في همته ولا تحليق في نفسه. وعلى العاقل أن يختار أعلى الهمتين، وأحسنَ الوصفين، وإلا كان حالهُ كحالِ هذه الأمة الآن، وقد استشرى فيها اليأس، وغاب عنها الأمل، فسكنت وما حركت ساكناً، ولا سرّت صديقاً ولا أوغرت صدرَ عدو، ولا تقدمت في مكرمة؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ولكأن لسان حالها يدندن بتلكم المقولة البائسة: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) والله المستعان.

7- الأمل مصدر الأمن والسكينة عند المؤمن؛ فإذا نظرتَ إلى المسلم وجدته صاحب سكينة وأمن، وإذا بحثت عن سبب ذلك وجدته الأمل الذي يملأ نفسه وقلبه. وفي هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي حفظه الله: "ومن مصادر الأمن والسكينة لدى المؤمن ما يغمر جوانحه من أمل، ذلك الشعاع الذي يلوح للإنسان في دياجير الحياة فيضيء له الظلمات، وينير له المعالم، ويهديه السبيل، ذلك هو الأمل الذي به تنمو شجرة الحياة ويرتفع صرح العمران، ويذوق المرء طعم السعادة"(1).

أقول: صاحب الأمل قوي لا يخاف، لأنه يرى أن ما حوله يتغير؛ ولا يبقى على ما هو عليه إلا الله، ولذا لِمَ يخافُ ويهلع؟ ولم يسكن ويضعف؟ طالما أن أمله الكبير بوعد الله أولاً –ثم بتغيير الواقع ثانياً- يملأ قلبه وينير طريقه ويطمئن نفسه ويسكن مضجعه. وهذا بخلاف اليائس الذي أعوزه الأمن وهربت منه السكينة، وأظلمت نفسه لغياب شعلة الأمل منه: فتوجَّسَ من كل ما حوله، وخاف حتى من النَّسمات، ووجَلَ حتى من البسمات، وهكذا.

وبعد، فهذه كلمات أحسبُ أني قد كشفت بها عما للأمل من أهمية في حياة الناس الخاصة والعامة – أفراداً وجماعات، أمماً ومجتمعات، صغاراً وكباراً – بما يدفع إلى مزيد من أملٍ واعد بالخير، يذكر النفوس بوعد الله تعالى لهذه الأمة بالنصر والتمكين، لتعلو وتكون في مَصافِّ غيرها من أقرانها؛ فلا تتأخر عند السبق، ولا تُحجم عند الإقدام، ولا تَكْبُو عند النزال، ولا تنبو عند النضال. وعلّ في هذا ما يرشد إلى مزيد إطفاءٍ لنار اليأس المشتعلة في القلوب؛ تلك النار التي أحرقت كل عزيمة، وأورثت كل ضعف، وأَزْرتْ بكل كريم، وفَوَّتت كل مطلوب، وتَخلَّفت بصاحبِ النخوة عن مراده؛ والله المستعان.

(4) حديث القرآن عن الأمل:

لابد لمن يُحدِّثُ الناسَ عن الأمل وأهميته في الحياة من استجلاء حديث القرآن الكريم عنه؛ ذلك لأن القرآن الكريم معينُ الأمل ومصدره، فهو المذكِّرُ بوعد الله ووعيده –ترغيباً وترهيباً- وهو المربي للنفوس لتعلو على همومها وآلامها، وبناء على ذلك فقد حاولت تجلية هذا المقام، فظهر لي أن القرآن الكريم قد طرق موضوع الأمل بعرض الأمور الآتية:

1- المواءمة بين الترغيب والترهيب:

إذا نظرت في كتاب الله تعالى وجدت أن فحوى نصوص القرآن، إما ترغيب في مطلوب عظيم هو الجنة، أو ترهيب من أمر عظيم هو جهنم أعاذنا الله منها، وهذا في حد ذاته حديث عن الأمل، ذلك من أمّلَ في الجنة وعملَ بعملها، فقد يئس من النار وهرب منها، وترك عملها. وكذا من يئس من الجنة وعملها، فقد أمل في النار وعمل بعملها، ولولا أن المرء يأمل في جنة الله تعالى ويخشى ناره سبحانه وتعالى ما أقدم أحد على عبادة، ولا عَمِلَ عَمَلَ خير. ولذا لو تفكرتَ في نفسك لوجدتَ أن أمل النجاة من السوء كالنار وغيرها –يَحدُوكَ في كل قُربةٍ ويدفعك إلى كل خير، ووجدت أن أمل الظفر بخير مطلوب في الفوز بالجنة والقبول مع أهلها، والخلود معهم- يدفعك أيضاً إلى كل خير ويحدوك إلى كل فضل. ولذا، فإن الناظر في كتاب الله تعالى يرى المراوحة بين الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب، والجنة والنار، ليبقى عند الإنسان حسُّ الأمل المُرهف، فكلما خاف النار أمّل الجنة وسأل الله دخولها.

2- التعالي على الأحداث:

من يتدبر القرآن يرى أنه يعمدُ إلى تربية المسلم على التعالي على الأحداث والخطوب والملمّات والمصائب والمصاعب الشديدة الجسيمة التي أصابته وأثقلت كاهله وأفسدت هِمَّته. انظر إلى قول الله عز وجلولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس)(1) ترَ أن الآية تُلطِّفُ على المسلمين مُصابهم وتدفعهم إلى الأمل، وتنهاهم عن الحزن والاستكانة، وتعد هذه من تربية القرآن للأمة بالحدث. يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "وفي خلال استعراض تلك السنن تحفل الآيات بالتشجيع على الاحتمال، والمواساة في الشدة، والتأسية على القرح الذي لم يُصِبهم وحدَهم، إنما أصاب أعداءهم كذلك، وهم أعلى من أعدائهم عقيدة وهدفاً، وأهدى منهم طريقاً ومنهجاً، والعاقبةُ بَعْدُ لهم، والدائرةُ على الكافرين"(2).

وهكذا يقال في كل موقف أراد فيه القرآن رفعَ الناس من واقع اليأس والضعف والخور، إلى واقع الأمل والقوة، فأنت ترى تربية القرآن للأمة على الحدث؛ لتعلو على الآلام والجراح ولترتفع على الضعف والخور، ولذا، فمن نظر إلى الآيات التي نزلت عقيب المعارك التي أصاب المسلمين فيها شدة، أمثال غزوة الأحزاب، وغزوة حنين، وغزوة تبوك؛ عرف منهج القرآن في رفع الأمة على جراحها وآلامها، لتعود قوية فتية وكأنَّ الحدثَ ما أثَّر فيها، وكأن الخطوب ما أصابتها بشيء.

3- معالجة الضعف البشري:

ابن آدم خَلقٌ ضعيف يقع في ما مُنع منه، ولكنه يعود فيتوب، وقد تعامل القرآن الكريم مع الإنسان وفق هذه الخلفية؛ فهو يريد أن يرفع الإنسان من ضعفه الذي هو فيه، وخطيئته التي وقع فيها، ليبثَّ في نفسه الأمل في قبول الله تعالى له بعد أن تاب، ورجع إليه وأناب، ولا يريد له أن يلقي اليأسُ بجرانه في نفسه، فيمنعه من تغيير ما هو عليه من الضعف، وتلافي ما وقع فيه من قصور ونقص. وفي هذا المعنى يقول الأستاذ محمد شديد: "ومنهج القرآن إزاء الضعف البشري منهج الرحمة والعفو والتربية، فلا يُجَّردُ من الإيمان، ولا يُطرد من الجماعة لمعصية ما دام صاحبها قد اعتراه الضعف، وهو في طريقه إلى الله يجاهد نفسه، ويصبرها على الطريق، فإذا عصى ذكر الله وندم وفاء، وعاد إليه تائباً منيباً"(1).

وفي التعقيب على قول الله عز وجلولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون)(2).

يقول الأستاذ محمد شديد: "وكذلك عامل القرآن مَنْ عصى أو ولّى الأدبار في أحد، فقد علم الله منهم صدقَ نياتهم، فرحم ضعفهم، وقبل توبتهم، ومنّ عليهم بعفوه ومغفرته"(3). ويقول أيضاً: "وفعلَ هذا الأسلوب التربوي في أنفس المؤمنين ما لا تفعله محاكمة ولا عقاب، فما إن عاد الرسول صلى الله عليه وسلم بالجيش إلى المدينة حتى أمر بالخروج لتعقُّبِ جيش المشركين حتى لا يفكروا في العودة، ومهاجمة المدينة، وأطاع المؤمنون الأمر، وخرجوا إلى القتال لم يتخلف منهم أحد، ولَمَّا يمضِ في المدينة بعد عودتهم من أُحد سوى ليلة، وما منهم إلا جريح تُقعده جراحاته عن السير والقتال، ولكنهم حملوا على أنفسهم طاعةً لله ورسوله في قوة استحقت ثناء القرآن"(1).

