بريدة






عـودة للخلف بريدة ستي » بريدة ستي » ســاحـة مــفــتــوحـــة » ( قطع الَلَسَن .. من تراث الدكتور حَسَن ) كتاب مفتوح للتأليف والقراءة ..

ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع طريقة العرض
قديم(ـة) 23-11-2006, 04:47 PM   #57
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
استراحة


1
/ أعلم أن الصفحات ستكون كثيرة في هذا الكتاب ولكن ماذا أصنع ؟ هذا تراث الدكتور الكثير .. ولتعلموا أن مامضى هو نتاج كتابته في عام 2006م فقط وفي صحيفة الجزيرة فقط وسأتابع بعد هذه الإستراحة ماكتبه في عام 2005م ثم 2004م ثم 2003م ثم 2002م ثم 2001م ثم 2000م ثم 1999م ثم 1998م والله المعين سبحانة

2 / قد يقول قائل ولم لاتكون هناك روابط لمقالاته ؟والجواب : هل سمعت بكتاب يحتوي على روابط :D
هذا كتاب .. يفتحه من يحب القراءة للهويمل ويقرؤه بكل متعة دون أن يعكر ذلك انتقال من موقع إلى آخر وكذلك فإنني لاأستبعد وجود أناس يرغبون في جمع تراث الدكتور في صفحة واحدة فأنا أريحهم بهذه الطريقة حتى يتم تخزين الصفحة ومن ثم القراءة دون اتصال

3 / من فوائد هذا الجمع أن يطلع أولئك الذين لايعرفون الهويمل جيدا على فكره وثقافته من خلال ماكتبه ونثره هنا وهناك ليكونوا على بينة أمام أي نقد مزيف

4 / ومن فوائده أيضا التفريق بين الثقافة الكبيرة وثقافة ( الفطيرة ) الجوفاء


والآن لنأخذ قسطا من الراحة قبل أن نحلق في تراث الهويمل ماقبل 2006م

وتقبلوا من عبـــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــاس كل حب ومودة
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 08:51 PM   #58
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
أبومحمد النجدي
أشكرك على هذه الثقة وهذا الاهتمام
أنت بهذا تدفعني لأن أنقب في كل مكان
أسأل الله الإعانة
كما أتمنى ممن يعرف من تراث الدكتور شيئا أن يسوقه إلى هذا الكتاب المفتوح مشكورا


ولكم من عباس كل مودة ومحبة
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:00 PM   #59
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
والآن لنبدأ مقالات 2005م


المواطنة بين تعدد المفاهيم وتشعب القيم الثقافية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل


لقد اهتم التشريع الإسلامي، بالتأصيل لمجموعة من القيم: العقدية والسلوكية والحقوقية والتعبدية والانتمائية الاصطباغية {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً}، وجاء المنقبون من علماء الأصول والكلام، فقعدوا القواعد وأصلوا الأصول، وامتازت كل ملة أو نحلة بنظريتها المعرفية وقواعد مذهبها، وعرف كل أناس مشربهم، وتبدت هذه الأصول وتلك النظريات للمتلقي الواعي، وعرف كل قوم من لحن القول، وتشكلت عنده رؤية وسطية متوازنة، تعرف أركان الإيمان ونواقضه، وما هو قطعي يقيني، وما هو احتمالي اجتهادي، وواكبتها رؤية معرفية إيمانية لم تعطل الاجتهاد، ولم تعمله على إطلاقه في القطعيات واليقينيات والنصوص التي لا اجتهاد معها، كما يقول الأصوليون.
هذا الوعي الحصيف والرؤية النافذة روضت المستقيمين كما أمروا على قبول التعددية، واحتمال الاختلاف، وتقدير الآراء، واحترام الآخر، ما دام في النص بقية من فضاءات دلالية.
هذه الرحابة مكنت أهل الذكر من توقي التعويل على قيمة واحدة، تذر الأخريات كالمعلقات.
والرؤية لا تكون حقاً حتى تستوعب شمولية الإسلام وتتمثل توازنه، وتعي مجالات الثبات والتحول فيه، وتروض نفسها على أن الاختلاف أضعاف الإجماع، وأن العلماء متفقون على محدودية الإجماع وشمولية الاختلاف.
والذين اتخذوا بعض القيم معزولة عن السياقات والأنساق ومقتضيات العموم والخصوص والقوة والضعف والثبات والتحول، ولم يفرقوا بين الأفكار والعقائد، ومحضوا رؤيتهم الضيقة كل جهودهم، أضروا بمن حولهم، ممن صنعوا مثل صنيعهم، وممن حفظوا التوازن بين القيم. وكل من ذهب بما يرى، واتخذ إلهه هواه، وفارق جماعة المسلمين، وتفانى في تحويل فكرة إلى عقيدة، يكفر الخارج عليها، مستميتاً في استئثاره واستبداده، فهو واقع في نقض غزل الأمة من بعد قوة أنكاثاً، لأنه ترك المحجة، وتاه في بنيات الطريق، وكان أمره فرطاً. وكلما تعددت الثقافات بتعدد مصادرها، أو بتعدد نظريات التلقي، كان من الصعوبة بمكان اتفاق النخبة على وحدة المفاهيم والأفكار، وبخاصة أولئك الذين يوغلون في مسلماتهم، ويستسلمون للحساسيات المفرطة، ويقعون تحت عقدة الخوف غير المبرر ف(المواطنة) في ظل هذه المخاضات الفكرية والثقافية مفهوم مراوغ، يتعدد بتعدد الرؤى والمصدريات ونظريات التأويل. وليست هناك إشكالية عصبية في التوفيق بين وجهات النظر، متى حسنت النوايا، وشرفت المقاصد، وقوي الإيمان بالثوابت واليقينيات المجمع عليها، وتسامى الناس فوق الجزئيات والثانويات. أما إذا ضاع الإيمان أو اضطرب، لا أمان ولا قوة، ذلك أن طاقة القوة الحسية والمحرك لها والداعم لها إنما هو الإيمان الراسخ بالمبادئ، والمعرفة التامة بتفاوت الأحكام، وتبدل الأحوال، ودوران الحكم مع العلة وجوداً وعدماً.
والناهضون بالدعوة والإنذار لا بد لهم من فهم دقيق لمقاصد الإسلام، واحترام لمذاهب العلماء الأفذاذ، وترويض للنفس على قبول الرأي الآخر، وإمكان التعايش معه على قدم المساواة. وليس من حق أحد أن يصر على نفي الرأي الآخر ما دامت التعددية واقعة تحت طائلة الاختلاف المشروع. وإذا كان المذهب الواحد يقع بين علمائه الاختلاف، وفيه حكم مقدم، يعرفه الراسخون في العلم، فإن من حق المذاهب الأخرى أن تأخذ حقها ومشروعيتها، ولا تجوز الملاحاة، ولا الإصرار على التهميش، ولا استنزاف الجهد والوقت في المماحكة والجدل البيزنطي، وبخاصة إذا كانت لكل الأطراف مرجعية مشتركة وأصول معتبرة، فتلك المؤهلات تضبط حراك الناشطين في المجالات التوعوية والدعوية. و(المواطنة) الإيجابية لا تتحقق بالأثرة، ولا بالتنافي. وفي التسامح والتفسح في المجالس استجابة للمقاصد الإسلامية، كما يراها علماء الأمة، إذ هي تؤلف بين المفاهيم المتعددة. ولن يتحقق ذلك إلا بفقه النص التشريعي من حيث الرواية والدراية والبراعة في إنزال الحكم على النازلة. ومن الأخطاء الفادحة تصور الفقه مقصوراً على (فقه الأحكام) ومجرد القول بأن هذا حلال وهذا حرام، وتناسي (فقه الأحوال) وهو المتعارف عليه ب(فقه الواقع) و(فقه الأولويات) و(الفقه السياسي). والرسول صلى الله عليه وسلم استصحب هذه الأنواع الثلاثة، وما لحق بالرفيق الأعلى إلا بعد أن تركنا على (المحجة البيضاء)، ومن زاغ عنها بسبب الجهل، أو الهوى، أو التعصب، أو التقليد، هلك وأهلك من حوله من الأشياع والأتباع. وما استعصى على الرسل إلا (عقدة الأبوية)، وما استفحل التناحر، إلا في ظل الخلط بين الأفكار والعقائد، وما هلكت الأمة إلا على يد أغيلمة موغلة منبتة، تمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
و(المواطنة) الإيجابية تتجلى في القول، وفي الفعل، وفي الترك، وفي التوازن بين الحقوق والواجبات. وحين يبادر البعض مهمة القول في (الشأن الوطني) في حالة من اضطراب المفاهيم، وتكالب الأزمات، تبدأ نذر الخلل في الوحدة الفكرية والدينية للأمة، وينسل من ذلك خلل آخر، يؤدي إلى تفكك الوحدات الإقليمية والسياسية والدينية. ومن استخف بالقيم والمبادئ، وركن إلى الحسيات والماديات، فوت على أمته فرصاً ثمينة.
وإذ يكون (الأمن) أغلى القيم وأهمها، فإن أي حراك ديني أو سياسي أو ثقافي أو فكري يساوم أو يزايد عليه تحت أي راية يعد في نظر العقلاء والمجربين ظلماً وعدواناً وتفريطاً، ولا ينظر إلى عوائد مزايدته أو مساومته مهما كانت. ذلك أن (الأمن) مصدر كل خير، ولن يستطيع أي مصلح في أي حقل حضاري أن يمارس عمله إلا في ظل (الأمن)، ولهذا شدد الرسول صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ولزوم جماعة المسلمين، وغلظ على الخارجين، وأهدر دمهم، وقال: (فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، ومواجهة المؤسسات الشرعية خروج على السلطان، على أن السلطان ليس شخصاً بعينه، وإنما هو مفهوم وقيمة، متى اجتمعت عليه الكلمة، تعين سلطانه.
وإذا كانت (المواطنة) قيمة و(الدين) قيمة و(التعدد الثقافي) قيمة و(السلطة) بشعبها الثلاث: (الدولة) و(الدين) و(المجتمع) قيمة، فكيف نُوفّق بين هذه القيم، ونحفظ التوازن فيما بينها، وندرأ عن أنفسنا معرة الشقاق؟ ونحقق في ظل هذه القيمة وحدة وطنية شاملة.
لقد كثر المتصدرون للقول في هذه القيم، وأصبح الرأي العام نهباً للقول ونقيضه، تخترقه القنوات والمواقع والخطابات، ويتربص به المتعالمون والمستغربون والأضوائيون، وإشكالية الراهن من فئات تتجاذب الآراء والأحكام، وهي بعد لم تع عوائد ما تقول.
وما أضر بالأمة إلا اضطراب المفاهيم، وأنصاف المتعلمين، وإحجام المتضلعين إيثاراً للسلامة.
إننا نخطئ في مفهوم (المواطنة) ونخلط بينها وبين مجمل النزعات (الأممية) و(الأخوة الإسلامية) حتى لقد وقع البعض في التخلي عنها، نتيجة الفهم الخاطئ لمقتضيات (الأخوة الإسلامية) و(الاهتمام بأمر المسلمين) و(التداعي الجسمي للعوارض) ومقتضيات (التكفير) و(الجهاد) و(ديار الكفر والإسلام) و(أهل الذمة) و(المستأمنين) وأضاع البعض حقوق الوطن في ظل التعبئة العاطفية لدعوات (القومية) و(الدينية) و(الأممية) مع أنه لا تعارض بين هذه القيم، متى تعاملنا معها تعاملاً إسلامياً بعيداً عن (الفئوية) و(التطرف) و(هاجس التصفية للمخالف) ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم تنوع المفاهيم للجهاد وأحواله في (غزوة بدر) حين كرر كلمة (أشيروا علي) وكان قصده انتزاع موافقة (الأنصار) على مواجهة المشركين خارج أسوار المدينة، لأنهم لما يزالوا مرتبطين معه بعهد الدفاع عن حوزة المدينة. وهو المرتبط ب(جهاد الدفع). وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرون (جهاد الطلب) أو هكذا خاف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتصوروه.
وإذا كانت الأوضاع العالمية غير السوية في تصاعد مستمر، وتأزم مستحكم، كان لا بد من تبني أسلوب مرن، يحذر الاندفاعات غير المحسوبة، أو التردد الموهن.. فالقيم أخذت في ظل هذه الأوضاع المأزومة أبعاداً جديدة، وأصبح التعامل معها يتطلب عملاً مؤسساتياً، يتوفر على المعرفة والخبرة، ويتخلق بالحلم والأناة، ويمارس الدفع بالتي هي أحسن.
و(المواطنة) في ضجة الانتماءات وتناقض المفاهيم، ليست كلمة تقال، ثم لا تتبع ببرهان، إنها أخذ وعطاء، وتوازن بين الحقوق والواجبات. وتحقيق متطلباتها في ظل التعدد الثقافي قضية محفوفة بالمخاطر، وأخطر ما تواجهه الأوطان التعددية المعرفية والدينية والقومية والثقافية والطائفية. وبخاصة حين تتصور الأطياف أن تحقق انتمائها وولائها لا يتم إلا بإقصاء الآخر وتهميشه والنظر إليه بدونية.
وما سنومئ إليه لا يرقى إلى هذا التصعيد الخطير، ذلك أن وطناً ك(المملكة العربية السعودية)، لا يعاني من مثل هذه التعدديات الحدية الحادة، متى أخذت بحقها، وحيل بينها وبين الاختراقات المغرضة، فهو بلد إسلامي عربي خالص العروبة والإسلام. وإن كان ثمة إشكالية فهي في بعض الولاءات الخاطئة للإقليم أو للقبيلة أو للطائفة، أو لمناقضها من قومية أو أممية أو وحدة إسلامية غير ممكنة في ظل الضعف والاستكبار العالمي. غير أن ما منيت به البلاد شيء آخر، لما تزل بشأنه في أمر مريج. وفي ظل (الظاهرة الإرهابية) أصبح المتابع يخشى الاختراقات، ويعيش أسوأ الاحتمالات.. فالبنية السكانية والتعددية الثقافية والطائفية قابلة لكل الاحتمالات والاختراقات، والسمَّاعون للخطابات المتطرفة قابلون لمزيد من العنف والصلف والغلو والتطرف، وأحسب أن التعدد الثقافي من أهداف المناوئين والمتربصين.
وللحيلولة دون الاحتقانات والصدامات جاءت فكرة إشاعة ثقافة (الحوار)، و(مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني) مبادرة حكيمة، اضطربت في مفهومه ورسالته الآراء، ولقد مر بتجارب حوارية، التقت فيها أطياف متعددة، وأتيحت للمؤتمرين فرص لإبداء المرئيات، والتعبير عن التصورات، وهامش الحرية المتاح لم يواجه معه المؤتمرون مرحلة حرجة، ولم يصلوا فيه إلى طريق مسدود، مع أن الأطياف دخلت خائفة وجلة متوترة، والبعض جاء وفي ذهنه أنه داخل في صراع التنافي والتصفيات، ولم يدر في خلد البعض أنه من الممكن أن تكون هناك أرضيات مشتركة، تتسع للتعايش والتقارب أو التعاذر، وقد تبلغ الجدلية ذروة التفاعل الإيجابي، ومثل هذا الوضع يعد من المبشرات. ومع هذا التفاؤل العريض فإن هناك مواقف لا يجوز الإغماض فيها، وهي مواقف نشأت من خطأ التصور، واستفحلت في ظل غفلة الرقيب، وتعدد الانتماءات الثقافية، وتجاوز سلطة المؤسسات، وتلقي المفاهيم من مصدريات غير شرعية، وسلبية المواقف أو عجزها عن تفكيك الذهنيات المضطربة وإعادة تركيبها، والتفريق بين الفئة الضالة والفئة المضلِّلة.
لقد عشنا غفلة المؤمن، حتى جاء (الحادي عشر من سبتمبر) ليكشف أوضاعاً غير سوية، وغير متوقعة، و(رب ضارة نافعة)، فلو امتدت تلك الغفلة لكان أن اتسع الخرق على الراقع.
والمسارعة في إشاعة ثقافة لحوار ومأسسة الحقوق حيلولة مرحلية دون تفاقم الأمور وتدهور الأوضاع، وتناول مثل هذه الطوارئ في وضح النهار من الأساليب الحكيمة، فما دام أنه بالإمكان المكاشفة والشفافية ومعالجة الأمور دون الخوف من الاستحكام والتأزم فإن السكوت مسايرة خاطئة، وتأجيل وقتي. وفتح الملفات ومعالجتها في ظروف الصحة والقوة أفضل من إرجائها، حتى يأتي وقت لا يحتمل استدعاءها، وقد يجد المتربصون الفرصة في تحريك تلك الملفات في الزمن العصيب، وفتح هذه الملفات ليس وقفاً على المؤسسات الرسمية.
إن على المقتدرين من علماء ومفكرين وخطباء وإعلاميين تناولها والتحذير من مغبتها، وطرح البدائل التي تسد مسد المغريات، فالمكافحة والتخويف حلول وقتية، والتأسيس لفكر بديل قادر على المنازلة وانتزاع الحق من أولويات المهمات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:00 PM   #60
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
المواطنة بين تعدُّد المفاهيم وتشعُّب القيم الثقافية 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولعل أولى الإشكاليات ما يتوهَّمه البعض من تناقض بين (الأخوة الإسلامية) و(المواطنة الإقليمية) المتمثلة في الحدود السياسية. ومع القطع بعدم التعارض تظل هناك تصرُّفات تؤدي إلى التناقض؛ فحب الوطن الإقليمي والعمل من أجله لا يقتضيان تصنيم الحدود، ولا المفاضلة، ولا التصدير، ولا يمنعان من الوفاء بمتطلبات الولاء والبراء، والنهوض بحق الأخوة الإسلامية. والحب الفئوي، والقطرية المنغلقة على ذاتها، وهاجس التصفيات للآخر بكل أنواعها ضربت مفهوم المواطنة في الصميم. وليست الممارسات على ضوء المفاهيم الخاطئة وَقْفاً على أمة دون أمة، وهواجس الخوف إن هي إلا بواعث ممارسات خاطئة، وحب الوطن لا يكون سليماً حتى ينفي عنه المقتدرون ما علق به من مفاهيم خاطئة وإغراق في التعالي والادِّعاء الأجوف، وخاصة حين تكون التركيبة السكانية قابلة للتنازع تحت أي ظرف عارض أو دائم؛ كالطائفية والعرقية والقومية. ومعضلة (الأقليات) الحقيقية في البلاد الواقعة تحت تأثير هذه الظروف مجالُ أخْذٍ ورد، حتى خرج مَن يقول: (مواطنون لا ذِمِّيُّون)، و(الوطن للجميع، والدين لله). وحتى اضطرَّت بعض الدول إلى وجود قوة محايدة للحجز بين الطوائف المتصارعة، وحتى وُجد مَن يتحدث عن (الجِزْيَة) واليد الصاغرة، ومَن يطالب بصرف النظر عن الأحكام الشرعية؛ لارتباطها بوقوعات تاريخية. وفات الجميع أن الأمر محلول إسلامياً، ولكن الناس لا يفقهون. ف(الرق) حين لا تتوفر شروطه لا يكون هناك (رقٌّ) بوصفه حدثاً، ولقد استطاع (الملك فيصل) رحمه الله حَسْمَ ذلك شرعاً، والخلوص من مأزق النقد العالمي، مع بقائه متى توفَّرت أسبابه. ولقد فعل مثل ذلك من قبلُ الخليفة الرائد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين لم يُعْطِ المؤلَّفة قلوبُهم، وحين لم يُنفِّذ (القطْع) في عام الرمادة، وظنَّ البعض أن هذا تعطيلٌ، وما هو بتعطيل. و(الذِّمِّيَّة) حين لا تتوفر حيثياتها لا يكون هناك أهل ذمة ولا جزية، ولما تُحسم مثل هذه القضايا، وكان بالإمكان حسمها، فوجود حُكْمها لا يقتضي وجود عَيْنها. والحياة بدون سلطة تحسم وتعزم حياةٌ وحشيةٌ، والسلطة بدون نظام يحدُّ من غلواء كل الأطراف تسلُّطٌ وفوقيةٌ. ولعلنا نضرب المثل بحق (القوامة) وما يستتبعه من (طلاق) و(هجْر) و(تعدُّد)، لقد أخطأت أطراف كثيرة في فهم هذه الحقوق؛ إذ ربطتها بالوقوعات لا بالمقْتضيات، وأحسَّت بالحرج، وأعطى البعض الدنيَّة في الدين بوصفه - حسب تصوُّرهم - عاجزاً عن مواجهة الحضارة والمدنية، فكان أن اخترقت (العلمانية الشاملة) و(الفوضوية) باسم الحرية نظام الأسرة والأحوال الشخصية فأفسدتها، وفرضت واقعاً يُوهم بضرورة المراجعة للثوابت. وليس أمام المسلمين ما يحرجهم لو أنهم فهموا المقاصد والمقتضيات، واستجابوا لله والرسول. والمستجدُّ من القضايا بحاجة إلى دراسة فقهية مؤسساتية تتعامل مع النوازل، وتواجه الرأي العام العربي بحُكْم متَّزنٍ تتمخَّض عنه مداولات أهل الذكر. وكم هو الفرق بين حفظ التوازن بين سائر الحقوق والواجبات والاهتياج العاطفي الذي يصنِّم الحدود، ويُلغي كل حق في سبيل الحق الفئوي الأهوج للوطن أو للسلطة أياً كان مصدرها. وإذا حصلت مواقف فردية تُقصي حقوق المسلمين، وتضحِّي بها في سبيل النزعة القطرية، فإن ذلك لا يخوِّل الأطراف الأخرى نسْف المواطنة الإقليمية وإلغاءها.
والتعدُّد الثقافي وتفاوت المفاهيم لا يحملان على الصدام، وإنما يحرِّضان على إيجاد أرضية مشتركة يمارس الفُرقاء من خلالها إعادة الوفاق ومبادرة الحوار، وامتحان المفاهيم؛ سعياً وراء تمحيصها، والتأليف فيما بينها، والنظر إليها بوصفها رؤًى متعدِّدة لا متناقضة. وكل ذاهب بما يرى يجب عليه ألاَّ يقطع بصحة ما يعتقد وخطأ ما يعتقده الآخر، إلا ما كان حُكمه مقرَّراً بنصٍّ قطعيِّ الدلالة والثُّبوت، وما كان من أركان الدين المعلومة بالضرورة، فهنا لا تكون مزايدةٌ ولا مساومةٌ ولا اجتهادٌ. ولكن يجب أن يكون التحديد ناتجَ تداولٍ مؤسَّساتي يضع في (أجندته) كل الاحتمالات، ولا تُؤخذ الأحكام المصيرية من أفراد يتَّكئون على أرائكهم ويطلقون الأحكام على عواهنها، لمجرد أنهم يعرفون فقه الأحكام، ويأنسون بحُكمٍ أطلقه عالم تُوجِّهه سياقاته، ولم يكن حكمه من باب الإجماع. وإذا كانت القضايا والرؤى والتصورات مجال اجتهاد فإن التعصُّب لها يُعدُّ من تأليه الهوى. وأخطر قضية تعيق المسيرة الثقافية الخلطُ بين الأفكار والعقائد؛ فالأفكار قابلة للاختلاف، أما العقائد فهي من الثوابت والقطعيات، ولكن كيف نفرِّق بين الثوابت والمتغيرات واليقينيات والاحتماليات والأفكار والعقائد؟ إن هناك دليلاً يحتمل التأويل، وهناك برهاناً لا يحتمل إلا معنًى واحداً، ولهذا قال الأصوليون: (لا اجتهاد مع النص)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في منازعة الأمر أهلَه: (إلاَّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)، ولم يقل (دليل)؛ لأن الدليل يحتمل عدة مفاهيم، أما (البرهان) فدليل قاطع. والعلماء اختلفوا في الفروع، وتقاربت وجهات نظرهم في الأصول، وكتبوا في قضايا الإجماع ومجالات الاجتهاد، واختلافهم لم يصل بهم حدَّ المواجهة، ولم يمتد إلى العامة إلا في حالات نادرة، حشد فيها البعض مشاعرهم، وتحوَّلت تلك المواقف في التاريخ الحضاري إلى حالة من التندُّر. وما أضرَّ بالأمة إلا التكثُّر والتقوِّي بالأتباع، وخَلْق جماعات الضغط الغوغائيَّة.
والمواطنة في ظل تعدُّد الثقافات تعني المشاركة لا الأثرة، والتعاذر لا التنابذ، والتعايش لا التصادم. وليس في ذلك ما يمنع ما دامت الأمة متَّفقةً على الثوابت، محترمةً لما عُلم من الدين بالضرورة.
وإشكالية الأمة في عجزها عن استيعاب الخطابات المحتملة، وإذ يكون من المتعذَّر واحدية الخطاب فإنه يجب التماس مسوِّغات التعدُّد في إطار المفاهيم العامة، وليس بمستبْعَد أن يندَّ البعضُ فيضِّيق واسعاً، وقد فعلها بعض الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال قائلهم: دَعْني أضرب عنقه يا رسول الله، لمجرد أن المخالف ارتكب خطأً لم يحتملْه العاديُّون. وحين جاء عمر مُمسكاً بتلابيب أحد القرَّاء، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرسلْه يا عمر، وطلب منهما القراءة، ثم قال لكلِّ واحد منهما: هكذا نزل القرآن. وحين أقسم البعض بنفاق مَن فارق المصلِّين بسبب الإطالة، ولم يُثْنِهِ إلا قولُ الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذُ؟!). وإشكالية الأطياف عجزُها عن استيعاب شمولية الإسلام وتسامحه، وكون نصوصه حمَّالة أوْجُه، وأن هناك قضايا أمة وقضايا أفراد. لقد تسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؛ لأن قضاياهم مندرجة ضمن قضايا الأمة، ولم يكن تسامحه موافقةً لهم، ولا إذعاناً لأذيَّتهم، ولكن لكيلا يقول الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه. وإذا لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم بدًّا من حسم الموقف حسمه ولا كرامة، ولهذا قال: (مَن لي بابن الأشرف؟) فبادر أحد الصحابة لقتله غيلةً. ولكلِّ حدث حديث، فلقد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه ظاهرة المؤلَّفة قلوبُهم، ولما قَوِيَتْ شوكة الإسلام منع ذلك عمر؛ إذ لا حاجة في عهده لتأليف القلوب المرتابة. وفي ظل العجز عن فهم شمولية الإسلام وقفتْ فئات بين الإفراط والتفريط، فكان هناك تمييع للأحكام، أو تحفُّظ على الرُّخص بحُجَّة سدِّ الذرائع. إن الأمة كالسفينة المليئة بالأناسي، كلُّهم ركبوها ليصلوا بها إلى ما يريدون، ولكلِّ واحد هدف وغاية ومقصد، ولكلِّ راكب حقُّ التصرُّف بالشكل والطريقة التي تناسبه، شريطةَ ألا يصل الأمر إلى خرْق السفينة.
والرسول صلى الله عليه وسلم حين ضرب المثل بالسفينة والمُسْتَهِمِين والخرْق أراد أن يؤكِّد أن السفينة هي الإسلام الذي يجمع كل الأطياف، وهم حين لا يُخِلُّون بمسارها، ولا يتعرَّضون لوسائل السلامة فيها، فإن ما سوى ذلك مستوعَب ومقبول. ولما كانت السفينة كياناً وحركة كان ذلك موحياً بأن الإسلام (كيان وحركة)، فلا يجوز التصرُّف بالكيان، ولا التدخُّل في اتجاه الحركة، وما سوى ذلك فآراء تختلف، ولكنها لا تتصادم. إن (المواطنة) مفهوم قد يتفاوت، ولكنه لا يفقد ذاته في زحمة المفاهيم؛ إذ لا بدَّ من توفُّر حق يتحقق معه الوجود الكريم، فلا يكون انقطاعٌ له، ولا انقطاعٌ عنه، والمقبول والمعقول أن تتَّخذ بين ذلك سبيلاً. و(المواطنة) تتحقق حين يشعر المواطن بحق الغير وبالحق العام. وكل إنسان يمتلك رؤية مشروعة لا تجوز مُصادرتها، ولا يجوز إلغاؤها، ولا يجوز إصرار صاحبها عليها بالقوة، متى كانت الرؤية الأخرى منسجمةً مع المقاصد الإسلامية، ومتى لم تكن من نواقض الإيمان المتَّفق عليها بين علماء الأمة.
وإذا كان ثمة إزعاج للرأي العام في طرْح الرؤية المشروعة في حين لا يترتَّب على حجبها ضرر بيِّن، فإن على ذويها تفادي إثارة الرأي العام. ولقد احترم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرأي العام في أكثر من موقف، لعلَّ من أبرزها عام الفتح حين قال لعائشة رضي الله عنها: (لولا أنَّ قومكِ حدثاءُ عهدٍ بكُفرٍ لأعدتُ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم)، أو كما قال.
والدول الرفيقة بشعوبها تُبقي على المفضول، ولا تُباشر الفاضل؛ مراعاةً لمشاعر الرأي العام الذي تشكَّل وعيُه على قناعات غير مُضِرَّة بمسيرة الأمة، فالأعراف القبلية مُعتبَرة، وإن كان من الأفضل التخلُّص من بعضها، وبعض الضوابط الحضرية قائمة، وإن كان الأفضل استبعاد بعضها، والتوسُّع في البعض الآخر، إلا أن مثل تلك الإجراءات قد تؤدِّي إلى إثارة الرأي العام، أو إلى عدم احتمال التفاعل مع المستجد. وكل قناعات تشكَّلت مع التقادم الزمني لا يمكن حسمها بين عشيَّة وضحاها، إن التعبئة الذهنية تحتاج إلى أزمنة مماثلة لإفراغها من محتوياتها وتعبئتها من جديد، ومن مُقترَفات الإعلام أنه يُمسي على رأيٍ ويُصبح على آخر، غيرَ مُبالٍ بما استقرَّ في الأذهان، وكأنَّ كلام الليل يمحوه النهار.
على أن لكلِّ مجتمع أعرافه، وأنماط سلوكه، ومواجهة هذه الأعراف بعنف، ونفيها دون تمهيد وإقناع، يعني تحشيد المشاعر والحمل على فُرقة الأمة. ولقد أشرْتُ من قبلُ إلى ضرورة إشاعة ثقافة المؤسسات؛ فالأنظمة والتعليمات والضوابط والإجراءات إذا لم يكن لها ثقافة مُشاعة فإنها لا تُمارس حقَّها، ولا تتفاعل مع أطرافها المستهدَفين بخدماتها. وكم من مؤسسةٍ ضمرت واضمحلَّت بسبب نقص الوعي في أوساط المستفيدين من خدماتها، وكم من مصلحٍ لم ينظر إلى الواقع أفسد من حيث يريد الإصلاح. وأخطر ما تواجهه الأمة ما يلتبس على الغُلاة والمُوغلِين في الدين بغير رفق، وانتزاعهم الآيات والأحاديث من سياقاتها، والخلط بين آيات الوعد والوعيد. والأصوليون يُفرِّقون بين أساليب التعامل مع النصوص، وخاصة خطاب الوعيد. والمُبتسرون يُنزلون النصوص على الوقائع إنزالاً مخالفاً لمقاصد الشريعة، ويتمسكون بآيات الوعيد وبعض الإطلاقات المقيَّدة دون فقه عميق. لقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفَّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، والأخذ بهذا الحديث على إطلاقه يعني الحُكْم بالكفر المخرج من الملَّة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}؛ فقد وصفهم بالإيمان مع قيام الاقتتال. ومثل هذه العموميات تحتاج إلى تبصُّر وفهم ورويَّة وبُعْد نظر، ذلك مثلٌ نضربه ليُفهم أن المسائل تحتاج إلى مزيد من التروِّي. إن المواطنة وثيقة الصلة بالدين والحياة { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ}، { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}، فربَطَ القتال في الدين بالإخراج من الديار؛ لخطورة الفعلين، { وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا}، فجعل القتال للمُخرَجين في سبيل الله. وهكذا تكون المواطنة جزءاً من الدين وقرينةً للعقيدة. والذين تفرَّقت بهم السبل، وضلُّوا طريق الرشاد، يعيشون تحت طائلة التعبئة الخاطئة التي فرضتها لعبٌ سياسية كونية. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية تفكيك هذه الذهنيات، وتنقيتها مما علق بها، وإعادتها إلى سياقها السابق للأحداث، وهي سياقات منطوية على حفظ الحقوق بكل تنوُّعاتها.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:01 PM   #61
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! 1 - 3
د.حسن بن فهد الهويمل


