|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
23-11-2006, 09:19 PM | #85 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لوثات المشاهد الإعلامية..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل المصاب بداء المتابعة للنجوى الإعلامية، بوصفه وعاء القول بكل مستوياته واتجاهاته وغثائياته وافتراءاته، يمضه درك الإحباط، ويؤرقه التناجي الآثم، فما من خائض في حديث أو كاتب لزخرف القول ينقض غزل أمته من بعد قوة أنكاثاً إلا يزكي نفسه، ويعدها من الأخيار. وما هو في الحقيقة إلا شقي الأمة وأشقاها، حتى لكأنه عاقر الناقة أو قاتل علي، وكيف لا يكون كأحد الشقيين، وهو الساعي بين الناس بالفساد والإفساد، وقدر الراصد لحراك الإعلام أنه لا يجد إمكانية الفرز بين الضالع في الخطيئة، والقائل بالتبعية، والعاجز عن التمييز يتجاوز بالإدانة إلى غير الضالعين، واتقاء الإساءة كاتقاء الفتنة. وحين لا يكون الاتقاءان، يستوي الناقض المتعمد والببغاء المردد، وسائر الفتن، وفتنة القول بالذات إذا أقبلت لا يعرفها أحد، ولا يرتاب منها أحد، وإذا أدبرت يعرفها كل أحد، ويفر منها فراره من الأسد، ونحن نعيش لوثة الإقبال الأهوج ولجاجة الاهتياج الأعزل من العل والألف، كما يقول (الشنفرى): (ولست بِعلِّ شره دون خيره أَلفَّ إذا ما رعته اهتاج أعزل) وما يتجشأ الكلمات الفارغة إلا الفارغون، والكلمة التي لا يلقي لها المتحدث بالاً، كما الرصاصة، متى انطلقت، مرقت، أو استقرت في صدر ظالم أو مظلوم، ومن استخف بها، تصيدته فيما تصيدت كمتخذ الضرغام بازاً لصيده، وما أشعل أوار الفتن إلا الإعلام المحيل إلى حرية التعبير، وما أضل الناس عن سبل الرشاد إلا الإعلام الذي يصنع ما يشاء لفقده للحياء، وما قوض شوامخ الأمة إلا الإعلام المدفوع الثمن، ولو رُشِّد القول، وكفت الألسن عن التناجي بالإثم والعدوان، لمارس الناس حياتهم، كما صنعتها تربيتهم، وجسدها تعليمهم، واقتضاها معتقدهم، وحملها إعلامهم، ومصميات الأمة من سحرة البيان والمنشئين في الحلية، الذين يقلبون الحقائق، ويكرسون المفاهيم الخاطئة عن سائر القضايا المتداولة، والمرحَّلة من عقد إلى آخر، والمعلوكة كما اللبان، من حقوق وقضايا ومذاهب ومصطلحات مصابة بوضر الحضارة المصدر من (ليبرالية) و(ديمقراطية) و(عولمة) وتلك شعارات تمثل الطعم الذي يلوح به من سلبوا (الحرية)، وصادروا (الحقوق)، ومارسوا نخاسة اللحم الأبيض، وأيدوا الأنظمة الظالمة. وما تلك الشناشن إلا بعض التغرير والاستدراج المتعمد من اللاعبين الكبار الذين ما فتئوا يوحون إلى السماعين لهم بما يربك المشاهد الإعلامية، ويشغل المصلحين والناصحين عن ممارسة مهماتهم في أجواء ملائمة، وشهوة الإعلام المستفحلة عند المندهشين بالآخر والمبتدئين غير الحذرين تقوم على تقويض ما أنجزته الطائفة المنصورة في آفاق المعمورة من ثقافة متوازنة، ودعوة حسنة، نبهت الغافلين، وأبانت لهم طرق الرشاد، وعلمتهم العفو والصفح، والغلطات المصمية تتمثل في الخلط بين (الإسلام السلفي) و(الإسلام المسيس) لتمرير اللعب، ولسنا في هذا التحذير من دعاة (نظرية التآمر) المتنصلين عن المسؤولية، ولا من المستبعدين للكيد والمكر، فالحياة رهينة الصراع عبر الكلمة أو البندقية، ومن أرادها برداً وسلاماً، فقد يؤخذ على غرة: (ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ونام عنها تولى رعيها الأسد) والطيبون من الكتبة ومن دونهم يأخذون الوعد والوعيد على علاته، ولا يتثبتون، والأشد غفلة وسذاجة من يظنون أنهم بالسخرية والاستهزاء ينتصرون لقضاياهم، ويحققون الحضور المشرف، وما علموا أنهم بهذه (الغلوسات) إنما يخدعون أنفسهم، وما يشعرون، والجزر والمد في تداول الآراء يقتضي استحضار الثنائيات: الحسية والمعنوية، لا لتصعيد الحوار إلى الصراع، والصراع إلى الصدام، وإنما ذلك لاحتمال الأذى، وتحفيز النابهين على تغليب الحق على الباطل، والصدق على الكذب، والرفق على العنف، واللين على الفظاظة والغلظة، إذ لا مراء حول ثنائية التناقض أو ثنائية التلازم،{وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(49) سورة الذاريات، وإذا كان بين ثنائية المحسوس تلازم مشروع، فإن بين ثنائية المعقول تناقض ممنوع. كالسلطة والتسلط، والكرم والإسراف، والحرية والعبودية، والفوضى، والانضباط، وكل شيء في الوجود له طرفان ووسط. {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا} (29)سورة الإسراء، والمعضلة فيمن يقرر الوسطية والتطرف، وهي معضلة تمتد إلى من يقرر الثوابت والمتغيرات، والاختلاف المعتبر وما علم من الدين بالضرورة، والمحظور والمباح. والناس مستخلفون على ما في أيديهم، ورعاة في مواقعهم، وكل مكلف على ثغر من ثغور الأمة التي ينتمي إليها والحضارة التي يتشكل من خطابها، وما من خلل إلا وراءه جهل أو تقصير أو عمالة أو مروق، وسد الخلل رهين التغيير {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (11) سورة الرعد، والتغيير المواكب لتحولات الحياة المنسجم مع إيقاع المقاصد غير التهافت على سراب القيعان، وإتيان البيوت من أبوابها أفضل من تسلق المحاريب و(فقه الأولويات) من المعارف الغائبة، وحين تكون المسائل نسبية فإن الحق واحد، لا يتعدد، ولا يتناقض، قد تتعدد الآراء تبعاً لنظريات: التلقي والتأويل والمعرفة، ولكنها لا تتناقض، وإشكالية (النسبية) تمد بالغي كل من ألجمه الحق، ومتى أحصروا وجدوا في فسح الثنائيات والنسبيات والتأويلات مجالاً لمطل الحق، وتصعيد الاختلاف المفتعل قد يؤدي إلى اقتتال الطوائف المؤمنة عبر أفرادها، حتى مع الاختلاف المعتبر، فضلاً عن المفتعل، على الرغم من أن كافة الطرق تؤدي إلى (روما) متى كانت متوازية لا متعاكسة، واقتتال المتناحرين بالألسن والأقلام ليس بأقل خطراً من الاقتتال الحسي، وواجب المقتدرين الإصلاح، وعند البغي يلزم صد الباغي، ولوثة المشاهد الإعلامية من كتاب ينقصهم التأصيل والتحصيل، وهو نقص يؤدي إلى الخلط بين الثوابت والمتغيرات والأفكار والعقائد، والخوض في قضايا (الفقه الأكبر) مع جهل نواقض الإيمان، وحديثنا عن لوثة المشاهد الإعلامية يستدعي النظر في اللغط المستحر حول مفردات الفكر الإسلامي ورجالاته، فما من منجز إسلامي سابق لأحداث (الحادي عشر من سبتمبر) إلا وهو مجال للتشكيك والاتهام والتحميل، وقد يتجرأ المتسرعون على تصفيته: ذاتاً أو سمعة، دون أن يطرحوا بديلاً قابلاً للمساءلة، وكأن الكتبة موكلون بتقصي مفردات الدين وأعيان العلماء والدفع بهم إلى درك الاتهام والتشكيك والتصنيف، تمهيداً لتصفية السمعة والمشروع معاً. وبصرف النظر عن دوافع تلك الحملات الظالمة والعنيفة والمتواصلة فإنها تصب في سلال الأعداء، وتمكنهم من رقاب الأبرياء: دولاً كانوا أو فئات أو أفراداً، وإشكالية حملة الفكر الإسلامي أنهم باقون فاعلون منذ أن قال جبريل لمحمد صلى الله عليه وسلم اقرأ) إلى (يوم الوقت المعلوم) الذي أنظر الله به (إبليس)، وحملة الأفكار المناقضة يمرون بحملة الفكر الإسلامي كما الأمواج التي يلغي بعضها بعضاً، وعلى المتردد أن يستعرض المشهد الفكري العربي منذ (رفاعة الطهطاوي) حتى (أركون) ولينظر كم استقبل المشهد من نظرية أو مصطلح أو فكر أو حزب، ثم ليسأل من حوله عن مصائرها ومصائر أهلها، ولعل أقربها وأعتاها (الماركسية) و(الوجودية) و(الحداثة) البادية كأعجاز نخل خاوية، والمتجلدة للشامتين، ولكن المنية إذا أنشبت أظفارها لن تنفع التمائم، وعلى الشاك أن يصيخ إلى لغط (العولمة) و(العلمنة) و(الغربنة) ولوثة (الديمقراطية) و(الليبرالية) و(القومية) ثم لينظر، هل يذهبن ذله وهوانه ما يقال عن قضايا أهلهن أدعياء؟ وفي ظل هذا التعاقب يظل الإسلام بتجذره وشموخه وشموله وتجدده على رأس كل قرن، يرقب مصطلحات جديدة، يوفض إليها الخليون كما النصب، وما من مفكر منفلت من فلكه، إلا له رؤيته فيما تعلق به من محدثات الأمور، وإذ تكون الإنسانية أمة واحدة في الإدارة الكونية، فإنها أمم في الإرادة الشرعية، ذلك أن العلم محصلة سنن كونية لا تتبدل ولا تتحول، وما سواه تتنازعه الحضارات والمدنيات، ولكل حضارة شروط وجود، ومؤهلات شرعية، وسمة خطاب. ولقد قلنا من قبل: إن خطاب القوة يختلف عن خطاب الضعف، ومع كل الرغبات فإنه لا بد من خطوط وحدود، لا يجوز تخطيها تحت أي مفهوم، والمجتمع المدني لا يتحقق إلا في ظل (سلطة سياسية) تحفظ توازنه، وتقوم على حماية أفراده وأفكاره ومسلماته. والأحكام والضوابط والمسالك والمدارك مرتهنة للكلام، حتى تأخذ طريقها إلى التفعيل، ولا يتم شيء من ذلك إلا من خلال الامتثال الطوعي أو الرقابي، والذين لا يعرفون السلطة، ولا يحترمونها، لا يعرفون الحرية ولا يتمثلونها، وكل مجتمع مدني محكوم بسلطات: الدين والسياسة والمجتمع، وقد تند واحدة من هذه السلطات، فتكون تسلطاً محضاً، أو تكون خليطاً من السلطة والتسلط، ونزع السلطة أخطر من نزع الحرية، وجنوح السلطة إلى التسلط أهون من جنوح الأمة إلى الفوضوية (ومن مات وليس في رقبته بيعة مات ميتة جاهلية)، والسلطة الجائرة أفضل من الفراغ الدستوري. والمتابع ليس بحاجة إلى أن يفتش في صفحات التاريخ القديم، فالأحداث الحية الماثلة من حوله أكبر شاهد، وكل من قال ما يعن له، دون النظر في ضوابط حضارته وأولويات قومه وخصوصية عشيرته يحول الحياة إلى فوضى (وجودية)، أو إلى عبث (سريالي)، أو إلى ضياع (بوهيمي) وتلك مصادر اللوثة الطارئة على المجتمع، ومع أن من المصلحة أن يكون الخصم ألج من الخنفساء، وأهجي من الحطيئة، إلا أن الأولوية في إرشاده وكسبه، فذلك أحب إلى المحتسب من حمر النعم، وقدوة المحتسب رسول الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي أغري به السفهاء والعبيد، ولم ينتقم لنفسه، بل ظل يدعو لقومه بالهداية ويعذر لهم، ويوم أن ظفر بهم، وتمكن من رقابهم قال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وكلما طلب منه قتل المعارض قال: لا.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:20 PM | #86 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