هذا وصفٌ موجز لوصف حديث القرآن عن الأمل، وتربيته للمؤمنين عليه، وبهذا نصل إلى تأصيل فكرة الأمل على هدي القرآن الكريم وفي أفيائه، ونضع القلم هنا لننتقل إلى مبحث آخر من هذا الكتاب بعون الله تعالى.

الفصل الثاني:

نماذج تطبيقية من السنة في بعث الأمل

تزخر السنة المشرفة بالنماذج التطبيقية التي تعمل على ترسيخ قاعدة الأمل في النفوس، وحمل الناس عليها، وسنضرب أمثلة ونماذج على هذا المقام من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها، ما يأتي:

1- يمرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بآل ياسر، وهم يعذبون بمكة من قبل كفار قريش، فيطلقها كلمة خالدة: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)(1).

ولم تكن هذه الكلمة إلا بذرة أمل آتت أُكُلها وثمارها وأورقت، فكان من ثمارها استشهاد سمية أم عمار، وياسر أبي عمار، في سبيل الله عز وجل. وابنهما عمار بن ياسر رجلٌ مصابر مجاهد حتى يلقى ربه سبحانه وتعالى. أرأيت كيف أثمر الأمل وأورق؟ هذا في نطاق تلك الأسرة. ولاشك أن هذه الكلمة لها الأثر الكبير في كل نفس معذبة مستضعفة، فترتفع بها على آلامها، وتعلو بها على ضعفها، وتمسح جراحها، وتطمئن نفسها.

2- يأتي خباب بن الأرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسِّدٌ بُرده عند الكعبة، ليشكو له ما فعله المشركون بالمسلمين، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل قبلكم كان يُمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب، ويُنشر بالمنشار فرقتين ما يَصرفُه ذلك عن دينه، والذي نفسي بيده لَيُظهرنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)(1).

رجلٌ مجلودُ الظهر، كثير الهمِّ يأتي قائده صلى الله عليه وسلم ليدعو له، فيوقد النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه شعلة الأمل؛

فأولاً: ما أصابكم من أذى وعذاب أقلُّ مما أصاب مَنْ قبلَكم من المؤمنين، وقد صبروا هم، فلتصبروا أنتم؛

وثانياً: سَيُظهر الله هذا الدين، وتَدينُ به العباد، وتُفتح به البلاد حتى يبلغ الأراضي الوعرة في أقصى جزيرة العرب، التي لا يأمنُ فيها المرء على نفسه، ولا على غنمه من قاطع طريق أو غيره، حتى يسودها الأمن، فيأمن المرء على نفسه وغنمه من بني آدم، فهي يومئذ أرض إسلام، فلا سلبَ فيها ولا قطعَ للطريق، ولا إخافة. وحتى يهز في نفسه استباق الثمرة، قال له: (ولكنكم تستعجلون)؛ إذ لابد لمرحلة الرخاء من مقدمات شدة، ولابد لطلوع الفجر من ظلام يحفُّ به، ولابد للنصر من تَبعات؛ جلدُ الظهور، وسفك الدماء، وترك المطعم الهنيء، وهكذا.

ولا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحابته استعجال الثمار، فإن أخطر ما يواجه العامل أن يستعجل ثمرة عمله فيفسد هذا العمل بهذا الاستعجال، ولا يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تصدى لرد الشاردين إلى الله أن يستعجل الثمار، فإن هذا مفسدٌ للأعمال، مُذهبٌ للنتائج، موغرٌ للصدور، صادٌّ عن سبيل الله. ولعل ما يصيب المسلمين في هذه الأيام نابع في كثير من حيثياته من استعجال الثمار، ولنتذكر هنا مقولة الفقهاء: "مَنْ تعجَّلَ شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه".

إذاً: أراد النبي صلى الله عليه وسلم زرعَ الأمل في نفس خباب أولاً، والأمة ثانياً؛ لكنه يريد الأمل الواثق وَئِيدَ الخطى، ولا يريد الأمل الذي تُستعجل به الثمار، وتفسد به الجهود.

3- وفي مسيرة الهجرة إلى المدينة يدرك سراقة بن مالك النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق، حتى يقترب من الركب، فيحميهما الله منه، وتسيخ قدما فرسه في الرمال ثلاثاً، فيعاهدهم بعدها بالرجوع إلى مكة، وعدم إفشاء أمر سلوكهما لهذا الطريق، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارجع ولك سوارا كسرى)(1).

وهذه بذرة أمل أخرى يغرسها رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُعلم من طارده، ومن رافقه في مسيره معنى الأمل –حتى في أحلك الظروف وأشدها وقعاً على الإنسان- فهل رأيتَ رجلاً طريداً مطلوباً لعدوه، وقد كان بين إمساكه وأسره قاب قوسين، ثم نجاه الله من عدوه، ثم يَعِدُ عدوه بأخص خصائص ثاني رجل مهم في عالم السياسة والحكم في تلك الأيام، الرجل الذي تخافه الناس، يعدُ سراقةَ بسواريه؛ إنه الأمل بوعد الله الذي يملأ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى في مثل هذه الأوقات الحرجة.

وفي التعقيب على هذا الموقف يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله: "والله وحده يعلم ما هي الخواطر التي دارت في رأس سراقة حول هذا العرض العجيب من ذلك المُطاردِ الوحيد إلا من صاحبه الذي لا يغني شيئاً عنه، والمهاجر سراً معه. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عارفاً بالحق الذي معه معرفته بالباطل الذي عليه الجاهلية في الأرض كلها يومذاك، وكان واثقاً من أن هذا الحق لابد أن ينتصر على هذا الباطل، وأنه لا يمكن أن يوجد الحق في صورته هذه، وأن يوجد الباطل في صورته هذه، ثم لا يكون ما يكون. كانت الشجرة القديمة قد تآكلت جذورها كلها بحيث لا يصلها ريٌّ ولا سماد، كانت قد خبثت بحيث يتحتم أن تُجتثَّ، وكانت البذرة الطيبة في يده هي المعبأة للغرس والنماء، وكان واثقاً من هذا كله –ثقة اليقين- نحن اليوم في هذا الموقف بكل ملابساته وكل سماته –مع الجاهلية كلها من حولنا- فلا يجوز من ثم أن ينقصنا اليقين في العاقبة المحتومة، العاقبة التي يشير إليها كل من حولنا على الرغم من جميع المظاهر الخادعة التي تحيط بنا"(1).

4- وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: (ضربتُ في ناحية من الخندق، فغلُظتْ عليّ صخرة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قريبٌ مني، فلما رآني أضرب ورأى شدة المكان عليّ نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقةٌ، قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى، قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما هذا الذي رأيت لمع تحت المعول وأنت تضرب؟ قال: أَوَ قد رأيتَ ذلك يا سلمان؟ قلت: نعم. قال: أما الأولى فإن الله فتح عليّ بها اليمن، وأما الثانية فإن الله فتح عليّ بها الشام والمغرب، وأما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق)(1).

وهذه أيضاً غَرسة~ٌ أخرى من غِراس الأمل يزرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمان شدة وحصار، وتكالب خُطوب، وتجمعِ أعداء، وظهورِ نفاق، يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البشارة العظيمة التي يتراءى الأمل المشرق من جنباتها، بالفتح الذي سيُفتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بفتح اليمن والشام والمغرب والمشرق، على الرغم مما ألمَّ بالناس في تلك الأيام من شدة وبلاء. وفي التعقيب على هذا الخبر يقول الدكتور القرضاوي: "في هذه الساعات الرهيبة التي يذوي فيها عود الأمل ويخبو شعاع الرجاء، ولا يفكر المرء إلا في الخلاص والنجاة؛ في هذه اللحظات، والنبي يُسهم مع أصحابه في حفر الخندق حول المدينة – يصدون بحفره الغزاة، ويعوقون الطامعين العتاة – يحدِّثُ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عن الغد المأمول، والمستقبل المرجو، حين يفتح الله عليهم بلاد كسرى بفارس، وبلاد قيصر بالشام، وبلاد اليمن بالجزيرة؛ حديث الواثق المطمئن الذي أثار أرباب النفاق فقالوا في ضيق وحنق: إن محمداً يَعِدُنا كنوزَ كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن إلى الخلاء وحده"(1). ويقول أيضاً: "ماذا تسمي هذا الشعاع الذي يبزغ في دياجير الأحداث من القلوب الكبيرة فينير الطريق، ويبدد الظلام، إنه الأمل؛ وإن شئت فهو الإيمان بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم"(1).

نعم يريد لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعلو على الأحداث وأن لا نلتفت إلى الجراح، وأن لا نستكين عند الشدائد، بل ننظر إلى الغد المشرق المملوء بالأمل الذي يملأ القلوب، وينير النفوس عند إيقانها بوعدِ الله بالفتح على عباده؛ بفتح بلاد فارس والروم واليمن. وفي هذا دعوة لأمة المسلمين في هذه الأيام أن لا تستكين بسبب ما أصابها من خُطوب، وما وقع عليها من مصائب، وما يحاك لها من مكائد، بل تستعين الله عز وجل، وتتعالى على واقعها المرير، وتستشعر الأمل، وتسعى إليه.

5- وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: (كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله لو أنَّ أحدهم رفع قدمه رآنا، قال: ما ظنُّك باثنين اللهُ ثالثهما)(2).

وهذه أيضاً غرسة أخرى من غراس الأمل يزرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤتي ثمارها في حياة الأمة، ذلك لأن المرء قد ينسى بدهيات نفسه عند اشتداد الأمور، وحصول الأزمات. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس كذلك؛ فقد آمن بالنجاة من قريش حتى ولو كانت على باب الغار؛ حتى لو أحاطت به إحاطةَ السوار بالمعصم، وآمن بقيام أمر هذا الدين وتمامه؛ حتى ولو كان في مثل تلكم الحال الشديدة التي تُنسي صاحبَ الرأي رأيه وصوابه؛ لكنه الأملُ يزرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفس صاحبه ورفيقه أبي بكر الصديق أولاً، وفي نفوس المسلمين من أهل زمانه ثانياً، وفي نفس كل مؤمن ضاقت به نفسه، وتَلبَّدتْ في عينيه غيوم اليأس، ورأى تكالب الأعداء، وكثرة الخطوب، وضعف الحال ثالثاً.

6- وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك يا معاذ –إنْ طالت بك حياة- أن ترى ما ها هنا قد ملئ جِناناً)(1).

وهذه أيضاً غرسة أخرى من غراس الأمل التي زرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفوس أصحابه، فالصحراء قاحلة، والحر شديد، والجوع قد ضرب أطنابه في الناس، والمسير طويل، والماء شحيح، وقد أجرى الله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة ظاهرة في نبع الماء، وقد وعدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بأن هذه المنطقة ستصبح جناتٍ في يوم من الأيام، على الرغم من أن معطيات الواقع تشهد بغير ذلك؛ فماذا يريد النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؟ إنه يريد تعليم الأمة الأملَ المشرق الذي تُخفيه غيومُ الواقع المتلبدة. ولو قُدِّرَ لمعاذ وإخوانه من الصحابة أن يروا مصداق الحديث في زماننا هذا لكان لمعنى الأمل في نفوسهم أثر جديد فوق ما كان فيها، فالأرض البور في زمانهم تصبح الآن خضراء فيها الزرع الكثير؛ فكلما نبت فيها نبتٌ وأورقَ، نبتَ في نفوسنا نبتٌ وأورقَ، وهكذا.

7- وعن عائشة –زوج النبي صلى الله عليه وسلم- أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشدَّ من يوم أُحد؟ قال: لقد لقيتُ من قومك، وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يُجِبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلَّتني، فنظرتُ، فإذا فيها جبرائيل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قولَ قومك لك وما ردُّوا عليك، وقد بعثَ إليكَ ملكَ الجبال لتأمر بما شئتَ فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك؛ فيما شئت، إنْ شئت أن أُطبقَ عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو الله أن يُخرجَ من أصلابهم مَنْ يعبدُ الله وحده لا يشرك به شيئاً)(1).

أقول: وهذه –أيضاً- غرسة أخرى من غراس الأمل التي زرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتؤتي ثمارها في واقع الأمة، فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم نزعةَ واقعهِ، وشدة ألمه، وصدمة الرد السيئ من هؤلاء، والتي جعلته يهيم على وجهه، وأمّل من الله أن يخرج من أصلاب هؤلاء من يوحِّد الله؛ وبالفعل، ما إنْ مضت سنوات قلائل حتى أخرج الله تعالى من أصلاب هؤلاء الصناديد رجالاً صادقين مؤمنين موحدين يحملون تَبِعةَ الرسالة، ويتحملون في سبيلها الشدائد.

وهذا درس لكل داعية أن لا يقنط من رد الناس له وتجهمهم في وجهه، بل لابد أن يرافقه الأمل في مسيره هذا وإلا فلن يكتب لدعوته النجاح، ولن تؤتي هذه الدعوة ثمارها. وفي الحديث عن عبرة الأمل يقول الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين: "وانظر إلى أمل النبي صلى الله عليه وسلم الكبير، ونظره البعيد في أشد يوم وجده من قومه، وذلك يوم رجوعه عن الطائف حين دعاهم إلى الله تعالى فردوا دعوته، وأغروا به سفهاءهم، فلما بلغ قرن الثعالب، ناداه جبريل فقال: إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فناداني ملك الجبال، فسلم عليّ ثم قال: يا محمد ذلك فيما شئت، إن شئت أن أُطبقَ عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً"(1).

وبعد، فهذه نماذج من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بث الأمل في النفوس، وزرعه في القلوب. وقد ذكرناها لتكون لنا نبراساً في حياتنا ومصباحاً يضيء لنا طريقنا، بما يعين على مزيد اقتداء به صلى الله عليه وسلم في هذا الباب المهجور، غفلةً منا عن هدي نبينا صلى الله عليه وسلم، وجهلاً منا بأحكام ديننا، وضعفاً منا عند مواجهة النكبات والخطوب، علَّ في هذا ما يدفعنا إلى مزيد أمل مشرق بوعد الله عز وجل، بالتمكين لهذه الأمة، والجبر لكسرها، ولمّ شعثها، وإقالتها من عثرتها؛ إنه على ما يشاء قدير.

الفصل الثالث:

مجالات الأمل وأثره وعوامله

(1) مجالات الأمل:

تعددت المجالات التي يدخل فيها الأمل، ويطلب تحققه فيها، حتى شملت حياة الإنسان بكل مناحيها. ولابد لمن يحدِّثُ الناسَ عن الأمل من وصف مجالاته التي يدخل فيها، وذلك حتى يُوسِّع نظرةَ الناس إليه، ويحدّث الحديث الواقعي عنه، ليكون هذا مفتاحاً لهم إلى قلوبهم ورسولاً إلى نفوسهم. ولذا، فعند النظر نجد أن المجالات التي يدخلها الأمل كثيرة متعددة نذكر من أهمها ما يأتي:

1- الدعوة إلى الله:

لابدّ للداعية إلى الله عز وجل من نفحة أمل تملأ قلبه، وتنير له طريقه. ولولا بصيص الأمل هذا ما كان له أن يمضي في دعوته هذه، بل ربما نكس رأسه، وداخله من اليأس شيء كثير، ولكن مقام الدعوة لا يَجمُلُ فيه سوى الأمل، ولا يصحُّ فيه اليأس والقنوط، فلا بد أولاً من أمل في نفس الداعية، ولا بد للداعية نفسه من بث الأمل في النفوس لتعود فتيّة تكبر على آلامها وذنوبها وتقصيرها لتعود إلى الله تعالى، وحول وصف الداعية بالأمل، وتوظيفه له في دعوته. يحدثنا الدكتور محمد أبو فارس فيقول: "وكما أن الداعية لا ييأس، والأمل لا يفارقه لحظة واحدة في النصر، فإنه يجب أن يبث الأمل في نفوس الناس، ويدعم ذلك بالشواهد العملية والحجج المقنعة، وعليه أن يحارب اليأس والقنوط في النفوس، وينزعهما من القلوب، فالنصر قريب من المؤمنين وآتٍ لا محالة"(1).

وعن ضرورة الأمل في الدعوة، واقترانه بالصبر، يحدثنا الدكتور محمد الصباغ فيقول: "والصبر إذا اقترن بالأمل عصمةٌ للداعية عن الانقطاع، ويقوده إلى أن يقوى على تحقيق كثير مما يريد"(1).

ويقول الشيخ ابن عثيمين: "فإن الأمل دافع قوي للمضي في الدعوة، والسعي في إنجاحها، كما أن اليأس سبب للفشل والتأخر في الدعوة، ولهذا نجد الله سبحانه يفتح لنبيه صلى الله عليه وسلم أبواباً كثيرة من الأمل"(2).

أقول: ولا أُبعد بك كثيراً؛ فما الدعوة إلا إيقادٌ لشعلة الأمل في نفس عاصٍ مذنب ليتوب من ذنبه، فيصلح حاله، ويعود إلى ربه؛ وفي نفس مقصر يائسٍ ليتوب من تقصيره، ويعود ليقوم بما قصر فيه، ويحمل الدعوة مع إخوانه؛ وفي نفس كسير القلب، مهيض الجناح، ضعيف الهمة –من واقعه الذي هو فيه- ليعود فتيَّ النفس، قوي القلب، مشحوذ العزيمة، مندفع الهمة، مقدماً على نشر الخير والأمل في حياة الناس الخاصة والعامة في شتى جوانبها، مرتفعاً عن القصور الذي نتج من تعلق نظره بواقعه القائم الذي لا يسر صديقاً، ولا يُوغِرُ صدرَ عدو. أليست الدعوة في لحمتها وسداها إلا بثاً للأمل من جديد في نفوس المدعوين؟.