اللغة - أي لغة - وعاء الفكر، ومستودع الحضارة، ووشيجة التواصل، وصنو الدين، بوصفه علامة الانتماء، وصبغة الله. فبضعفها تضعف الأمة، وبانكماشها يتضاءل وجودها. وقيمة اللغة بضوابطها التي تحفظها من الذوبان والتآكل، وبخصوصيتها التي تميزها عن غيرها من اللغات، وبغناها الذي يمكنها من الاتساع لكل مستجد، وبمرونتها التي تتيح لها النهوض بمهماتها، وبنموها الذي يجعلها لغة عصرها، وبثباتها المستمد من عمقها التاريخي وتراثها المتواصل، وبحَفَظَتِها الذين يتناقلونها جيلاً بعد جيل، ويتعهدونها تنمية وتصفية.
وكل حضارة تعطي الدنية في لغتها تمكن عدوها من مقاتلها. وما انتصر عدو على خصمه بقتل أفراده، ولا بتهديم عمرانه، ولا بمصادرة أمواله. فالحسيات تبلى ويخلف الله، وإنما انتصاره في تدمير قيم الخصم المعنوية وإفساد عقيدته وتمزيق لغته. فبذهاب اللغة تمحَّى الذاكرة ويلتغي التاريخ، وبتدمير المعنويات وحدها يكون التدمير الحقيقي. و (الغزو) و (التآمر) اللذان يضيق بذكرهما المستغربون أخطر من المواجهة العسكرية. فالتحديات المعلنة تستعد لها الأمة، وتبذل ما تقدر عليه لصدها، وتوقي خطرها. وقد تكون الحروب سبباً من أسباب مراجعة الذات، وتصحيح الأوضاع. أما المكر والخديعة والغزو الفكري والتآمر الخفي فذلك الشر المستطير الذي يغفل عنه الخاصة، وينخدع به العامة، ويتفاعل معه المنافقون.
وإذا كانت الدول الكبرى تمضي في صناعة السلاح الفتاك، وتتفانى في سباق التسلح، وتنشئ المختبرات لتخصيب الجراثيم الفتاكة، وتنفق مئات المليارات في سبيل التوفر على قوة الردع فإنها لن تدخر وسعاً في استخدام أي وسيلة لإضعاف الخصوم، والتمكن من السيطرة عليهم. ومن هان عليه الإنفاق لإيجاد سلاح رادع فإنه يهون عليه الإنفاق للهزيمة النفسية والمعنوية. ولما كان (الدين) و (اللغة) هما مادة الحضارة ومصدري قوتها المعنوية، فقد أصبحا الهدف الرئيس لكل غزو أو تآمر، وإضعافهما أو إفسادهما إضعاف للأمة. وما دخل الاستعمار في بلد إلا وكان شغله الشاغل مسخ الهوية، وإلغاء الذاكرة، وطمس التاريخ، وإفساد الأخلاق، ونهب التراث والآثار. يروج له في فجاج الفكر المستشرقون والمبشرون والعملاء والجواسيس. وكل هذه المقترفات مما علم من الدنيا باليقين، والحرب ضد (الدين) و (اللغة) قائمة إلى قيام الساعة.
وقراء التاريخ الحديث يجدون بين طياته وقائع عسكرية، وأخرى فكرية. وقادة الفكر المناوئ لا يقلون في خطرهم وحقدهم عن قادة الجيوش. ولو نظر الراكنون إلى الذين ظلموا في صراع اللغات وحدها، لتبين لهم أنه من أشرس الحروب وأخطرها على مصير الأمة. ويكفي أن نلفت النظر إلى قضية موثقة يتداولها الدارسون، وهي قضية (الدعوة إلى العامية) فلقد كانت (مصر) إبان الاستعمار مصدر كل الدعوات الهدامة. وكان الشرفاء من أبنائها حماة اللغة العربية وردء القيم الأخلاقية. ويكفي أن يقرأ الحريص على تحرير المسائل كتاب الدكتورة (نفوسة زكريا سعيد) (تاريخ الدعوة إلى العامية وأثرها في مصر) ليجد ما رصدت فيه من المحاولات التي يشيب من هولها الولدان، ومن أخطرها التفكير في كتابة القرآن بعامية مصر. ولما كانت مصر واسطة العقد، فقد تجرعت كل المرارات، وواجهت كل الحروب، وكثر فيها إلى جانب ذلك العملاء والمستغربون، وظهرت دعوات الاستغراب والعلمنة وسائر النحل والملل المادية والروحية. ولم يزل المفكرون والفلاسفة والمبدعون والنقاد في كافة المشاهد العربية يجودون بالقول الحق ونقيضه. والمؤلم أن الحضارات المهيمنة وجدت من بعض النخبويين ركائز، استطاعت من خلالهم أن تنفث سمومها، وأن تشكك الأمة العربية في دينها وفي لغتها. والأدهى والأمر تهافت الطلائع الفكرية على ما فرغ الغربيون منه، يقولون مثل قولهم، ولا يدركون خطورة ما يقولون وانتهاء صلاحية القول فيه.
لقد كانت (اللغة العربية) غرضاً لكل الرماة، ولعلنا نستذكر بكائية (حافظ إبراهيم) على لسانها وحرقته حين يرى كل يوم في الجرائد مزلقاً يدنيها من قبرها. ولعلنا نستذكر - أيضاً - جهود (مجمع اللغة العربية) وما قُدِّم فيه من بحوث، وما تبناه من كتب ومعاجم ومناهج، وما تداول فيه المؤتمرون من آراء، وما تضمنت قراراته من توصيات لا يعلمها إلا الأعضاء العاملون. لقد ضاعف المخلصون في مصر بالذات جهودهم لصد هذه التعديات، فكان أن حققوا الكثير، ولكننا في زمن الضعف والخور لم نُغْزَ من الخارج، وإنما غزينا من الداخل. وذلك بعض ما حفز الدكتور (محمد محمد حسين) رحمه الله إلى تأليف كتاب (حصوننا مهددة من الداخل) درس فيه ظواهر هذا الغزو الذي ينهض به أبناء المسلمين أنفسهم، وتلك علة باطنية من الصعوبة بمكان توقيها، والخطورة في تشابه القضايا والتباس الأمور والخلط بين المتناقضات، وأخطر منه ما تواجهه الأمة من تلبيس متعمد، فالغزو والتآمر على أشدهما، ثم يأتي من يشكك بذلك، ويعيب المنذرين والمحذرين، ولا يني يردد المقولة الماكرة باستفحال (عقدة التآمر) لكي يصرف الناس عن الثغور، مدعياً أن الأمة تعيش هذه العقدة، وأن التفكير فيها سبب التخلف، وأن الغرب جاد في تمدين الدول النامية وتحضيرها، وتمكينها من العدل والحرية والمساواة، ولكن تلك الدول لا تقبل ذلك، وما تلك الشائعات إلا بعض معطيات غسيل المخ. الغرب أرخى عنان فنه الماجن وأخلاقياته الساقطة، وشد الوثاق على مكتشفاته ونظرياته العلمية، ليظل العالم الثالث مستهلكاً متخلفاً.
وإذا كان المشيعون لظاهرة الغزو والتآمر يقصدون تبرئة أنفسهم، وتحميل الآخر جرائر إخفاقاتهم، فتلك خطيئة تضاف إلى غيرها من الخطيئات. أما إذا كانوا يحذرون الناس، وينذرونهم لقاء المتماكرين على حين غفلة، ويحثونهم على إعداد القوة، وتحصين النفس مع تحمل المسؤولية فذلك الصواب عينه. ومهما كانت الأهداف فإن (الغزو) و (التآمر) قائمان على أشدهما، ولا ينكرهما إلا جاهل أو مواطئ. وتخلفنا في التقنية والعلم التجريبي لا يحسمه اتباع ملتهم، وإنما يحسمه فهم ملتنا والعض عليها بالنواجذ وأخذ ما عندهم من علم بظاهر الحياة الدنيا.
والتفاعل والتعالق وتبادل المصالح والمعارف سُنَّة كونية، وليس في ذلك من بأس، ولا يعد شيء منه غزواً ولا تآمراً. ومصائب الأمة في اضطراب مفاهيمها واختلاف مواقفها. والمؤكد أنه ما من حضارة إلا ولها يد سبقت على غيرها، والحضارة التي لا تعدو عيناها إلى ما عند الآخر من الحق لا تسترجع ضالتها. والحق ليس وقفاً على حضارة دون أخرى، وليس هناك حضارة بريئة، فكل حضارة منقرضة تظل كامنة في خلفها. و (الحضارة الإسلامية) ليست بدعاً من الحضارات، فلقد وسعت محاسن ما سلف، وما بُعِث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق، ولقد قال صلى الله عليه وسلم لأحد أشراف القبائل: (إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة) - أو كما قال - . ولقد أثنى على (حلف الفضول) ووصف أبا (سفانة) بأنه رجل يحب مكارم الأخلاق.
والإسلام حضارة عالمية إنسانية له ضوابطه ورؤيته وتصوره للإنسان والحياة والكون. ومن أراد اعتزال الحضارات واستدبار منجزاتها فقد اختار طريق الضعف والوهن، وفوت على حضارته أفضل الفرص. وبوادر الضعف والشقاق ناشئة من تفاوت النخب في فهم الظواهر والتيارات والملل والنحل، واختلافهم في أسلوب التعامل معها، وقيام جدل بيزنطي عقيم حول مفاهيم واضحة، لا تحتمل الاختلاف. وهذا التنازع والتفرق جعل بأس النخب بينهم شديداً، ولو أنهم إذ اختلفوا فكرياً أو عقدياً حول أشياء العصر ومستجداته ردوا خلافهم إلى الكتاب وصحيح السُّنَّة لكان أن حسمت المشاكل أولاً بأول، ولكنهم يختصمون في غياب المرجعيات وجهل الأحكام. وما وقفت على خلاف حول المستجدات إلا وكان سببه الجهل والتعصب وتأليه الهوى والتصدر للفتيا في غياب مثلث الوعي السليم: فقه الأحكام والواقع والأولويات، والخلط بين الأفكار والعقائد، وعدم الفصل بين أمور الدنيا ومتطلبات النص التشريعي، وتقصير الخاصة في استغلال الفسح والتيسيرات التي اتسمت بها أحكام الإسلام: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، (استفت قلبك) ، (أنتم أدرى بأمور دنياكم) ، (ما خيّر رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما) ، {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، {الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً}، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
لقد حفز على هذه المقدمة التحفظية ما تتداوله المشاهد العربية من أحاديث حادة النبرة حول كتابين يمسان اللغة العربية، وينحيان باللائمة على علمائها الأوائل الذين أصلوا لقواعدها، وتوسعوا في معارفها، وحفظوها من عوادي الزمن، صدر أحدهما في مصر وصدر الآخر في الشام، هتف أحدهما بسقوط (سيبويه) واتهمه الآخر بالجناية. وكل مفكر له رؤيته ودوافعه وأهدافه، ولكن البعض يؤتى من الجهل أو من التسرع أو من الانفعال. والصدق والإخلاص غير كافيين للتوفر على الصواب، فكم من صادق مخلص أورد قومه موارد الهلكة، ومن ثم فنحن أحوج ما نكون إلى البصر والبصيرة والمعرفة وحسن التصور واستكناه القضية ومتعلقاتها، ومعرفة قضايا الدين والدنيا والمساحات المشتركة بين الحضارات وحكم النوازل والمستجدات. وإشكالية الأمة في مبتدئين مندفعين لا يلوون على شيء من المعرفة أو التجربة، ولا يدركون خطر الغزو والتآمر والتماكر، ولا يترددون في تقديم حسن الظن، وأخذ فيوض الإعلام، على أنها قضايا مسلمة، لا تسأل عما تريد ولا عما تفعل. وما أُتيت ثوابت الأمة إلا من أنصاف المتعلمين ومثقفي السماع وربائب الإعلام والذواقين، الذين يجمحون وراء بوارق الحضارة المادية، ولا يفرقون بين القيم العلمية البحتة والقيم والفكرية والأخلاقية.
والقول السيئ عن اللغة جاء مع الاستعمار الغربي، ولمّا يزل المجنَّدون لهدم اللغة يقلبون الأمور. وكلما أوقدوا ناراً للحرب هب المخلصون لإطفائها، ولكن البعض من الغيورين يجاري المناوئين في أساليبهم وأخلاقهم وطرائق تعاملهم، والشاعر الحكيم يقول:




(إذا جاريتَ في خُلُقٍ دنيءٍ
فأنت ومَن تجاريهِ سواءٌ)


والمدافعون عن قضايا الأمة المصيرية يجب أن يمروا باللغو مراً كريماً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. ثم إن طائفة من المشتغلين بالشأن الثقافي تنقصهم المعرفة، وتخونهم الوسائل، وهم أحوج إلى أن يتعلموا الأحكام والأصول وطرائق الأداء وأساليب الحوار الحضاري، ولن يتحقق شيء من ذلك إلا بالتفقه والرفق واللين والموعظة الحسنة. والذين يجندون أنفسهم للدفاع عن مثمنات الأمة مأمورون بعدم السب وبعدم الجهر بالسوء إلا في حالات محدودة ومحسوبة، والعفو مقدم على الاقتصاص. واللين مطلب رباني ورحمة مسداة، والمسلم ليس بالطعان ولا باللعان، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى حسن التخاطب واستبعاد الفظاظة، والغلظة، وبخاصة أن الأمة تعيش حالة من الضعف والتعويل على ما عند الغير من ماديات. وإذا كان الله قد خفف على عباده حين علم أن فيهم ضعفاً، فإن على الأمة أن تعرف قدر نفسها، وأن تتحرك وفق إمكانياتها، وأن تبادر إلى تلافي ما ينقصها من قوة حسية ومعنوية استجابة لأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}. فالضعيف لا يطاع له أمر، ولا يقام له وزن، ولا يكون قدوة صالحة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:02 PM   #62
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! (2-3)
د. حسن بن فهد الهويمل