لوثات المشاهد الإعلامية..! 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل ومثلما استشرى داء الطفرة، وأصاب الأحداث والمراهقين بفيروس الاسترخاء والترف والاتكالية واللامبالاة والتكسير، فقد استشرى داء التمرد والفوضوية، فأصاب المشاهد الإعلامية بلوثة اللغو والجهر بالسوء، والسخرية والاستهزاء والتنقص من الخصوم واتهامهم بالرجعية والماضوية والتخلف والجمود والجهل، وقد تولى كبر ذلك من هم في سن المراهقة الكتابية ومن امتد معهم التصابي والتعاظم والادعاء، حتى فاضت أنهر الصحف بفضول القول المغثي، وحتى كدنا نعد البعض منها صحفاً فضائحية، لا تجد سوقها الرائج إلا في التحريش والتهويش واللجاج. وقد يحمل الصلف والاستعلاء بعض الكتبة على افتراء الكذب، والتقول على المخالف كل الأقاويل، واستباق المشاكل التي تهيج الرأي العام. والمشهد الإعلامي بهذه الفوضوية وذلك الانفلات لا يؤسس عليه، ولا يجس نبض الشارع من خلاله، لأنه يعيش حالة من الاهتياج والانفلات. وإذ يكون من المحامد ألا تكون هناك رقابة صحفية، وأن تكون هوامش الحرية واسعة لكل الحراك الفكري والثقافي والسياسي، فإن الإسراف في استغلال تلك الرخص بطرائق غير مشروعة مؤذن بالعودة إلى ضبط الإيقاع، وقمع التعديات، ومنع القراءات المريبة، والحيلولة دون تحويل الشائعات إلى حقائق، وتبادل الاتهامات، وتشكيل الجماعات الضاغطة. والمتابع للحراك الفكري والثقافي عبر المشهد الإعلامي يدرك الحيدة من الموضوعي إلى الشخصي، وتلك خليقة يخال البعض خفاءها، ومهما ظن البعض ذلك فإنها ستعلم من لحن القول. ومزبلة التاريخ ترقب كل مزايد على مثمنات أمته متطاول على كفاءاتها. والوقوع في المثمنات والكفاءات مؤذن بالتحول إلى درك التنازع المخل بالأهلية، وعند استفحال النقائض لابد من بوادر تحمي المشهد، وتقيل عثرته. ولا أحسب الامة بحاجة إلى (محكمة آداب) كما فعل (السادات) ولا إلى إعادة الرقابة الرسمية، التي تقيد حرية التعبير، ولا إلى لجنة إعلامية تفض المنازعات، وإنما نحن بحاجة إلى رصد دقيق لخطل القول، وتوعية رفيقة لمن لا يسيطرون على انفعالاتهم من (ساديين) و(مازوشيين) و(نرجسيين). فعندما يتدخل (رئيس التحرير) أو من دونه من ذوي الخبرة الصحفية بطريقته الخاصة وبخبرته المهنية، ويلفت نظر الذين لم يهدوا إلى الطيب من القول، ولم يوفقوا إلى القول السديد، وسيتثير فيهم كوامن القيم الأخلاقية، وحق الأخوة الإسلامية، ويأخذ بأيديهم لا على أيديهم، يكون ذلك سبيلاً من سبل محاصرة اللوثة الصحفية. ولو أننا استطعنا معالجة الجنح أولاً بأول، ولم ننظر إليها على أنها عوارض قابلة للزوال الطبيعي، أو أنها في إطار حرية التعبير، لما استفحلت اللوثة والغثائية بهذا الشكل، ولما استمرأها البعض، ولما استعديت السلطة من المتضررين لحفظ حقوقهم، وهل من المعقول أن يبلغ العنف والصلف والتعنت من البعض إلى حد استعداء الدولة لترويض جماحة من أفراد متضررين أو من جماعة محتسبين. ومتى أحلنا كل تطاول على المبادئ والقيم والأعيان إلى حرية التعبير، دخلنا نفق التناجي بالإثم والعدوان، مما يتحاماه ذوو الأعراض المصونة، ويرتع فيه من سواهم، وذلك ما نخشاه، إن لم نتدارك الأمر. لقد أضر بنا فهم (الحوار الحضاري) على يغر أوصوله، وفهم (الحرية) المشروعة على غير ضوابطها، وفهم (الحقوق الإنسانية) على غير وجهها فكان أن استشرت النقائض. ف (الحوار) لا يعني التنازل عن الثوابت، وخلط الملح الأجاج بالعذب الفرات لا يمت إلى التحضر بصلة، (الحرية) لا تعني مطلق التصرف، و(الحقوق) لا تعني ترك الإنسان يفعل ما يشاء، يأخذ ما له ولا يعطي ما عليه. فالحدود والتعزيرات والعقاب والثواب والقوة والعدل قيم حضارية ودينية، والوازع: ديني وسلطاني. والأخذ على يد السفهاء وأطرهم على الحق مبدأ إسلامي، وإنكار المنكر باليد أو باللسان أو بالقلب أمر يقتضي الوجوب، ودرء الحدود والعفو والرفق واللين قيم إسلامية، لا يجوز تغييب شيء من ذلك باسم الحرية أو الحقوق. واشتغال المبتدئين بالقضايا المصيرية، وتعملق الأقزام بحجة نحن رجال وهم رجال مضيعة للجهد والمال والوقت وفي النهاية: لا يصلح الناس فوضى لا سرات لهم ولا سرات إذا جهالهم سادوا وما أضر بالأمة وقضاياها إلا المفاهيم الخاطئة للحرية والحقوق. وأمريكا التي يستقبلها مثقفو (الغربنة) ومختلسو مناهج المستشرقين وأفكارهم والحالمون ب (الليبرالية) و(الديموقراطية) هي التي أجهضت الحرية، وعبثت بحقوق الإنسان. وآخر شهادة تتداولها وكالات الأنباء ما نشرته (منظمة العفو الدولية) من أن الكرامة الإنسانية سقطت ضحية الحرب الأمريكية على الإرهاب، بسبب ما تمارسه (واشنطن) من انتهاكات خطيرة لكافة الحقوق الإنسانية، منها على سبيل المثال: وسائل التعذيب، واختفاء شخصيات وطنية، وإطلاق صواريخ وقاذفات على منازل مشتبه بها، ومعاملات غير إنسانية في السجون والمعتقلات، وتدنيس متعمد لمقدسات العالم، واستفزاز وقح لمشاعر المسلمين. وعلى الرغم من التعري الصارخ للتعدي والتحكم والوصاية نجد طائفة من الكتاب يشايلون الخطاب الأمريكي، ويرون فيه حمامة سلام وبلسماً لجراح الأمة المهيضة الجناح، وما علموا أن الصهيونية العالمية تسيطر على (المال) و(الإعلام) وأنها جادة في أجهاض المشاريع الإسلامية التي تتبناها مؤسسات الدولة وجمعيات المواطين الخيرية، وفي مواجهة هذا التعنت والتدخل السافر في أخص الخصوصيات يجنح العقلاء المجربون إلى السلم والدفع بالحسنى والاتقاء قدر المستطاع، مفضلين ركوب أهون الضررين. ولست أدري ماذا سيخرج به أصحاب ثقافة التملق والانحناء والصدمة الحضارية الذين ما فتئوا يمطرون مفردات الإسلام ورجالاته بوابل من الاتهامات التي تصب في ملفات الادعاء الغربي ضد الإسلام؟. ولست أدري هل قرؤوا الخطاب المفتوح للسعوديين من (تانباسي هسو) فاستجابوا؟ وهل آلمتهم الركلات التي يستدبرهم بها (حيراند بوزنر)؟ أم أن جراحهم ميتة ليس فيها إيلام، وأنهم سيظلون كما الأطفال أمام الحركات البلهوانية لمّا يفيقوا من الانبهار المتحبس والاندهاش المتخلف. أن يسبقنا الغرب في ظاهر الحياة الدنيا، وأن تكون مكتشفاته محل تأمل ومجال تفكير، فذلك الحق الذي لا يكابر به إلا معاند، وأن ننبهر ونفقد التوازن والسيطرة ونعيش ذهول الصدمة، فذلك الخسار والبوار، والمأزقية في تشابه البقر، وثقافة اليأس، وجلد الذات، وتلك خليقة المستغربين التي نواجهها. والذين يرمون بثقلهم في مواجهة ما يسمونه ب (الإسلامويين) يخلطون الأوراق بشكل يشي بأن وراء الأكمة ما وراءها، إذ لا يفرقون بين من يحيل إلى الكتاب والسنة، ومن يحيل إلى فكر الطائفة ورؤية الفرقة، ومن هو على المحجة البيضاء، ومن هو تائه في بنيات الطريق، وفي المقابل نجد من الإسلاميين من يخلط في مواجهته بين (مثقفي المارينز) وطلاب القيم الحضارية التي أنتجها الإنسان في ظل أي حضارة. والمزعج والمريب أن بعض الكتاب لا تراه إلا مستهزئاً بالخيرين مستعدياً على مؤسسات الدولة ذات المهمات الإصلاحية، وعلى الجمعيات الخيرية ذات الفعل الإنساني، وحجة أولئك الداحضة بوادر أخطاء في التطبيق، لا تضاف إلى المبادئ، ولا تخرج عن المتوقع والمعقول، وإنما هي ممارسات تطبيقية مفضولة وظواهر طبيعية متوقعة. وكان الأجدى بهذا النوع من الكتاب أن ينطلقوا من حضارتهم مصلحين مجددين، لا أن ينطلقوا من مستنقات الآخر، ملوثين لمن حولهم، وألا يروا مستهزئين بالمظاهر، كالذين قالوا: (ما رأينا مثل قرائنا...) أو مستعدين للسلطة، وكأنهم موكلون بالقعود للخيرين كل مرصد، إن هذا اللون من اللغط إمداد لأعداء الأمة، وتمكين لهم من رقابها، إذ كل ما تمسك به المؤسسات الغربية المعادية، وتعده حجة دامغة، إن هو إلا ذلك الطفح الرخيص من افتراء الكذب. وحين نحذر من النبش فإننا لا نمنح أحداً قداسة ولا عصمة، ولا نرى لمخلوق مكانة فوق النقد والمساءلة، ولكن نقد الذات يختلف عن جلدها، إن واجبنا جميعاً أن نواجه أعداء الأمة التي لا تفرق بين مداهن ومنافح، وأن نعرف أن مثمنات البلاد الحسية والمعنوية مستهدفة، وأن القبول باتهام الإسلام بصناعة الإرهاب شهادة من الأهل، يطير بها المتربصون فرحاً، ويعودون بها وثائق إدانة ومساءلة. لقد لُملمت أطراف الإرهاب والتطرف بعد هدم (البرجين) ووضعت في سلة الإسلام والمسلمين، ومؤسساتهم التعليمية والدعوية وجميعاتهم الخيرية، واستجاب