2- التوبة من الذنوب:

ذلك لأن المذنب إذا نظر إلى كثرة ذنوبه يَئسَ وقنط، وظنّ أنّ الله لن يتوب عليه، فإذا أمّل في رحمة الله، وطلب عفوه. خرج من طوق الذنوب، وأُسار اليأس الذي هو فيه، فانطلق قلبه متوجهاً إلى ربه، ولسانه تائباً من ذنبه. وإذا نظرت إلى التوبة وجدتها بصيصَ الأمل والرجاء في عفو الله وتجاوزه عن ذنوب عبده العاصي؛ فهي استنقاذ له من بحر الشهوات والمعاصي إلى بر الأمان باستحقاق تجاوز الله عن ذنب العبد، وإذا نظرت إلى إصرار العاصي على معاصيه وجدته عائداً إلى حالة اليأس من رحمة الله التي هو فيها، فقد ظنّ أن الله لن يغفر له؛ ومن الذي أخبره بذلك؟ ألم يعلم أن التوبة مفتوح بابها في حياة المرء ما لم يُغرغر، وفي حياة الناس ما لم تطلع الشمس من مغربها؟ ألم يعلم بأن الله تعالى يفرح بتوبة عبده، وأنه تعالى يبسطُ يدهُ بالليلِ ليتوبَ مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل؟ وأنه أرحم بعباده من الأم بطفلها؟ وأنه قد تاب على من هو أعتى وأكثر ذنوباً من صاحبنا ذاك؟ فَلِمَ القنوط واليأس؛ ما دام أمر التوبة بهذه الدرجة من السهولة واليسر؟.

3- الإبداع والتعلم:

لابد أن يُغرسَ الأملُ في نفس التلميذ والدارس والمبدع، لأنه هو المحرك له نحو العطاء، والدافع له نحو العمل. وإذا تخلف في نفسه لم يجد همة تدفعه إلى الدرس والبحث، وفقد جدّه ونشاطه، وأظلمت الدنيا في عينيه، وظنّ أنه لن يفلح في دراسته، ولن يحصل فيها شيئاً، وعندها؛ فلن تكون عنده القابلية للدرس والتحصيل، فتنطوي نفسه حزينة، ويتأخر عن أقرانه، وقد يفوته القطار في التحصيل؛ وكل هذا بسبب اليأس والقنوط. وفي هذا المعنى يحدثنا الدكتور يوسف القرضاوي فيقول: "مصداق هذا الكلام في الحياة جليّ واضح؛ فإذا يئس التلميذ من النجاح نَفرَ من الكتاب والقلم، وضاق بالمدرسة والبيت، ولم يعد ينفعه درس خاص يتلقاه، أو نُصح يُسدى إليه، أو تهيئة المكان والجو المناسب لاستذكاره، أو أو... إلى أن يعود الأمل إليه".(1)

ولذا؛ فإن وظيفة المربين تحتم عليهم بث الأمل في نفوس طلبة العلم على مستوياتهم كافة، فكما أن التلميذ الصغير يخفق إذا أصابه اليأس، فإنك تجد العالم المبدع يُخفق كذلك إذا لم يجد التشجيع والأمل، وداخلَ اليأسُ قلبه، فكم من مبدع قد أحبطه أهله وأقرب الناس إليه؟ وكم من عالم قد أزْرى به ذووه، فانطفأت شعلةُ جده واجتهاده، وظنّ أنه لن يصنع شيئاً. وهل أُتينا في البحث والاختراع إلا من هذا الباب؟ فألقي في نفوسنا أن الغرب هو المبدع والمخترع والصانع، وأننا قوم بُلْهٌ لا نعرف شيئاً، مع العلم بأن مخترعاتهم ومصانعهم تعمل بأيدي أبناء المسلمين الذين أحبطتهم بلادهم، وأزرت بعلومهم، بتدبير المستعمر لها. ولو قدر أن تعود الكفاءات العلمية المختلفة من أبناء هذه الأمة إلى أوطانها، وتجد المكان المناسب الذي تعمل فيه، لكان لها شأن –وأي شأن- في رفعة هذه الأمة وتقدمها، ولكن وللأسف؛ فإننا نجد أن جهد غيرنا يُحفظ ويصان، وجهدنا يهدر ويهمل.

فالعالم في الغرب تعمل أمته كلها على بعث الأمل في نفسه، فتعرف له قدره، وتيسر له الإمكانيات العلمية المؤسسية ليبدع، ثم تعمل على تكريمه وتخليد ذكره؛ أما عالمنا، فتعمل أمته على إطفاء شعلة الأمل في نفسه، والإزراء بقدره، وعدم التشجيع له، بل وتنفيره ليهرب، فيكون بين نارين: نار العيش –على شَظَفِ العيش وقسوة الحياة- ونار اعتزال مجتمعه والهجرة منه؛ وما حالُ هجرة الأدمغة عن واقعنا ببعيد، أو أن يعتزل علمه ومهنته ليجد له مهنة أخرى يتكسب منها ويأكل قوته، وهكذا.. ومن هنا فما أحوج العالم المبدع إلى الأمل ليبدع، وما أشد عقوق الأمة بعلمائها وأصحاب الرأي فيها، والله المستعان.

4- المرض:

يتنازع المريض أمران:

أولهما: عدم جدوى العلاج، وبالتالي الموت، وعندها تتعطل همته، وتُداخِلُ الوساوسُ قلبه، وتكثر عنده الظنون.

وثانيهما: جدوى العلاج، والوعد بالشفاء، فتشرقُ في نفسه مسحة أمل باستمرار حياته، وتكون عنده الاستجابة السريعة للعلاج، فيشفى بعون الله عز وجل.

والمأمول من الطبيب الحاذق تقوية الجانب الثاني في نفس المريض مهما كان مرضه، وتجنب التهويل الغربي الكافر للأمراض، والذي يدعي استحالة الشفاء من مرض ما، وعدم وجود العلاج المناسب له؛ وفي هذا قتلٌ لنفس المريض؛ وإهلاك له، وكذا لأهله وذويه؛ ذلك لأن المسلم يؤمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء)(1).

فَلِمَ التهويلُ المفتعل الذي تضعف به القلوب، وتهاب منه النفوس، ويفتُّ به في أعضاد الناس؛ بقياس حالنا على حالهم، وهم لا يرجون رباً شافياً؛ ونحن نرجو رّبَّاً شافياً، قريباً منا علَّمنا اللجوء إليه دائما، وعلمنا اتخاذ الأسباب من غير عبادة لها، ولا جعلها شريكاً لله عز وجل في حياة الناس، ولذا؛ فكم جنى حمقى الأطباء على مرضى، فقتلوا نفوسهم، وأضعفوا قلوبهم، وعطلوا إرادتهم، بهذا التهويل! خاصة أن المريض كالغريق يتعلق بكل ما قيل له، وإن لم يكن صائباً.

5- الإصلاح والتغيير الاجتماعي:

لابد للمصلح من بذرة أمل تنبت في نفسه، لتشرق بيضاء نقية تعمل على دفعه إلى تحقيق ما يريد إصلاحه؛ فالمصلح امرؤ يعاكس التيار، ويسبح في الجهة المقابلة للريح، ولابد له من الأمل حتى يتصور.

أولاً: إمكانية الإصلاح والتغيير.

ثانياً: استمرارية الإصلاح.

ثالثاً: اقتناع الناس بالإصلاح وجدواه.

فإذا تحقق فيه ذلك –مع خطوات علمية مدروسة، ورفقةٍ صالحة تُعينه- تحقق الإصلاح، وإلا كان العكس.

وأول ما يؤتى المصلح من قِبَلِ نفسه إذا لم يخرج اليأس منها، ومن رفاقه إذا لم يغادر الخَوَرُ قلوبهم، والفتور هممهم؛ فكم من مصلح أخفق في عمله لما فقد الأمل، وكم من تغيير وُئِدَ قبل أن يرى النور ليأس أصحابه، وعدم أملهم في حصول الإصلاح، وعدم اتخاذ الخطوات العملية المناسبة.

وإنه مما ينبغي أن لا يفوت القارئ أن كل مجتمع مهما بلغ من التردي والانحطاط؛ فإنّ فيه قابلية للإصلاح، ومهما بلغ من الضعف؛ فإن فيه قابلية للقوة. وهذه صفحات تاريخ أمتنا تحدث بذلك؛ فقد ظهرت أمتنا على أعدائها في أيام، ثم ضَعُفَ جانبها، ونَبَا صارمها، وكبا فارسها، ونزلت مكانتها، فظهر العدو عليهم في أيام الصليبيين؛ حتى كان من فعلهم فيها ما حدث به أهل التاريخ، ثم إنها قامت بعد نوم، وقويت بعد ضعف؛ فاستبسل فرسانها، فطردت الصليبيين في مدة لم تتجاوز قرناً من الزمان.