وإذا كنا نريد استعراض ما يحاك للغة القرآن من مكائد، وما تفيض به الكتب ووسائل الإعلام من هجوم سافر ودفاع متشنِّج فإننا لا نقف حيث يكون ذلك اللغط. فالمؤامرة على ثوابت الأمة ومثمناتها ممتدة عبر الزمان والمكان، تمس كل شيء أتت عليه، ومهمتنا تنقية الأجواء، وترتيب الصفوف، واختيار أحسن الطرق للجدل، وأمضى الوسائل لجهاد الدفع. ولن تكون تلك الحملة هي الأخيرة، بحيث نرمي بثقلنا فيها، ونلقي آخر سهامنا في أدبار الخصوم. إن راية الباطل يتلقاها المبطلون جيلاً بعد جيل، وإذا طلَّ منهم متربص قام متربص آخر أمضى عزيمة وأقوى جلداً. ولهذا لا بد من إطالة النفس، وترويض الأخلاق على الصمود والتصدي والصبر والمصابرة، فالمعركة طويلة، ووسائلها متنوِّعة، ومجالاتها متعدِّدة. وإذا كان كل عالم ومفكِّر وأديب على ثغر من ثغور الإسلام فإنَّ الأعداء ينسلون من كل حدب. وواجب المقتدرين اليقظة والاستعداد {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وواجبنا ترويض النفس حين يختلط المصلح بالمفسد، ويقع البعض تحت طائلة الاتهام مع أن مقصده قد يكون سليماً، ومنشأ ذلك سوء التعبير، ونقص البضاعة، والخلط بين المتباينات. ومثل هذه العوارض تجعل بأس الأمة بينها شديداً.
وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر تداولت المشاهد الثقافية كتابين حول اللغة وقواعدها، وأسيء الظن بنوايا صاحبيهما، وقسا المتصدون لهما بالمواجهة. وما كنت أود ذلك، ما دامت هناك إمكانية للحوار، وقدرة على مواجهة الآراء المنحرفة بالإرشاد وحسن التصرُّف، تمكِّن من وضع المخطئ أمام خطئه، وتبيِّن له سوء عمله، فإن كان باحثاً عن الحق انصاع إليه، وسلَّم لذويه، وإن كان غير ذلك أسهم في تعرية نفسه وإبانة عواره.
أما أحدهما فكتاب (شريف الشوباشي) (لتحيا اللغة العربية: يسقط سيبويه) والكتاب من مطبوعات (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، وهي هيئة رسمية تتوخَّى أحسن الكتب وأنفعها للناس. وهو كتاب أشبه ما يكون بظاهرة الثلاثيات الروائية، كثلاثية (نجيب محفوظ) إذ سُبق بكتابين (نهاية التفكير) صدر عام 1998م و(الداء العربي) صدر عام 2002م، فيما صدر الكتاب الضجة عام 2004م. أما الكتاب الآخر فهو للكاتب (زكريا أوزون) (جناية سيبويه: الرفض التام لما في النحو من أوهام) وهو من مطبوعات (دار رياض الريس للكتاب والنشر). يقع الأول في خمس وتسعين ومئة صفحة من القطع الصغير. فيما يقع الآخر في ست وسبعين ومئة صفحة من القطع الصغير أيضاً، ولما جاء الجدل حولهما مرتفع النبرة حادَّ العبارة حرصت على قراءتهما، وبعد لأيٍ ومشقة حصلت عليهما، ليحتلا مكانهما بين عشرات الكتب المثيرة في زاوية من مكتبتي.
والكتابان ينحيان باللائمة على قواعد اللغة ومناهج تدريسها، ويعدان ذلك مصدر الضعف والتخلّف، ويتخذان من (سيبويه) منطلقاً لهما، بحجة أنه سنَّ في النحو سنَّة سيئة. و(سيبويه) صاحب (الكتاب)، رائد النحو العربي بلا منازع، وإسقاطه إسقاط للنحو العربي. ولهذا لم يكن استدعاؤه اعتباطاً، وكل من أراد القضاء على أي ظاهرة أتاها من قواعدها وذلك ما كان يريده البعض، والباحثان يختلفان في طرائق الأداء والتناول، وليسا فيما تبدَّي لي قاصدين النيل من اللغة، ولكنهما يسيئان من حيث يريدان النفع، ويستمرئان ركوب موجات التغريب، والأخذ بعصم المذاهب والمناهج، ويظنان كل الظن ألا تلاقيا بين التراث والمعاصرة. فالأول في كتابه كل شيء إلا النحو، والآخر ليس فيه شيء إلا النحو، ولكنه اجترار ممل لمقولات أكل الدهر عليها وشرب، وكأني به يعيد إلى موائد البحث ما غبَّ من الطبيخ، فمناهج اللغة العربية اعتورتها سهام المصلحين والمفسدين، والمتابع لسائر الأطروحات حول قواعد اللغة العربية يقف على آراء متناقضة. و(سيبويه) ك(المتنبي) شغل الناس، وأسهر الباحثين، وهو مجال مناسب للحضور ولفت الأنظار، فكل من أراد أن يتعجَّل الحضور قبل أوانه أنشب أظفاره في ذلك الجسد المحشو بالسهام على حد:-




(وكنت إذا أصابتني سهام
تكسَّرت النصال على النصال)


ولمَّا لم يكن الكاتبان على شيء من معارف المجدِّدين في الشأن اللغوي، ولا على شيء من معارف التراثيين، فإن بضاعتهما مزجاة. ولا يشفع لصاحب الجناية ذلك الحشد من الشواهد، وذلك الترتيب للفصول، وتناول الكلمات والجمل والأسماء، والأدوات، وإعراب الجمل، والشواهد، والتخريجات، والموازنة بين الماضي والحاضر، فليس له ذلك إلى القص واللصق. ولا أظنهما في هذه العنونة المستفزة إلا قاصدين للإثارة والكسب والشهرة. وقد نالا منها بعض المبتغى.
فالصحف العربية وسعت ردود فعل عنيفة، حملت المتابعين على البحث عن الكتابين، والتساؤل عن هوية الكاتبين. ففي الأولى كسب مادي، وفي الثانية شهرة زائفة. ومثل هذه التصرفات الدعائية يعمد إليها الشدات والمبتدئون تعجلاً للأشياء قبل أوانها.
ولإسقاط المحاولتين البائستين، لا بد أن يقرأ المتابعون حركة تيسير النحو، وتبسيط قواعده، عبر عشرات المؤتمرات، ومئات الكتب: تطبيقاً وتنظيراً، وبخاصة البحوث التي قدِّمت لمجامع اللغة العربية في (مصر) و(الشام) و(العراق) و(الأردن)، وما ألِّف من كتب تفاوتت في أساليب العرض، واختلفت في مادة التناول. ف(النحو العربي): تاريخ ومادة ونظريات وقواعد ومفاهيم وطرق وقضايا ومدارس. ورصد الحركة مؤذن بكشف الزيف وضبط الاسترفاد و(الشوباشي) و(أوزون) أصداء باهتة للتذمر، وما قالاه بعض ما قيل وما سيقال. وما استبدا إلا بالعناوين الصارخة، ليس غير. على أن (الشوباشي) اتخذ العنوان المثير، ولم يتلبث حوله، بل أمعن في جلد الذات العربية عبر مقالات تدين الضعف والتخلّف، ولا ترسم طريق الخلاص، فيما أمعن (أوزون) في الشواهد قصداً للإدانة وإثبات الجناية.
وقواعد النحو العربي وصرفه والنظريات المنهجية لتطويره وتيسيره تناولتها طائفة من العلماء، من أبرزهم الدكتور (مهدي المخزومي) في كتابه (في النحو العربي نقد وتوجيه) والدكتور (حسن عون) في كتابه (تطوير الدرس النحوي) والدكتور (عبد الكريم خليفة) في كتابه (تيسير العربية بين القديم والحديث) والدكتور (شوقي ضيف) في كتابيه: (تيسير النحو التعليمي قديماً وحديثاً) و(تجديد النحو) و(عبد الوارث مبروك) في كتابه (في إصلاح النحو العربي) والدكتور (حسن عباس) في كتابه (اللغة والنحو في القديم والحديث).
ومن قبل أولئك هبَّ الأستاذ (إبراهيم مصطفى) لإحياء النحو قبل سبعين عاماً، وبارك هبوبه (طه حسين) في مقدِّمة ممتعة، بلغت بالكتاب وبصاحبه السماء مجداً واقتداراً) وكادت تلتمس له فوق ذلك موضعاً. وجاءت حيثيات المؤلّف لإيقاف البرم والضجر والضيق بالنحو وقواعده وطرائق أدائه. ولقد وجد العلماء الأوائل من قبله ذلك البرم والضجر والضيق - على حدِّ تعبيره - الأمر الذي حملهم على تسمية كتبهم ب(التسهيل) و(التوضيح) و(التقريب). والنحو عنده لا يسعف بالقول الفصل، فهو مظنّة الاختلاف والاضطراب والجدل، وتلك أدواء النحو التي أفسدته - كما يقول - وتحت طائلة تلك المعوقات فشل النحو في أن يكون السبيل إلى تعلّم العربية، لقد سخر من الأوائل، وكاد يطرح نظرية في النحو أو في المنهج وأدائه، وآلياته.
ومع أنه مسَّ النحو والنحاة مساً خفيفاً لاشتغاله بما يتوهمه فتحاً علمياً حول (نظرية الإعراب) فقد تصدَّى له من أوغل في نقده، وجاء كتاب (النحو والنحاة بين الأزهر والجامعة) للأستاذ (محمد أحمد عرفة) رداً قاسياً عليه. والمؤلِّفان ينتمي كل واحد منهما إلى جامعة تختلف عن الأخرى أشدَّ الاختلاف، وكل منتمٍ ينحي باللائمة على الآخر. وإيغال الرجلين في التعصب فوَّت على المتابع أشياء كثيرة، وما كان التلاحي بين العلماء غريباً ولا مخيفاً، وثراء التراث في الخصومات العلمية، وإشكالية الراصدين للحراك المعرفي حول اللغة وقضاياها عجزهم عن تمييز الخبيث من الطيِّب، ومعرفة المصلح من المفسد، فما يكتبه (لويس عوض) في هذا السبيل، يختلف عما يكتبه مصلح لم يحالفه التوفيق، وإذ يتهم (سيبويه) بالجناية، ويهتف البرمون بسقوطه، فإن آخرين دعوا لإماتة النحو العربي، ليخلوا الجو لنظريات حديثة ك(التحويلية)، ولن تخلو المشاهد من مرجفين وتبعيين وجهلة ومبتدئين ومتسرِّعين، يباهون باتباع سنن الغربيين.
وإشكالية اللغة العربية ليست في صعوبتها، ولا في تعقيد النحو وجنوحه إلى الفلسفة، ولا في تعويله على الحذف والتقدير والعامل، وإنما الإشكالية في أن مادة اللغة كامنة في المعاجم والقواميس، وأنظمتها حبيسة في كتب النحو والصرف، والناس يستعملون لهجات متعدِّدة بتعدّد المدن والقرى. وحياة اللغة وتكرسها وشيوعها في الاستعمال، وليس في الدراسة والحفظ، وكل الذين يتحدثون عن الصعوبة والغياب لا يستحضرون هذه الإشكالية. اللغة العربية نراها ولا نسمعها، نراها في الكتاب ولا نسمعها في الاستعمال، والسمع مقدَّم على البصر (والأذن تعشق قبل العين أحياناً) و(الأذن كالعين توفي القلب ما كان). وما جاء السمع والبصر في القرآن إلا وقدِّم السمع عليه لأهميته. وإذا كان النحو والصرف والبلاغة والأدب تدرس باللهجة العامية في الجامعات، وإذا كان طلبة اللغة العربية لا يحسنون الحديث، ولا يجوِّدون الكتابة، وهم في قاعات الدرس فإن اللغة معذورة وعلماءها مبرؤون من خطيئة التعقيد ومسؤولية الغياب.
و(سيبويه) الملوم المتهم، لم يكن مبتكراً للمعيارية، وإنما كان مكتشفاً وراصداً، شأنه شأن (الخليل) في (العروض)، فاللغة العربية كائنة بشعرها ونثرها وقرآنها وسائر موروثات القول ومدوّناته قبل أن يكون (سيبويه)، ودوره المحمود مقتصرٌ على الاستقراء والوصف. و(الكتاب) الذي ألَّفه وتداوله العلماء وخدموه بالشرح والتفصيل والإضافة والاستدراك يُعد أساس علم النحو والصرف، ويكفي أن يكون المصدر والمورد، وألا يتصدر أحد للتدريس في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية حتى يقرأ (الكتاب) ويفهمه. لقد اعتوره العلماء في القديم والحديث: درساً وتحقيقاً وطباعة، وبخاصة الدراسات الأكاديمية التي تعد بالمئات، وخارج أروقة الجامعات، ألِّفت عن كتابه مئات الكتب والدراسات، كما نفل المترجمون والدارسون (سيبويه) بعشرات الكتب، فهو بحق عبقري اللغة، والقول بسقوطه، أو جنايته شعارات جوفاء، لا تستفز إلا الفارغين والفضوليين. وما كنا نود الحديث عن الكتابين لولا ما فيهما من المغالطات.
لقد عيب على قواعد النحو والصرف جنوحها إلى التعليل والتأويل والتقدير، وهي مقولات تنطلق من الفلسفة وتعقيداتها، وتلك سمات تعد من عبقرية اللغة وعلانيتها. ولم يكن (سيبويه) وحده الناشط في تحرير النحو العربي، ولم تقتصر المعارف النحوية على أشخاص محدودين، بل كانت هناك طبقات من العلماء المستقلين بآرائهم، وكان هناك آخرون منتمين إلى مدارس ذات أصول ومناهج ك(المدرسة البصرية) و(الكوفية) و(البغدادية) و(المصرية) و(الأندلسية). هذه المدارس أحياها عمالقة لا يزدريهم إلا مدخول في عقله أو في علمه أو فكره. أمثال (الخليل) و(الأخفش) و(المبرد) و(الكسائي) و(الفرَّاء) و(ثعلب) ولكل واحد أصحاب يشيعون مذهبه وينافحون عن آرائه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:03 PM   #63
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
سيبويه بين جناية الفعل وسقوط المشروع..! 3-3
د. حسن بن فهد الهويمل


ولم يكن المتأخرون أول من نال من (سيبويه) ومن طريقته في التأليف أو في التقعيد، ف(أبو العباس محمد بن يزيد المبرد ت 285ه) أول من تصدى لسيبويه، وأمعن في نقده، إن صحت نسبة الكتاب إليه. وكتابه (مسائل الغلط) أو (كتاب الرد على سيبويه) المفقود، ذكره المؤرخون للنحو العربي ورجاله ومدارسه والمدافعون عن (سيبويه)، واقتبسوا منه.
يقول (أحمد مختار عمر): (وقد كان لصدور كتاب المبرد هذا فعل قوي لدى النحاة إذ استكثروا جميعاً هذا الهجوم) وقد بسط الحديث عنه العلامة (عبدالخالق عظيمة) في مقدمة (المقتضب).
و(المبرد) جدير بمثل هذه المغامرة، فهو صاحب (كتاب المقتضب) ومثله حقيق أن يراجع أستاذه، فهو قد درس (الكتاب) ل(سيبويه) وتبنى مذهبه، ودرس كتابه، وأثرى من تدريسه.
وارتباط (المبرد) ب(الكتاب) جعل البعض يشكك في نسبته إليه، وخلوصاً من هذا الموقف الغريب من (المبرد) قيل إنه كتبه في شبابه، وعدل عنه في مشيبه.
وممن تصدى ل(المبرد) (ابن ولاد) الذي ألف كتاب (الانتصار لسيبويه من المبرد)، ومع احتمال صحة النسبة فإن مآخذ العلماء على بعضهم لا تمس جوهر القضايا، وكل اختلافاتهم تصب في صالح اللغة.. فالمدارس النحوية مخاض علم غزير، وفهم عميق، واقتدار متميز.
وصراع العلماء واكبه صراع المدارس والعصور والأنحاء، ف(الأندلسيون) يعيبون المشارقة ببعض ما يذهبون إليه، فهذا (ابن مضاء) يؤلف كتاباً في الرد على المشارقة في دعوى (العامل) في النحو. أما جعجعة المتأخرين واهتياجهم الأعزل فهو ناتج انبهار بالمستجد، وإقواء من التراث، وجهل مخجل بالمناهج الجديدة، ومواكبة غبية لأعداء الحضارة الإسلامية وقضاياها.
وكيف يستسيغ مبتدئ القول: بأن بقاء النظام اللغوي منذ العصر الجاهلي يعد تحجراً وجموداً وتخلفاً للفكر العربي، بوصف اللغة وعاء الفكر، هذا الاتهام بعض تهويشات (الشوباشي)، وما عرف أن اللغة العربية تنمو كما الأحياء، وهي بالنحت والاشتقاق والسياق والمجاز والانزياح والحذف والتقدير والخيال وسائر سماتها لغة نامية متحركة، مستجيبة لمتطلبات العصر.
لقد سيئت وجوه كثيرة من هذه الجنايات، وتجلت صور الاستياء بتدافع الغيورين للذبِّ عن اللغة عبر الندوات الإذاعية والتلفازية والمقالات والمؤلفات، ولعل أحدث ما أفرزته هذه الحملة كتاب الدكتور (إبراهيم عوض) (لتحيا اللغة العربية: يعيش سيبويه) وهو كتاب يقع في مائة صفحة من القطع المتوسط، وفيه الرد على (الشوباشي) بعض مآخذه على اللغة ونحوها.
والمتابع لمشاهد النقد ومناهج دراسة اللغة يصاب بالغثيان من متعالمين يمعنون في النفي والإقصاء والقطع بالموت، وما هم على شيء من علم بالتراث، ولا على بصر بالمعاصرة. والقارئ لكثير من تناولات هذا الصنف من الناس، لا يرى فيها إلا قولاً إنشائياً لا يدعمه شاهد، ولا يسنده دليل، ولا يعضده مشروع متكامل، يسد المكان الذي سدته مناهج السلف أو الخلف. واحتفاء القراء بهذه الفقاعات مضيعة للوقت، وتفويت لفرص ثمينة. إذ لو أن هؤلاء المتسطحين تضلعوا من التراث، وعرفوا مناهجه وآلياته وقواعده وأصوله وجهود علمائه، ثم نفروا إلى المستجدات في الشرق أو في الغرب، واستوعبوا ما عندهم، ومارسوا المثاقفة وساءلوا الغواص عن محاسن التراث والمعاصرة، ثم انتقوا من المستجد ما يخدم التراث، ويقربه إلى الناس، لكان ذلك عين الصواب، ولكنهم لا يحسنون إلا جلد الذات وتشويهها في كافة المشاهد والتعالق الغبي مع المستجد. وإذا قيل لهم تعالوا إلى موائد الحوار وإلى ما خلف الأوائل والأواخر، رأيت الأوباش منهم يلوون ألسنتهم، ويلوُّون رؤوسهم، ولا يلوون على شيء من الحق.
وتلافي الضعف، ووقف طوفان العامية، يتطلبان تحرفاً للإصلاح، ينطلق من التعليم، ويشيعه الإعلام، ويقدم عليه الكافة، وبوادر ذلك بدت فيما عرف ب(النحو الوظيفي) وهو الاقتصار على المستعمل من اللثة، واستبعاد التقعر والمماحكة والخلافات، والاستغناء عما لا تقوم الحاجة إليه، والتفريق بين علم يقوّم اللسان، ويحمي القلم، وعلم تخصصي، يتعقب المذاهب، وينقب في رؤى المدارس النحوية. ولم يقتصر رجال التربية والتعليم على تلمس أيسر الطرق وأسلم المناهج، بل مارسوا التطبيق، ولعلنا نذكر سلسلة (النحو الواضح) ل(علي الجارم) و(مصطفى أمين) وممارسات أخرى لم تكتب لها الشهرة، مثل (جامع الدروس العربية) ل(الغلاييني) و(المحيط) ل(الأنطاكي) و(النحو الوافي) ل(حسن عباس) وهو الأوسع والأشمل، إضافة إلى المعاجم النحوية التي لا تحصى.
وخسارة المشاهد جاءت من فئات أمعنت في النيل من عمالقة العلم والفكر والأدب، ولم تقدم بين يدي نيلها الجارح ما يدل على أنها خير خلف لخير سلف. وتلك سجية عرف بها عدد كبير من دعاة الاستغراب. ولو قُرئت امتعاضات العلماء والمفكرين من هذه المغامرات الطائشة، لكان أن عُرِّي هؤلاء، وانفض سامرهم. وممن تصدى للعابثين (محمود محمد شاكر) - رحمه الله - في مقالات ومؤلفات، ومن قبله (الرافعي)، ومن بعدهم (النفاخ)، وفي كتاب (مقدمة في علم الاستغراب) للدكتور (حسن حنفي) إفاضات جيدة، يحسن الإلمام بها، ومن بعد أولئك ومن قبلهم تعاقب المتذمرون والمتصدون لهذا التهافت المشين. وفي كل قطر عربي عزمات لا تلين. لقد كان (محمد سرور الصبان) رحمه الله من أوائل من نافح عن اللغة في كتاب استطلع فيه آراء الأدباء في الحجاز عما كتبه (ميخائيل نعيمة) عن اللغة، وطبع تلك الآراء في كتابه (المعرض) وكانت للأستاذ (أحمد عبدالغفور عطار) رحمه الله إسهامات في التحقيق والمنافحة، وفي كل بلد ينبري من ينافح عن لغة القرآن، ولقد بسطت القول في سلسلة مقالات نشرتها في جريدة (البلاد) قبل عشرة أعوام تقريباً تحت عنوان: (تنمية اللغة)، وفي كتاب مخطوط تحت عنوان: (الإبداع الأمي: المحظور والمباح).
وفي غمرة القول والقول المضاد اضطربت الآراء حول (المنهج) وبخاصة بعد ما شهد (علم اللغة) الحديث تطوراً في الغرب، وامتد أثره إلى المشرق العربي، وكان الناس من قبل لا يعرفون إلا (المنهج المعياري)، على سنن المتقدمين، ثم كان الإجماع أو كاد على (المنهج الوصفي) ولم يتلبثوا فيه إلا قليلاً، فكان هناك تحول وتفرق والتقاء حذر حول (المنهج التحويلي). ورواد هذه المناهج غربيون، أبلوا في البحث والتجريب بلاء حسناً. والمصداقية تحتم الإشادة بما توصلوا إليه، نذكر من أولئك على سبيل المثال (سوسير) و(تشومسكي) و(دريدا) ولكل واحد من أولئك منهجه واهتمامه ومجاله، ومن ثم عرفت (البنيوية) و(التحويلية) و(التفكيكية). ومع ما تركه هؤلاء من أثر واضح فيه منافع للغة وإضرار أكبر لبعض جوانبها كالتلقي والتأويل والنص المفتوح والمعلق فإن لعلماء النحو والصرف سبقاً وتميزاً، ولكن الناس لا يفقهون. وتميز الغربيين في آلياتهم ومناهجهم ومبتكراتهم ومعاملهم والقول ب(الكسبية) أو (الملكة) واستخدام الآلة والبحث وتقدم علم الصوتيات لا يعني التسليم المطلق لهم ونبذ ما بأيدينا، وفي الوقت نفسه لا يليق بنا الاستغناء عما توصلوا إليه. والتفاعل مع المستجد يحتاج إلى كفاءات علمية، تحفظ التوازن، وتعرف كيف تصرِّف الأمور، وتوائم بين القديم والحديث. وعلم اللغة الحديث بحر لجي متعدد النظريات والمناهج والآليات، والفرضيات والنظريات التي ينقض بعضها بعضاً، والتحولات التي لا يقر لها قرار، وكل ذلك كم معرفي، لا يستغني عنه مهتم بالشأن اللغوي، ولا يستغنى به.
والاستياء والتذمر وتلمس أنجع الطرق حق مشروع، ولست أشك أن هناك عسراً في دراسة النحو والصرف منشؤه تعويل الأقدمين على المنطق وطريقتهم في الاستقراء والاستنتاج والقياس والعلة والعامل والحذف والتقدير والشرط والأحوال والجائز والممنوع، كل ذلك جعل مناهج الدرس النحوي والصرفي مجالات لكثير من التساؤلات. والعلماء المعاصرون الأفذاذ لم يدخروا وسعاً في البحث عن طرائق جديدة تؤدي إلى تقريب الدرس النحوي من نفوس الدارسين. وإحساس العلماء بالحاجة الملحة إلى تجديد النحو العربي لم يقف منذ أن بدأت بوادره على يد (الدؤلي) إلى يومنا هذا، ولكن المشتغلين بهذه القضايا يختلفون ويتفاوتون، وبعضهم أميون لا يفقهون، ولا يعرفون أنهم لا يفقهون، وضررهم أكبر من نفعهم. ولما كان العصر عصر مؤسسات فإن على المهتمين والمتخصصين عرض وجهات نظرهم وخلاصة تجاربهم على (المجامع العربية) وعلى (الجامعات) لتداول الآراء وتمحيص الأفكار والخروج بتوصيات تسهم في حل المشاكل وحماية اللغة، أما الاهتياجات الفارغة والاستبدادات الفردية فإن إثمها أكبر من نفعها.
ولو عدنا إلى الكتابين مجال البحث، ونحن عائدون ولا شك، لوجدناهما خاليين تماماً من التناول الموضوعي.. فالكاتبان استنفدا الجهد والوقت في اللوم والتقريع، ولم يقدما حلاً ولا نظرية ولا منهجاً ولا آلية، والنقد التطبيقي الذي مارسه (أوزون) عشوائي مكرور، ومشروعه المقترح هلامي لا يسد المكان الذي حاول تخليته من النحو العربي، وهو قد اقترف جناية أخرى رواها من أثق به، فألف كتاباً عن (جناية البخاري) وسماه الأستاذ (محمد دياب) (ثقب الأوزون) (الاقتصادية 19-12-1425هـ). والاثنان لم يقرآ (الكتاب) لسيبويه، ولو غامرا بقراءته لما فهماه، ولو فهماه لما استطاعا تطبيقه. ومع خلوهما المعرفي فقد احتملا بهتاناً بحق (سيبويه) وإثماً مبيناً بحق التراث العربي. والنيل من علماء الأمة ومن تراث الحضارة الإسلامية دأب المستغربين والمستشرقين. فالنقد الموضوعي غير التجريح الشخصي، وعرض البدائل غير النفي والإقصاء، وإشكالية مشاهدنا اختلاط الزيف بالأصالة، إذ ليس كل متصد للتراث مستغرب، فكم من عالم فذ نقب في كتب التراث، وأبان عما فيها من خطأ أو تقصير. وسنة الله في خلقه ألا يكمل في الوجود كتاب إلا كتابه، فكل عالم أو مفكر رادٌ أو مردودٌ عليه، وكل عالم أو مفكر يؤخذ من كلامه ويرد إلا الذي لا ينطق عن الهوى. واستياؤنا وتذمرنا ليس تعصباً للتراث، ولا تخوفاً عليه، ولا تزكية لعلمائه، ولا ادعاء عصمة لمنهج، ولكننا لا نريد الهرج والمرج، نريد بحوثاً ذات منهج وآلة وموضوع، تضع العين على مكمن الداء، وتصف الدواء، وتنصف في الحكم، وتعتدل في الآراء، وجلسات مجامع اللغة العربية تعدل وتبدل وتجيز وتمنع، وما أحد نقم على قراراتها.
وما كان صنيع الكاتبين أخذاً ورداً واستبدالاً، بحيث يندرج عملهما في ظل المشاريع الإصلاحية التي تسهم في التخفيف من ضجر الطلبة وملل المعلمين، وتقدم حلولاً لها وعليها ولكنها أقرب إلى الصواب وأجدر بالترحاب. وخطيئتهما المنكرة في النيل من علماء الأمة ظناً منهما أن صعوبة اللغة وغيابها عن لغة التخاطب مرده إلى صعوبة القواعد التي أنشؤوها، وفاتهم أنه لا حياة لأي ظاهرة إلا بالنظام.. فالحياة كلها ما ظهر منها وما بطن، وما دق منها وما جل قائمة على النظام، ولا حياة لمن لا نظام له. فالنظام سنة كونية لا تتبدل ولا تتحول، بدءًا من نظام الكون وأجرامه ومجراته المشاهدة والغائبة إلى نظام الأجهزة المادية في جسم الإنسان، بل في جسم النملة والحشرة والخلية، وما لا يُرى من مخلوقات الله، التي تدب على الأرض، أو تطير في الهواء، أو تسبح في الماء، (ما فرطنا في الكتاب من شيء). النظام إكسير الحياة، وقواعد النحو والصرف نظام، ومن أراد التفريق بين الشيء ونظامه فهو من يريد أن يفرق بين الجسم والروح، فلا جسم بدون روح، ولا تصور للروح بدون جسم. اللغة ونظامها كالجسم والروح، والقول بإلغاء الضوابط دخول في التسيب، وإذا أحسنا الظن بالكاتبين فإننا نشك في إمكانياتهما المعرفية، بل أكاد أجزم بأن (الشوباشي) يعيش أمية في النحو والصرف وفقه اللغة، وكتابه مجموعة من المقالات المتنافرة، وأن (أوزون) ناقل عشوائي عرف شيئاً وغابت عنه أشياء. وإذا كان أحدهما أو كلاهما على شيء من المعارف فإنهما يجهلان معارف النحو والصرف، ولو عرفا ذلك لما كان منهما القول في الشأن النحوي أو الصرفي بهذه الطريقة المتخلفة، والفاقدة لأبسط متطلبات البحث العلمي.
وإذا جهل الباحث مادة بحثه، ولم يعد هناك مجال للأخذ والرد معه، إذ هو بحاجة إلى أن يتعلم أولاً، وأن يمارس التطبيق ثانياً، ثم يبيح لنفسه التعاطي مع الموضوع عبر منهج وخطة ومادة وهدف. والكاتبان يفقدان ذلك كله، وحتى الهدف المقصود لا يتحرر، ولا يتحدد إلا من خلال منهجية وآلية وموضوعية ودراية ورواية، وفاقد الشيء لا يعطيه. والكتابان مجرد إثارة إعلامية ومحتوياتهما لا تصمد للبحث العلمي. والكاتبان لم يتيحا لنفسيهما فرصة الاطلاع على كتب النحو القديم بما فيها (الكتاب) ل(سيبويه)، ولم تكن لهما مرجعيات معتبرة، وكل ممارساتهما إنشائية إعلامية لمجرد الاستهلاك والإثارة. والقول في الشأن اللغوي يتطلب الإلمام بمدارس النحو وأمهات الكتب، وما سبق من دراسات تطبيقية أو تنظيرية، والأصوليون يقولون: (الحكم على الشيء فرع عن تصوره).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:04 PM   #64
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
مواجهة الإرهاب بين الحملة.. والمؤتمر
د. حسن بن فهد الهويمل