لهذه الفرية بعض الكتاب الذين يحملون العلم على ظهورهم، ولا يستظهرونه في عقولهم، ولا يتمثلونه في سلوكهم، ومن ثم استدعيت كتب وشخصيات ومناهج وجمعيات يخدم فيها الإسلام والمسلمون. وكان حقاً على المرجفين أن يفرقوا بين الإسلام السياسي، والإسلام المسيس، وإسلام اللعبة الكونية، وإسلام الكتاب والسنة. ولو أنهم فعلوا ذلك لما وسعهم إلا تبرئة الإسلام والمسلمين من أي اعتداء لا مبرر له ولا شرعية. والإعلام الأمريكي المتصهين الذين يقود حملة التشويه صدرت من بعض مؤسساته الحيادية دراسة، تؤكد بالأرقام أن الهجمات الانتحارية لا يقوم بها مسلمون فقط، وأن أكثر من يقوم بها هم (الهندوس) وبخاصة (هندوس سريلانكا) الذين يسمون أنفسهم (نمور التأميل) كما أن أول هجوم انتحاري في التاريخ قام به اليهود، وذلك من أشار إليه (روبرت بيت) أستاذ جامعي أمريكي متخصص بالإرهاب. ومشهدنا الصحفي لا يعاني من (أزمة ثقافية) ولكنه واقع بطوعه واختياره في (ثقافة الأزمة)، بمعني أننا نتهافت على بؤر التوتر، وننقب عن الملفات الساخنة، وما من أمة ولا جماعة ولا أفراد إلا ولديهم من المشاكل والقضايا العصية ما لو عملوا على استدعائها لألهتهم عن كل عمل جاد، وفي الأثر (الفتنة نائمة) وهذا يؤكد أن الفتن موجودة، ولكنها نائمة، ومن الخير للإنسان السوي ألا يوقظها، ونبش القضايا النائمة تمثل ثقافة الأزمات. وكم نسمع ب (ثقافة الكراهية) و(ثقافة الموت) و(ثقافة الخوف)، وثقافات مضافات إلى ما لا نهاية، وهي كلمات تطلق على وقوعات لا على مبادئ. وكأنها الفتن التي لا تصيب الذين ظلموا خاصة، ولو مُعجمت هذه الثقافات من خلال مقالات المرجفين، لكنا المصدر والمورد لكل الخطيئات، وكأن الله خصنا بهذا اللون من الثقافات. وليس من باب الصدفة أن تضاف كل هذه الثقافات الموبوءة إلى الخطاب الإسلامي المحلي، بوصفه الخطاب الفاعل والمؤثر، وقمعه يفتح ثنيات على حمى الله، والخطاب الإسلامي الرسمي المؤسساتي يمارس حق الدفاع عن نفسه، وليس مسؤولاً عن إسلام اللعب السياسية والتسيس (التكتيكي)، وهذه الإطلاقات التي تخلط الأوراق ماكرة بكل المقاييس، تلقاها السذج والمغفلون، وحسبوها من عند خطاب أمتهم. ولكي نجتاز المختنقات يجب أن نعدل عن نبش القضايا التي لا يشكل غيابها عائقاً لمسيرتنا الحضارية. وأن نشغل أنفسنا بإصلاح ذات البين، والتقريب بين وجهات النظر، وأن يكون نقدنا كما كان نقد الرسول صلى الله عليه وسلم (مالي أرى أقواماً..). ومتى اختلفنا في وجهات النظر، وجب علينا الرد إلى أهل الذكر وأرباب الحل والعقد، ممن يردون إلى الله والرسول، ذلك أن مصلحة الأمة في الالتفاف بجماعة المسلمين، واحترام العلماء الناصحين، والتقارب في وجهات النظر، ونبذ الحديات والتوترات، وتبادل الاتهامات. ويد الله مع الجماعة، والشذوذ مؤذن بفساد كبير، إن الراصد الحذر تتبدى له اللوثة بأبشع صورها، فالكتاب لا ينفكون من إثارة القضايا الساخنة، وتحميل التيار الإسلامي وحده مسؤولية الإخفاق والتوتر، وخطأ التشخيص يؤدي إلى مضاعفة العلة، وذلك ما نراه رأي العين في المشهد الإعلامي محلياً وعربياً.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:20 PM | #87 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..! (1-3)
د. حسن بن فهد الهويمل الراصد لكافة المشاهد الأدبية والسياسية والفكرية، يشد انتباهه ذلك التثوير المتعمد لقضايا قتلت بحثاً، وتفرق أهلها أيدي سبأ، والناجون منهم لا يقولون إلا معاراً أو معاداً من القول. والمصيخ لنجوى المختانين أنفسهم، يرتاب من استدعاء القضايا المحنَّطة، وبعثرة أوصالها على يد كُتاب لا يعرفون من الأشياء إلا رسمها ولا من الأفكار إلا اسمها، ولا يدرون كم تحت السواهي من الدواهي، ونكارة الاستدعاء أنه يأتي في ظروف بلغ فيها السيل الزبى، وطمع في مثمنات الوطن من لا يدفع عن نفسه، حتى لقد همّ الشجي أن يصيح: (إذا كنت مأكولاً فكن خير آكل وإلا فأدركني ولمَّا أمزق) ومثل هذا التثوير والاستدعاء مؤشرٌ على سوء التوقيت والتقدير. فالعقلاء المدَّكرون المدركون للعواقب المشؤومة، يتخولون الظروف المناسبة والأجواء الملائمة، ولا يدفعون بأطياف الأمة إلى بؤر التوتر، ومضائق التلاحي، ومقترفات التنافي. وكل رفيق مشفق على تماسك أمته، حريص على وحدتها الفكرية وترابط جبهتها الداخلية، له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. فهو لا يمارس عمله الدنيوي ولا اجتهاده الشخصي إلا بعد الاستخارة والاستشارة، وهو مع المقترفين من الرحماء، لمعرفته بالضعف الإنساني، حتى أنه يفرق في المساءلة بين أقوياء الإيمان وضعفائه، كما في قصة الثلاثة الذين خلّفُوا. وهو كذلك يفعل في الأعطيات، كما في أحداث (غزوة حنين) وكما يفعل مع المؤلفة قلوبهم حتى لقد أصبحوا من أهل الزكاة، وهم الذين أسلموا، ولم يؤمنوا، أو الذين يعبدون الله على حرف. وهو في الحدود يندب إلى الستر، ويتوخى التلقين ب(لعلك قبَّلْت..)، ويلوم الدافعين للاعتراف بالذنب والحائلين دون التراجع عنه. وهو لا يريد مواجهة الأخطاء التي يقع فيها أصحابه أو مصاحبوه من المنافقين، مخافة أن يقال: إن محمداً يقتل أصحابه، وهو في المواقف الحرجة يجنح للسلام واللين ورأب الصدع. وما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. وفي الإسلام فسح (الاتقاء) وقبول (الإكراه) مع اطمئنان القلب بالإيمان، و(العدول) عن سبّ معبود الآخر إذا ترتب عليه سبّ للذات الإلهية عدواً بغير علم، وأحسب أنه من الانتهازية والمزايدة الرخيصة التهافت على القضايا المختلف حولها، وتحويلها إلى حدِّيات صارمة، وما ذاك إلا لتصور البعض أن الرياح تهب لصالحهم، وأن مثلهم كمثل المرخي عمامته الذي استغاث به (أبو حرزة): (يا أيها الرجل المرخي عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا) وكأنهم بهذا التهافت يغتنمون الرياح قبل أن تسكن. وإذا حُفَّت الأمة بالأعداء المتربصين، واستبطنت بفئات ضالة مضلة، وكيلت الاتهامات الجائرة لمناهجها، وقادتها، وحركتها الإصلاحية، ودعاتها، ومؤسساتها الإسلامية، وإسهاماتها الداعمة للأقليات وللمراكز الإسلامية، فإن واجب حملة الأقلام أن يهبوا للدفاع عن بيضتها، وإن لم تطاوعهم أنفسهم، فلا أقل من الصمت، وذلك أضعف الإسهام. ومن البلية أن يلح البعض في التنقيب عن القضايا المعترك حول مشروعيتها، والممكن تأجيلها، وبخاصة ما يود الأعداء اختراق سيادتنا من خلالها، وأن يتذرع مُنْكُئو الجراح بدعوى الإصلاح، سواء في ذلك ما يتعلق بقضايا السياسة أو الدين أو المجتمع أو الفكر أو الأدب أو غيرها من الدعاوى التي تبدو في ظاهرها الرحمة، وبعض هذه المقترفات مظنة الاتهام بالمواطأة. إذ ما الفرق بين كاتب يعمم في الاتهام، ويوغل في التشكيك، ويتشفى بالتنقص، ويحمِّل المبادئ مسؤولية الممارسة، وإعلام مغرض يروِّج التهم ذاتها. أهذا من باب وقوع الحافر على الحافر؟، أم هو من باب كلُّنا في الهم غرب. ومع الشنآن لهذه الخلائق، فإن العدل والمصداقية تحملاننا على عدم الجزم بالاتهام، لكن الشنشنات لا تخلصنا من هاجسه. والذين يتعشقون نبش المسكوت عنه، وضرب السوائد المشروعة، والتحريض على قطع الصلة بالماضي، ووصل الحبال بأفكار الآخر وأخلاقه لا بعلمه وأشيائه (التقنية) ثم لا يحترمون مشاعر (الرأي العام)، إما جهلة أو مغرضون. والرسول صلى الله عليه وسلم احترم (الرأي العام)، وقدره قدره، حين دخل مكة، وفكر بإعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، ولم يمنعه من ذلك إلا أن قومه كانوا حدثاء عهد بكفر، ولو كان مصير الأمة مرتبطاً بتغيير البناء لفعله، ولم يبال. والمملكة حين قامت بتوسعة الحرم المكي الشريف، أبقت على (مقام إبراهيم)، مع ما يشكله من عقبة في المطاف، وأبقت على (أروقة الحرم) التي بناها الأتراك، مع أنه من المصلحة العامة إقصاء (المقام) وإزالة (الأروقة). وكل القادة والعلماء والمفكرين الناصحين لعقيدتهم الرحماء فيما بينهم يرفقون بمشاعر العامة، ولا يتعمدون الاستفزاز، وبخاصة حين تكون الأوضاع غير ملائمة، أو حين تكون القضايا من الثانويات المؤجلة. وهل أحد لديه أدنى شك في سوء الأوضاع العالمية، وعدم احتمالها لمزيد من نشر الغسيل. والمخلصون المجربون من يتفادون استدعاء أي قضية لا تشكل عائقاً لمسيرة الأمة، إذا كان في استدعائها إثارة للخلاف أو الخوف، وليس من المصلحة ضرب الرؤوس بعضها ببعض، وتأزيم المواقف بين فئات الأمة، والتمتع بصخب التكسير، مهما كانت العوائد. وجمع الكلمة مقدم على كثير من المصالح العامة، ومقدم على كل المصالح الفردية. وفي الحديث الصحيح (إنكم سترون بعدي أثرة وأموراً تنكرونها) قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (أدوا إليهم حقهم واسألوا الله حقكم) وقال في حديث آخر: (من كره من أميره شيئاً فليصبر فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية)، وإذ نحمد الله على أن الخلاف لا يمس العلاقة بين الأمة والقيادة، فإن استدراج الرأي العام قد يقحم السلطة في الأزمة، وقد أقحمها في كثير من القضايا الثانوية، فضلاً عن الأولوية، والتناوش الصحفي يكاد يحتنك الهيبة والاحترام المشروعين. ولحرص المصطفى صلى الله عليه وسلم على