ثم أصابتها الغفلة بما كسبت يدها، فَكَبتْ ثانية، ونبا صارمها، وكبا فارسها، وطاش حلمها، وكانت غزوة التتار لها، والتي فعلت فيها الشيء الكثير، فقتل أبناؤها، واحتلت أرضها وساد بلاد المسلمين الضعفُ والخور، حتى قال قائل الناس بدمشق: لُوذُوا بالقبرِ يحميكم من التتر. وحتى وصف الحالَ المؤرخُ ابن الأثير فقال: لقد بقيتُ عدة سنين مُعرِضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، وكارهاً لذكرها، فأنا أُقدِّمُ إليه رِجلاً، وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟ ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني متُّ قبل حدوثها، وكنتُ نسياً مَنسياً. إلا أنه حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها، وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً؛ فنقول: هذا الفعل يتضمن ذكر الحادثة العظمى، والمصيبة الكبرى التي عقمت الأيام والليالي عن مثلها، وعمّت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم وإلى الآن لم يُبْتلوا بمثلها لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها، ولا ما يدانيها.

ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل من القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خَرَّبَ هؤلاء الملاعين من البلاد التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس؟ وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى مّنْ قُتلوا؟ فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا. إنهم لم يُبقوا على أحد، بل قتلوا الرجال والنساء والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم(1).

هذا وصف ابن الأثير للحال، ثم لم تلبث هذه الأمة أن استبسل فارسها، واستقام مَنْسمها، وعلا نجمها، وظهرت على التتار، وهزمتهم بعون الله تعالى في وقعة شَقْحب بقيادة الإمام ابن تيمية بالشام، ووقعة عين جالوت بقيادة قطز، ثم لم تقبل أن تثوب حتى فتحت القسطنطينية، ثم إنها نسيت دينها، وضعف أمرها، وكبا فارسها، ونبا صارمها، وأصبحت نهباً لكل ناهب في هذا الزمان المتأخر؛ فأُكلت مقدراتها، واغتُصبت أرضها، وسُفكت دماؤها، وانتهكت أعراضها، حتى بلغ ما فُعلَ بها أضعاف ما فعله التتار بأهل بغداد، وما حصل لمسلمي أوروبا وروسيا وفلسطين والأندلس غير بعيد، وما يفعله النظام الأسدي في سورية منذ أكثر من سنتين وبمساعدة الروافض القادمين من إيران والعراق ولبنان وروسيا وسواها، يعجز الواصف عن وصفه، ولن يكون هذا سرمداً إلى يوم القيامة في هذه الأمة، بل سيعلو –بإذن الله- شأنها، ويستقيم منسمها، ويكون لها الظهور على أعدائها في سنوات قادمات –بعون الله تعالى- حتى تُحقِّقَ وعدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بفتح الدنيا على المسلمين، هكذا نفهم من ديننا، ونوقن عن نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا يخالجنا أدنى شك في شيء من ذلك. وهكذا يجب أن نعلم أمتنا، وننفثَ في روعها، ليكون ذلك نافذةً لها على الأمل، تُطلُّ منها عليه، لتعالج بها قلوبها وأرواحها وعزائمها، بدل أن يوظف عامل اليأس المقيت الذي يضعف القلوب والهمم، ويفت في الأعضاد، ويلقي في النفوس الخور والضعف، فكأن القوة لغيرنا، والضعف مكتوب علينا من أجل أن تركع الأمة بكاملها، كلما أراد لها أعداؤها الركوع، ومن أجل أن تخنع كلما أرادوا لها ذلك.

هذا ما نفهمه من ديننا؛ أنَّ أمتنا فيها خيرٌ، وهو كثير بحمد الله، وهي مقبلة على خير، على الرغم مما ألمّ بها من المصائب والخطوب. ومستقبلها مشرق –بعون الله تعالى-، وهذا دينٌ نَدينُ الله به، ولو تخلف هذا في قلوبنا لحظة واحدة لداخلها الكفرُ بالله، وعدم اليقين بقدرته –ومعاذ الله من ذلك- وهذا واجب الهداة الدعاة من علماء المسلمين، وأهل الخبرة والتجربة من أهل التربية فيهم؛ إذ عليهم أن يضربوا على هذا الوتر في قلوب الناس لتصحو، وهو واجب أهل السياسة والإعلام أن لا يعظموا الخطوب في قلوب الأمة، وأن لا يهولوا المصائب في واقعها، بل يخففوا من آلامها، ويعطوها الصورة التي لا تضعف قلباً، ولا تفتُّ في عزيمة، ولا تشمت عدواً، ولا تلقي خوراً. فنحن نَقتل، ويُقتل منا، وسنقتل بعون الله، ونغلبُ، ونُغلب، وهكذا، ونعمل على مقابلة هذا بمعرفة طبيعة العداء؛ فالأيام دول: فيوم لك، ويوم عليك؛ والزمان الذي يرعى فيه الذئب مع الحمل لم يأت بعد.

6- الخطابة:

أمر الخطابة مهم جداً في حياة الناس؛ فالخطيب الناجح يحرك الأمة ويوجهها إلى كل ما فيه صلاحها في الدنيا والآخرة. ولابد –في الخطابة- من وجود الأمل في نفس الخطيب أولاً، وفيما يصدر عنه من كلام يؤثر في الناس ثانياً. لابد له من اجتناب إحباط الناس وتخذيلهم، بل لابد له من بث الأمل في نفوسهم؛ فالناس –على الرغم مما هم فيه- فيهم خيرٌ، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يُحدِّثَ الناس بنفسٍ يائسة، ولا أن يشعل شعلة اليأس في قلوبهم. وفي هذا يقول الدكتور محمد أبو فارس: "إن على الخطيب أن يبث الأمل في النفوس، وليس هذا على سبيل المجاملة، وإنما على سبيل الحق؛ فإن الإسلام سيُنصر بإذن الله، بهذا جاءت النصوص الصحيحة في السنة النبوية المطهرة، والأمل أن نكون نحن من جند الإسلام العاملين، وحزبه الغالبين. ولا يعني هذا أن نحسن القبيح من أعمالهم، بل نترفق بهم في النصيحة، وندعو الله تبارك وتعالى لنا ولهم أن يشرح صدورنا لقبول الحق، ونضرع إليه سبحانه أن يطهر نفوسنا من كل درن، وأن يثبتنا على الطريق، وأن يكتب لنا النصر والتمكين"(1).

قلت: وهذه قضية مهمة غفل عنها كثير من الخطباء، فركزوا على مساوئ الناس دون محاسنهم، وبثوا في نفوسهم اليأس، وعنوا ببث السلبيات من الأمور، فأثمر جهدهم هذا يأساً في الأمة، وفتاً في عضدها، ووهناً في عزيمتها وما على هذا أُخذَ عليهم العهد عند ربهم، ولا لهذا جلس الناس لسماع كلامهم، فليتقوا الله في هذا، وليحسنوا في جذب الناس لربهم، وإظهار محاسن دينهم، وليكونوا دعاةَ أملٍ وبناء في حياة الأمة، ولا يكونوا أداة تثبيط وهدم فيها(2).

وبعد: فهذه أهم المجالات التي يدخل الأملُ فيها، ويكون له فيها الأثر الكبير في تحريك النفوس نحو معالي الأمور، وميادين الخير، وتخفيف ما يقع في قلوب الناس من إحباط، وما وقع في هِمَمهم من خورٍ وضعف، وما وقع في نفوسهم من هوان؛ بعد أن رأوا ملمات ألمت بهم، ومصائب وقعت عليهم، بما لعله يوجه نحو أملٍ مشرق بَنَّاءٍ بعون الله تعالى.

(2) آثار ترك الأمل:

لتركِ الأمل آثارٌ قاتلة للفرد والمجتمع، تفتك بالناس وهم لا يدرون، وتهدم بنيان مجتمعهم، وتهدُّ عزائمهم، ويمكن وصف هذه الآثار كما يأتي:

1- التسخط لقضاء الله وقدره:

ذلك لأن تاركَ الأمل مُحبطٌ كثير التبرم بأقدار الله والتسخط لها، لسانُ حاله ومقاله التأففُ من القضاء، والاعتراض على الأقدار. وهذا الصنيع منه هادم للإيمان، مخرجٌ عن الملة، كيف لا؟ وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره؛ كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه(1). ولو أنصف هذا من نفسه لعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه عائد إلى جريرة نفسه هو.

2- الإحباط:

إذا نظرت إلى فاقد الأمل وجدته مُحبطَ النفس، سوداوي النظرة، لا يأمل بخير، بل لسان حاله لاهج بالشر مترقب له، وهذه حالة خطيرة، إذا وقعت في حياة فرد أهلكته، وعطلت قواه، فكيف إذا وقعت في حياة أمة بكاملها؟ هناك تكون المصيبة العظمى، والكارثة التي ما بعدها كارثة؛ حين يسود الإحباط أمة من الأمم؛ فلا ترى لها عزيمة، ولا تسمع لها رِكْزاً، وترى أشباحاً لا تسر صديقاً، ولا تغيظ عدواً. وإذاً: فكم يعاني المصلح في معالجة هذا المرض العضال الذي استشرى في الناس، فأبدلهم إحجاماً بدل إقدام، وضعفاً بدل قوة، وعزيمة خائرة ضعيفة بدل الهمة العالية. وما واقع أمتنا الحاضر، وما يراد لها عبر الإحباط ببعيد.