مما يعرف عن البلاد وأهلها أنهم كانوا الأسبق في معرفة الإرهاب، والأنجح في مواجهته، والأكثر تضرراً منه. ويوم أن كانوا في مقدمة المتأذين من التطرف، كان العالم يحتمي بتعدد المفاهيم وتنوع المواقف، وكان يحيل تذمر المملكة إلى امتعاضها من حرية التعبير ونبرة المعارضة، فيما لم تكن ضدَّ المعارضة المشروعة، ولا ضدَّ الحرية التعبيرية المنضبطة، وإنما كانت ضد الغلو والتطرف والعنف المسلح، وضد الخروج على الشرعية، ومفارقة الجماعة، وتخويف الآمنين، وقتل الأبرياء والمستأمنين، ومصادرة الحرية التي كفلها الدين.
ويوم أن مسَّ العالمَ طائفٌ من لظى التفجيرات، وتجرع مرارات الخوف والرعب، اهتاج كما الأسد الجريح، متخبطاً في المواجهة والمطاردة، طائش السهام، محتدمَ المشاعر، واليوم يتقاطر مفكرو العالم وساستُه على بلد أبان لهم نصحه، وصدع بتحذيره، وحث على تجفيف منابع الإرهاب، وقَطْع دابره، وذلك بتفادي أسبابه، وتجنب مثيراته. ومفكرو العالم وساسته يلتقون، ليقولوا كلمتهم التي قالتها المملكة منذ زمن بعيد، ولم يستبنها زعماء العالم إلا بعد أن استيقظوا على صليل السلاح.
وحرصاً من المؤسسة الأمنية على التوعية والمكافحة عضدت المؤتمر بحملة وطنية تضامنية، تنهض بها شرائح المجتمع، وتعززها كافة المؤسسات. وجدير بالمملكة أن تتقدم العالم في إطلاق لسانها بالتوعية، وبسط يدها بالمواجهة، فهي بلد السلام والتسامح والوسطية والتعايش وتبادل المصالح والجنوح للسلم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والدفع بالتي هي أحسن.. منها انطلقت قوافل الجهاد والدعوة، وعلى ترابها تنزلت الرحمات من السماء، وفوق أديمها شمخ البلد الأمين، ورقد الجسد الطاهر، ومن خيراتها ملئت البطونُ الجائعةُ، وكسيت الأجسامُ العاريةُ، وجبرت الكسورُ المعوقة، وحقنت الدماءُ النازفةُ. وفي أبهاء قصورها التقى الفرقاء، ووقعت اتفاقات المصالحة، وعن طريق الرحلات (المكوكية) لمسؤوليها أطفئت الفتن، وفك الاشتباك، وكف البغي، وهُيئت موائد المفاوضات. ولما تزل إطفائية إسعافية، وكدنا بهذا التداعي لآلام الشعوب نتشبع ب(الأممية) وننسى (الوطنية). ويوم أن تعرض أمنُ الأمة للخوف، وتلاحُمها للتصدع، واستقرارُها للاضطراب، اضطلعت بمسؤوليتها، معتمدة على بارئها، مؤملة بوعده وعهده، متفائلة بنصره، لأنها أعلت كلمته، وأحيت سنته، وسعت بحاجة المسلمين في آفاق المعمورة، دعوة ومناصرة. ولمّا أن عم الإرهاب واستشرى، أصبح الحديث عنه بتعاريفه التي نيفت على المئة، وبمفاهيمه التي تعددت بتعدد الأسباب والمصالح والمواقف حديثا ذا شجون، والناس فيه بين قاطعٍ أمرَه أو مترددٍ فيه. والمواطنُ السليمُ الطوية، المتحسسُ عن الحق، المتثبتُ من أنباء الفاسقين، لا تُؤتى الأمةُ من قبله. ومن ذا الذي يود (لنفسه ودينه وعرضه وعقله وماله) أن تكون ريشة في مهب الريح؟ وتلك الضرورات الخمس مثمناتُ يستهدفها الإرهابيون. فهل أحد ممن بدت صفحة فعله المُشين فرَّق بين محق ومبطل؟ وهل خليةٌ نائمةٌ أو مكشرةٌ عن وجهها تفادت الحرمات والمحرمات؟ وهل أحد من الذين مسهم الضرُّ يعرف لماذا أوذي في ماله وأهله ونفسه؟. أحسب أن الأمر من الوضوح، بحيث لا يحتاج إلى مزيد من القول. ولولا أن السكوت عن الحق شيطنةٌ خرساء، لما كنا بحاجة إلى القول المعاد. وحديثي في هذه الظروف العصيبة، ينطلق من مجموعة محاور، أجملها قادة الأمة: -
المحور الأول: ينطلق من مقولة خادم الحرمين الشريفين: -
(لن نسمحَ للإرهاب بالمساس بأمن الوطن).
والمحور الثاني: يستبطن مقولة ولي العهد: -
(لا حيادية في معارك الخير والشر).
والمحور الثالث: يستلهم مقولة النائب الثاني:
(الأعمال الإرهابية دخيلة على بلادنا المباركة).
والمحور الرابع: يتمثل مقولة وزير الداخلية: -
(كلنا يدٌ واحدةٌ ضدَّ الإرهاب وتهديد الأمن).
والمحور الخامس: يستشعر مقولة أمير القصيم:
(لا نقبلُ ولا يقبلُ هؤلاء الإخوة الذين عهدتهم أيَّ تبرير لمثل هذه الأعمال).
والمحور السادس: يستهدي بمقولة هيئة كبار العلماء: -
(الإرهابُ انحرافٌ فكريُّ وفسادٌ عقدي).
ولكل أمير أو عالم أو مفكر مقولةٌ تستنكر، أو حديث يستنهض، أو فتوى تحرِّم. وهي مقولات تعد جماعَ المواجهة الفكرية، وزاد النخبة في المجالدة والمجاهدة.
ومع كل نازلة أو في أعقابها، كانت لي إلمامات متأنية متأملة، عبرالمقالات والندوات والمؤتمرات والكتب، تستثيرها أقوال شاذة، وتذكيها ممارسات مستنكرة، أجملت بعض ذلك في الفصل الثاني من كتابي (أبجديات سياسية على سور الوطن) تحت عنوان (الإرهاب على السفود) تناولت فيه الظاهرة الشاذة، من حيثُ تضاربُ المفاهيم، وتعددُ الأسباب، وتدافعُ الانتماءات، وطرائقُ المواجهة، وقراءة الأحداث، وترتيبُ الحلول، وصناعة الإرهاب بين المناهج الدراسية واللعب السياسية، وفداحة الحدث، ومتاهاتُ التأويل، ومسؤولية رجل الأمن ورجل الفكر في الظروف العصيبة. وفي كل شوط دلالي أحيل إلى آي الذكر الحكيم، وإلى صحيح السنة المطهرة، وإلى منطق الفطر السليمة، وأحتكم إلى عقلاء الأمة، وأستفتي القلوب التي تطئمن إلى البر، وتتردد في قبول الإثم، فكانت كلمة الفصل: {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا}و {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ} و(سباب المسلم فسوق وقتله كفر).
و (الخطاب) الحضاري ينطلق من كليات الدين، ويستلهم تاريخ الأمة، ويركن إلى الرؤية الإسلامية الآمرة بالعدل والإحسان، والناهية عن الفحشاء والمنكر. ولما لم تكن مؤسسات الوطن مصدر إيذاء للبشرية، فإن قالة السوء تبعث من كل جانب، محمَّلة تلك المؤسسات شطرا من المسؤولية. وحين تحدونا تلك الظروف إلى مراجعة النفس، وتقويم الأداء، فإن ذلك لا يعني الاستجابة لمفتري الكذب، ولا الإذعان للمرجفين، ولا الخنوع للاتهامات الجائرة. ولكن لئلا يقال بأننا نزكي أنفسنا، ونؤله هوانا، ونصر على رؤيتنا، ومما لا مراء فيه أن الاختراقات الفكرية المنحرفة، وجدت طريقها إلى أدمغة الفارغين من أبنائنا، ممن لم نكن نتوقعُ اختراقهم بهذه السهولة وبهذا الحجم. وحين نكون أمام أحداث موجعة، اقترفها الضالون من أبناء البلاد ضد أهلهم، فإن العبارات المتمارضة الهروبية لا مكان لها، فالواقع يحتم الصدعَ بالحق، وإن كان مراًّ، ومصارحة النفس، وإن كانت مؤلمة، وتسمية الأشياء بأسمائها، وإن كانت قبيحةً. إن لدينا إرهاباً، ولدينا إرهابيين، وطائفةٌ من أبنائنا يتخطفهم اللاعبون بالنار. والميتون بغيظهم يهمزون، ويلمزون عبر القنوات المأجورة والصحف الفضائحية، والعمليات الإرهابية على أديمنا الطاهر أوضح شاهد على أن اللعبة القذرة كشَّرت عن أنيابها، ومن ثم لم نعد بحاجة إلى الدليل. وكلمة ولي العهد تؤكد أن الموقف لا يحتمل (الحياد).
إن علينا لكي نكون واعين مسددين أن نفصل بين الظاهرة الإرهابية بصفتها العالمية والممارسة التخريبية داخل البلاد. والحديثُ المتجانس عن ظاهرة الإرهاب، يعني تماثل الأسباب والأهدافِ، وهذا غير صحيح. وإذا كان الواقع العالمي يستدعي المقاومة، فإن الواقع المحلي لا يتسع لأكثر من المشاطرة والشفافية والباب المفتوح والمناصحة، امتثالاً لحديث (الدين النصيحة).
وإذا كان الجذر اللغوي لكلمة (الإرهاب) ذا أصل واحد، فإن تعاريفه ومفاهيمه ومجازاته وانزياحاته، تتغير في الزمان والمكان والأحداث. ونحن لكي نُفعِّل موقفنا، ونرشِّد مواجهتنا، يجب أن يكون خطابنا عن الإرهاب الداخلي متسماً بالصدق والصراحة والصرامة والحدية وعدم المساومة أو المزايدة. وكل من عدت عينه إلى مواقع أخرى في (الغرب) أو في (الشرق) في (العراق) و في (أفغانستان) في (فلسطين) أو في (الشيشان) فإنه سيجد نفسه بين إرهابٍ متوحش، أو مقاومة مشروعة، أو دفع اضطراري. وحينئذ تضطرب المواقف، وتختلف الرؤى، وتكثر الثغرات، وتضيع قضيتنا البيضاء كما الشمس في رابعة النهار. وكيف ننساقُ وراء الآخر، ولكل من (البنتاجون) و(البيت الأبيض) تعريفهُ المغايرُ لصاحبه؟
إننا حين نتضامن مع العالم في مكافحة الإرهاب، وحين نعلن استنكارنا لأي ممارسة إرهابية، أو قتل عشوائي، وحين نستضيف قادة الفكر وأساطين السياسة في العالم، ليشهدوا مواقفنا الصريحة المتوازنة، فإن هذا لا يعني خلط الأوراق، ولا يعني القبول بالقول في عمليات الإرهاب المحلية على سنن القول عن العمليات الإرهابية العالمية. لقد حُمِّل الإسلامُ شطراً من التبعاتِ، وحملنا بعض الأوزار، واتهمت مؤسساتنا التعليمية والدعويةُ والخيريةُ، وحيل بيننا وبين ممارسة حقنا المشروع في الدعوة والدعم بسبب الممارسات الرعناء. والإسلام الحق وحملته المتمثلون لمقاصده ومقتضياته فوق الشبهات. وقضيتنا الأولى في المؤتمر والحملة تطهير البلاد من فلول الإرهاب، وحمايةُ الإسلام من حملات التشويه، ومشاطرةُ العالم مواجهته المشروعة، وحثهُ على حسم أسباب الإرهاب برفع الظلم ودعم الشرعية.
وإذا كان في الإرهاب العالمي أكثر من قول، فليس له ها هنا إلا قولٌ واحد: إنه إفسادٌ وحرابةٌ وبغي وتعد ونقضٌ للبيعة، وخروجٌ على جماعة المسلمين. وهو كما النص القطعي الدلالة والثبوت لا اجتهاد معه، ولا تفاوت في الموقف منه.
أما أشكاله وأنواعه وطرائقه ودوافعه ودركاته في آفاق المعمورة فإنه ظاهرةٌ عالمية تختلف فيه الآراء، لتعدد أسبابه وتنوع انتماءاته. ورفضنا له من منظور إنساني إسلامي، لا يدخل في التفاصيل، لأننا لا نتصور الأحداث كما نتصورها في بلادنا، ولا نعرف الملابسات كما نعرفها في بلادنا. ولهذا فإننا نشاطر العالم رفضه، ونحرص على تبادل الخبرات، ونود التقريب بين وجهات النظر، ولا نجد مانعاً من التعاون في مواجهته. وحقنا أن نثمن مواقفنا، وأن تلجم أفواهُ السفهاء والمأجورين عن الافتراء علينا. وفي سياق تضامننا الإيجابي مع العالم فإننا لا نسمح لأحد من أبنائنا أن يشق عصا الطاعة بقول لا تراه المؤسسة الدينية، أو بفعل لا تراه المؤسسة السياسية، أو انضمام إلى أي تجمعٍ يضرُّ بالمصالح المشروعة، كما لا نريد أن يكون خطابُنا في الداخل كما هو في الخارج. إن علينا أن نجعل من خطابنا الداخلي: خطاب موقف يقطع بالتجريم والتحريم، وخطاب فعل يسهم في قطع دابر الشر. وذلك بالتأييد المعلن، والمساندة القوية.
وكلمة ولي العهد (لا حيادية في معارك الخير والشر) تذكرنا بخطابات تمريضية، قد تفوت علينا فرص الانتصار بأقل الخسائر. إن هناك من يمكن تسميتهم ب(اللاكنيين) وهم الذين يقولون: نحنُ ضدُّ الإرهاب ولكن.. ولكل مُسْتَثْنٍ (لاكنياتٌ)، لو جمعت، وجُعلت كلُّ واحدة منها جزءًا من المبررات، لكان ذلك مؤذناً بتبرير الإرهاب. وقطعاً لدابر (اللاكنيين) نقول: - إن الإرهاب بمفهومه العالمي غيرُه في مفهومه المحلي. ومن تردد في القول الفصل عن الإرهاب العالمي فإن حجته ضعفُ التصور، وتفاقم الأوضاع غير السوية. أما المتردد في القول الفصلِ عن الإرهاب المحلي فإن حجته داحضةٌ، ونواياه مريبةٌ.
الإرهاب المحلي مواجهة معلنة لثلاث ركائز، هي كل شيء في حياتنا: -
- الأمن.
- والعقيدة.
- والوطن.
ومتى استطاع الإرهابُ النفاذَ تحت أيَّ غطاءٍ فإن الضحية الحقيقيةَ هي ذلك الثالوث الأهمُّ في الحياة السوية. وإن كان ثمة (لاكنيات) فإنه يجب أن تكون بمعزلٍ عن مواجهةِ الإرهاب المحلي والموقف منه.
لقد جاءت كلمات القادة والمسؤولين والعلماء قاطعة لقول كلِّ خطيب، فالمؤسسة الأمنيةُ وُكِلَ إليها شأنُ المواجهة والمطاردةِ وتضييق الخناق.
والمؤسسات الدعوية والتوعويةُ والتربويةُ والثقافيةُ والإعلاميةُ مسؤولةٌ عن حفظ الأجواء، وتحصينِ الأدمغة البريئة من الإفساد، والحيولة دون الاختراقات الفكرية، والسعي الدؤوب لتنشئة الأجيال على الوسطيةِ والمواطنةِ، والأخذ بتحذير الرسول الرحمة-صلى الله عليه وسلم- (إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى).
فحين لا يسمحُ وليُّ الأمر لأيِّ ممارسةٍ إرهابيةٍ بأن تمسَّ أمن الوطن فإن ذلك مسؤولية رجل الأمن. وكلُّ مواطن في النهاية رجلُ أمن.
وإذ يقول ولي العهد (لا حيادية في معارك الخير والشر) فإن هذا يعني ان الكلمة كالبندقية، لابدَّ أن تخوضَ معترك المقاومة، عبر المحرابِ والمنبرِ والمنصةِ والقاعةِ والصحيفةِ، والشريط، والكتاب، والمواقع والقنوات.
ويوم يقول النائب الثاني: (الأعمال الإرهابية دخيلة على بلادنا) فإن هذا يعني أن البنية الفكرية والدينيةَ لأبناء المملكة بنيةٌ سليمة، وأن سائر مؤسساتنا تتوخى مقاصد الإسلام، وأن إسلامنا دين الرأفة والرحمة، وأن الاختراقات الفكرية هبت رياحها من الخارج في غفلة من الرقيب.
وعندما يقول وزير الداخلية (كلنا يدٌ واحدةٌ ضدَّ الإرهابِ وتهديدِِ الأمن) فإن هذا تجسيدٌ فعليٌّ لمقولة ولي العهد، فالكل مسؤول عن الأمن النفسي والفكري. ولا يُعذر أحدٌ على السكوت. فالقضية ليست مهمةً رسميةً ولا مسؤولية وظيفية. إنها قضية الوطن، قضية كلِّ من يعتز بانتمائه لهذه الأرض الطاهرة، قضيةُ العلماء والأدباء والمفكرين، ورجال الأمن والتربية والإعلام والأعمال والمقيمين، وقضيةُ المرأة في بيتها، والرجل في سوقه، والحِرَفي في معمله والعالم في مسجده، والأستاذ في قاعته، والأعرابي في باديته، والمزارع في حقله، قضيةُ كل مكلف يشعر أن الأمن له ولأهله كالماء والهواءِ.
وإذ لا يقبل أمير المنطقة تبْريراًَ لمثل هذه الأعمال، فإنما يعني (اللاكنيات) الهروبية التي شغلتنا عن قضايانا. وعندما تجتمع كلمة كبار العلماء على أن الإرهاب انحرافٌ فكريٌ وفسادٌ عقدي فإن ذلك الحكمَ ملْزمٌ للخاصة والعامة، حتى يأتي حكم آخر من ذات المؤسسة. وحين لا يطاعُ أمرٌ، ولا يسمعُ لكلام، تقع البلاد تحت طائلة العصيان المدني الذي يتمخض عن عصيان مسلح. وساعتها تفقد البلاد أثمن ما قدَّمه آباؤنا وأجدادنا بقيادة الملك الموحد عبدالعزيز بن سعود- رحمه الله-.
والإرهاب شئنا أم أبينا، رضينا أم سخطنا أصبح حقيقةً ماثلةً للعيان ووباءً مستوطناً، ولم يعد وقوعات عارضة. ومواجهته الحاسمةُ لا تتم بمعزل عن المسجد والمدرسة والجامعة والشارع والبيت وسائر المؤسسات الدينيةِ والأمنيةِ والثقافيةِ والتربويةِ والإعلاميةِ.
والإرهاب اليوم طاعون العصر، نزل بساحة العالم، وهمنا يجب أن يكونَ منصباً على أرضنا المقدسة بالدرجة الأولى، ولابد من نهضة جماعية، لتنقية الأجواء، والعودة بالبلاد إلى سالف عهدها أمناً واعتصاماً وتلاحماً، لنضطلع جميعاً بمسؤولياتنا قبل أن يتسع الخرق على الراقع.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:04 PM   #65
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة الإرهاب 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل


عَنَّت لي فكرة الحديث عن (الثقافة النوعية) حين اخفقت بعض المؤسسات الخدمية والإجرائية في الحضور الفاعل، لجهل المستفيد منها بمهماتها، أو لعجزه عن إتقان طرائق التفاعل معها. وحين تحدثت فيما سلف عن (مأسسة الثقافة وثقافة المؤسسات)، أشرت إلى أهمية الثقافة الخاصة، وأنحيت باللائمة على كل الأطراف المتقاعسين. فالمؤسسة تُقصِّر عن التعريف بمهماتها، والمستفيد لا يعنيه التصور السليم عما يحيط به من مؤسسات أنشئت من أجله ولمّا أزل أحس بأن كافة مشاهدنا العملية بحاجة إلى توعية عميقة، تمكّن المنتفع من حسن التعامل والحصول على أكبر قدرٍ من الاستفادة.
ولما كان الإرهاب قضية ماثلة للعيان، كان لابد من التفكير الجاد للتوفر على ملاذٍ آمن يحمي الأجسام والأفكار والممتلكات وسائر المثمنات والضرورات، ولن يتم شيءٌ من ذلك، حتى نكون على بيّنة منه، وهذه البيّنة هي عين الثقافة، وأولوية ذلك أن نعرف القدر المعرفي، وطريق الوصول إليه، والشرائح المستهدفة.
ولتأكيد إشكالية الفراغ المعرفي دعونا نتساءل: هل أحد من العاملين في أي قطاعٍ حكومي يعرف النظام الأساسي له، أو يتذكر التعديلات والإضافات على ذلك النظام، أو يختزن في ذاكرته أو في مركز معلوماته مجمل التعاميم المتعلقة بالعمل الإجرائي؟. وهل أحدٌ من المستفيدين والمستهدفين من أي قطاعٍ حكومي يعرف ما له وما عليه؟ وهل تستطيع النخبةُ فضلاً عن الدهماء أن تلم بالمكونات الأساسية ل(المجتمع المدني) الذي تسعى الدولة لاستكمال متطلباته: الحسية والمعنوية؟ وفي ظل هذا الانقطاع المعرفي فإن علينا أن نُرجعَ البصر كرتين كي ينقلب إلينا، وهو ممتلئ بالمعرفة وحسن الأداء.
ومما هو معروف عن (المجتمع المدني) بالضرورة قيامه على مؤسسات: دينية وتربوية وثقافية وخدمية وحقوقية وأمنية، لا تؤتي مهماتها إلا من خلال إجراءات وضوابط وشروط، ولما تكن تلك المؤسسات بكل ماهي عليه حاضرة الذهن الجمعي. ولهذا نجد السواد الأعظم يمارسون الفعل بمعزل عن تلك المؤسسات، مع أن (المجتمع المدني) لايكون سوياً حتى يرتبط بهذه المؤسسات وينطلق منها، وفق أوفى المعلومات وأدق الممارسات.
ولما لم تكن إشكالية العلاقة بين المواطن وسائر المؤسسات مقتصرة على الأخذ والعطاء المتوازن فإن ثقافة طرأت وفرضت نفسها، وأصبحت قضية موت أو حياة، هذه الثقافة مخاض الأحداث العالمية المتمثلة بالحروب الدامية: (الخليجية) و(الأفغانية)، و(سقوط الاتحاد) و(أحداث الحادي عشر من سبتمبر) و(الاحتلال) و(إسقاط الشرعية) و(الفراغات الدستورية) و(الحروب الأهلية)، وظهور (خطابات متشددة) وأخرى متوعدة، وتلويحات بالتدخلات العسكرية لفرض إرادة القطب الواحد، كل هذه التداعيات شكلت تنظيمات الغضب والتكفير واستحلال الدماء المعصومة، واستفحلت معها عمليات (الإرهاب). وفي ظل هذه التحولات المخيفة كان لزاماً على كل فئات المجتمع أن تعيها كما هي: ولادةً ومنشأً وانتشاراً، وأن تحدد الموقف ورد الفعل والتفاعل والاعتزال بوعي ومعرفة وتكافؤ، وهذا اللون من الثقافة كما أرى جزء من الثقافة العامة، فكان أن سميت تجوزاً ب(ثقافة الإرهاب). فالعمليات الإرهابية الموجعة، استدعت خطابات جديدة موغلة في التناقض، وما كانت معروفة من قبل، والناس من حولها في أمر مريج. ولأن البلاد والعباد عرضة لهذه المخاضات فإنه من الضروري وعي المرحلة بالقدر الكافي، ومعرفة (الإرهاب) من حيثُ: مفهومهُ، وأسبابهُ، وطرقُ مواجهته، وانتماءاته. وفي ظل ثورة الاتصالات والمعلومات تداولت المشاهد عدداً من الثقافات الموصوفة ك(ثقافة الهزيمة) و(ثقافة الرفض) و(ثقافة الإقصاء) و(الغضب) و(العنف) وكل هذه الثقافات تحكمها الأنساق والسياقات والنسبية، وليس أدل على ذلك من اختلاط المفاهيم حول الجهاد والقتال، والمقاومة والدفاع، والبغي والعدوان.
وفي المقابل هناك ثقافات مؤسساتية ك(ثقافة الانتخاب) وقد شهدنا بعض التجاوزات في العمليات الانتخابية للمجالس البلدية، ووقفنا على إعلانات دعائية ووعود هلامية من بعض المرشحين، أدت إلى استبعاد عددٍ منهم لجهلهم بهذا الحراك الحضاري. وهناك (ثقافة الشورى) فالكثير من المنتفعين لايدري عما يُفعل به، وما يُفعل له. فما الشورى؟ وما جدواها؟ وكيف يستطيع المواطن المستفيد أو المتضرر من قراراته إيصال الرؤية إلى أعضاء المجلس. وهناك (ثقافة الحوار) وكم نشاهد عبر المؤسسات الإعلامية إسفافاً وفحشاً لايليق بالسوقة. ولو كانت لدى المتجادلين معرفةٌ بآداب الحوار وأساليب المناظرة، لما كانت تلك المناكفات المسفة. وهناك (ثقافة حقوق الإنسان)، وكم نسمع من المتحدثين في المنتديات والمجالس من يخلط بين الحقوق العامة والخاصة والحقوق السياسية والإنسانية. والهيئة الوطنية القائمة تتعثر بجهل الناس لرسالتها، وشكهم في جدواها، مع أنها مؤسسة تمتلك مشروعيةً ونظاماً لا يختلفان عما هي عليه سائر المنظمات العالمية.
وللمتابع أن يستدعي (مجالس المناطق) و(المجالس البلدية) التي ستباشر عملها عما قريب، ليقف على إخفاقات كثيرة، منشؤها الجهل بهذه المؤسسات ورسالتها. وكل أمرٍ لا يقدم بين يديه تعريفاً مفصلاً عن ذاته يمكّن العامة من فهمه، والقبول به، والتفاعل معه، يظل في معزل عن الناس، وناتج ذلك ألا تتقبله الأمة بقبولٍ حسن. فالأمة هي التي تمنح المؤسسة الوجود الفاعل، وهي التي تجهض المشروع. ومكمن الإشكالية التقصير في إشاعة (ثقافة المؤسسة)، ولن تأخذ أي منشأةٍ خدمية وضعها الطبيعي حتى يكون هناك وعي جماهيري، يعطي كل شيء حقه، ثم يمضي في التفاعل معه والاستفادة منه. ذلك شأن العطاء، وهو شأن النفع، أما ظواهر الإيذاء فإن الجهل بها مؤذن بالاستفحال والتجذر وفداحة الأثر. ف(المنظمات الإرهابية) لايمكن استكناهها إلا من خلال اكتشاف (شفراتها)، وهي بعض الثقافة التي يفقدها أكثر الناس.
ولقد قلت من قبل: (إن المؤسسات غير الواعية، أو غير المستوعاة تتآكل مع الزمن، لأنها لا تزرع الثقة، ولا توطئ أكناف التواصل، ولا تحقق المراد بأيسر الجهد وأقل الوقت) وهذه المقولة توزع المسؤولية بين المفيد والمستفيد، إذ لا أريد أن تكون الإدانة لجهة دون أخرى، وما أردت جلد الذات، ولا تحقيق الانتصار الوهمي. إننا أحوج ما نكون إلى الشفافية والمكاشفة، ونشدان الحق، والكشف عن الأخطاء، وتحديد مجالاتها، ومن ثم النهوض للتلاقي لا للتلاحي، وللعمل لا لتبادل الاتهامات. وجهل المؤسسات النفعية أقل خطراً من جهل التنظيمات الضارة، وجمعنا بينهما لإثبات النقص المعرفي في الكل، وعدم التحرف الجاد لتلافي ذلك النقص.
وإذ ينشغل الوسط الاجتماعي بقضية خطيرة هي قضية (الإرهاب) فإنه لا بد من بسط الموضوع، وتلافي شح المعرفة عن كل تداعيات الإرهاب وتنظيماته، وأساليب أدائه، ومراوغته، وغنوصية خطابه. وتفادياً للتشتت فإننا لن ندخل في جدلية المفهوم، ولن نحفل بتعدد التعاريف. فالمؤتمرون في (الرياض) وهم أساطين الفكر والسياسة اعتزلوا هذه الجدلية، لأن لكل زمان ومكان التعريف المطابق له، ومن حق أي متعامل مع الإرهاب متضرر منه أن يحدد مفهومه والموقف منه على المستويين: المحلي والعالمي، شريطة ألا يشكل هذا المفهوم تعويقاً للتضامن العالمي، ولا مصادمة للمقتضيات والمقاصد الحضارية. وإذا كانت للغرب مفاهيمه ومصالحه و(إستراتيجيته) فإن للشرق مثل ذلك، ومن الخير للعالم التحول من الصدام إلى الحوار، ومن التنازع إلى التعايش، وكل ذلك ممكن، ومن حق البشرية أن تعيش موفورة الكرامة، ولهذا فضّل الإسلام الجنوح إلى السلام. والتأكيد على أهمية التعرف على كل ظاهرة لا يعني التحريض على الصدام، أو الانغلاق على الذات، وإنما يعني معرفة الشر لاتقانه والخلوص منه.
ومن حق المتلقي أن يتساءل: ما ثقافة الإرهاب؟. وإذا صرفنا النظر عن التساؤل الأزلي: ما الإرهاب؟ فإننا لانجد مبرراً لصرف النظر عن تعريف محدد لثقافته. وإذ يكون (الإرهاب) ظاهرة تنهض بها الدول والجماعات والمنظمات والطوائف والأفراد، فإنها لم تعد عارضاً غير متلبث، لقد واكبت الإنسانية منذ (ابني آدم)، وستظل حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وليست تلك الظاهرة الأزلية واحدة لا تتبدل، إنها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأناسي والأفكار، ولكل مرحلة زمانية ثقافة إرهابية مغايرة. والذين تناولوا الغلو والتطرف في القديم والحديث يختلفون في الآلية والمنهج وتحكمهم ماهية الخلفيات الثقافية وتعدد المرجعيات واختلافها، وهذا الاختلاف يجعل لكل مرحلة قراءتها، وليس أدل على ذلك من تباين القراءات حول (الخوارج) و(القرامطة) و(التتار) و(النازية) و(الفاشية) وسائر الظواهر القديمة والحديثة. إن هناك ثقافة تمكن من استكناه الظاهرة، وثقافة تمكن من اتقائها، والأمة مطالبة بالتحصن من المرض والتحذير منه. وأسلوب (افعلْ)، و(لا تفعلْ)، لم يعد مجدياً، فالناس يريدون الإقناع، ولا إقناع بدون معرفة تامة تعري الحقائق.
لقد كنت، ولما أزل وراء المستجدات الفكرية والثقافية والسياسية، فكلما تداولت المشاهد مصطلحاً، سعيت جهدي لتجميع القصاصات المتعلقة به من أخبارٍ ومقالاتٍ، حتى إذا استوت النازلة على سوقها، انهالت الكتب التي ترصد للظاهرة، وكل راصدٍ تحكمه خلفيته الثقافية والدينية والسياسية وآليته ومقدرته الذاتية. ومن الخير أن يكون للمتابع موقف ثابت، يستمد قوته من عقيدته ومواطنته ومصالح أمته. وتلك ثقافة الاتقاء، وهي جزءٌ من التأصيل المعرفي، وكل خائض في قضايا الفكر على غير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يعرّض نفسه للأخطاء المهلكة، وضرورة التأصيل ومعرفة الآخر عرضتني للركام المعرفي، فلقد استوفيت الحديث عن (الماركسية) و(الوجودية) و(العلمانية) و(الحداثة) و(البنيوية) و(التقويضية) و(العولمة) وأخيراً امتلأت مكتبتي من الكتب التي تناولت (الإرهاب). وكلما فاض المعين من شيءٍ، أحسست أنني أشد مسغبة. فتعارض (الايديولوجيات) وتصادم المصالح، واختلاف المفاهيم، وتعدد المواقف، واختلاط اللعب المأجورة بالبحث العلمي المجرد جعل المتابع يعيش في أجواءٍ ضبابية لا يكاد يعرف الصادق من الكاذب. وإذ تتعثر (ثقافة الإرهاب) بتناقض الآراء، تظل ممنعة على الكافة، وهم الأكثر عرضة للإرهاب وتأذياً منه. وواجب المؤسسات الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية إشاعة هذه الثقافة لتكون ميسورة التناول، ومن ثم يكون أخذُ الحِذر من الإرهاب والتصدي للتثقيف المضاد ممكناً ومطروحاً في الطريق للخاصة والعامة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:05 PM   #66
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
ثقافة الإرهاب (2 - 2 )
د.. حسن بن فهد الهويمل


والتعرّض لتعدّد الرؤى والمفاهيم والتصوّرات لا يحول دون مغالبة المواقف والنفاذ إلى مشارف السلامة؛ فالأمة لا تنجو بالاعتزال، ولا تنفذ بالاحْتيال. وهذا الوضع يتطلب سلطان العلم والقوة لتتمكن الأمة من الاتقاء والنفاذ، ولن يتأتى النفاذ من مختنقات المشكلة إلا بتحرير المسائل وتحديد المفاهيم ومعرفة أنجع الطرق للخلوص من تلك المآزق. ولابد والحالة تلك من التغلب على المعضلات المتنامية بالصبر والمصابرة والمرابطة، واستخدام المجسّات والمسابير والحفريات لمعرفة أدق التفاصيل عما يحيط بالأمة من أفكار وظواهر وتكتلات. وكل ذلك جزء من الثقافة بشقيها: الوقائي والعلاجي. والمثقف بوصفه أهم المرابطين على ثغور الأمة بحاجة ماسة إلى تشكيل معرفي سليم، يمكنه من تحصين نفسه أولاً، ثم الإسهام في إنذار عشيرته الأقربين، والعمل على توعية الناشئة المستهدفة من قرناء السوء ومحترفي التضليل من الغلاة والمجندين. وليس هناك أخطر من غسل الأدمغة، واستغلال الشباب المتحمّس للمثالية. وأكبر شاهد على خطورة الاختراقات الفكرية ما نعايشه في راهننا المحلي؛ فالذين يمارسون الأعمال الإرهابية شباب غُرّر بهم، وأخذوا على غرّة، حين غفل المقتدرون عن تجمّعات الشباب، فالمغرّر بهم لم يكونوا من كبار السن ولا من المتخصّصين في السياسة الشرعية، وهذا يؤكد أهمية الثقافتين: (الثقافة الشرعية) و(الثقافة الشريرة)، ويؤكد أهمية الشباب، فهم المستهدفون. وفي ظل هذه البوادر السيئة نكون أحوج إلى توفير (ثقافة الإرهاب) بوصفها جزءاً من التعبئة العامة التي تجعل شبابنا على بينة من أمرهم؛ فالثقافة المعرفية بإزاء الثقافة المضادة، تكشف عن المتربّصين والمتماكرين وقرناء السوء والمتعالمين، والغلاة والمتطرفين، وتضع أمام أعين المستهدفين كلّ الخيارات، ليكونوا على بينة من أمرهم، ولا يؤخذوا على غرّة.
إن المسجد والمنبر والمدرسة والبيت وسائر وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية هي المجال الأهم لإشاعة التوعية والإنذار والتحذير من هذه الظاهرة، ولا يمكن أن نشيع ثقافة الضدّ فيمن يعنيهم الأمر إلا من خلال هذه القنوات. ومَن لم يعرف الشرّ يوشك أن يقع فيه، وكان (حذيفة بن اليمان) - رضي الله عنه - يسأل عن الشرّ مخافةَ أن يقع فيه، وكان الخليفة الراشد (عمر بن الخطاب) - رضي الله عنه - يخاف على مَن لم يعرفوا الجاهلية أن يقعوا فيها.
وكلّ نظام جائر أو عادل، وكلّ منظمة مدنية أو بدائية، وكلّ تطرف دينيّ أو سياسيّ، وكلّ عنف أو غلو، لا يمكن أن ينطلق من فراغ. إنه مخاض ثقافة لا يمكن صدّها على أعقابها إلا بفهمها وتفكيكها وإبطال مفعولها قبل أن تفعل فعلها.
والمواجهة الثقافية لا تختلف عن المواجهة العسكرية، وإذا كانت الرؤوس المدمّرة المنقولة على صواريخ تواجه بما يفجّرها في الجوّ قبل وصولها، فإن ثقافة الضدّ لابدّ لها من آلية تنطلق إليها في مهدها لتبطل فعلها. وكل ذلك مندرج ضمن (ثقافة الإرهاب) ولا يتمّ ذلك على وجهه إلا بتقصّي تلك الثقافة؛ فالحكم على الشيء فرع من تصوّره، ولا يفل الحديد إلا الحديد. إن المواجهة شيء، والتوعية شيء آخر، ولابدّ أن يسيرا جنباً إلى جنب؛ فالسلاح والكلمة الطيبة صنوان. وإذا لاذ المفسدون في جحورهم، وتحولوا إلى خلايا نائمة، يأتي دور الكلمة السديدة، كما التحصين من الأوبئة المنتشرة.
إن (ثقافة الإرهاب) مؤذنة بمعرفته على حقيقته، وحسم المشاكل المترتبة عليه لا يكون إلا بعد التقصّي لها، ومعرفة أسبابها ومصادرها. وكل حضارة فاعلة لابد أن تستوعب ثقافتها، وأن تلمّ بقسط وافر من الثقافة المضادة على الأقل.
ومؤسسات (الاستخبارات) و(المباحث) و(مراكز المعلومات) الدولية منوط بها التوفر على الخطاب المناوئ والثقافة المضادة. ولأن الإرهاب ينسل من زوايا المجتمع المعتمة، ويندس أفراده في أوساط الشباب المتوقد حماساً والقابل للتشكل كما عجينة الصلصال؛ فإن على المؤسسات الثقافية والدينية والإعلامية كافة مواصلة التوعية، والعمل على تسييج المنافذ؛ لكيلا يتخطف الأبناء من كل جانب.
لقد أجمع العالم على رفض الإرهاب، ولم يبقَ إلا أن نكون على بينة من مفاهيمه: المحلية والعالمية، وأنواعه: الفكرية والدينية والطائفية والعملية، وأسبابه: الظاهرة والباطنة والذاتية والغيرية. فإذا اكتفينا بمواجهة الإرهابيين بقوة السلاح وأشكال المطاردة، وتركنا الحواضن، ظلت تفرخ لنا المئات بدل العشرات، وظلت المسألة في إطار الصراع الدموي والحرب الأهلية التي تقضي على الأمن والتنمية، وتؤدي إلى تفكك الوحدتين الفكرية والإقليمية. والمواطن جزء من العملية؛ فهو هدف للقتل، وهدف للتضليل، فإذا ظل جاهلاً بالإرهاب من حيث هو، وجاهلاً بأساليب الوقاية منه وطرق المواجهة له، فإنه سيكون مستهدفاً في البداية، ومشروعاً للإرهاب في النهاية.
ومن الخطورة بمكان أن نشتغل في ظل مفاهيم مغلوطة، بحيث نتصور الإرهاب على غير حقيقته، فلا نعرف الأسباب ولا الانتماء ولا أساليب المواجهة: الحسية والمعنوية. والفهم الخاطئ كالمقدمات الخاطئة يؤدي إلى نتائج عكسية، وخلوصاً من هذه المآزق لابد من التأسيس المعرفي ورسم خطة فاعلة، تضع الظاهرة بكل ملابساتها على المحك؛ لتكون العامة على بينة من أمرها في أخذ الحذر والخلوص من مكائد الإرهابيين وصناعهم. إن هناك وقاية، وهناك مواجهة؛ فالوقاية رهن الثقافة المزدوجة: ثقافة الذات وثقافة الغير، والمواجهة تكون استباقية، وتكون استئصالية، ولكل وضع ثقافته.
ولما كانت بلادنا في مقدمة الدول الحمَّالة: حمالة لهمّ الدعم والإصلاح وفك الاشتباكات، كانت وجبة شهية لكل من أراد لهذه المنطقة أن تعيش في أتون الفتن.
فلقد أصبحت مسرحاً لعدد من العمليات الإرهابية التي أزهقت الأرواح، وهدمت المباني، وأخافت الآمنين، وكانت هدفاً للاتهامات الجائرة، وكان أبناؤها هدفاً للمغرّرين والمخادعين. والأمر بهذا التنوع يحتاج إلى تحرف سليم يقوم على تجميع كافة المعلومات العميقة الشاملة الدقيقة عن كل متعلقات الإرهاب، ثم إشاعتها لتكون في متناول كل مواطن، والتواصي بالتكاتف والاعتصام بحبل الله، ومواجهة الأعداء صفاً واحداً كأنه بنيان مرصوص، وإعداد خطاب حضاري ينازل أدعياء السوء: ممن جندوا أنفسهم، ووظفوا إمكانياتهم لتشويه سمعة المملكة وتحريض العالم عليها، وممن نذروا أنفسهم لإفساد العقائد والسعي في الأرض فساداً.
لقد أحسن قادة البلاد صنعاً حين دعوا إلى عقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب، ليعرف العالم الموقف الرسمي والديني والشعبي الذي يمثل لحمة واحدة، وهو موقف حضاري لا غبار على مشروعيته. هذه التظاهرة العالمية أثبتت اتساع مشاهدنا لكل الخطابات وقدرتها على التفاعل الإيجابي مع أي خطاب متوازن، الأمر الذي أذهل الجميع، وحملهم على مراجعة مفاهيمهم عن البلاد وعلمائها ومناهجها. فالبلاد مستهدفة: عملياً وإعلامياً، ولا ينجيها من هذه المكائد إلا استجلاء الحقائق والبرهنة للعالم بأن ما يقال عنا ظلم وعدوان. وليس أدل على ذلك من تفاعل المواطنين مع الحدث عبر الحملة الوطنية التي أثبت المواطن من خلالها رفضه الإرهاب بكل أشكاله، هذا المؤتمر جسر الفجوات، ومكننا من إسماع صوتنا الذي ظل حبيس أجوائنا.
لقد لفت نظري الجهل بمؤسسات المجتمع المدني وضعف التفاعل معها والأداء السليم من خلالها، وامتد هذا الشعور إلى النقص المعرفي بالظواهر السيئة، الأمر الذي مكنها من الاستفحال، وكان ذلك مؤذناً بالحديث عن (ثقافة المؤسسات) وعرض الحيثيات الداعية لذلك، ولما راعني الجهل بالإرهاب ومتعلقاته والتعويل على المؤسسة الأمنية لمكافحته، كان حديثي عن جوانب كثيرة تتعلق به، تناولت:
- الإرهاب بين تضارب المفاهيم وتعدد الأسباب.
- الإرهاب وتدافع الانتماء.
- الإرهاب وطرائق مواجهته.
وهذه المحاور فيما أرى هي جماع (ثقافة الإرهاب)، فلو نفر المقتدرون للتضلع من هذه الثقافة والتفقه بها ومعرفة مداخلها ثم النهوض بالإنذار عبر المنابر والقاعات والصحف والقنوات، لكان أن قطعنا الطريق على المتسللين بالعتاد والرجال والأفكار.
والأمة حين تستقر على مفهوم محدّد لأيّ ظاهرة سيئة، وحين تعرف أسبابها تكون أقرب إلى التعامل معها وفق متطلبات المرحلة. ومتى أتيح للمواطن الوقوف على جدل الحضارات حول ملابسات الإرهاب بوصفه من الظواهر السيئة، استطاع أن يعرف كيف يواجه الأعداء، وإذا أتقن الجميع طرائق المواجهة، تمكنوا من اتقاء الشر، ودفع الضرر بأقل الخسائر.
والمؤتمر الذي دعت إليه الدولة خرج بتوصيات متوازنة، لم تنل من رؤية البلاد، ولم تؤثر في مواقفها المعتدلة. ودعوة المملكة لإقامة مركز دولي للإرهاب قوبلت بترحيب دولي، ومهمات المركز كفيلة بتيسير المعرفة الوقائية، وهي الجزء الأهمّ من (ثقافة الإرهاب)، وفوق هذا وذاك جاءت الحملة الوطنية التضامنية تجسيداً للموقف الشعبي. وتعالقُ الموقف الرسمي مع الشعبي مؤشر إيجابي. ولم يبق إلا أن نعي هذه الظاهرة بكل ملابساتها، وأن نستصحب هذا الوعي إلى أمد طويل؛ فالظاهرة لا تحسم بيوم وليلة. والإرهاب المحلي وإن كان في لحظات الاحتضار إلا أن إمكانية التحرف أو التحيز متوقعة، وإذا حوصر الإرهابيون، وضيق الخناق عليهم فإن لفلولهم رفسة تشبه رفسة الذبيح، وهي من أخطر المراحل في أي ظاهرة تحتضر؛ ولهذا لابد من أخذ الحذر، وعدم الركون إلى نشوة الانتصار. وخوفاً من الخلايا النائمة فإن علينا أن نظل نشيع (ثقافة الإرهاب) للحيلولة دون كرّة موجعة، تؤدي إلى احتناك أبنائنا الأبرياء، وانتزاع الأمن والرخاء والاستقرار من بين أيدينا.
ويجب ألا تقتصر ثقافتنا عن الإرهاب على جانب منه؛ فالقتل والتفجير وتهريب السلاح وغسل الأموال والمخدرات كل ذلك يعد ظاهر الإرهاب، أما باطنه فيتمثل بالكلمة الخبيثة النافذة عبر عدد من التنظيمات السرية. ولما كانت مجالات الإرهاب متعددة؛ فقد أصبحت ثقافته متلونة كما الحرباء، ومراوغة كما الثعلب، ومخادعة كما السراب. ولقد نبه المؤتمرون إلى المثلث الخطير: تهريب السلاح، وغسل الأموال، وترويج المخدرات. والبلاد الغنية مرتع خصب لكل مفردات الإرهاب، ومسؤولية المؤسسات الأمنية والثقافية تتضاعف كلما تعرضت البلاد للعمليات الإرهابية، وكلما تعرضت الأدمغة للغسل، فلنأخذ حذرنا قبل أن نؤخذ على غرّة. وخلاصة القول:
1 - أن نضع (استراتيجية):
- أمنية.. تستبق الأحداث.
- توعوية.. تواجه الدعاية المغرضة.
- تربوية.. تنشئ الأجيال على الوسطية.
2 - أن نؤصل مفهوم المواطنة بحيث يعرف المواطن الواجبات بقدر معرفته الحقوق، وأن الأقربين أولى بالمعروف.
3 - أن نؤصل مفهوم السياسة الشرعية القائمة على احترام السلطات الثلاث:
- السياسة
- الدين
- المجتمع
4 - أن نعرف الأعداء وألا نتمنى لقاءهم.
وإذ يكون الإرهاب قضية الساعة، ووسيلة قذرة للاقتناص والاقتصاص فإن على الكافة التعرف عليه، وعلى أساليبه، وعلى منظماته، للتوفر على الوقاية الناجعة، وإتقان المواجهة الدقيقة، ولكل منهما متطلباته المعرفية والآلية، وذلك ما قصدناه ب(ثقافة الإرهاب).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:06 PM   #67
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
موقعنا في سياق المشاريع الثقافية..!! (1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل


كان بودي لو توافر لهذا الموضوع جهد ووقت ومرجعية كافية، تمكن من تفكيك الظاهرة، والتعرف على أدق تفاصيلها، والقول عنها بموضوعية وتقويمها بواقعية، وتدارك الأمر للتأسيس المعرفي لما نستقبل من مشاريع مؤسساتية أو فردية أو جماعية تتعلق بالثقافة بوصفها جماع المعارف النظرية.
ويقيني أن مجرد الإثارة لمثل هذه الموضوع مؤذنٌ بتحرف سليم، يضعنا بكل ما لدينا من إمكانيات في المكان المناسب بكل ممارساتنا الثقافية على الأقل، وساعتها تكون هذه الإثارة ذات مردود مفيد، وما كنت بامتعاضي متخذ الشامتين عضداً، فما أنا إلا من (غزية) في قوتها وضعفها. وحين أنحي باللائمة فإنما أنحي بها على نفسي أولاً إن كان ثمة قدرة معطلة، أو فكر مهمش.
لقد بدأ هاجس المشاريع منذ أن وجه القرآن الكريم إلى النفور للتفقه والإنذار بعد التضلع المعرفي. ومنذ أن أجلب العلماء بكل إمكانياتهم وخلفوا لنا ملايين المخطوطات. والتاريخ الحضاري للإسلام المتمثل بكتب الطبقات وسير أعلام النبلاء، وتاريخ المدن زاخر بالتاريخ المشرف للعلماء الأفذاذ الذين نذروا أنفسهم للمشاريع العلمية التي خلدت ذكرهم. ولن أمضي في الاستطراد واستعراض علماء التفسير والحديث واللغة والفقه والتاريخ ومنجزاتهم، فهو حاضر الذهنية المثقفة ثقافة تراثية. ولن تعدو عيني إلى الدول المتمكنة من ظاهر الحياة الدنيا؛ فمثل هذا السبق حاضر المثقف المسكون بهمّ أمته.
وحديثي عن موقعنا في سياق المشاريع الثقافية لن يقف عند حد الرصد والوصف، كما أنه لن يتردى في مآزق المفاضلة والادعاء. وإذ لا أسمح لنفسي بالوقوع في هذه المآزق فإنني في الوقت نفسه لن أستدر عواطف البَرِمِين بجلد الذات؛ فالأمة محكومة بواقعها وبسياقها، وهي قادرة على كسر الطوق والخلوص من الارتهان لواقعها المأزوم. والفكاك من مخذلات الواقع يتطلب رسم أكثر من خطة للنفاذ من عنق الممارسة النمطية.
وتشكيل (المجتمع المدني) لا يعني المروق من مقتضيات الحضارة ومقاصدها، وإنما يكون بالخلوص من الأمية والبدائية والفردية وارتجال الفعل وفورية الممارسة، وتشتت الجهود، وعشوائية الأداء. وأي مشروع ثقافي لا يسبق بالدراسات المعمقة والخطط الدقيقة والدعم المتواصل والخبرات المتمكنة والعمل المؤسساتي الدؤوب، يكون مآله إلى التوقف، ثم التآكل. ومع نجاح كثير من المشاريع الفردية التي سنعرض لبعضها، إلا أن ضمان النجاح والاستمرار لا يكون بالقدر الكافي، والزمن زمن التكتلات، والخبراء الممارسون يركنون إلى المشاريع المؤسساتية مهما كانت بطيئة. وشأننا في التخوف والرغبة شأن (الشركات العائلية) التي تضيع بمجرد موت المؤسس، والمتابع للمشاهد العربية والعالمية تمر به إسهامات فردية ومؤسساتية ترقى بتكاملها وشمولها إلى مستوى المشاريع، وإن كان الفعل الفردي أو المؤسساتي لا يُضمِرُ همَّ المشروع.
وبين يدي الحديث عن المبادرات الفردية والجماعية والمؤسساتية يحسن بنا أن نحاول تحرير (مفهوم المشروع) بوصفه سمة أو مصطلحاً. ولست أعرف ما إذا كانت كلمة (مشروع ثقافي) قد أصبحت كلمة مصطلحية، لها مفهومها ومقتضاها. لقد نقبت في المعاجم والموسوعات، فلم أر فيها ما يؤكد مصطلحية الكلمة، أما في مجال (الاقتصاد) فهناك أكثر من ظاهرة أو ممارسة اقتصادية تستهل بكلمة (المشروع). وفي كتيب صغير يحمل عنوان: (مشروعك الخاص يترجم وجودك.. أنت بلا مشروع أنت بلا وجود) لمؤلفه (أحمد قائد الأسودي) وقفت على كلمة إنشائية محتدمة، تختلط فيها مشاعر الانتشاء بحالات البؤس والانكسار، عنوانها (ماهية المشروع)؛ إذ يؤكد استحالة غياب المشروع في الواقع الإنساني، بوصف الإنسان مشروعاً بحد ذاته؛ فهو - على حد قوله - مشروع الله في أرضه، خلقه واستخلفه واستعمره، وهو مساحة مستهدفة بالمشروعات، ما يوحي بأن الإنسان مشروع ومستهدف بالمشروع. ولست مع الهلاميات والإطلاقات العاطفية. وما أرمي إليه قيام الفرد أو الجماعة أو المؤسسة بتبييت النية وبلورة الفكرة وتجسيد الرؤية والتصور السليم الذي يحدد الحاجة، ويرسم الطريق، ويتوفر على المادة والجهد والوقت ويباشر العمل من خلال الخطة والمنهج والآلة، بعد فهم المهمة في لحظة التخلق إلى نقطة التحقق. وهذا التطلع لم أر أحداً نفله بدراسة علمية موضوعية على حد علمي، ولما كان الجهل بالوجود لا يعني العلم بالعدم، فقد نفيت علمي، ولم أنف الوجود.
ومع عدم تحرير المصطلح فقد وجد البعض في ذلك فرصة للادعاء العريض، إذ يطلق البعض على ممارسته الثقافية سمة المشروع، ويتلقف الإعلام هذا الإطلاق ويتداوله، وما هو في حقيقة الأمر مشروع. ومرد ذلك: إما إلى المفهوم الخاطئ للظاهرة، أو الرغبة في التشبع والادعاء. وقد يكون تبني أي ظاهرة أو تيار أو مذهب غربي مغرياً بمثل هذا الادعاء المتزيد. وتلقي المذاهب الغربية أو تبنيها لا يكون مبادرة ولا مشروعاً. لقد جُلبت مفاهيم وآليات ومناهج في التربية والأدب وعلم النفس والاجتماع وسائر (الأيديولوجيات) ولم يتردد المحتفون بها في وصف محاكاتهم بأنها مشاريع، وما هي كذلك، وإن كانت المشاهد قد استفادت منها، وإذا كان من حقهم التزود من معارف الغير فإن ذلك محكوم بضوابط لم يتمثلوها.
لقد كثرت المقولات حول المشاريع، مثلما كثرت دعوى (الثلاثيات الروائية). والمشروع لا يكون إلا بعد قيام الحاجة، وتوفر الإمكانيات، ورسم الخطط، وتحديد الأهداف، وتصور النتائج، وممارسة الفعل المنظم، وإنتاج العمل المستقل المتكامل، ونهوض طائفة مقتدرة واعية تتحرك في الوقت المناسب، وتملك الحق والشرعية والإمكانية، وأن يسبق الفعل تقدير وتوقيت وتحديد المسار والهدف. ومثل هذا لا يصدق على كثير من الممارسات الفجة المرتجلة التي يصفها أصحابها بالمشاريع، ويتلقاها أشياعها بالتصديق، ثم لا تكون كذلك، ومع الحرص على فرز الأعمال وتحديد العمل المشروعي والعمل العادي إلا أننا لا نجد الضوابط الدقيقة التي تتلافى مثل هذا الخلط المسيء للفهم. والمتابع للإنجازات الفردية والمؤسساتية يجد أن أعمالاًُ فردية، لم يبيت أصحابُها نية المشروعية، ولكنها تفوقت بغزارتها وموضوعيتها وسدّها الحاجة على أكثر المشاريع المستحقة لهذه السمة، وقد لا يلحق بها من بيتوا النية وخططوا وأنفقوا.
فلو نظرنا إلى المشاهد الثقافية العربية إبان النهضة أو في أعقابها لتبدت لنا إنجازات فردية وجماعية ومؤسساتية تستحق الوقوف والإشادة، وإعادة النظر، لإعادة الكرّة ومواصلة المسيرة التي انقطعت بموت صاحبها، أو بتفرّق الجماعة. وليس هناك ما يمنع من الاستفادة والتأسي؛ فالثقافة والحضارة والهمّ العربي وحدة واحدة لا تتجزأ، وما ينجز في موقع جغرافي يسدّ خلالاً كثيرة، وبتعقب المنجزات التي كاد يطويها النسيان نقف على محاولات رائدة في مختلف الحقول المعرفية.
لقد تبدت الإسهامات المشروعية في عدة حقول معرفية، ففي حقل الفكر الإسلامي ومعارفه بُذلت جهود من قبلِ أفراد ومؤسسات، وكان لهذه المبادرات المنظمة أثرها في سد فراغات معرفية طال انتظارها. لقد كانت هناك محاولة للتاريخ الحضاري للإسلام لمواكبة التاريخ السياسي، ويأتي في مقدمة ذلك مشاريع كثيرة، منها - على سبيل المثال - مشروع (أحمد أمين) عن فجر الإسلام وضحاه وظهره، وفي مجال الدراسات الشخصية يأتي (العقاد) في عبقرياته، وفي مجال النص التشريعي نجد أنه في مجال (الحديث النبوي الشريف) يتبادر إلى الذهن العلامة (محمد ناصر الدين الألباني) - رحمه الله - لقد كان اهتمامه في التحقيق والتخريج والتصحيح فتحاً مبيناً، أدى إلى العدول عن كثير من المسلمات الفقهية، والتقليل من التعصب المذهبي الذي أحل النص الفقهي محل النص الشرعي، وخدمة السنة النبوية من لدنه مبادرة فردية يعجز عن النهوض بمثلها فريق عمل متفرغ؛ الأمر الذي حدا بعلماء المملكة إلى تثمين عمله المتميز، ومنحه (جائزة الملك فيصل العالمية) ومشروعه في خدمة السنة فتح الطريق أمام عدد كبير من العلماء الذين أسهموا في تحقيق كتب الحديث وتخريج أحاديث السنن والصحاح والمسانيد.
وأحسب أن النصف الثاني من القرن الماضي يعد من أميز الفترات وأخصبها؛ حيث شكل تحولاً في الفقه الإسلامي، حمل علماء المذاهب على مراجعة مسلماتهم، والقبول بإعادة النظر في كثير من الأحكام، وعمله من أهم المشاريع الفردية. ويواكب هذا المشروع ظاهرة (الفهرسة) لكتب الصحاح والمسانيد والسنن ووضع فهارس للصحيح والضعيف والموضوع. وتبع ذلك بدايات متعددة في مختلف المعارف توقفت قبل الاكتمال: إما لموت المؤلف، وإما لعجزه، وإما لفشل مشروعه. والمشهد الثقافي والمعرفي زاخر بالمشاريع التي بدأت ثم تفرقت بها السبل.
وفي مجال (الذكر الحكيم) يتبادر إلى الذهن (مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف)، أما عن الجهود الفردية فيتبادر إلى الذهن العلامة (عبد الخالق عضيمة) - رحمه الله - الذي أنجز عملاً فريداً، لم يحظ بالاهتمام والاستثمار، تمثل بدراسات نحوية صرفية لأساليب القرآن الكريم، حيث أفرغ النص القرآني وفق أبواب النحو والصرف، ويقع مشروعه في أحد عشر مجلداً، لا ينجز مثله إلا أولو العزم من العلماء الأفذاذ. ومن قبله مشروع الأستاذ (محمد فؤاد عبد الباقي) - رحمه الله - (المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). وفي مجال الحضارة الإسلامية لا يجهل أحد مشروع (فؤاد سزكين) الذي جاء تصحيحاً لعمل لمستشرق (بروكلمان)، ولو ذهبنا نستقصي ألوان المشاريع ومجالاتها لطالت علينا الشقة.
وعلى المستوى المحلي وفي مجال التراث والآثار وعلم الأنساب واللغة والمخطوطات يعد من أبرز الشخصيات الذين تركوا أثراً يفوق المشاريع المؤسساتية علامة الجزيرة العربية الشيخ (حمد الجاسر) - رحمه الله - فلقد اهتم بجغرافية الجزيرة العربية، والتف حوله عدد من الباحثين الذين أنجزوا جغرافية مناطق المملكة، وهو قد اهتم بتاريخ الأسر المتحضرة في نجد، وله اهتمامات تراثية ولغوية، وهي بمجملها تشكل وحدة معرفية تضارع المشاريع العملاقة. وبالإضافة إلى التحقيقات، فقد تعقب معاجم اللغة العربية واستدرك عليها ما يتعلق بأسماء المدن والجبال والأودية، وهو بإمكانياته واهتماماته الاستثنائية أصبح مرجعاً معرفياً موثّقاً لدى (المجمع اللغوي بالقاهرة)، ويعد من عمده فيما يتعلق بتاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها. وإلى جانب أعماله التأليفية والإشرافية يُصدر مجلة (العرب) وهي مجلة متخصصة، تهتم بذات الموضوع. ولقد نهض محبوه للمحافظة على استمرارية جهوده، وذلك بإنشاء مركز يحمل اسمه، ويؤدي ذات المهمات التي كان ينهض بها بمفرده. ولقد شُغل بعض الأدباء والمفكرين والمتخصصين بقضايا تاريخية أو تراثية أو فكرية أو أدبية وتمخض اهتمامهم عن منجزات كادت تصل إلى مستوى المشاريع، نذكر في هذا الصدد الدكاترة (عبد الرحمن الأنصاري) و(سعد الراشد) وجهودهم في علم الآثار، ومعالي الدكتور (علي النملة) وجهوده في علم الاستشراق، والدكاترة (سعد البازعي) و(ميجان الرويلي) وجهودهم في علم المصطلح، والدكتور (سالم محمد رشاد) - رحمه الله - وجهوده في تحقيق مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مشروع رعته (جامعة الإمام)، ومعالي الدكتور (عبد الله بن عبد المحسن التركي) واهتمامه بالموسوعات التاريخية والعلمية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:06 PM   #68
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
موقعنا في سياق المشاريع الثقافية..! 2 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل


ولو ذهبنا نستبق المسكونين بالهم الثقافي والتراثي لتداخلت أمامنا القضايا، ولتشابهت علينا المسميات، فطائفة من الذين شغفتهم الأضواء حباً، وأنهكهم الإعلام ترويجاً يودون أن يستقروا في أذهان الغير على أنهم أرباب المشاريع وروادها، وما هم منهم لا في العير ولا في النفير، وإمعانهم في تكرار الادعاء جعل البعض يظنهم كذلك. ولو نظر المصدِّقون لهم إلى مواصفات المشروع وشروطه لما غلبت على ظنهم تلك الأقاويل، ولقد علمت أن قادة الفكر العربي يعايشون أكثر من مائتي مشروع ثقافي جماعي، تندرج تحته المنتديات والمنظمات والهيئات والروابط، وهذا عدد قليل إذا قيس بالمساحة والكثرة والحضارة والتاريخ. وحين أومأت إلى طائفة من العلماء والمفكرين محلياً تساءل البعض عن آخرين، لا يقلون عنهم هماً وإنجازاً، وما كان في نيتي التقصي، ولو كان ذلك من همي لكنت أشرت إلى مشروع (البابطين) وهو مركز حافل بالتراث، وقريب منه الصالونات والمنتديات والأندية والروابط كصالون (الرفاعي) رحمه الله، و(خوجة) و(المبارك) وآخرين، كانت لهم اهتمامات ثقافية لا تقل بمجموع منجزها عن منجزات أصحاب المشاريع.
وعلى المستوى العربي نجد رجالات علمية وثقافية تضارع في أدائها وفي منجزاتها ما أنجزه غيرهم، ولسنا بصدد الحصر الإحصائي، ولا العزوف عما لا تهوى أنفسنا، ولكننا نشير فقط إلى ما في الوطن العربي من بدايات موفقة، تحتاج إلى مزيد من الدعم والمواصلة، أو التقويم والتسديد.
ومما يدخل في نطاق المشاريع الفردية - على سبيل المثال - مشروع (محمد عابد الجابري) في نقد العقل العربي الذي يقع في أربعة أجزاء كبار، وهو مشروع استرجاعي نقدي تقويمي للبنية والمكون، وللبعدين: السياسي والأخلاقي، ولما يزل مجال أخذ ورد. ودونه مشروع (كتب غيرت الفكر الإنساني) للباحث (أحمد بن محمد الشنواني) وقد نيف على عشرة أجزاء، ودعوى تغييرها متفرقة أو مجتمعة للفكر الإنساني دعوى فيها أكثر من قول، وفائدتها أنها أجملت الوصف والتحليل لعشرات الكتب المهمة، وذلك المشروع الفردي مخاض مشروع مؤسساتي تبنته (الهيئة المصرية العامة للكتاب) وهو مشروع (الألف كتاب) الأولى والثانية.
ويضارع هذا المشروع المؤسساتي مشروعات مماثلة كمشروع سلسلة (اقرأ) وسلسلة (زدني علماً) و(كتاب الهلال) و(عالم المعرفة) السلسلة الشهرية التي تصدر من الكويت و(كتاب الرياض)، وتلك مشاريع عملية تقصد إشاعة الثقافة، ولا تخص علماً ولا ظاهرة بعينها، كمن فرغ لخدمة (الحديث النبوي الشريف) أو (العقل العربي)، ومن ثم يصدق على مثل هذه المنجزات مسمى (المشاريع الثقافية) وإن لم تبت لها النية، ومما هو في هذا المجال (مشروع الفهرسة) للشخصيات والمجلات، ويأتي على رأس ذلك مشروع الأستاذ (حمدي السكوت) وزملاؤه، فلقد نال بذلك جائزة الملك فيصل العالمية. وكذلك (شوقي ضيف) في تاريخه للأدب العربي عبر العصور الإسلامية. وعلى المستوى النسائي نذكر (سلمى الجيوسي) و(سلمى الحفار)، فقد اهتمت الأولى بترجمة عيون الإبداع العربي، واهتمت الثانية بآثار (مي زيادة). وعلى مستوى المؤسسات نجد (مؤسسة الفكر العربي)، و(منتدى الوحدة العربية)، و(مؤسسة الإنماء العربي)، و(منتدى المثقف العربي) للدكتور (عبد الولي الشميري)، وما لا يحصى من المنتديات، وتلك تلحق بالمشاريع، ولكنها تعيش في ظلها.
ولأن القصد من هذه الأمثلة الإشارة لما يمكن أن يصدق عليه مفهوم المشروع فإننا نكتفي بالإشارة العابرة لبعض المشاريع وإن أشرنا له لا نود أن نأتي بمثله، لكونه تزيداً لا قيمة له، أو لكونه مناهضاً للثوابت الحضارية، ولكن يظل المخالف في نطاق المشروع الثقافي. وسيان عندنا في هذا السياق أن يكون المشروع على ما نريد ووفق رغباتنا أو لا يكون، فاكتساب صفة (المشروع) لا يخضع لموافقة الهوى، إذ إنه نوع من الفعل الفردي أو المؤسساتي يكتسب الصفة ولا يظفر بالتأييد. ولو ربط هذا المفهوم بالمنازع السياسية أو الفكرية أو غيرها لما اكتسب أي عمل مفهوم المشروع، وهذا يذكرنا بالخلاف حول مفهوم الحضارة بين (مالك بن نبي) و(سيد قطب) رحمهما الله، وهو اختلاف شكلي أريد له أن يكون فكرياً.
وإلى جانب المشاريع التأليفية أو التحقيقية تقوم مشاريع بحثية تجميعية مؤسساتية. هذه الاهتمامات تأتي على شكل مراكز بحوث، تخص (مدينة) أو (شخصية)، ففي (المدينة المنورة) جاء الاهتمام بتاريخ المدينة الحديث، وبخاصة ما يخصها إبان الحكم العثماني، وما يتعلق بالجانب الإداري والمالي، وما يمكن تسميته بما أهمله التاريخ السياسي أو العلمي. ولتدارك ذلك أنشئ (مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة) ومهمته تجميع شتات البحوث والأوراق والسجلات والآثار وكل متعلقات المدينة المنورة. وللجمع بين الدراسة والتنقيب تولى المركز إصدار مجلة محكمة اسمها (مجلة مركز بحوث ودراسات المدينة المنورة). ولقد حفظ هذا المركز من المعلومات ما كان عرضة للضياع، ولما يزل ينقب، ويرتب، ويصنف ويدرس ويبدو أثره المعرفي بعد استكمال متطلباته.
وعلى سبيل الاهتمام الشخصي نجد (دارة الملك عبدالعزيز) تهتم بتاريخ الجزيرة العربية الحديث، وتتابع ما كتبه الرحالة والمستشرقون عن مناطق المملكة وبخاصة أولئك الذين أتيح لهم الاتصال بزعماء البلاد، ممن كانت طبيعة عملهم متعلقة بالظروف السياسية للجزيرة العربية إبان الأدوار الثلاثة للحكم السعودي، إضافة إلى التاريخ الشفهي الذي اضطلعت به الدارة، وكذلك المراسلات الرسمية والشخصية مما له علاقة بالجوانب السياسية والمالية.
ولقد كانت (مجلة الدارة) بحد ذاتها مشروعاً تاريخياً. ولا تقل عنها في هذا المجال (مجلة الدرعية) التي يرأس تحريرها الأستاذ (محمد بن عمر بن عقيل) وهي مجلة فصلية محكمة تعنى بتاريخ المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية وتراث العرب، ولا تقل (مكتبة الملك عبد العزيز) عما سلف من مراكز ودارات، وبخاصة أن المكتبة ترعى الموسوعات والندوات والمؤتمرات. وما أنجزته تلك المراكز ومجلاتها في مجالها من إضافة معرفية لا يقل عما ينجزه ذوو المشاريع المعلنة، وإذا كان التعويل على المنجز فإن أعمال تلك المراكز والدارات والمجلات المتخصصة لها من الأهمية ما تستحق معه أن تسمى مشاريع تاريخية أو فكرية أو علمية، ولعل الاختلاف حول المشروع وحدوده استدعى مثل هذه الجوانب.
ولقد بدت أعمال ثقافية استثنائية، لم يكن على بال أصحابها أن تكون على سنن المشاريع، ولكنها بعمقها وشمولها وثباتها واستمراريتها تجاوزت حدود المشاريع. فالعلامة (علي جواد الطاهر) ت 1417هـ بدعم ومساندة من العلامة (حمد الجاسر) نهض بمهمة تفوق أصحاب المشاريع، وبمفرده أنجز (معجم المطبوعات العربية في المملكة العربية السعودية) في أربعة مجلدات، وهو عمل فهرسي شامل، لا ينهض به إلا فريق عمل، ولا ترعاه إلا مؤسسة قوية، وقد سد بعمله فراغاً ما كان له أن يظل، حتى ينهض له أستاذ عراقي زائر. والتقاطه لهذه الفكرة ونهوضه بها يقربه من ذوي المشاريع الثقافية. ولعل أكبر وأجود مشروع موسوعي (الموضوعية العربية العالمية) التي دعمها الأمير (سلطان بن عبدالعزيز) وجند لها أكثر من ألف متخصص وباحث، وقد تناولت هذا المشروع بالدراسة. ومشروع المؤسسات تذكرنا بمشروع الأمير (مشعل بن عبدالعزيز) (موسوعة مكارم الأخلاق) وموسوعة الدكتور عدنان الوزان (حقوق الإنسان) كحقوق المرأة وحقوق الطفل، وقد صدرت في عدة مجلدات.
وإن كان ثمة إشارة إلى ذوي الهموم الثقافية والتراثية فإننا لا نجد بداً من الإشارة إلى طائفة من أساتذة الجامعات الذين سكنهم هم التراث، وعملوا على خدمته تجميعاً وتحقيقاً. فالأستاذ الدكتور (عبد الرحمن العثيمين) في (جامعة أم القرى) يفوق باهتمامه وإتقانه لعمله ما تقوم به بعض المؤسسات أو ترعاه من مشاريع ثقافية. والأستاذ الدكتور (عبد العزيز المانع) في (جامعة الملك سعود) لا يقل عنه إنجازاً وإتقاناً. ولقد راد لأولئك العلامة (ابن بليهد) في كتابه (صحيح الأخبار) و(أحمد عبد الغفور عطار) في (الصحاح) و(ليس من كلام العرب). ولو ذهبنا نتحسس عن ذوي الاهتمامات والمنقطعين لتخصصاتهم لخرجنا عن مقاصد الحديث، والمتابع للمشاهد يعرف سلفاً أن هناك من تتنازعهم عدة اهتمامات، تكاد تقترب بهم من سدة المشاريع. والحضور الإعلامي، والاشتغال بأكثر من ظاهرة، وسرعة التحول من قضية إلى أخرى، والاهتمام الذي لا ينجز عملاً لا يكون أصحابه من ذوي المشاريع وإن ادعوا ذلك أو ادعاه لهم غيرهم.
وإذا قامت شخصيات أو جماعات أو مراكز بمهمات تاريخية أو جغرافية أو تراثية أو موسوعية فإن بعض الوزارات قد نهضت بتنفيذ بعض المشاريع المعرفية، ف(وزارة التربية والتعليم) نفذت عدة مشاريع ثقافية، منها (سلسلة آثار المملكة العربية السعودية) حيث أصدرت عن كل منطقة مجلداً عن الآثار، بلغت ثلاثة عشر مجلداً، تقصت فيه آثار كل منطقة. وفعلت مثل ذلك حين أصدرت موسوعة عن رجال التربية والتعليم. وفي هذا المجال نهض أفراد أو مؤسسات أو مجموعة متخصصة بعمل موسوعات، وقد جاءت تلك الأعمال متفاوتة في جودة الأداء، وهي بلا شك مشاريع لها وعليها. ف(دائرة الإعلام المحدودة) نهضت بمشروع (معجم الأدباء والكتاب) وكانت تنوي إصداره في أجزاء، إلا أنها عدلت عن ذلك، وأصدرته بطبعة معدلة تحت عنوان: (معجم الكتاب والمؤلفين)، وقد شكلت للمشروع المتواضع لجنة علمية، لإجراء بعض التعديلات والإضافات، وكنت واحداً من بين أعضاء هذه اللجنة.
كما قامت مجموعة من الأدباء بإصدار (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث.. نصوص مختارات ودراسات) صدرت الموسوعة في عشرة مجلدات، تناولت الأدب والنقد والإبداع الشعري والسردي مع تراجم ونماذج، ولقد قوبلت تلك الموسوعة بنقد حاد النبرة، وعلى الرغم من ذلك فإنها تعد إضافة جيدة وجهداً مشكوراً، ولا يخلو أي عمل من نقص يمكن تلافيه، كما فعلت (دائرة الإعلام المحدود) حين أصدرت الطبعة الثانية تحت إشراف لجنة علمية، وعلى هذا السنن قام أفراد بجهود مماثلة نذكر من ذلك على سبيل المثال (موسوعة الأدباء والكتاب السعوديين خلال ستين عاماً) للأستاذ أحمد بن سعيد بن مسلم)، ورائد أولئك جميعاً الأستاذ (عبد السلام الساسي) والأستاذ (عبد الله بن إدريس) والأستاذ (عبد الرحمن العيد) والأستاذ (محمد بن أحمد العقيلي) وآخرون من بعدهم، وقد لا تصل مثل هذه الأعمال إلى مستوى المشاريع، ولكنها تمثل إرهاصات لا يستهان بها، ولا يجوز تجاوزها.
وحين نتقصى مثل هذه المشاريع أو ما يمكن أن يسمى مشروعاً، وهو غير ذلك فإننا نود الدخول في التقويم والتخطيط واستعراض ما يمكن استعراضه من الحاجة الملحة لتغطية حاجة الأمة الثقافية بالمشاريع المعرفية والثقافية، وما لم نقوِّم العطاء ونتقصى الحاجة فإن الزمن سيمضي دون أن نظفر بعمل ذي جدوى.
وإن كان ثمة رغبة في مراجعة المنتج، وتقويم الأعمال القائمة، والبحث عن مواطن النقص، فإن أهم شيء يجب أن نتخذه: توحيد الجهود، والتنسيق بين المؤسسات والجماعات، والتعويل على العمل المؤسساتي، ثم النظر في حاجة الأمة المتمثلة بأمور كثيرة من أهمها:
- الترجمة: والحديث عن أهميتها وإشكالياتها العويصة يحتاج إلى مؤتمرات وأكفاء يتقنون اللغتين والموضوع.
- الوصول إلى المخطوطات العربية التراثية المنهوبة من خزائن العواصم العربية عبر القرون الخوالي، والعمل على استعادتها، أو استعادة صور منها، وتحقيقها، وجعلها في متناول المتخصص العربي.
ولقد كان لمعهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية جهود لا يستهان بها، كما كان للمجامع العربية جهود مماثلة ولكنها دون المؤمل.
- المصطلح: وإشكالية المصطلح مرتبطة بإشكالية الترجمة، فكل مجمع وكل مترجم يعرب أو ينقل أو يترجم وفق جهده وإمكانياته، وقد أدى ذلك إلى التعدد والفوضى.
- العمل الموسوعي: وهذا الهم نهض به أفراد وجماعات ومؤسسات، ولكنه جنح إلى الفوضوية، ولم يكن الناهضون بمثل ذلك على شيء من أصول الإعداد الموسوعي، وصناعة الموسوعة تختلف عن صناعة البحث أو الكتاب.
- المعاجم: وتلك الرغبة تتطلب مؤسسات متخصصة قادرة على استقطاب العلماء الذين يتوفرون على معرفة متخصصة وخبرة عميقة تميز بين العمل الموسوعي والعمل المعجمي. ولو ذهبنا نعدد نواقصنا الثقافية لأذهلتنا الكثرة. وأهم شيء في هذه الظروف أن تعمد المؤسسات والجماعات إلى التنسيق بين الأعمال، وتوحيد الجهود، وتبادل الخبرات، والمواد، والكفاءات. ولعل أقرب شاهد على الفوضى ما نراه من منجزات مبعثرة ومكررة تمارسها (مجامع اللغة العربية) في الوطن العربي، وبخاصة في مجال الترجمة، وعلم المصطلح، والتحقيق.
إن المجتمع المدني مجتمع مؤسسات ودراسات وتخطيط وتخصص واستشارات، فهل نمتلك هذا الهاجس، لنحقق ما نحن بحاجة إليه في مختلف الحقول المعرفية. أرجو ذلك.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:07 PM   #69
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
دعوا الحداثة فإنها منتنة..!
د. حسن بن فهد الهويمل


ما كنت أود أن تعاد أسمال الحداثة للرفو ولا للشماتة، بعد أفول نجمها، وتفرق جمعها ولا سيما أن هذا الزمن زمن مثقل بالمشاكل، وأن كؤوسها تدار بين أقوام يجتالهم الشك والارتياب، وينتابهم الخوف والترقب، ويحتنكهم شيطان الفرقة. وما كنت أود أن تزل أقدام بعد ثبوتها، ولا أن يُزين للبعض حب الجدل لذات الجدل، ولا أن تستثار كفاءات شرعية وأدبية كنا نعدها لفك الاشتباكات وإطفاء الأزمات. وصراع الحداثة وصرعتها جاءا في وقت كنا فيه أبعد ما نكون عن الاختناقات المحلية والعربية والعالمية. وكان المتحدثون عنها: تأييداً أو معارضة لا يحسون بالخوف، ولا ترعبهم أشباح الفتن العمياء، ولا ترهقهم قوى البغي صعوداً، والفرقاء يجادلون ويجاهدون، وكل فرد منهم محمي الساقة والمقدمة.
وفي العقدين الماضيين أخذت (الحداثة) من الجهد والوقت ما فيه الكفاية، ولم نعد بحاجة إلى مزيد من اللجاجة. والذين اتخذوها شرعة ومنهاجاً، والذين اعتزلوها، يصر كل واحد منهم على قوله، وقلَّ أن يعطي أحد منهم الدنية فيما يذهب إليه. وقليل ممن استبان وجه الصواب قنع بكتمان رؤيته، ولم يبدها إلا للخاصة.
والأذكياء الذين تعرت أمامهم سوءاتها، مارسوا الالتفاف الغبي، فقالوا عن الحداثة: إنها مجرد التجديد، ومضوا يروجون لهذا الرأي، ليضربوا عصفورين بحجر: تبرئة أنفسهم من لوثة الحداثة بمفهومها الفكري والأخلاقي. واتهام خصومهم بأنهم ضد التجديد. والمطمئن أن أهل الذكر والعارفين ببواطن الأمور يدركون كم هو الفرق بين (الحداثة) و (التجديد) . ولقد كنت وما زلت أبدئ وأعيد القول: بأن الحداثة شيء آخر، مختلف جداً عن التجديد، وأن من وقف في وجه التجديد جرفه تياره، وفاته قطاره، وكم سخرت من أناس ألجمهم الحق، فراحوا يصفون خصومهم بالتقليديين، ولما أزل مستهدفاً بوابل من هذه الاتهامات الجائرة، التي قابلتها بالصبر والمصابرة والمرابطة على ثغر الأصالة. وعزائي أنني بذلك أسفهم الملّ. وما استأت إلا من شدات مبتدئين، تقبلوا تلك المفرقعات الفارغة، وتصوروها أقوالاً محكمة لا يأتيها الباطل، ولم يترددوا في اجترارها ببلاهة معتقة، ويقيني أن الزمن كفيل بإحقاق الحق، وتعرية الزيف، والخطورة ليست في افتراء الأقاويل، وإنما هي في تزييف الوعي، وتضليل الرأي العام، فالمصطلحات الغربية كما ضوال الإبل، تحمل غذاءها وسقاءها، ومن تمطاها قصدت به مراد أهلها.
وما كان لي أن أعيد القول مرة ثانية، لولا ما أراه من حرص المشهد الصحفي على جر الأقدام، وتجريد الأقلام، وإعادة المناكفات جذعة. على أن تلك الزوبعة المفتعلة رهينة الأجواء الباردة، فكل المتداول حديث معاد، واجترار ممل، لا يقبل به إلا المقوون، الذين يبهرهم كل شيء، أو المصابون بعمى التعصب للأناسي أو القضايا. وكيف لا يبلغ التعصب بصاحبه حد العمى؟
وطائفة من المتعصبين للمذاهب الفقهية يقولون برأي شيخهم، وإذا واجههم خصومهم بنص قطعي الدلالة والثبوت، تمحلوا القول بالضعف أو النسخ أو الخصوص أو دخلوا في متاهات التأويل. ومن أراد ترويض نفسه على استفحال الاختلاف، فليقرأ كتب الفقه المقارن في المسائل لا في الأصول، أو ليقرأ كتب الخلاف في المذهب الواحد، مثل كتاب (الإنصاف...) ، ومن يتهيب الخوض في لجج المعارف الإنسانية يظل قعيداً كما الطاعم الكاسي، وما كان لنا النهي عن استشراف المستقبل والتنقيب عن المنجز الإنساني، وإنما النهي عن الجدل العقيم والاجترار الممل لقضايا لم يبق فيها مجال للحديث.
والراصدون لفيوض القول، لا يحتاجون إلى مزيد من الإضافات، فالحداثة أخذت نصيبها، ولم يبق فيها مجال لمتحدث. وإذا كنت أعتب على بعض المؤسسات الثقافية نزوعها إلى التحريش، ورغبتها في نبش الماضي القريب فإنني أود استدعاء قضايا وظواهر لم تأخذ حقها من البحث، وهي من الأهمية بحيث تستأهل الاستدعاء. وعند تداول الآراء حول ما يجد من قضايا يجب تفادي الصدام ومحاولة التمكين للحوار المتكافئ، الحوار المعرفي الذي يتجاوز الأناسي إلى القضايا، ويهدف نشدان الحق، والزهادة بالانتصار الوقتي الزائف. والمؤسف أن جهدنا المهدور نراه أشلاء مبعثرة تحت أقدام القضايا والظواهر التي ليس لنا فيها ناقة ولا جمل، والمتابع لحراكنا الثقافي، لا يراه إلا حيث يكون زامر الآخر، أما زامر الحي فإنه لا يطرب.
ويوم أن كانت الحداثة على أشدها، كانت لي صولات وجولات حادة النبرة معها ومع الحداثيين: الواعين لمفهومها، والمخدوعين ببريقها، تناولت مجالاتها: التنظيرية والإبداعية، وكنت قد بادرت إلى إلقاء محاضرة في (نادي الرياض الأدبي) قبل عقد ونيف، وتولت طباعتها فيما بعد (دار المسلم) تحت عنوان (الحداثة بين التعمير والتدمير) ، وكنت أعِدُ نفسي وأمنّيها برصد تجربتي النقدية في كتاب اخترت له اسم (أَكْتبُ ما حدث لأنه حدث) ولكن تقدم السن، وتتابع المسؤوليات والمهمات حال دون إنجاز الكتاب على الرغم من توفر المادة، ولست أشك أن في كل تأخيرة خيرة، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى تنقية الأجواء من الشوائب، والاشتغال في القواسم المشتركة، وما فات فات، ولنا الساعة التي نحن فيها. وتلك المراجعة لا تعني النكول عن الحق، ولا إعطاء الدنية في الثوابت. فالحداثة التي جالدناها وجاهدنا أصحابها، ما زلنا على رأينا فيها وموقفنا من ذويها، غير أن هناك سوء فهم والتباساً في المفاهيم، أديا إلى أخذ المقيم بالظاعن، مع إصرار وعناد من كل الأطراف صعَّدا الجدل، وحولاه إلى تلاسن شخصي. وإذا كان مثل ذلك قد حصل فإن وزره على الذين تجاوزا القضايا إلى الأشخاص، فأطلقوا الأحكام، وعمموا الاتهام، وأوغلوا في السخرية، وأمعنوا في التهميش، وانشغلوا بالاستهزاء والإقصاء. حتى لقد عف المقتدرون، وغلبوا جانب السلامة، ولاذ بعضهم بالصمت.
وما دام أن سامر الحداثة المحلية على الأقل قد انفض، وأن أنصارها ومريدوها تفرقوا أيدي سبأ، فإن من الفضول أن نعيدها جذعة، ونكرر الأخطاء والتجاوزات التي كانت سبباً في ضياع القضية.
ومهما علت الأصوات حول مفهوم الحداثة ومشروعيتها فإنها ستظل مصطلحاً غربي الولادة والنشأة والهم والهدف، يتداوله الدارسون والمنظرون والمبدعون وفق متطلباته ومقتضياته، وهي مخالفة لمتطلبات الحضارة العربية والإسلامية ومقتضياتها على حد سواء. وليس باستطاعة المعول على الآخر أن يتخلص من شوائب المصطلح، ولا أن يفرغه من محتواه. وحتى لو استطاع ذلك أو بعضه فإنه يظل منجذباً إلى أصوله ومقتضياته. والذين استقبلوا المصطلح يختلفون في مواقفهم ومفاهيمهم ورغباتهم. فطائفة منهم صاروا إليه نكاية بالحضارة الإسلامية، ومعاذ الله أن يكون من أبناء بلادي من يضمر ذلك، فهم أبناء الفطرة والسيرة، وعهدنا بهم أنهم رجّاعون إلى الحق، وآخرون منهم تساوت عندهم الأنوار والظلم، وقليل من المتعالقين يعيشون تحت وطأة التبعية والشعور بالنقص. والحضارة الإسلامية قادرة على تبني نظريات ومصطلحات، تستجيب للحاجة، وتسد الخلال، وتشق بها الطريق إلى التفاعل الإيجابي في مشاهد الحضارة الإنسانية. وليس في الحضارة الإسلامية من الضوابط ما يعوقها عن اللحاق بالحضارة الغربية ومنافستها. ولملمة لشتات القول أستعيد ما قلت من قبل،: إن لكل متواصل مع الحداثة حداثته الخاصة التي تنجيه أو ترديه، وعلى المنصف ألا يعمم الأحكام، ولا أن يوحد المواقف، وإذا كانت هناك حداثة فكر وفن وقيم معنوية فإن هناك حداثة حسية في الأزياء والمساكن وسائر التصاميم والصناعات. ولسنا معنيين إلا بحداثة (العهر والكفر) فهي وحدها التي نجالد ونجاهد، واستبراء للعرض والدين لا نتهم أحداً بعينه، وإذا رأبنا أمره قدمنا حسن الظن، وعلى الحائمين حول الحمى كف الغيبة عن أنفسهم.
ولما كانت مشاهدنا العربية قابلة للتبعية، محبة لإشاعة الجدل فإنها لم تتح فرصة التفكير في المبادرات بالقدر المتكافئ مع الإمكانيات، ولم تفكر طائفة من النخب المدانة في طرح البدائل ومحاولة التعريب والترجمة وامتصاص نسخ الحضارات. واختلاف التصورات والرؤى حول مفهوم الحداثة أضل كثيراً من الناس، وعمق الخلاف فيما بينهم. فالبعض يرى أنها تعني (التجديد) ليس غير! ومن ثم لم يكن منه تحفظ ولا تمنع ولا استثناء ينجيه من سلق الألسنة. والبعض الآخر يرى أن شرط الحضور الفاعل لا يكون إلا في اتباع سنن الغرب حذو القذة بالقذة، يفعل ذلك للنجاة من التخلف، أو لإرضاء الآخر، وكسب وده، وما علم أولئك أن النجاة بالاستقامة على المحجة، واستشعار أن الآخر لن يرضي إلا باتباع ملته. ومعضلات المشاهد كافة في تشابه المصطلحات على الناهضين بمهمة العصرنة وفي تعدد خيارات الخلوص من الهوان.
وإذا كانت الأمة العربية تعيش حالة من الضعف والتخلف، وحاجتها ماسة لإصلاح أوضاعها كافة فإن نخبها لم يتفقوا على صيغة موحدة لأسلوب الحل وسنِّ طريق محدد للخلاص، وهم من قبل ومن بعد لم يتفقوا على أسباب التخلف، ومتى تشابهت عليهم الأسباب تعددت الحلول. وهذا الاختلاف المضاعف من شأنه أن يعمق التخلف، وأن يرسى قواعده، وأن يجعل الأمر غمة. لقد حاولت بعض المؤسسات إعادة الجدل حول (الحداثة) بعد أن فقدت ألقها، وكان بود الإعلاميين أن يعيد الأطرافُ المتحاورون خطاب التشنج والتنابز، غير أن الطرفين أدركا اللعبة الإعلامية، فاتخذا طريق الموضوعية، وإن تمسك كل واحد بما يرى من قبل وفي سبيل الرغبة في الصخب وطحن القرون تلقف المحررون الصحفيون أطرافاً من الجدل الذي تفاوتت نبراته، فوصف البعض اللقاء بأنه اجترار للخلاف القديم، وحجَّر البعض السعة حتى نفى أن تكون لدينا حداثةٌ خاصة، متصوراً أن الحداثة لا تكون حتى تصطبغ بالإقليمية، وحتى تكون منتجاً محلياً، فيما ذهب آخرون إلى أن الحداثة ليست قضية، ولكنها إشكالية تتسع لعدة قضايا، ولقد طغت إشكالية المرجعية والمفهوم في الجدل المفتعل، وما أود قوله أن المتحفظين على الحداثة يهمهم بالدرجة الأولى أن يُهْدى المبدعون إلى الطيب من القول، وإلى الأصيل من الفن، وإلى الفصيح من اللغة، ولست أتوقع معارضة على ذلك.
وكل الذين تحدثوا أو استُفْتُوا في الحداثة، أطلقوا العنان لأنفسهم في غياب المفهوم، وغبش الرؤية. فالذي يقول: كلنا حداثيون، ولا يستثني، يتصور الحداثة مجرد التجديد، والذي يرى الحداثة إشكالية، وليست قضية، يعتمد استمرارية التغيير. فالحياة عنده بكل ما هي عليه كالنهر المتدفق، بحيث لا يكون هناك ثبات ولا توقف، وكل شيء عنده قابل للتحول المستمر، ومتى تلبثت الحداثة ولو للحظة واحدة فإنها تناقض نفسها، وأخطر ما تواجهه الأمة عدم التمييز بين الثابت والمتحول، وبين ما هو فكري، وما هو عقدي. وحين تتعدد المفاهيم بتعدد المتحدثين يظل المتلقي في أمر مريج. ومكمن الخلاف في التعويل على مفاهيم متناقضة، ومتى اختلفت المرجعية استحال الوفاق.
والحديث عن الحداثة في معزل عن المفاهيم والمقاصد والمرجعية والنشأة والنسق الحضاري يعد من الرجم بالغيب. وإشكالية المشهد أن السواد الأعظم يجهلون أصول ما يتحدثون عنه، وبضاعتهم ما تناثر من أقوال غير مؤصلة، ومثل هؤلاء ك (السماسرة) الذين يرقبون الجالب على مشارف الطريق، ومهمتهم اجترار ما يفد، وعقدة العُقد أن كلمة (حداثة) كلمة حمالة، فإن ردت إلى جذرها اللغوي، وسعت أشياء كثيرة، وكان المتحدثون والمتتبعون لها في حل وسعة، فهي تدور مع جذرها حيث دار. وإن ردت إلى مصطلحها ومصدرها الفني والدلالي فالناس فيها أوزاع، ذلك أنها أشأم من وافد البراجم. فالغربيون لهم رؤيتهم التي لا يمدها دين، ولا يعصمها خلق، ولا تحكمها عادة، ولا يبرهن عنها شرط فني. والشرقيون الذين تلقوها تتنازعهم مفاهيم الجذر اللغوي والمقتضى المصطلحي، والذين تهافتوا عليها، أحسوا أنهم غير قادرين على التمكن من الجمع والمنع. فالمصطلحات لا تكون كذلك، حتى تكون جامعة مانعة.
وحين أسقط في أيديهم راحوا يغيرون الصيغ فيقولون (الحداثة) و (الحداثوية) بحيث جعلوا الحداثة: تجديداً في الفن واللغة، لا يتجاوز الآخذون بها حدود التجديد، وجعلوا (الحداثوية) انقطاعاً ورفضاً وهدماً. وهم قد استعاروا هذه الصيغ للصحوة الإسلامية، فقالوا: (إسلامي) و (إسلاموي) واستعاروها للقومية والوحدة العربية فقالوا: (عربي) و (عروبي) وفوضوية المصطلحات ليست لها بداية ولا نهاية، والدخول في معمعتها مضيعة للجهد والوقت. والمؤسف أن إعادة الجدل حول الحداثة في ظل هذه المفاهيم وتلك المستويات الثقافية سيزيد حدته وتوتره، مع أنها لن تحقق أي جدوى، فالمعنيون أحرقوها، كما قيل عن (النحو العربي) أحْرقه قومه، ومن الخير للبلاد والعباد أن نطوي صفحة الحداثة، وأن نتجه صوب المستجد في المشهد الثقافي، فلم يعد هناك مزيد من الجهد والوقت، ولم تعد أوضاع الأمة قابلة لمزيد من التنابز بالألقاب.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
قديم(ـة) 23-11-2006, 09:07 PM   #70
عباس محمود العقاد
عـضـو
 