وحدة الأمة وتماسكها نهى عن المنازعة وأمر بالسمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر والأثرة، وألا ينازع الأمر أهله، ولكنه مع حرصه على جمع الكلمة، ولمّ الشمل، لم يترك الأمر على إطلاقه، بل حدد مسوغات الخروج بالقول أو بالفعل على ولي الأمر الجائر أو المخالف، بقوله: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) وانظر إلى عدد من اللطائف التعبيرية التي غابت عن كثير من الناس: كقوله: (تروا) ولم يقل (تسمعوا) وربط الكفر (بالبواح)، وهو الظهور والمجاهرة، إذ ما خفي أمره إلى الله، وربط (البرهان) بالله دون غيره من العلماء، وأجمل اللطائف قوله (برهان) ولم يقل (دليل) ذلك أن (البرهان) لا يكون حتى يكون النص قطعي الدلالة والثبوت، فيما يأتي (الدليل) بنص احتمالي الدلالة والثبوت. فإذا اختلف العلماء حول الدلالة أو الثبوت، فلا برهان. وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسير أعلام الأمة مليئة باللين والرفق والرأفة ودرء الحدود، وإقالة ذوي الهيئات عثراتهم، وكل من أطلق لقلمه ولسانه العنان في القضايا المختلف فيها والمسكوت عنها والمثيرة لمشاعر العامة لم يتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا سلف الأمة قدوة له. ومن المصميات ألاَّ يتوفر المزايدون على أدنى حد من المعرفة، وأشد من هذا وذاك التعالم، والتسلط، والتزكية، وشرعنة الفعل، ووصم المخالف بالتخلف، ووصف الصدمة الحضارية بالإعجاب البشري المشروع. والذين يحيلون إثاراتهم على الإصلاح والنصيحة والتصحيح، يغالطون أمتهم، فما من عالم ناصح أو مفكر واعٍ إلا ويحمل همّ الإصلاح والنصح والتصحيح. ولكن الإصلاح لا يكون بالتعالق المطلق مع الآخر، ولا يكون بالاقصاء والاستعداء، ولا بإدانة المبادئ، ولا بتحريف المفاهيم، ولا يكون في قلب الحقائق، ولا يكون بالتشايل مع الإعلام الخارجي المغرض، ذلك أنه إعلام موجه، لا يريد بالأمة إلا الضعف والفساد والتناحر. وهل عاقل يتصور أن أعداء الأمة يريدون لها القوة: المعنوية والحسية؟ وكيف يودون ذلك؟. والقوة المعنوية متمثلة بالإسلام الذي عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبوحدة الأمة الإسلامية بكل فرقها ومذاهبها، والقوة الحسية متمثلة بأمر الله {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، وما من عاقل مجرب أو متابع حذر يتصور قبول الصهيونية العالمية المتحكمة بوسائل المال والإعلام، ومن يشاركها الهمّ، ويشاطرها المسؤولية باستكمال القوتين: قوة الاقتداء والوحدة، والإعداد. وهل ما نتلقاه من الغرب بطوعهم واختيارهم يحقق لنا التوفر على القوتين؟ وهل حضوره العسكري والسياسي والإعلامي في مشاهدنا العربية والإسلامية ينطوي على خير للبلاد والعباد؟. ومتى سلمنا بسوء نواياه، وجب علينا أن نتخلى عن أي جدل يفضي بنا إلى الشقاق والتنازع. ومع أن الحق أبلج، فإن مصلحتنا في الكف عن منازعة الأقوياء، ما لم تضطرنا الأوضاع المتردية إلى قتال الدفع، ومتى اضطررنا إلى فك الاختناقات، فإن علينا الدفع بالتي هي أحسن، والجنوح للسلام، واتقاء الأقوياء المتغطرسين بالقدر المباح من التنازلات، {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ}. وإذا كانت بوادر حضور الغرب في مشاهدنا لا تبشر بخير، فلماذا نبشر به، ونطرد الغربة عنه، ونطمئن إليه، ونحتفي برموزه من فلاسفة ومفكرين لا يقيل استدعاؤهم عثرة الأمة، ونهيئ للمعتدي الأجواء الملائمة لجمع الغنائم وطول البقاء، ولماذا نضيق بالمحذرين والمتحفظين على وجوده المطلق، ولماذا نخلط بين الإرهاب والمقاومة، وإسلام اللعب وإسلام السلف؟ ولماذا نبادره بإثارة القضايا التي يخادعنا بها؟ وتلك الإثارات تمهد الطريق له. لقد بدت نواياه ليس فقط من لحن القول، وإنما بدت من مباشرة الفعل والاحتلال المعلن بالقوة. ولسنا بمواقفنا المتحفظة نجهل قيمه ومنجزاته، ولا نحول دون الأخذ مما عنده، فحضارة الغرب منطوية على إيجابيات كثيرة، يستأثر بها وحدة، ولا يجود بفضله الكأس على من ظلوا يتغنون بأمجاده، وهو يشرب. والمدنية بادية للعيان في أنظمته، وتعليماته، واحترامه للدساتير والقوانين، وسعيه الدؤوب في مناكب الأرض للحرث والزرع والصناعة وبناء المعامل والمختبرات والمؤسسات التشريعية والتنفيذية القوية المحْكمة الصنع والمحَكَّمة في الشؤون العامة والخاصة. ومن المؤكد أن ديننا يحثنا على اقتباس ما صلح من كل الحضارات، والسير في مناكب الأرض، والبحث عن المنافع الدنيوية، دون النظر إلى مصادرها، متى كانت عامل قوة واستغناء، ذلك أنها من ضوالّنا، وكثير مما عند الغرب من مقطوع وممنوع يعد من ضوالنا. فهل جاد طائعاً مختاراً بشيء منها؟. وهل أخذنا نحن بأحسنها؟ بل هل خلاَّ سبيلنا حين نمارس ما يحيينا، ويقوي جانبنا؟، وماذا استفدنا منه بطوعه أو ببراعتنا منذ (حملة نابليون) حتى (حملة بوش)؟. وهل شيء من أوامر الإسلام ونواهيه يحول دون تحقيق ما حقق الغرب من ظاهر الحياة الدنيا؟ بحيث نفكر في التحول عن ثوابت ديننا وهل قضايا المرأة وحدها التي تبني منصات الانطلاق لآفاق المعارف؟. والفرائض الغائبة، تتمثل: في جلب علمه، لا في جلب مدنَّيته، وجعله موضوعاً خاضعاً للمساءلة والانتقاء، لا مهيمناً يفيض علينا بما يحفظ لنا أدنى حد من العيش الذليل، ولا يسمح بوجود مستقل، لا يركن إليه، ورب عيش أخف منه الحمام. ومن الفرائض الغائبة تخاذلنا وعجزنا عن الاستفادة من جوانب حياته الجادة المنضبطة، وتخاذلنا وعجزنا عن تمثل الإسلام قولاً وعملاً. ومع التأكيد على أخذ الحذر وتوخي المفيد فإن من الأجدى والأهدى مصالحته ومعايشته ومبادلته المنافع، والحذر من تقديم مبادئنا وقيمنا وعقيدتنا قرابين لاسترضائه. وقبل ذلك وبعده، يجب أن نعرف كيف نصطلح مع بعضنا، لتكون لنا كلمة واحدة في المحافل الدولية، تدرء عنا انتهاكاته الموجعة. وها نحن نطيل القول في التوفر على أدبيات الحوار مع الآخر، ولم تحن منا التفاتة لنرى حجم التردي في حوارنا مع بعضنا. فهل نحن واثقون من نجاحنا في الحوار الذاتي؟ وهل يصلح الحوار مع الآخر، ونحن شيعّ يضرب بعضنا سمعة بعض، بل قد يضرب بعضنا رقاب بعض؟.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:21 PM | #88 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
نعم حضارة الإسلام شمولية..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل كتب الأستاذ (محمد بن عبداللطيف آل الشيخ) في زاويته الأسبوعية (شيء من) 11 - 6 - 1426هـ متسائلاً عما إذا كانت الحضارة الإسلامية حضارة شمولية، ولم يرقب الجواب، بل بادر إلى النفي، وكان يجدر به إذ تصور نفسه الخصم والحكما ألا يقيم الدعوى، إذ من الفضول والتزيد أن تسأل وتجيب وتحكم. وليس مستبعداً اقترافه الأخطاء المنهجية. وكلمته المتسطحة بضاعة استشراقية لا ترقى لمنهجية المستشرقين ولا تضارع إحكام دعواهم، كلمة إنشائية مضطربة، تعتمد الابتسار، ولا تحسن الاستتار. وليس مزعجاً أن يعيد ما فرغ منه المستشرقون، فالإسلام صمد لصناديد الفكر، وأساطين الفلسفة، وجهابذة المنطق، أتوا إليه يجرون الجديد كأنهم مشوا بجياد ما لهن قوائم، وتكسروا تحت سفحه، كما الأمواج الملتطمة، وما زادوه إلا رسوخاً وثباتاً. والمخجل حقاً تلقف الراية بالرأي الفج والرؤية الناقصة.. ومصائد القضايا الكبرى في الإسلام أنها مرايا مقعرة، تكشف عن سمة المقتربين منها وعن مبلغهم من العلم. وما من كاتب سوَّلت له نفسه الاقتراب من جاذبيتها إلا تشظى في وهجها، وما هو في تقحمه إلا جرادة من جراد منتشر في سماء القضايا الحساسة، وكما ابتلعت المفازات أسراب الجراد، فإن فضاءات الإسلام قادرة على ابتلاع أي سابح فيها، وما حفزنا على الإجابة على تساؤله الإنكاري إلا أنه يشكل مع آخرين ظاهرة مريبة. وإلا فالحضارة الإسلامية ألفت هذه الموجات العاتية، وابتلعتها كما تبتلع الشواطئ أمواجها الأزلية، ونقض كلمته العشوائية أنكاثاً يكشف عن كاتب يفتقر إلى العلم الشرعي، والتأصيل المعرفي، ومنهج البحث العلمي. وهذا الإقواء أرتعه في نفاية المستشرقين، إذ لم يبتدر رأياً، ولم يفترس معلومة، وإنما وقع على بقايا من مفتريات من سلف منهم، وهو في إثارته الفضولية يشد عضد الذين أغثوا المشاهد الفكرية باجترار مقولات مهترئة، أكل عليها الدهر وشرب. والقول في الحضارة يختلف عن القول في مفرداتها، وهذا مكمن الخلل في تحرشه. فالمذاهب في الفروع، والطوائف في الأصول، والظواهر في الأفكار والنظريات في القضايا، كلها تضطرب وتتململ في جوف الحضارة الأم، كما البراكين في جوف الكواكب العملاقة، تثور ثم تخبو، وقد تتدفق حممها على السهول والمنحدرات، فتشكل جبالاً من الصخور، ولكنها مع كل ما تنطوي عليه، لا تنفصل عن الحضارة بكل اتساعها وامتدادها الزماني والمكاني. والقول عن مذهب ك(السلفية) مثلاً قول في جزئية من الحضارة، وتحجيم الحضارة من خلال رؤية العالم أو المذهب ممارسة فجة، ومؤشر جهل بأبسط متطلبات البحث المعرفي، علماً أن بعض العلماء يرى أن (السلفية) مرحلة زمنية مباركة، وليست مذهباً إسلامياً، وهو رأي يأتي في سياق الفعل ورد الفعل. وعندما نقول: الحضارة الإسلامية فإن ذلك المفهوم يتسع لكل المذاهب والملل والنحل، والمحطات