3- ضعف القلوب:

ذلك لأن فاقد الأمل ضعيفُ القلب، قد ملأ الخوفُ قلبه فعطّل فيه مداخلَ الخير؛ فهو كالشاة التي تنتظر الجزار ليقوم بذبحها، يخاف من النسيم، ويرجف من الإشاعات، قد قطع أمله بالله ونصره، وقد جعل أفعالَ العباد ومخططاتهم قَدَراً كقدرِ الله لا يغيّر. ولسان حاله يقول: ليس في الإمكان أبدع مما كان. وإذا نظرتَ –عبدَ الله- إلى واقع أمتنا الحاضر تجلّى لك ذلك الوصف بوضوح، وخاصة فيما يتعلق بمسألة السلم والحرب، فقد ضعفت القلوب عن مجرد التفكير بالقتال، لَمَّا أُلقي فيها أن عدو الأمة لا يُقهر، وأن عنده ما ليس عندها، وأن معه ما ليس معها، وهذا والله جناية عظيمة على هذه الأمة ما بعدها جناية. وليس ذلك إلا بسبب ضعف إيمان الأمة، وقلة يقينها بوعد ربها. يقول العلامة أبو الأعلى المودودي رحمه الله: "ومع ذلك، فإن الإيمان بالله يربي الإنسان على كيفية نفسية قائمة على الثقة والرجائية لا تخذله بحال، ولا تدعه ليتغلب عليه اليأس والقنوط؛ إذ الإيمان كنز من الآمال الصادقة لا ينفد، ولا يزال يزود الإنسان برصيد غير منقطع من قوة القلب، وطمأنينة الروح"(1).

4- ضعف العزيمة:

ذلك لأن فاقد الأمل ضعيف العزيمة، قد بلغ منه اليأس والخور مبلغه، وأصبح لا قابلية عنده لأي عمل؛ فهو مُنْطوٍ على نفسه، قد ضعفت عزيمته، فلا ترجو منه تغييراً لحال، ولا التفاتاً إلى مواقف رجال. وقد ألقي في نفسه أنه لا يمكنه فعل شيء؛ وإن كان عنده الشيء الكثير، وهذا حال يراد أن يفرض على أمتنا في الوقت الحاضر بدعوى تفوق غيرها عليها. والمشكلة أنها قد صدقت هذه الدعوى العريضة –أو كادت- وما درت أنّ عندها من الإمكانات ما يضاهي ما عند الدول الكبرى؛ ولكنها العزيمة الضعيفة التي بلغ من ضعفها أن أحجم الناس عن الالتفات إلى المجد وتحصيله، واكتفوا بالسكوت والسكون.

5- الإحجام عن معالي الأمور:

فأنت ترى اليائس مُحْجِماً غير مُقدم، فما دعوته إلى أمرٍ إلا توانى عنه، ولا ندبته إلى فضل إلا تراخى عنه؛ فالطالب اليائس محجم عن درسه، والعاصي اليائس محجم عن توبته، والأمة اليائسة محجمة عن الإقدام نحو المجد والخطو نحو العلى، فهم يرون أنه لا تغيير لواقعهم، ولا تحريك لما سكن في الدنيا، ولا جدوى من أي فعل. وهل هذا إلا موت محقق؟ يرى الناس الرجل، فيظنون أنه من الأحياء، وما هو منهم؛ فهو ميت في ثوب حي، قد بلغ به القنوط مبلغه، فجرده حتى من مجرد التفكير بالعمل، فأضحى عاجزاً حتى عن مجرد تصور فعل من الأفعال. وهنا تكون المصيبة العظمى، والطامة الكبرى إذا أشربت الأمة هذا الإحجام في قلوبها، فلم تعمل على تغيير شيء في حياتها، ثم تلقي بضعفها وعجزها على أقدار رب العالمين، فيوسوس لها الشيطان أنها لن تستطيع تحريكاً لساكن، ولا همةً نحو مجد، ولا نهوضاً نحو علياء، ولا يريد منها هو وأعداؤها أكثر من ذلك؛ والله المستعان.

6- تفويت الفرص:

ذلك لأن من فقد الأمل ضعفت نفسه، وكلّت عزيمته، وتأخر عن أقرانه، وفاته خلانه، وتأخر عن بلوغ الآمال، وتحصيل معالي الأمور. ولذا، فكم من فرصة سانحة قد فَوَّت؟ وكم من مقامِ خير قد نكل عنه؟ وكم من موقف شجاع قد أحجم عنه؟ فلسان حاله اليأس، وعنوانه القصور، ولا ينطق إلا بعدم جدوى أيِّ فِعل؛ فهو جامد ساكن لا يتحرك، والساكن لا يحافظ على خواصه الأصلية، بل يفقدها؛ والماء الساكن مدعاة للفساد؛ والهمة الساكنة مدعاة للنضوب. ولذا، فكم جنى اليائس على نفسه أولاً؛ وعلى أمته ثانياً؛ بالفتِ في عضدها، والإضعاف لقوتها، والإيغار لصدور أعدائها عليها، والتأخير لكل عمل خير فيها، وهكذا.

وبعد: فهذه فيما نظنّ آثار ترك الأمل. وهي –بلا شك- مصائب متعاقبة، تنزل على الأمة، فتشلُّ حركتها، وتضعف قوتها، وتفرق ما جمعته، وتفوت الفرص الكثيرة التي لا غنى للأمة عن اقتناصها، والله المستعان.

(3) العوامل المساعدة على الأمل:

الأمل طاقة محركة للعمل، وقوة دافعة إلى العلى، ومصدر نشاط للنفس. ولابد لهذه الطاقة من مُولِّدٍ يولِّدها، ويسعى في تحصيلها. وعند النظر والتأمل في نصوص الشرع –كتاباً وسنة- وفي واقع حياة الناس بأجمعهم –مسلمهم وكافرهم، عربهم وعجمهم- فإننا نجد أموراً تساعد على الأمل، وترفع من همة اليائس، وتدفع عنه القنوط، وتأخذ بيده إلى ما فيه دفعٌ له إلى الإقدام بدل الإحجام، وقوة العزيمة بدل ضعفها، والتفاؤل بدل الإحباط، فتحيل المرء إلى طاقة متحركة، وهذه العوامل أذكرها هنا كما يأتي:

1- الإيمان:

الإيمان عامل مهم لبعث الأمل في النفوس، وتقويته في القلوب؛ ذلك لأن من قَوِيَ إيمانُه بربه سبحانه وتعالى قلّ في نفسه الالتفات إلى فعل البشر، واتجه بكليته إلى اللجوء إلى الله تعالى، وتخلص من سيطرة اليأس على نفسه. يقول العلامة المودودي رحمه الله: "ومع ذلك، فإن الإيمان بالله يربي الإنسان على كيفية نفسية قائمة على الثقة والرجائية لا تخذله بحال، ولا تدعه ليتغلب عليه اليأس والقنوط؛ إذ الإيمان كنز من الآمال الصادقة لا ينفد، ولا يزال يزود الإنسان برصيد غير منقطع من قوة القلب، وطمأنينة الروح، ويلقي في روعه أنه لو طرد من كل باب من أبواب الدنيا، وتقطعت به الأسباب الظاهرة، وفارقته الوسائل المادية كلها، فإن الله غير خاذله أبداً، فعليه أن يظل في كل حين من أحيانه واثقاً بعفو الله، راجياً في نصرته وتأييده"(1). ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان حفظه الله: "ومن ثمرات الإيمان العميق: الرجاء وعدم القنوط من رحمة الله؛ ذلك أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين بما وعدهم به في كتابه المجيد، ومنعهم من القنوط؛ ومن شأن صاحب الإيمان العميق أن يؤمن بهذا الوعد الصادق من الرب القادر الرحيم"(1).

قلت: وإن من وعد الله تعالى لعباده المؤمنين الصادقين النصر لهم على أعدائهم، والتمكين لدينه في الأرض، والإعلاء لكلمته في الحياة. والتصديقُ بهذا الوعد إيمان، ولا يحل لأحد من المؤمنين أن يخلو قلبه لحظة من ذلك، وينبغي أن نذكر هنا بأن قلة الأمل من قلة الإيمان، وزيادة الأمل من زيادة الإيمان.

2- الاعتبار بأحوال الناس:

ذلك لأن من نظر في حياة الناس حوله، اعتبر بما فيها من عبر وعظات، وعَظُمَ في نفسه الرجاءُ والأمل، وضَعُفَ في نفسه اليأسُ والقنوط. وتنظر في حياة الناس فترى قوماً ضعافاً لم يمنعهم ضعفهم من تسنّم ذروة المجد، وترى إنساناً فقير الحال ولم يمنعه ذلك من بلوغ العلياء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أكان هؤلاء أقوى حالاً من أمتنا؟ أكان هذا الفقير أكثر حظوة من كل فرد في مجتمعاتنا؟ ما الذي حفز هؤلاء للعمل وتحقيق المراد؟.