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
شوقي ضيف في عمره الثاني
د. حسن بن فهد الهويمل


ما من مشتغل بالأدب العربي وفنونه: قديماً وحديثاً إلا ويذكر (شوقي ضيف 1910- 2005م) حاضراً في المشاهد كلها، وفاعلاً في المؤسسات أجمعها، وهو بهذا الحضور المتنوع: تأليفاً وتحقيقاً وتعليماً وعملاً، والممتد طوال سبعين عاماً، قد صنع لنفسه عمراً ثانياً (والذكر للإنسان عمر ثاني).
و(ضيف) الذي خلف للمكتبة العربية أكثر من خمسين كتاباً في مختلف المعارف الإنسانية، بمعدل كتاب واحد عن كل سنتين من عمره تقريباً لم يكن متفرغاً للتأليف، ولا للتحقيق، وإنما كان حضوره المؤسساتي يفوق عمله التأليفي. وهو من خلال الإشراف والمناقشة والتحكيم و(المجمع اللغوي) و(الجامعات العربية) التي طاف بها زائراً أو معاراً شكل قاعدة عريضة من الطلبة المنتشرين في آفاق المعمورة. إذ كان حفياً بهم وبدراساتهم ورسائلهم العلمية وبحوثهم للترقية، رعاهم ودعمهم وسهل أمورهم، واستعان بهم كما يشاع في الأوساط الجامعية، وهي استعانة تفاوت القوم حول مشروعيتها، ولا أحسبه معيباً في ذلك، فالطالب بعض أستاذه.
وقدر هذا العملاق أن رحيله المتوقع جاء والأمة العربية عندها كل بنات الدهر، وقد تمر وفاته كما لو كانت وفاة رجل غريب الوجه واليد واللسان. وتلك الظروف تذكرنا بوفاة (طه حسين) أثناء حرب رمضان عام 1973م. وإن كان ثمة أدباء وكتاب قد أبّنوه أو تفجعوا عليه فإنهم لم يقولوا، ولن يقولوا إلا ما خف حمله ورخص ثمنه، يذكرون أطرافاً من محاسنه وجانباً من إسهاماته. وكان بودنا لو أن المقربين منه والمقتدرين منهم فرغوا لأعماله يدرسونها، ويقوّمون ما اعوج منها، ويشيدون بإسهاماتها في سد الحاجة.
والمتابع الحصيف للمشاهد المعرفية كافة، يستبين بيسر على حجم إسهاماته ودورها في إثراء كافة الأوساط الثقافية والأدبية والأكاديمية. وخير أعماله موسوعته في تاريخ الأدب. وما من علم من أعلام الأدب الحديث كتب في (تاريخ الأدب العربي) إلا قصرت خطاه دون ما كتبه (ضيف). فمن الأعلام من كتب عن سائر العصور، وفق المنهج التاريخي التسجيلي، لا يحيد عنه قيد أنملة. فعل ذلك (الرافعي) و(الزيات) و(زيدان) و(الإسكندري) بالاشتراك.
و(الهاشمي) و(فروخ) و(أبو الخشب) و(ناصيف) و(الفاخوري)، وقارب هذا المنهج من المستشرقين ولكن بطرائق متفاوتة (بلاشير) و (كارلو نالينو)
و(بروكلمان) وإن كان له منهجه الفهرسي. ومنهم من كتب عن إقليم أو فترة أو عصر من العصور، فعل ذلك (البهبيتي) و(البركاتي) و(سلام) و(أبو رزاق)
و(المهدي) و(الهادي). وكل أولئك لم يسدوا المجال الذي سده (ضيف) في كتابه الجامع المانع (تاريخ الأدب العربي) الذي غطى فيه العصور الأدبية من الجاهلية حتى عصر الدول والإمارات (ليبيا، تونس، صقلية). وهو المجلد التاسع من تاريخه الذي وقف فيه على أعتاب العصر الحديث، حيث قال في مستهله: (هذا الجزء من تاريخ الأدب العربي قبل العصر الحديث). ولست أعرف ما إذا كان قد أنجز تاريخ العصر الحديث أم أن الشيخوخة أدركته قبل ذلك، ولقد قيل إنه أصدر المجلد العاشر، ولم أره، فإن كان لم ينجز تاريخ تلك الفترة الأهم، فإن واجب طلبته أن يسدوا ذلك النقص الذي قد يحتاج إلى أربعة أجزاء، ليكون تاريخه شاملاً للأدب العربي.
والتاريخ الحضاري لهذه الأمة المعطاء حفل بطلاب نجباء تلقوا الراية من أساتذتهم باليمين، ليواصلوا المسيرة. فهذا (السبكي) يكمل (مجموع النووي) بعد أن توفي قبل إكماله، وهذا (عطية محمد سالم) يكمل (البيان في تفسير القرآن الكريم بالقرآن) للشنقيطي، وآخرون أكملوا كتاب (الأعلام) للزركلي. والاستدراك أو التكميل منهج العلماء الأوائل، وبه تسد الحضارة خلالها. وتاريخ الأدب الموسوعي الذي أنجزه يفوق من سبقه ومن لحق به في أمور كثيرة، إذ لم يكن راصداً كما هو عند أصحاب (المنهج التاريخي)، ولم يكن بعيداً عن هذا المنهج، لقد كان واعياً لمكامن العصور الأدبية، متقصياً لحراكها العلمي والفكري والفلسفي ولظواهرها وتحولاتها واهتمامات علمائها، فهو لا يؤرخ للأدب وحسب، ولكنه يؤرخ للثقافة والفكر والحضارة والمدنية وسائر العلوم الإنسانية. وهو في تاريخه لا يعمد إلى الرصد والوصف، ولكنه يحلل ويقوم، ويستخلص النتائج، ومن ثم فإنه يسد كل الخلال، ولا يسد غيره مسده.
وميزة (ضيف) أن كتبه لما تزل حاضرة المشهد الأدبي، يسترفدها كل دارس ومدرس. وما فتئت ألم بها، إما مدرساً أبسط القول فيها، أو دارساً أرجع إليها مسترفدا أو مستشهداً، وما عدت إليه إلا وأحسست أنني أمام عالم مهيمن على فنه، وما أحلت إليه دارساً إلا وجد عنده ما يشفى غلته، فمنهجيته تتسم بالتأصيل والتقصي. ومهما أوتي من علم فسيظل عرضة للنقص أو الخطأ، وكل ما أنجزه هو أو غيره بحاجة إلى من يعيد النظر فيه، لا للإدانة ولكن للتسديد. إذ مازال في نفسي شيء من بعض آرائه، وهي هنات متوقعة من أي عالم مثله، أدركت ذلك حين أسند لي قبل عقد ونيف من الزمن تدريس العصر العباسي لطلاب (كلية اللغة العربية) بفرع جامعة الإمام في القصيم.
ففي حديثه عن بعض الظواهر الفكرية التي كان لها أثرها على الأدب العربي عرض لآراء المستشرقين حول ظاهرة (التصوف)، وهم إذ نفوا أن يكون التصوف إسلامياً، فقد جالدهم وجاهدهم، وأصر على أنه إسلامي الأصل والمنشأ والولادة، وما هو كذلك فيما أرى، ولكنه الفعل ورد الفعل. ولقد حاولت يومها أن أكتب إليه ليعيد النظر في المسألة على ضوء المرجعيات العلمية، ولكن الأيام مرت سراعاً، وأذكر أنني تحفظت على ما ذهب إليه، وأحلت الطلبة إلى مراجع تنفي أن يكون التصوف إسلامي المنشأ. والتصوف الذي أعني تصوف الفكر والمعتقد والخرافة والدروشة، وليس تصوف الورع والزهد والقناعة.
ويوم أن علمت بوفاته، أعدت قراءة التعليقات التي كنت أمليتها على الطلبة، ليكتبوها على هوامش التاريخ. فلقد قال رحمه الله بالنصوإذن فالتصوف إسلامي في جوهره وفي نشأته ونموه وتطوره، وهو الرأي العلمي الصحيح). وجاء تهميشي على رأيهلابد من التحفظ على هذا الرأي، ولابد أن تستعرض سائر الأقوال بالتفصيل ويرد عليه). و(ضيف) بقوله المحتدم يرد على طائفة من المستشرقين، منهم (نيكلسون) في مبحثه عن (الحلاج) في كتابه
(في التصوف الإسلامي)، وعلى (جولد تسيهر) في كتابه (العقيدة والشريعة). وهو قد نقم من (فون كريمر) الذي يذهب إلى أن التصوف يعود في أصوله إلى (المسيحية) و(البوذية) ويعول في هذه الإحالة على عقيدة (الحلاج) القائمة على (وحدة الوجود). وكنت أقول للطلبة: (صدق المستشرقون وإن كذبوا) فالتصوف الفكري لم يكن إسلامياً، والفلسفة الوضعية لم تكن إسلامية، وعلم الكلام نشأ بسبب الجدل بين علماء السلف والفلاسفة حول قضايا الغيب والخلق والذات الإلهية والنفس وبخاصة الذين تأثروا بالفلسفات الوافدة عبر الترجمة أو الدخول في الإسلام أفواجاً. فهذا (ابن تيمية) يرد على الفلاسفة والمناطقة والمتصوفة، ويستوعب مناهجهم ومذاهبهم، وما هو منهم، وليسوا منه. فوجود الظاهرة لا يعني انتماءها. وحين تشيع الأفكار والمناهج والمذاهب فإن ذلك لا يمس الحضارة المستقبلة لها، فكل الحضارات تتوارث وتتكامل، وما بعث الرسول إلا ليتمم مكارم الأخلاق، ومن ثم فليس هناك نص بريء ولا حضارة بريئة.
وفلاسفة الإسلام ك(ابن سينا) و(الفارابي) و(الرازي) و(ابن رشد) لا يسأل الإسلام عما بدر منهم، لأنهم لا يلتزمون مراده في كثير مما يذهبون إليه.
و(ضيف) حين يخطئ في مرجعية التصوف وأصوله يقع في الخطأ مرة ثانية في كتابه (الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية) وذلك حين يعول على آثار الأدباء عن الترف والغناء في الحجاز. ولقد تصدى له أكثر من دارس، لعل من افضلهم زميلنا الأستاذ الدكتور (عبدالله بن سالم بن خلف) في رسالته للدكتوراه (مجتمع الحجاز في العصر الأموي بين الآثار الأدبية والمصادر التاريخية)، وأذكر أن (نادي القصيم الأدبي) استضاف الدكتور الخلف لعرض وجهة نظره حول ما ذهب إليه (شوقي ضيف)، ولقد ألقى محاضرته (وقفات مع آراء د. شوقي ضيف في مجتمع الحجاز في العصر الأموي) مساء يوم الأحد 9-7- 1418هـ، فكان ذلك مؤذنا بحرب كلامية مع بعض إخواننا المصريين، تجاوزت المنصة إلى الصحف، وبخاصة مداخلة زميلنا طيب الذكر الأستاذ الدكتور (أحمد يوسف)، وأحسب أن الأمر تجاوز الحوار المعرفي إلى المناكفات الإقليمية. وظاهرة الغزل والترف والجواري والغلمان ومجالس الشراب المتداولة في الموسوعات لا يمكن تعميمها على مجمع يزخر بالعلماء والزهاد.
وخطأ (ضيف) في تعويله الكلي على كتاب (الأغاني) لإثبات ما ذهب إليه في موضوع (الغناء) و(المرأة) و(الغزل) و(الترف) و(التعميم) الذي قيل:
إن الأمويين أغدقوه على الحجازيين لشغلهم عن منازعتهم السلطة. ولا أحسبه في جمعه العشوائي قد محص وصحح وراجع، ومن ثم وقع في الخطأ الذي استدركه عليه أكثر من دارس، ولإيمانه بما ذهب إليه فقد أكده في كتابيه (العصر الإسلامي) و(التطور والتجديد في الشعر الأموي).
و(ضيف) متعصب لمصريته إلى حد كبير، وهو تعصب مقبول ومستلطف، تجلى ذلك في كتبه: (البارودي رائد الشعر الحديث) و(شوقي شاعر العصر الحديث) و (دراسات في الشعر العربي المعاصر) و(الأدب العربي المعاصر في مصر)
و(مع العقاد). واستقطابه حول الذات المصرية شأن كثير ممن كتبوا عن الأدب المصري من المصريين، وتلك سجية بلغت دركاتها في الدعوة إلى (الفرعونية) حيث تحولت تلك الدعوة إلى حزب سياسي، يود عزل مصر عن العالمين الإسلامي والعربي، وليست تلك أولى الدعوات الهدامة التي تنسل من مصر على يد أبنائها العققة، ويتصدى لها أبناء مصر البررة. ومصر قطب العالم العربي، لا يغمطها حقها إلا عقوق جاحد. وهذه القطبية لا تخول إنكار الآخر في سبيل تكريس الذات. هذا الاستقطاب آذى المغاربة، وحفز الطرفين على المجادلة غير الحسنة وأفرز مناكفات وسعتها كتب متدوالة.
و(ضيف) الذي مرت أعماله بهدوء، له منهجيته التاريخية والموضوعية، وله وسطيته في النفي والإثبات، على الرغم من تتلمذه على يد (طه حسين) المتفرنس إلى حد الإيذاء، والمستفز إلى حد اللجاجة.
وحياته الحافلة بجلائل الأعمال تجاوزت إسهاماته المجال التأليفي إلى التحقيق، الذي بدأه ب(الرد على النحاة) ل(ابن مضاء القرطبي)، وهو كتاب قيم غفل عنه المهتمون بالنحو المقارن، ففيه تتضح رؤية المشارقة والمغاربة ومشاربهم الفكرية. ويتجلى جدلهم حول (العامل) و(العلة) و(القياس)
و(التحليل) و(المصطلح) وجاء بسط ذلك في كتابه (المدارس النحوية).
وله اهتمامات خاصة بالنحو والنحاة، ولقد راعته إخفاقات المناهج النحوية وضعف الدارسين ومن ثم أنجز عملين (تجديد النحو) و(تيسير النحو التعليمي قديماً وحديثاً مع منهج تجديده). ومؤلفاته تنم عن رصده للحركة العلمية والثقافية، فهو لا يتزيد في التأليف، وإنما يسد خلالاً تستدعيها اللحظات المعرفية. فكلما استضافته جامعة عربية، نظر فيما ينقص الأستاذ الجامعي، ثم نهض لاستكماله، فعل ذلك عندما استضافته جامعات (الأردن) و(الكويت)
و(السعودية).
والمتابع لمؤلفاته يجد أن أوائلها يفوق أواخرها، من حيث المنهجية والموضوعية والعمق والدقة والشمول، ذلك أن المسؤوليات في آخر حياته شغلته عن المراجعة. فلو نظرنا إلى كتابه (الفن ومذاهبه في الشعر العربي) الذي طبع قبل نصف قرن، وهو رسالته للدكتوراه، لوجدناه يفوق في عمقه ودقته وشموله وترابطه ومنهجه ما لحق به من كتب، ولا يقل عنه كتابه
(الفن ومذاهبه في النثر العربي).
ويتنازع جهوده في التأليف خمسة حقول: الدراسات الأدبية، والنحوية والبلاغية، والإسلامية، وتحقيق التراث.
فله في (الدراسات الأدبية) زهاء عشرة كتب، منها (تاريخ الأدب العربي) الذي أصدر المجلد التاسع منه قبل اثنتي عشرة سنة. وله في مجال الدراسات (البلاغية) و(النقدية) أكثر من عشرة كتب ركز فيها على الفنون ك(المقامة) و(الرثاء) و(ترجمة الشخصيات) و(الرحلات). وله في مجال الدراسات النحوية زهاء أربعة كتب. أما في التحقيق فقد حقق سبع مخطوطات آخرها (السبعة في القراءات). ولأن لداته من أمثال (العقاد) و(زكي نجيب محمود) و(أحمد أمين)
و(طه حسين) و(بنت الشاطئ) قد كتبوا سيرهم الذاتية فقد كتب هو الآخر سيرته الذاتية في جزأين تحت عنوان (معي)، صدر الجزء الأول في سلسلة أقرأ عام 1981م، وصدر الجزء الثاني عن دار المعارف عام 1989م، ولعله حين كتب (مع العقاد) في جزأين، وحين كتبت زوجة (طه حسين) (معك) اختار عنواناً لسيرته (معي)، وقد اعتمد على المنهج التقريري الوصفي، ومن ثم لم تدخل السيرة عنده حقل الإبداع السردي، كما هي عند (طه حسين) في (الأيام) ولما كانت من صفاته الوداعة والهدوء، فقد جاءت سيرته بعيدة عن المزايدات والمناكفات، كما هي عند (عبدالرحمن بدوي).
وضيف الذي طاف أرجاء الوطن العربي أستاذاً زائراً في جامعاته ترك آثاراً باقية: إما تأليفاً أو دراسة أو طلاباً يذكرونه ويشكرونه. ولقد توجت جهوده بأنه اختير رئيساً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الذي دخله عضوا عام 1976م، وهو قد حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1979م، ومنح جائزة الملك فيصل العالمية للآداب عام 1983م، وفي عام 1990م كرمه تلاميذه بإصدار كتاب يحمل اسم (شوقي ضيف سيرة وتحية)، أشرف على إعداده صديقنا الأستاذ الدكتور (طه وادي). والكتاب يقع في قسمين: قسم الدراسات عن شوقي، وقسم الدراسات المهداة إليه. ولقد تناول الدارسون في القسم الأول منهج شوقي في الدراسات الأدبية والنحوية والبلاغية ورؤيته الشمولية وجهوده اللغوية، وأسهم في الكتابة طائفة من طلابه الذين يقودون الحركة الأدبية في الوطن العربي أمثال (يوسف نوفل) و (ماهر فهمي) و (محمود حجازي) و(مازن المبارك) و(النعمان القاضي) وآخرون، ويقع الكتاب في أربعمائة صفحة، طبعته دار المعارف في مصر. ومن قبل هذا كتب الدكتور (عبدالعزيز الدسوقي) سلسلة مقالات عن (ضيف) في مجلة الثقافة، ثم صدرت مجموعة في سلسلة (اقرأ) عام 1987م وطابع المجاملة فيها هو الغالب، حيث عده رائد النقد والدراسة الأدبية، وما هو كذلك. و(شوقي ضيف) برحيله المتوقع، سيترك فراغاً، وسيثير قضايا، سكت عنها طلابه ولداته يوم أن كان حاضر المشاهد، ورجل مثل شوقي ضيف سيكون كما الشهيد المصلوب الذي قال فيه الشاعر:
(علوٌ في الحياة وفي الممات... لحقٌ أنت إحدى المعجزات).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج
عباس محمود العقاد غير متصل  
موضوع مغلق

الإشارات المرجعية

أدوات الموضوع
طريقة العرض

قوانين المشاركة
لا يمكنك إضافة مواضيع
لا يمكنك إضافة ردود
لا يمكنك إضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

رمز [IMG] متاح
رموز HTML مغلق

انتقل إلى


الساعة الآن +4: 07:43 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.6
Copyright ©2000 - 2017, Jelsoft Enterprises Ltd

المنشور في بريدة ستي يعبر عن رأي كاتبها فقط
(RSS)-(RSS 2.0)-(XML)-(sitemap)-(HTML)