الزمانية. والحضارة الإسلامية تشتمل على كل الفرق الإسلامية، وأي نحلة أو ملة أو عالم لم يُجمع المسلمون على كفرهم المخرج من الملة فهم مشمولون بالحضارة الإسلامية. وتحت هذا المفهوم لا يجوز لأي مستغرب أن يحصر الحضارة الإسلامية في مذهب أو مرحلة، فضلاً عن أن يحصرها في عالم أو عالمين، يبتسر من كلامهم ما يعزز رؤيته الفجة، ولو أخذنا مقولة الكاتب بالنص، وهي الحجة التي تنفي عنده شمول الحضارة الإسلامية، لوجدناه يقول: (فالإمام ابن تيمية رحمه الله - مثلاً - اتخذ موقفاً مناهضاً بشدة لعلم الكيمياء وعلم الفلسفة وعلم المنطق)، ولقد أقام المناهضة على ابتسار مُخل من إجابة (ابن تيمية) عن عمل الكيميائيين، ولو قرأ كامل الفتياء، واكتشف مقاصدها، لعرف أنه يُقوِّل (ابن تيمية) ما لم يقل، ويحمِّل قوله ما لا يحتمل. فالفتياء حول استخدام الكيمياء للغش التجاري، وليس لها علاقة في الموقف من الظاهرة، ولهذا ركز ابن تيمية على (الذهب) الخالص، وسماه (المخلوق)، ونفى أن يكون المخلوق كالمشبه، وهو ما يعمله الكيميائيون، ويدَّعون أصالته. و(ابن تيمية) لو اختلفنا معه جدلاً في بعض مواقفه يعد من علماء الأمة، يحتج به على مذهبه السلفي، ولا يحتج به على الحضارة الإسلامية، ذلك أن الحضارة الإسلامية وسعت المذاهب في الفروع والأصول، وسائر العلوم والمعارف، والملل والنحل، ما ظهر منها وما بطن. والكاتب لم يقل في تساؤله (هل السلفية حضارة شاملة؟) بل قال: (هل الحضارة الإسلامية حضارة شاملة) وبصفتي (سلفي) العقيدة (حنبلي) المذهب (تيمي) الفكر فإنني أقبل نقد السلفية وعلمائها، ولا أقبل التنقص من الحضارة الإسلامية، أو المساس بها كمفهوم عام، ولست بالانتماء منغلقاً، ولا نافياً، ولا مقتصراً على مصدريه واحدة، وقراءتي لقادة الفكر، وزعماء الإصلاح، ورواد النهضة من ماديين ووضعيين يفوق قراءتي لمن أنتمي إليهم. والاختلاف مع (السلفية) حق مشروع، إذ كل يؤخذ من رأيه ويرد إلا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، أما الاختلاف مع الحضارة الإسلامية، وحصرها في نحلة بعينها فخطأ مخل بالأهلية، ولا يقترف مثل ذلك إنسان ملم بحدود الحضارات ومتطلبات البحث فيها. لقد نفى الكاتب (شمولية الحضارة الإسلامية) وتلك جرأة جاهل، وليست رؤية عالم، ومكمن الأذية أنك لن تجد من تخاصم. فالشمولية حسب فهم الكاتب الغرائبي لا تتحقق إلا بالتسليم المطلق لكل ظاهرة، والإذعان الطوعي لكل ناعق، والقبول بكل رؤية فجة، وذلك عين التمييع والفوضوية. فعندما يتصدى عالم لنظرية أو مبدأ أو ظاهرة تبناها الفلاسفة أو المناطقة، وطبقوها على الغيبيات والمتشابه، أو استخدموها في الغش والتدليس، وتلقفها المستشرقون والمبشرون كشاهد على المحدودية، يكون هذا التصدي مسقطاً لدعوى الشمولية حسب رؤية الكاتب. وما درى المتجرئ على المسلمات أن هناك مواقف ضد المبادئ والنظريات، ومواقف ضد الإجراءات والتطبيقات، ومواقف ضد الإطلاقات والتعميمات. والمبتسرون لا يفرقون بين هذه المواقف، ولا يدركون مشروعية الاختلاف وحدوده. ونفي الشمولية لمجرد أن (ابن تيمية) السلفي وقف في وجه (المناطقة)، و(الفلاسفة) و(الباطنية) و(الجهمية) و(المعتزلة) وسائر النحل والملل، مؤشر جهل بالمفهوم، ف(ابن تيمية) يشكل مرحلة تحتويها الحضارة، ولا يحتويها. و(ابن تيمية) ليس وحده الذي وقف أمام طائفة من علماء الكلام والأصوليين والفقهاء والمفسرين والفلاسفة والمنطقيين. وكان الأجدر بالكاتب أن يخوض معترك الخلاف بين العلماء، ليرى ما يشيب من هوله الوليد، فأين هو من المدارس النحوية والمذاهب الفقهية، وقول العالم في المسألة، ومقدم المذاهب والمتقدمين والمتأخرين داخل المنظومة المعرفية الواحدة. و(ابن تيمية) ليس بدعاً بين علماء عصره، فضلاً عمن سلف ومن لحق، لقد قامت بينه وبين علماء عصره ملاحاة آلت به إلى السجن، ولمّا يزل خصومه إلى هذه اللحظة ينالون منه، حتى أن بعضهم حكم ب(كفره)، وكنت أود من الكاتب الإبقاء على شمولية الإسلام، والأخذ بالمواقف المتطرفة ضد (ابن تيمية)، ليكون الإضرار بفرد أهون من المساس بحضارة أمة. والعلماء المتميزون بسعة علمهم ورجاحة عقولهم، حين تبدههم النوازل، يهرعون إلى النصوص الشرعية، يستفتونها، فإن أسعفتهم، وإلا انطلقوا إلى مصادر التشريع الرديفة، والتي تفوق العشرة: كالإجماع، والقياس، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، والبراءة الأصلية، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان. والعلماء الأفذاذ استخدموا عقولهم في الاجتهاد وتصور المقاصد. والرسول صلى الله عليه وسلم ندب إلى استفتاء القلب في قضية البر والإثم، وهو ندب يسقط حجة القائلين بتعطيل العقل. والأخذ بالنص القطعي الدلالة والثبوت، يسقط حجة القائلين بتفويض العقل. فالعقل عند السلفيين يدور في فلك النص. والنص عند المعتزلة يدور في فلك العقل. والخيرية في أن يخفق العالم في فضاءات التشريع بجناحي: النص والعقل. ومواجهة النوازل مرتهنة للقوانين والضوابط، ومن ثم نشأ علم الأصول والقواعد، وهي البديل الأمثل (للمنتطق الصوري) الذي واجهه الفلاسفة والعلماء والمفكرون، قبل الميلاد، وبعده، وفي العصور الذهبية للإسلام، وفي الحضارة الغربية المعاصرة. وأصول الفقه وقواعده قوانين استقرائية، فيما يقوم المنطق الأرسطي الذي تحاماه ابن (تيمية) على الصورية والنظرية. وإضافة لما سبق فإن الموقف من الفلسفة والمنطق والكيمياء مرتهن بالخفاء والتجلي، ومحكوم بمجالات التطبيق، فالعلماء لا يسلمون إلا بعد التصور، وقد يسلمون للنظرية، ولا يسلمون لمجال التطبيق. وكل جديد يظل مجالاً للأخذ والرد، حتى يستقر بشروطه وضوابطه ومعقوليته وإمكان تصوره، وتحقق انتمائه إلى العلم التجريبي، أو الفكر أو الفلسفة، فإذا بأن أن الظاهرة من العلم المنضبط بقواعده وأصوله انتزع الشرعية، وإن ظلت في دائرة الشك تخطاها العارفون إلى غيرها، ف(الكيمياء) ظهرت، واستخدمت في بادئ الأمر في غش المعادن، فكان تداول أحوالها عند العلماء مرتبطاً بالصناعات، بحيث جاء الافتاء بالمنع وتحريم استخدامها في الغش. والفلسفة والمنطق طبقاً في قضايا المغيبات، فأدى إلى نتائج مخالفة للنص القطعي الدلالة والثبوت، فحرم علماء الكلام الإسلاميين استعمالها، ولم يستبن العلماء المتقدمون للكيمياء إذ ذاك ما إذا كانت علماً أو سحراً، وحين تبين لمن خلف وجه العلمية المقننة أخذوا بالظاهرة، وبقيت آراء من سلف من العلماء تمثل مرحلة تاريخية وتتعلق بالاستعمال، والمتابع لآراء الفقهاء، يجد فيها الإباحة أو المنع أو التوقف، وكل عالم يسوق حججه، وبعض العلماء يتوقف، فلا يجيز، ولا يمنع، لعدم تحرر المسألة، وقد يتصور بعض اللعماء، أن الظاهرة تعارض ما هو معلوم من الدين بالضرورة، فيفتي بالمنع. مثال ذلك ما حصل حول القول بدوران الأرض، فلقد سئل الشيخ (ابن باز) رحمه الله عمن قال بدوران الأرض وثبات الشمس، فأفتى بالتحريم، لأن الشمس تجري لمستقر لها، وفي قراءة (لا مستقر لها) ولما قيل له: إنه لا تعارض بين الدوران والجريان عدَّل من فتياه. ونصائح العلماء في التزهيد بالدنيا والتحفظ على التطاول بالبنيان، لا يعني أن ذلك يمثل رؤية حضارية، وأن الإسلام ضد العمارة، وإنما الموقف وعظي ترغيبي لا إفتائي حدي، ف (ابن عثيمين) رحمه الله لا يحرم التطاول بالبنيان، وإن رأي أن الظاهرة مفضولة، وفات الكاتب أن الذين تحدثوا عن (الحضارة الإسلامية) جعلوا من سماتها (فن العمارة الإسلامية)، وبخاصة في المساجد والقصور. والشمولية التي خفي حدها على الكاتب تعني: الاتساع والاستيعاب. فالاتساع ذو ثلاثة مجالات: الزمان والمكان والمحتوى. ويتمثل المحتوى بشمول الحضارة لكل متطلبات العصر ومفرداته: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والقضائية والعلمية البحتة والمهنية التطبيقية. وبهذا فاقت الحضارة الإسلامية جميع الحضارات، و(ابن تيمية) يعد لحظة في الزمان ونقطة في المكان، لا تُعرف الحضارة به، ولكنه يعرف بها. أما الاستيعاب فإن الإسلام التهم ما سبق من حضارات، وتفاعل مع ما جدّ من حضارات. وما يعانيه المسلمون من ضعف وتفكك لا يحال إلى رصيد حضارة الإسلام، وإنما هو لحظة ونقطة. فالتاريخ الحضاري الإسلامي غير تاريخ المسلمين، ومن خلط بين التاريخين فقد أساء للإسلام، والخلط لم يأتِ اعتباطاً، إنه هدف رئيس للمستشرقين والمستغربين، وشمولية الحضارة الإسلامية تقتضي موضعة الحضارات المعاصرة، والأخذ بأحسنها، والحق ضالة المؤمن. ولو كانت الحضارة الإسلامية تتعمد نسف الجسور مع منجز الحضارات لكان للبرمين منها وجه من الحق، غير أنهم يلزمون ما لا يلزم، فيفترضون نفي حضارتهم، تمهيداً لإحلال حضارة الآخر. واعتراض علماء المسلمين على (الفلسفة) و(المنطق) لا يمس الشمول والثبات، فاختلاف وجهات النظر من مظاهر خصوبة الحضارة، وحين يعترض (ابن تيمية) على (ابن رشد) بوصفه فيلسوفاً، أو حين يعترض على (الكندي) بوصفه منطقياً، فإن ذلك لا يمس شمولية الحضارة الإسلامية. والمناطقة المعاصرون والسابقون ل(ابن تيمية) كانوا في منطقهم صوريين نظريين، ولقد تجاوز ذلك الإسلاميون إلى المنطق الاستقرائي، وهذا المنطق العملي هو الذي أخذ به الأوروبيون على يد (فرانسيس