الذي حفزهم لهذا، وحركهم –العبرة التي أخذوها من مطالعة أحوال البشر وتقلباتهم، ولذا فإن من أغمض عينيه عن النظر إلى أحوال البشر، وملاحظة سنن الله في حياتهم، ولم يراوح مكانه، وجمد في موقفه- دلَّ الناسَ على عجزهِ؛ وأيُّ عجزٍ أكبر من أن لا تُحركك حركةُ الناس الجارفة التي تتراءى لعينيك صباح مساء؟ وأي عجز أكبر من عجز الإنسان عن مسايرة تيار الحياة الهادر الذي يدفع الكسولَ للحوقِ بالمجد، والمُحْجم إلى الإقدام، والصغير إلى متابعة الكبير؟ والله المستعان.

3- معرفة مصائر الظالمين:

ذلك لأن الظالم حين يظلم غيره يظن هو ومن كان في حضرته أنه لا متصرف في حياة الناس إلا هو، وأن من وقع عليه الظلم قد انتهى، وذهب حقه. وما أن تمضي الأيام حتى يُطوى ذلك الظالم كما طُويت صفحة المظلوم، فقد ذهبا إلى الاحتكام إلى ملك عادل يرد الحقوق إلى أهلها، وينصف كل مظلوم ممن ظلمه. إن النظر في هذا وحده ليملأ قلب المرء بالتفاؤل والأمل، ذلك لأن حقاً في الحياة لن يضيع، وظلامة في الناس لن تذهب، وفي هذا المقام يقول الدكتور محمد أبو فارس: "ومما يبعث على الأمل في النفوس الحديث بصدق عن مصير الأعداء الأسود، إذ نقمة الله وغضبه سيلاحقهم في كل مكان؛ ومَنْ كان الله عدوه فلا ناصرَ له؛ ومن كان الله خاذله فلا معينَ له؛ ومن كان الله ناصره فلا خاذل له، هذا هو المنهج القرآني في محاربة اليأس في النفوس، الحديث عن مصائر الأعداء، ونصر الأولياء في النهاية عليهم"(1).

4- إفلاس المناهج الأرضية:

إن الناظر في الحياة يجد أن البشر يلتفون حول مناهج وفكر ومبادئ أرضية، وهذه كلها ما أنزل الله بها من سلطان. وكانت هذه المناهج والمبادئ والفكر ديناً للناس وشرعة ومنهاجاً في حياتهم، ثم ما لبثت أن ذهبت، ولحقها الخواء، ولَفَّها الفناء، بالرغم من أنها قد استعلت في حياة الناس، وتجبر بها أهلها، وعملوا على فرضها على غيرهم من الناس.

ذهاب هذه المبادئ إلى غير رجعة مقدمة لنتيجة طبيعية هي عودة الناس إلى أمر قد خَطَّهُ الله سبحانه لهم، ونَدَبهم إليه، وجعله الدواء الناجع لجميع أدواء البشرية حتى قيام الساعة. وهذا الأمر هو دين الله وشرعه الذي تكفل –سبحانه- بحفظه وتيسير تطبيقه في حياة الناس، والتمكين له في الأرض.

والسؤال الذي يطرح هنا: أيتبع الناس العَرَضَ الزائل، والفكر الزائف، أم يتبعون الدين الذي له الخلود في الأرض؟

إن النظر والتأمل يدفعاننا إلى مزيد أمل، فطالما أن المناهج الأرضية في حياة الناس قد أفلست، فإن المكان قد خلا لحضارتنا وديننا ونهجنا دون سواه، وما هذا الإفلاس إلا من إرهاصات العود الحميد إلى هذا الدين العظيم، وما هو إلا انقشاعُ الزيف أمام الحقيقة الناصعة، وتطاير الهباء أمام النور الساطع، وإن كان الأمر كذلك،كان النظر في هذا دافعاً إلى الأمل، ومحركاً له، ومغذياً لجذوته في النفوس. وفي هذا المعنى يقول الدكتور محمد أبو فارس: "ومن هذا المنطلق ينبغي أن يركز الدعاة على إفلاس الحضارة الغربية فكرياً، فلم تعد قادرة على إسعاد الإنسان وإنقاذه من الأمراض النفسية والعصبية والعقلية والجنسية وغيرها من الأمراض التي فتكت به، وجعلت معيشته ضنكاً، وإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يسعد الإنسان، وينقذه من الشقاء"(1).

نعم إن إفلاس الآخرين من حولنا ليملأ قلوبنا أملاً بقرب تحقق وعد الله عز وجل في عودة الناس إلى دينهم، وتحقق النصر والتمكين لهذه الأمة على أعدائها، على الرغم مما يلقيه الواقع اليائس المحبط في نفوس الناس من اليأس والقنوط.

4- ظاهرة العودة إلى الإسلام:

إن الناظر في حياة الناس في بلاد المسلمين بخاصة ليجد عودة حميدة إلى الإسلام، والتزاماً جاداً صادقاً بتعاليمه عند قطاع كبير من المجتمع؛ من الصغار والكبار، والرجال والنساء، وعلى كل المستويات.

ولهذا الأمر دلالة واضحة على أن الخير في هذه الأمة لن ينقطع، وأن الناس مقبلون على ربهم، عائدون إليه، وهذا الأمر يملأ النفس أملاً وتفاؤلاً بقرب وعد الله لهذه الأمة، ويعمل على إخراج نبتة اليأس من القلوب، والإحباط من النفوس. وفي هذا المقام يقول الدكتور محمد أبو فارس: "ومما يبث الأمل في النفوس إقبال الشباب على الإسلام، وترددهم على بيوت الله، يؤدون فيها الصلوات الخمس جماعة، ويحرصون على ذلك، وانتشار الصحوة الإسلامية في شتى بقاع الأرض، وعلى جميع المستويات الثقافية والعلمية، وانتشار المصليات في المدارس والجامعات وكليات المجتمع والمعاهد، وانتشار المظاهر الإسلامية والعادات الإسلامية، وانحسار العادات السيئة في المجتمعات المعاصرة في بلاد المسلمين، كل هذا يمكن للداعية أن يستخدمه في محاربة اليأس، وبعث الأمل وبثه في النفوس"(1).

5- اليقين بالمبشرات النصية في الكتاب والسنة:

هناك عامل مهم في تحصيل الأمل، وتقويته في النفوس، وهو اليقين والتصديق المطلق لما ورد في كتاب الله، والسنة النبوية الصحيحة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مبشرات بنصر هذا الدين، وعلو مكانته، والتمكين له في الأرض. ولذا يجب علينا أن نعتقد بهذه النصوص اعتقاداً جازماً لا يقبل الشك أبداً، ولا تساوره الوساوس مطلقاً، ويجب تلقين هذا الأمر للناس كلهم؛ صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءً، ليصبح ذلك عقيدة راسخة في قلوبهم، ولا نقبل بحال من الأحوال أن يُشكّك في هذه النصوص؛ لأن من شكك فيها فقد شكك في القرآن والسنة، وشكك في عقيدة كل مسلم، والتي من بدهياتها أن الله قادر، ومقتضى قدرته أن ينصر دينه، ويعز أولياءه، ويذل أعداءه؛ قال تعالىويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريباً)(1). هذا، ولا يفوتني هنا أن أذكر أن الإمام الغزالي رحمه الله قد ذكر من أسباب الرجاء استقراء الآيات والأخبار والآثار في الرجاء، وقال عنه: "فما ورد في الرجاء خارج عن الحصر"(1). وحول استشعار الداعية لقرب النصر ويقينه به يقول الدكتور عبد الكريم زيدان: "والداعي المسلم في رجاء دائم لا يقنط أبدا لأنه آمن بوعدِ الله للعالمين الداعين بالنصر والتأييد، والثواب الجزيل، فهو مضمون النصر والتأييد من الرب الجليل"(2).

وبعد: فهذه هي العوامل المولدة للأمل في النفوس، التي تغذيه في القلوب –فيما أحسب وأظن باطلاعي القاصر- وقد نبهتُ عليها لتكون مُذكِّر خيرٍ لأمتنا ومنبه بشرٍّ لإخوتنا في الله، ولتكون هِجِّيرى المجالس، يخطب بها خطيبنا، ويعظ بها واعظنا، ويشير إليها معلمنا، ويدندن حولها مربينا، وينظّر بها مفكرنا؛ وهكذا في كل قطاع في الأمة. ولا يفوتني هنا أن أذكر أن هذه العوامل سهلة يسيرة على من يسرها الله عليه، إذا كانت عنده القابلية لتلقيها، والعمل بمقتضاها؛ وأمتنا بحاجة إلى قابلية لها لتعود المياه إلى مجاريها، وليعود الأمل مشرقاً في النفوس، نابضاً في القلوب، فتياً في الحياة، والله ولي التوفيق.