بيكون) و(مل). وما أخذ به (الفارابي) و(الكندي) و(ابن سينا) و(ابن رشد) لا يتجاوز حدود المنطق اليوناني، ومواجهة أولئك الفلاسفة دافعة المجال والنتائج، وليس الظاهرة، فلقد اتخذت الفلسفة مجال الغيب، وخلصت إلى نتائج مخالفة لمقتضيات العقيدة السلفية، وكذلك فعل المناطقة، فكان لابد من حماية المجال ونفي النتائج، أما إعمال الفكر والعقل فمطلب إسلامي، وعلى الكاتب العودة إلى كتاب (العقاد) (التفكير فريضة إسلامية) ليرى كيف عالج الموقف من (المنطق)، ولمزيد من المعلومات يحسن الرجوع إلى (علي سامي النشار) في كتابه (نشأة الفكر الفلسفي) المجلد الأول، وإلى (تطور المنطق العربي) ل(نيقولا ريشر) ترجمة (أحمد مهران) ليعرف الكاتب أنه يهرف بما لا يعرف. والمتعقب لآراء (ابن تيمية) في المنطق والفلسفة، يقف عند رؤية علمية عميقة، تبناها الفلاسفة والمفكرون والمناطقة المعاصرون، ذلك أنه يواجه المنطق الأرسطي في مجاله التطبيقي، الذي لم يعد ذا قيمة معاصرة، وحين تصدى علماء المسلمين لعلم المنطق الأرسطي، استطاعوا أن يقيموا منطقاً استقرائياً، يضبط إيقاع العقل، كما يضبط النحو إيقاع اللسان، فلم يكن رفض المسلمين للمنطق رفضاً سلبياً، ذلك أن المنطق الإسلامي منطق استقرائي تجريبي، وقد وظفوه في خدمة الطبيعة والطب والكيمياء ولم يُعمِلوه في (الميتافيزيقا)، وإذ يكون المنطق العربي بشقيه: الاستقرائي، والنظري، من مشمولات الحضارة الإسلامية، وإن اختلف العلماء حول الموقف منه، فقد أنجبت الحضارة الإسلامية في مختلف العصور أكثر من مئة وستين عالماً في المنطق، ذكر طائفة منهم (بروكلمان) واستدرك عليه (سزكين) ما فاته، وفات الاثنين أعداد كثيرة، ولهؤلاء المناطق ترجمات ومؤلفات وتطبيقات، والمؤلم أن ثروة الأمة العلمية نهبت من المكتبات العربية، ولم يستطع (معهد المخطوطات) التابع للجامعة العربية تصوير ما نهب، ولمّا تزد مصوراته عن نصف مليون كتاب، وهي نسبة تقل عن الخمس، وما كان صاحبنا على علم بما خلفته الحضارة الإسلامية، مما أصبح ركيزة للحضارة الغربية الباهرة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:21 PM | #89 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
نعم حضارة الإسلام شمولية..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل وعزمات الكاتب الواهنة الواهية تصبو إلى إسقاط النظرية الشمولية للحضارة الإسلامية، وهي نظرية متواترة، تحيل إلى مختلف العلوم، ومدار المعارف الإسلامية على الشمولية، وهي مسلَّمة تكاد تكون مما علم من الدين بالضرورة، ولهذا جاءت حجته أوهى من بيت العنكبوت، ولم يظفر بحجة بالغة، تشد من عضده، واتخاذه سبيل التوهين التجزيئي من الخلائق المنبوذة عند المصطرعين حول القيم الحضارية، وكل متأخر في المجيء قد لا يجد ما يحمل نفسه عليه إلا سقْط المعارف، وملتوي المناهج، وكليل الآليات.. وما نود تداركه من باب الاحتراس، أن القول ب(الشمول)، لا يعني الاكتفاء والانكفاء، كما أن القول ب(الغزو) و(التآمر) لا يعني الإسقاط والبراءة، ومن عوّل على الشمول والغزو للمقاطعة والإسقاط، فقد حاد عن مستقيم الصراط، وإذ دلل على قصور الحضارة الإسلامية برفض (الكيمياء) و(المنطق) و(الفلسفة)، وهو رفض له سياقه وحيثياته ومجالات تطبيقه فإن إدراك ذلك من مثله بعيد المنال، وبالعودة إلى الفتوى التي استصرخها الكاتب، ولم تمده بالنصر، نجد أن السؤال الموجه ل(ابن تيمية) عن (عمل الكيميائيين) وليس عن ظاهرة (علم الكيمياء)، وجوابه مرتبط بالنتائج القائمة على ممارسة الغش، وقوله: (وحقيقة الكيمياء إنما هي تشبيه المخلوق) إنما يعني بها ما يفعله الكيميائيون، و(ابن تيمية) فرق بين المخلوق، وهو (الذهب) الخالص، والمصنوع وهو ما يشبهه، مما يعمله الكيميائيون، وإحالته في نفي الشمولية إلى رفض المنطق إحالة من يجهل المراد والأنواع والحدود، وما لا بد من تحديده أن نعرف المقصود ب(المنطق) أهو المنطق الصوري - الاحتمالي - أم هو المنطق الاستقرائي، أم هو المنطق الأولي، أم التقليدي، أم المنطق الرمزي، أم منطق الجدل، أم العلم، أم الرياضة، وأي نوع من هذه تصدى له (ابن تيمية)؟. والكاتب الجريء التقط الاتهام، ولم يستوعب المفاهيم، ولا المقاصد، ولا الحيثيات.. و(المنطق) الذي واجهه (ابن تيمية) وفنّده في كتابيه: (الرد على المنطقيين) و(نقض المنطق) يرتبط بالجانب الإلهي والفلسفة (الميتافيزيقية)، وليست له مواقف متشددة من المتفلسفة في (الطبيعيات)، والفتاوى تعبّر عن وقوعات محدودة، أما التأصيل ففي كتابيه اللذين أشرنا إليهما حول (المنطق: رداً ونقضاً) و(ابن تيمية) مستوعب ل(المنطق) و(الفلسفة) يعرف تجلياتهما وإخفاقاتهما، والذين يغالبون قراءة كتابيه في (الرد) و(النقض) يدركون تمكُّنه من المنطق والفلسفة (الميتافيزيقية)، ومتى استوعب معارف الخصوم، ووقف منها الموقف العلمي، كان ذلك مؤشراً شمولاً، وفلاسفة العصر الحديث وبخاصة الوضعيين منهم يفوقون (ابن تيمية) في التّحفظ على موضعة (اللا متشئ) و(اللا عيني)، ولا يعدون ذلك شاهداً على عدم شمول الحضارة، وعلى الكاتب استبانة آراء (زكي نجيب محمود) المبثوثة في كتبه، لتثبت فؤاده. وإذا نقم الكاتب على (ابن تيمية) موقفه من المنطق، وهو موقف جدلي لا يعاب فيه، فإن (فرانسيس بيكون ت 1626) و(جون ستيوارت مل ت 1872) قد اتخذا سبيل (ابن تيمية) في نقد (المنطق الأرسطي) الصوري، والتّحول إلى المنطق الاستقرائي، ولقد أنصف (جولد تسيهر) (ابن تيمية) في كتابه (العقيدة والشريعة) وصدق في ذلك، وهو كذوب، وموقف (ابن تيمية) من المنطق الصوري - وهو موقف يحسب له، ولا يحسب عليه - أدى إلى منطق استقرائي، يشبه إلى حد كبير مناهج البحث العلمي الحديث، ولم يكن (ابن تيمية) وحده الذي سخر من (المنطق) بل سبقه قبل الإسلام، بل قبل المسيحية (الرواقيون) و(الشكاك) ولقد أولع به (الغزالي)، ثم عدل عنه، بعد ما تبين خلله، وشايع (ابن تيمية) علماء وفلاسفة غربيون في الموقف من (المنطق) الأرسطي، ولو أن الكاتب توفرت له القدرة على قراءة الكتابين الآنفي الذكر ل(ابن تيمية) واستطاع أن يستوعب جدل (ابن تيمية) لأصبح موقف (ابن تيمية) من الفلسفة والمنطق والباطنية أقوى شاهد على شمولية الحضارة الإسلامية، ولكن الكاتب مبتسر لم يفهم ما نقل، وهذه الوساطة السلبية ستوقعه في الحرج، ذلك أن الحديث عن المنطق يتطلب الرصد التاريخي له منذ الحضارة اليونانية، ومروراً بالحضارة الإسلامية، وانتهاء بالحضارة الغربية، ومثل هذا التّقصي عصي المنال على المبتسرين المخفين الذين يرضون من اللحم بعظم الرقبة، وإذ قرر عدم شمولية الحضارة الإسلامية، وعول على رفض المنطق والتطاول في البنيان فإنني أرجو منه أن ندع القول والقول المضاد، ونعقد العزم على النظر الشمولي في فكر (ابن تيمية)، وإن كان خالي الوفاض، كليل الذهن فإنني أوجهه لقراءة الكتب التالية: - تكامل المنهج المعرفي عند (ابن تيمية). - منطق (ابن تيمية) ومنهجه الفكري. - (ابن تيمية) وموقفه من الفكر الفلسفي. - الإمام (ابن تيمية) وقضية التأويل، دراسة لمنهج (ابن تيمية) في الإلهيات وموقفه من المتكلمين والفلاسفة والصوفية، فعن طريق هذه الكتب سيضع قدمه على أول الطريق القاصد. وإذ لا نتوقع قدرته على تفكيك (المنطق) الذي يجالده ويجاهده (ابن تيمية)، ولا تحديد التعريف الجامع المانع له، ولا التعرف على المحطات التاريخية الهامة في مساراته التّحولية، ولا تحرير مفاهيم (الحد) و(القياس) و(التّصور) و(التّصديق) وهي عمد المنطق، فإننا في الوقت نفسه لا نتوقع قدرته على تحديد مفهوم (الحضارة) لا من حيث الرؤية الإسلامية المتأخرة عند (ابن خلدون) التي سمّاها (العمارة) ولا من حيث رؤية الموسوعيين الغربيين المعاصرين، ولا من حيث اختلاف التاريخ والعلم والفلسفة في تصورها، ولا ماهية الحضارة وتداخلها مع (المدنية) و(المجتمع المدني) و(الثقافة)، ولا التعريفات اللمحية عند (فاريك) و(بتسر) وهما أصحاب معاجم معتبرة، ولا رؤية علماء النفس ك(تايلور) ولا رؤية (الموسوعة البريطانية)، ولا جدل المفهوم والمقتضى الذي اصطرع حوله (مالك بن نبي) و(سيد قطب)، ولو ألم بما أعده مفكرون عرب وعجم عن تاريخ الحضارات ومسارها لعلم علم اليقين أن الحضارة الإسلامية شمولية تعددية، وسعت (الرياضيات) و(الفلك) و(الطب) و(العمارة) و(الملاحة) و(الجغرافيا) و(الصناعات) و(الموسيقى) و(الفلسفة)، وقامت على أسس لم تقم عليها أي حضارة ك(التوحيد) و(الوحدة) و(العدل) و(العلم) و(العمل) و(القوة) و(الأخلاق) وتدبير المال والوقت والجهد، ولو استنطقها لاستجابت لكل خواطره. ولأن العالمية والشمولية صنوان، فقد شكك فيهما المستشرقون من أمثال (وليم بيور و(شك كبناني) وحجتهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يعرف غير الجزيرة، وأنه لم يوجه دعوته إلا للعرب، وعاضدهما (جولد تسيهر) الذي أحال إلى (لا نتول فرانس) وحجة (تسيهر) أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان يعلم بانتشار دينه واستمراره، ولن نرد على منكري العالمية والشمول من مستشرقين أو مستغربين، ولكن نحيل إلى طائفة من الكتب منها على سبيل المثال: (دفاع عن العقيدة والشريعة) (للغزالي)، و(قضايا معاصرة في ضوء الإسلام) و(خصائص الدعوة الإسلامية) و(الحضارة الإسلامية) ل(متز) و(روائع الحضارة العربية والإسلامية) ل(الدفاع) و(حضارة الإسلام وأثرها في التّرقي العالمي) ل(جلال مظهر)، والحضارة الإسلامية كما يقول (العقاد) قوة غالبة، وقوة صامدة، وعقيدة شاملة.. وعن الشمولية يقول في كتابه (الإسلام في القرن العشرين): (يبدر إلى الذهن أن الشمول الذي امتازت به العقيدة الإسلامية صفة خفية عميقة لا تظهر للناظر من قريب، ولا بد لإظهارها من بحث عويص في قواعد الدين وأسرار الكتاب وفرائض المعاملات، فليست هي مما يراه الناظر الوثني أو الناظر البدوي لأول وهلة، قبل أن يطَّلع على حقائق الديانة، ويتعمَّق في الاطلاع) ويستطرد إلى القول: (الناظر القريب قد يدرك شمول العقيدة الإسلامية من مراقبة أحوال المسلم في معيشته وعبادته). ويتحقق مفهوم الشمول عند (العقاد) بتوازنه بين المادة والروح، حيث يقول: (إذ لا يوصف بالشمول دين ينكر الجسد كما لا يوصف بالشمول دين ينكر الروح) وهو بهذا يومئ على المسيحية واليهودية المحرفتين، وشمولية الحضارة الإسلامية بالتوازن من جهة وبالمساواة من جهة أخرى، فالتفاضل في التقوى المقدور عليها لكل إنسان، وليس للعرق ولا للغة. وينهي (العقاد) بحثه بقوله: (وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية)، والكاتب تشابهت عليه مفاهيم الشمول ومجالاته، ونقص معارفه حمله على الأخذ بمقولة المستشرقين دون استيعاب لحيثياتهم، وتصوره أن الموقف من المنطق، وغش الكيميائيين، والموقف من المتطاولين في البنيان هي كل المعاول التي يهدم بها دعوى الشمول تصور بدائي.. وفاته أن فن البناء الغربي تأثر كثيراً ببناء الأقواس والقناطر والمنحنيات وهندسة القباب وفن الزخرفة والنقوش العربية، ويقيني أن الكاتب لو مكن نفسه من رصد حملات الاستشراق، واستوعب أطرافاً من مقولاتهم، لكان لقوله بعض التأثير، ولكنه سمعهم يقولون شيئاً فقاله. وكم كنت أتمنى ان كانت لدى الكاتب بقية من أحبار أن ينفقها في سبيل الدفاع عن حوزة الدين المنتهكة، لا أن يشد عضد المستشرقين الذين لا يشفي صدورهم إلا التقليل من شأن الحضارة الإسلامية، وحماة الثغور ليسوا ممن يخدعهم الخب، بحيث لا يأخذون حذرهم، حيث يتواصى الفارغون بأخذ الإسلام من أطرافه والنيْل من مفرداته من مثل: - خرافة الإعجاز العلمي. - عدم شمولية الإسلام. - اقتصار الحضارة الإسلامية على حفظ الحضارة اليونانية، ونقلها كما هي إلى الغرب. - تاء الخجل في ظل الخطاب الذكوري. - تقلب مفردات الحضارات البائدة في اللغة العربية، وليست في عقول العلماء العرب، وهذا النقد السلبي التجزيئي يحقق إعجاز التنبؤ في نقض عرى الإسلام عروة عروة. وكل الذين دخلوا جحور المستشرقين قبل التحصن، نسلوا منها، وليس في غيابهم إلا الحشف وسوء الكيل، والذين يخوضون في الفلسفة، وهم ليسوا من أهلها، أو يجادلون في قضايا الدين، وليسوا من أهل الذكر، أو يتناجون في أنواع الفنون، وليسوا على شيء من الموهبة أو المعرفة، يكونون مثار سخرية، ولن يظفر بالاحترام إلا رجلان: رجل تختلف معه، وهو على جانب من العلم والوعي والسيطرة التامة على قضاياه، ورجل يعرف قدر نفسه فلا يخوض في القضايا الكبرى حتى يستكمل المعلومة، ويجود المنهج، ويتقن الآلة.. والخبيرون بالمعارف والمذاهب يعرفون الأدعياء بسيماهم، ومن تحدث في غير فنه جاء بالعجائب، وما ارتبكت مسيرة الأمة إلا حين انبرى للقضايا الكبيرة من لا يحسن الورود ولا الصدور، وكم يحلو لي تقصي معركة من معارك الفكر أو السياسة أو الأدب أو الدين، لأقف على طرائق المصطرعين، وما يحيلون إليه، وما يحكمون به، وما يُحكِّمونه من طرائق تفل الخصوم، ولقد تبيَّن لي أن بعض المتقحمين كما الفراش يبحثون عن الأضواء، لكنهم يحترقون قبل الدخول في دوائرها، ولا يضرون الحقائق شيئاً، ومما لا شك فيه أن تقحم الإنشائيين يربك المسيرة، ويعكر صفو الرؤية، وقد يؤثر على الضعفاء والمتسطحين، ولربما يكون تقحم المتسطحين لعبة من اللعب التي تبطئ بالفهم. ولا أظن أن ظاهرة الإثارة، وتهافت الفارغين على القضايا الكبرى من الصدف، إنها مكيدة حاذق أو تعالق أبله، ومن المصلحة تدبر الأمر مع الكائدين والمتعالقين، إذ ربما يكون خيراً من إجابتهم السكوت، ومتى كثر ترديد الكلام، وكثر المتعالقون واستسيغ جر العلماء الأفذاذ من أجداثهم دون اكتراث، فإن وراء الأكمة ما وراءها. لقد استمرئ التّنقص والتّندر - وأصبح ابتسار الكلام من سياقه وأنساقه من الظواهر التي تجاوزت العفوية إلى التربصية، وكما قلت من قبل من باب التحفظ: ليس كل متقحم يقع تحت طائلة الاتهام، فكم من غِرّ راق له الاهتياج الأعزل، دون معرفة ببواطن الأمور، عرَّض نفسه للاغتياب، وحرمها من الدعاء المأثور (رحم الله امرأً كف الغيبة عن نفسه) وكم من حائم حول الحمى وقع فيه، فندم ندامة الكسعي، وكم أتمنى لو كان خيار الكاتب (التّحدي) بدل (الاستجابة) وهي ثنائية المؤرخ البريطاني (أرنولد تويني) في نظريته الحضارية. إن الحضارة الإسلامية حضارة شمولية أصيلة قوية منيعة منتشرة، بدت في مواقع متباعدة: زماناً ومكاناً وإنساناً، تجلت زمن الخلافة العباسية في (بغداد) وزمن الخلافة الأموية في (قرطبة) وزمن الخلافة الفاطمية في (القاهرة) ومن الأندلس سطعت شمس العرب على الغرب، ولكي يتأكد صاحبنا من أن حضارة الإسلام تركت آثارها على الغرب فعليه أن يقرأ كتاب المستشرقة الألمانية (زيغريد هونكه) (شمس العرب تسطع على الغرب)، والذين يتنقصون الحضارة الإسلامية أقل ما يوصفون به التبعية والانهزامية، قد يكونون متذيلين للاستشراق أو الشعوبية، والنقد والتقويم يختلفان عن التنقص والنفي وجلد الذات. وبعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } { يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب: 70-71).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:22 PM | #90 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
إذا طل منا سيد قام سيد..!
بقلم د. حسن بن فهد الهويمل أيها المفجوعون. أيها المنتحبون. أيها المصابون. تماسكوا، واجتازوا مرحلة الصدمة بالصبر والسلوان، وقول ما يرضي الله، لتتحقق لكم صلواته ورحمته وهدايته. {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (البقرة: 155، 156، 157). إذ لم يعد الوقت متسعاً للنحيب، ولا محتملاً للانكسار، ولا مناسباً للارتباك. لقد كانت وفاة الملك فهد صدمة مذهلة، ورحيله فاجعة مؤلمة، ولكننا على يقين أن {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (الأنبياء: 35)، ولقد أكد الله لرسوله أنه ميت {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} (الزمر: 30) {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ} (الأنبياء: 34). وإذ أقبل أبو بكر يجر رداءه، ليعلن موت الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يعلن بموته موت الأمة، وإنما جاء ليربط الأمر بمن لا يموت (ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). لقد وقفت قوة الإيمان وقوة الإرادة وجهاً لوجه أمام حدث جلل. قوة الإيمان عند أبي بكر. وقوة الإرادة عند عمر. كانت قوة الإرادة بشرية، فخارت أمام المصاب الفادح، أما القوة الإيمانية فقد صمدت، وتجاوزت المحنة، (من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت). ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (آل عمران: 144). واليوم نحن بحاجة إلى قوة الإيمان، فقوة الإرادة قد تخور، وتحملنا على فقد توازننا، وارتباك أوضاعنا. ذلك أن الملك فهد -رحمه الله- ، لم يكن ملكاً، يقبع وراء أبهة الملك، ولم يكن عابر سبيل، إنه الأب والقائد والتاريخ، إنه الإنسان الذي عرفناه، وعرفنا فيه الرائد الذي لا يكذب أهله. - رجل المبادرات. - رجل الملمات. - رجل الخبرة والمسؤوليات المتعددة. لقد تسلمت -رحمه الله- عدة حقائب وزارية، ولم يغب عن المشاهد المحلية والعربية والإسلامية والعالمية منذ نعومة أظفاره. وكان حكمه الذي امتدّ لأكثر من عقدين ذروة المسؤولية في حياته العملية، ومن ثمّ فقد وظّف كل خبراته وتجاربه لقيادة الأمة في ظروفٍ استثنائية يمر بها العالم، ظروف وسعت حروباً طاحنة، وسقوط إمبراطوريات عملاقة، وفشل مشاريع ثورية وقومية واشتراكية وقطرية وإرهاباً، ونزاعات واعتداءات وانهيارات اقتصادية، فكان الربان المحنك، الذي أرسى السفينة على شاطئ الأمان. وإذا قضى الله أن يترجل من مركز القيادة، فقد شاءت إرادته أن ينهض إليها رجل مثله، قضى حياته بالعمل، واكتسب الخبرات، وألم بالمسؤوليات. وقدر بلادنا الحميد أن تكون فوق هام السحب، لها حضورها الفاعل على كل الصعد. وأي حدثٍ جلل يمر بالمشهد السياسي العالمي، يكون لبلدنا معه شأن كبير. ووفاة شخصية كالملك فهد لابد أن يقف العالم كله، لينظروا ماذا سيكون. وما علموا أن السياسة هي السياسة، وأن المواقف هي المواقف. ومنذ أن أرسى الملك عبدالعزيز دعائم الملك، وأبناؤه من بعده يترسمون خطاه. لقد اجتاحت المنطقة أعتى العواصف، وكادت مثمنات البلاد تذهب أدراج الرياح، أمام غطرسة القوة، وجنون التصرف، وتصادم المصالح، وصراع الحضارات، واقتتال الطوائف والأحزاب والأعراق، ولكن