(4) ضرورة اقتران الأمل بالعمل:

قد حدثتك أخي القارئ عن الأمل وحكمه وضرورته ومولداته، وآثار تركه، حديثاً أَحسبُ أنه يملأ النفس بِشْراً، والقلب سروراً، ويحرك العاطفة طرباً لهذه المعاني. وحتى لا يذهب بنا الكلام بعيداً لابد من التنبيه إلى أن ما قلناه عن الأمل مشروط باقترانه بالعمل وإلا كان كلامنا هذا كأحلام اليقظة التي يحلّق فيها المرء بخياله، ويبني القصور في الهواء، ويجمع الأماني والأوهام، حتى إذا استيقظ عاد بخفي حنين، وقد تلاشت أحلامه، وتطايرت آماله. ولذا، لابد لنا من القران بين الأمل والعمل. وبناء على ذلك، فلا يكون الأمل مقبولاً من أحد من الناس ولا تترتب عليه ثماره إلا إذا اقترن به عمل نافع بناء. ولا أبعد بك، فما فائدة الأمل إذا لم يقترن به عمل؟ فما ينفع التلميذ أمله في طِيبةِ مُدَّرسهِ، ومعرفته له عند الامتحان دون دراسة؟ وما ينفع المريض أمله في الشفاء دون استعماله للعلاج الناجع؟.

إن تربية الأمة على أمل مُحَلِّق بلا عمل، إنما هو قتلٌ لها، وتخريبٌ لنفوسها، وإهدار لأوقاتها، ودغدغة لعواطفها، ولذا لابد من اقتران الأمل بالعمل عند الأمة الجادة التي تنشد المجد، وتبحث عنه، وتدندن حول ظلاماتها، وتندب قتلاها في كل مكان، ليكون ذلك طريقاً لها إلى ما تريد. ولا يفوتني هنا أن أذكّر بمبررات اقتران الأمل بالعمل، ومنها:

1- أنه مطلوب ديننا وشريعتنا:

فإن ربنا سبحانه وتعالى يطالبنا بالأعمال، ولا يقبل منا الآمال فقط؛ ولذلك قالويلههم الأمل)(1)؛ وفي تفسيرها يقول العلامة البيضاوي رحمه الله: "ويشغلهم توقعهم لطول الأعمار، واستقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد"(2)؛ فهم قوم قد اغتروا بأمل طول العمر، واستقامة الحال، وعفو ذي الجلال عن الاستعداد للآخرة بالأعمال.

2- وهو هَدْي سلفنا:

فإن سلفنا الصالح –رضوان الله عليهم- ما ركن أحد منهم على مجرد الأمل، بل قرنوه بالعمل؛ وإليك شذرة من كلامهم في هذا الباب:

أ- قال شاه الكرماني: "علامة صحة الرجاء: حسن الطاعة"(1).

ب- وقال ابن القيم: "ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل"(2).

فما رأينا فيهم من يََدُع العمل –دنيوياً كان أو أخروياً- ويتعلق بالأماني الكاذبة، والأحلام الخادعة؛ ولذا سموا من رجا الرحمة بلا عمل صاحب الرجاء الكاذب، وماذا تسمي مَنْ يحدِّثُ الأمة عن مجدٍ تبحث عنه، وكرامة مفقودة – حديثَ الآمال فقط، ولا يوقظ فيها عضواً لحركة، ولا هِمةً لعطاء، ولا كريماً ليوم كرامة؟ إنه تغريرٌ بالأمة، ومخالفة لنهج سلفها أن تعلم الأمل بلا عمل، والوعد بلا تنفيذ.

3- وهو ضرورة الحياة:

ذلك لأن الآمال وحدها لا تُشبع جائعاً، ولا تفيد دارساً، ولا تنصف مظلوماً، ولا تَردُّ ظُلامة، ولا تحقق مكسباً من مكاسب الحياة الدنيوية والأخروية؛ فلو حدثنا جائعاً وأمَّلناه بالطعام شهوراً وأياماً ماذا نفيده بهذا؟ ولو نام التلميذ عن درسه مع أمله بالنجاح فقط، لظن به الجنون. وأي جدوى للأمل والأمة لم تحقق مقدماته؟ فهي ترجو النصر، وأين مقدمات النصر فيها؟ فالنصر مشروط؛ قال الله تعالىإن تنصروا الله ينصركم)(1).

ونصرة الله للعباد مشروطة بنصرتهم له؛ باتباعهم لدينه واقتدائهم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا عمل. وترقب النصر بلا عمل مجرد أمان؛ إذ لابد من اقتران الأمرين معاً، فإذا تَخلَّفت نصرة العباد لربهم –وهي عمل يخلف عنهم النصر عند الله تعالى. ولذا، فحرامٌ على أهل التوجيه والتربية والسياسة والإعلام وغيرهم أن ينفخوا عواطف الأمة لتصبح أوعية مملوءة بالأمل الخادع بلا عمل، ثم تخرق هذه الأوعية والعواطف لتعقبها فترات من الإحباط واليأس تلفّ الناس بسوادها؛ فتفسد عمل المصلح، وتُوهِنُ العزائم، وتُضعف القلوب، وتوغر الصدور، وتفرق بين الإخوة. وأكثر الناس استفادة من هذا هم أعداء الأمة؛ يوم يعصف اليأس بالقلوب، ويستشري الإحباط في النفوس، وعندها يدق أعداؤنا على وتر ضعف الأمة وتفرقها وتمزقها، لتبقى كما يريدون كشاة تنتظر من يذبحها، ويقسمها على من يريد؛ وهذه هي الطامة الكبرى. فحقيق بكل من امتلأ قلبه حُرقة على هذه الأمة أن يراوح في حديثه بين الأمل والعمل، فلا ينادي بعمل يائس، ولا يدعو إلى أمل ناقص إن أراد لها الخير والتمكين والعز والنصر في حياتها، ومستقبل أيامها.

4- وهو صنيع العقلاء من كل أمة:

فما علمنا أن عاقلاً في أمة من الأمم، ولا بلد من البلاد اتخذ الأحلام المحلقة، ولا الأماني الكاذبة مطية له في حياته، بل جمع القرينين، ووظَّفَ كل واحد منهما في المقام الذي يَجمُلُ توظيفه فيه، فقامت حياة الناس أجمع على هذين، وما تخلف العمل عن الأمل في حياة عاقل. ونحن قوم أولو رسالة، وأصحاب حضارة؛ فنحن صفوة الناس، وسادة الأمم، وقادة الشعوب. وأنه يجب علينا أن نكون –كغيرنا من عقلاء الأمم والشعوب- في اقتران آمالنا بأعمالنا على الأقل؛ إن لم يكن ذلك منا متابعة للأسلاف، والتزاماً بالشرع، ومراعاة لضرورة الحياة.

الخاتمة

وبعد: فلقد كان هذا حديثاً عن الأمل وأثره في حياة الناس، حديثاً نرجو به الأجر من الله أولاً، والفائدة لأمتنا ثانياً، ورزع الثمار في النفوس والقلوب ثالثاً، ومحض النصح لأمتنا؛ ذلك لأننا نعتقد أن هذه بذرة خير مغيّبة عن واقع الأمة وحياتها، ولا يراد لها أن تظهر، بل أن تطمس، لأنها جزء من هدي القرآن وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبشير خير من السلف إلى الخلف. ولما كان الأمر كذلك؛ كان لابد لأهل التوجيه في هذه الأمة من علمائها ومفكريها أن يبشروا بالأمل وضرورته وأهميته وموارده، ليكون حديث المجالس؛ ينشأ عليه الناشئ، ويموت عليه الكبير؛ جهداً عاماً يرد للأمة روحها، ويوقظها من نومها، ويقيلها من عَثْرتها، مع ضرورة اقتران ذلك بالأعمال الجادة البناءة، التي على رأسها إعادة دور علماء الأمة؛ فهم الموقعون عن الله، وهم حَملَةُ المشاعل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الهُداة إلى كل خير، وهم الدعاة إلى كل بر وفضل. فإذا عاد دورهم، وعادت قيمتهم، فهم سَدَنةُ الإصلاح، وأطباء القلوب. ولا يجوز بحال من الأحوال أن يكون هناك إصلاح إلا ويكون للعلماء وقوف عليه، ورأي فيه؛ فمن أولى منهم بذلك، ومن الذي يحرمهم من حقهم الطبيعي والتاريخي والشرعي في ذلك؟ إنّ كثيراً مما أصاب الأمة ويصيبها ما كان ليحدث إلا بسبب بعُْدِ أهلِ العلم الصادقين البررة عن واقع العمل، وعن دوّامة الأحداث، فهلا ساوى الناس بين هؤلاء العلماء وبين علماء أهل الملل الأخرى الذين لا يقطع رأي إلا بموافقتهم، ولا يدعى ليومِ كريهةٍ إلا بمباركتهم، وهكذا.

أسأل الله عز وجل أن يعيد هذه الأمة إلى سالف عهدها، وتالد مجدها، وخير أيامها، وعز آبائها، وأن يبعد عنها كل سوء؛ إنه على ما يشاء قدير.

والحمد لله رب العالمين
الزنقب غير متصل  
قديم(ـة) 20-03-2014, 11:31 PM   #20
ابو محمد 21
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2014
البلد: بريده
المشاركات: 30
الله يجزاك خير
ابو محمد 21 غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية

أدوات الموضوع
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 02:12 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)