البلاد والحمدلله خرجت من غوائلها بكل رباطة جأش، وقوة وإرادة وثبات، وصدق إيمان بالحق. وفي أحلك الظروف وأخطر الأحداث خرج القائد ليعلن موقف المملكة القوي الحازم الواضح أمام أي اعتداءٍ على الشرعيات، والتف العالم كله من حوله، وكان النصر المظفر. وعلى المستوى المحلي تعرضت البلاد لتحولات عالمية متسارعة، كادت تفقد معها البلاد خصوصيتها، فكان أن تلاحقت المبادرات الرصينة، لتفادي التخلف عن العالم المتسارع في إيقاعه، دون أن يمس التغيير ثوابت الدين وخصوصية الوطن. فكانت الأنظمة والمؤسسات الشورية والمناطقية والإجراءات الانتخابية في تتابع سليم. والقلم حين يراوح بين التأبين والتفجع، يتنقل الإنسان معه بين الألم والأمل والمملكة العربية السعودية منذ أن أرسى دعائمها المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز، وأقامها على قواعد الدين والوحدة والحرية والمساواة، وهي تنعم بالاستقرار السياسي، والأمن القومي، والرخاء الاقتصادي، وتداول السلطة بانسيابية وهدوء. لقد مات الملك فهد والموت يقين لا يدري أحد ماذا يكسب غداً، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان: 34)، وبعد لحظات من الوفاة تلقى الراية عضده الأيمن وخليفته في كل مهماته خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله -. ألم ممض وثقة قوية. فقدنا رجلاً عظيماً. واستقبلنا رجلاً عظيماً. مات ملك وعاش ملك. إنّها إرادة الله، وهي إرادة نرضاها، ونحمده عليها. فما كنا في يومٍ من الأيام نخاف فراغاً دستورياً، ولا تنازعاً على السلطة، رجال أشداء، عرفوا عظم الأمانة، فكانوا في ساعات العسرة أقوى منهم في ساعة الرخاء، سمو فوق كل المعوقات الطارئة. لقد عرفوا أن الأمة حية لم تمت، وان شأنها أكبر من كل شيء، فكان ان التفت الأسرة، وقدمت للأمة المصابة خليفة عاش حياته راصداً لسياسات سلفه ومواقفه، مستوعباً لثوابت هذا الحكم التي لا تتغير بتغير القائد: العقيدة والوطن. لا تفريط في ركنٍ من أركان العقيدة، ولا تهاون في شبر من أرض الوطن، وحدة إقليمية ووحدة فكرية. لقد ارتبكنا، واهتزت أيدينا، وذرفت دموعنا. وأحسسنا أننا غير قادرين على التماسك، ولكن حملة الأمانة نسوا ما هم فيه، وفكروا فيما هم مقبلون عليه. نسوا آلامهم، وأعادوا للأمة التي وضعت كل مقدراتها في سلالهم اطمئنانها وأثبتوا لها:- أن القوة على الثغور، وأن الأصابع على الزناد، وأن العيون مفتحة في كل الاتجاهات. إنها إرادة الله، وهل أحد يرد القضاء، لقد قضى الله أن يموت ملك، وأن ينهض ملك. فالله نسأل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وأن يجزيه عن الأمة العربية والإسلامية خير الجزاء، وأن يأخذ بناصية الخلف، وأن يستعمله في طاعته، وإعلاء كلمته، والسعي في حاجات أمته العربية والإسلامية، وأن يسبغ الصحة والعافية على عضده وولي عهده الأمين ليواصل المسيرة خلف قائده، وهو قد سار معه نائباً ثانياً، وهو الآن يسير معه ولياً للعهد، كما نسأل الله جل وعلا أن يرزق الأسرة الكريمة الثقة والاطمئنان، واجتماع الكلمة، وتحمل المسؤولية الجسيمة التي اختارهم الله لها. - إن الحدث عظيم. - والخطب جلل. - واللحظات حاسمة. ولم نعد بحاجة إلى تقصي مآثر السلف والخلف. ولا أن نبدي ما في أنفسنا من حبٍ وثقة، وما اجتاحها من حزن وألم مريرين، ولكننا نعلن للعالم العربي والإسلامي والعالمي، أن البلاد ستظل بخير -إن شاء الله-، وأنها ستتقدم من حسن إلى أحسن، وأن رجالاتها تلقوا الراية من اللحظة الأولى، وأنها لن تسقط ولن تتوقف. وثقتنا بالملك عبدالله وبالأمير سلطان أنهما عاشا طوال حياتهما مع والدهما وإخوانهما، ومع الراحل المحنك، يتخلقان بأخلاقه، ويستلهمان طموحاته، ويعرفان دخائله. وكل ما يبعث على الثقة والاطمئنان أن البلاد لم تظل في ترقب خائف لمن يمسك بمقاليد البلاد، وإنما بادر الراية الأحق بها، حيث اختارته الأسرة ورضيه الشعب وهيأه الراحل باختياره ولياً للعهد، وحين توقفت خطوة الملك الراحل، تحركت خطوة الملك القادم، وهكذا تظل المسيرة كما هي: (إذا طل منا سيد قام سيد قؤول لما قال الكرام فعول) فليرحم الله خادم الحرمين الشريفين، وليسبغ عليه شآبيب رحمته، وليجعل ما عمله في خدمة كتابه ومقدساته في ميزان حسناته، وليوفق الله القادم الجديد، وليسدد على طريق الحق خطاه، ويشد عضده بولي عهده الأمين ورجالات حكومته الأوفياء، ولن نقول إلا ما يرضي ربنا:- {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:25 PM | #91 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
سياسة التوازن وتوازن السياسة..!
د. حسن بن فهد الهويمل هذه التظاهرة العالمية مع أتراح البلاد وأفراحها، لا يمكن أن يتخطّاها الرَّاصد دون أن يتساءل: هل هذا مرتبط بالأُسرة الحاكمة، أم باحتياطي النفط الأكثر عالمياً، أم بالمقدّسات الإسلامية؟. وهل هو بالفعل أم بالفاعل أم هو في ذلك كله؟. وكلُّ متقصّ لأسباب الاهتمام بأحداث البلاد، لا بد أن ينظر إلى كلِّ ذلك. فالتنقيب عن الأسباب الحقيقية، لا يمكن فصلها عن تاريخ البلاد، منذ بدايات التأسيس، والاهتمام العالمي يجب ألاّ ينسينا ما تعانيه البلاد من غبطة تتحوّل إلى حَسَدٍ يتميّز أهله من الغيظ. والمواطن السعودي المعايش لتقلُّبات الطقس السياسي، يرصد الجزر والمد، ويعرف أنّه مغبوط ومحسَّد، وكأنِّي به يوجِّه نداءه إلى تلك الأسباب الثلاثة مجتمعة، كما (المتنبي): (أزل حسد الحساد عني بكبتهم فأنت الذي صيرتهم لي حُسَّدا) والإعجاب والحسد يحملانه على ترجمة المواقف، وتحديد بواعثها، ومحاولة ترتيب أمره على ضوئها. والمتابع للتاريخ الحديث، يجد أنّ الأُسرة السعودية الحاكمة جزء من الكيان والتاريخ، فلقد مرّت الأُسرة والبلاد معاً بثلاثة أدوار، يحيل بعضها إلى بعض، ويرتبط بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً، فهي ذات رسالة سياسية ودينية لا تحويل فيها ولا تبديل، قوامها ثلاث دعائم: وحدة إقليمية، ووحدة فكرية، ومنهج إسلامي واضح. فالدور الأول هو الأساس الذي تخطّى بالأُسرة وبالوطن إلى عتبات التاريخ، وحوّلهما إلى كيان مهم ومثير، تخطّى الإقليمية والقبلية إلى مشارف السياسة العالمية. تمثل ذلك باللقاء المبارك بين (محمد بن سعود)، و(محمد بن عبد الوهاب)، وخطورة هذا اللقاء أنّه قضى على الإقليمية والقبلية والتشرذم في المجال السياسي. وقضى على الجهل والبدع، وحمى جناب التوحيد في المجال الديني. ولقد أصبح هذا التحوُّل نذير شؤم على المستفيدين من تلك الأوضاع المتردية، كما أنّه كشف عن سلبية (الدولة العثمانية)، التي لم تكن تحفل بقلب الجزيرة العربية، وما يجتاحها من فتن عمياء، وأمراض وبائية، وفقر مدقع، وحروب على المراعي والموارد، وما هي عليه من ضياع وانفلات في السلطة. فكلُّ قرية لها أمير، وكلُّ وادٍ له سلطان، وكلُّ قبيلة لها زعيم. والناس كما قطعان الماشية غنيمة لمن سبق. وبداية العهد السياسي الشامل، والديني السلفي له ما بعده، ولهذا فكلُّ الخصوم يستعيدون تلك البدايات الحاضرة في نسيج الكيان، فالمستشرقون والرحالة والمناوئون يبدؤون من حيث بدأ الدور الأول. و(الدولة العثمانية) في ظل هذا التحوُّل الحضاري، ارتكبت خطيئتين: خطيئة المواجهة لهذا الكيان الحضاري الناشئ. وخطيئة تهميش قلب الجزيرة العربية، وعزلها عن العالم. وما انصبّ اهتمام العثمانيين في الجزيرة العربية إلاّ على (الحرمين الشريفين)، لمكانتهما: إسلامياً وإعلامياً، وهي دولة ما كنّا نود انهيارها، لأنّها تمثِّل رمز الخلافة الإسلامية، ولا ننقم عليها، لأنّ الغرب كاد لها وأرداها، ولا نصفها بالمستعمر ولا بالمحتل، كما يحلو للعلمانيين، ولكننا لا نقبل أن نعيش في ظل ظروف متردية، كان بالإمكان تجاوزها، فلقد تجرّع آباؤنا وأجدادنا مرارات الفتن والأوبئة والجهل. ولقد كان لقاء (المحمدين) بداية قوية، للتخلُّص من أوضار الجهل، وذل المرض، وشقاء الفقر. وإذ أحسّت (الدولة العثمانية) بأنّ هذه الدعوة السلفية ستكشف عن خرافات التصوُّف و(الانكشارية) وإهمال الأطراف من الولايات، فقد عملت على إجهاضها. وبالفعل أنهت الدور الأول بالحملة المشؤومة (حملة إبراهيم باشا)، التي أتت على الحرث والنسل، وأعادت نجد ومن حولها من الأعراب والحواضر إلى ما كانت عليه من قبل: تخلُّف وفقر ومرض وإقليمية وقبلية. ولأنّ الشرعية مع الأُسرة، فقد عادت إلى الحكم مرة ثانية على يد الإمام (فيصل بن تركي)، الذي أقام الدور الثاني من الحكم السعودي، وإذ نجت من حملة مدمرة، فإنّها لم تنج من التآمر الذي فككّ أوصالها، ولما لم يكن بمقدور العثمانيين الدفع بحملة ثانية كما سلف، فقد استخدمت الدسائس واللّعب السياسية، حتى انشق الأشقاء من آل سعود على أنفسهم، وبهذا التنازع الأُسري انتهى الدور الثاني عام (1308هـ). وفي نهاية العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، تحرك الشاب الممتلئ حماسة وثقة (عبد العزيز بن سعود) من ملجئه في الكويت، الذي أمضى فيه مع والده وأُسرته زهاء عقد من الزمن، متجهاً صوب الرياض، وليس في يده عدة ولا عتاد، ولكنه يملك شيئين: - (المشروعية) و(السمعة). (المشروعية) وتتمثَّل باستعادة مُلك آبائه وأجداده، فلقد نفيت الأُسرة من أرضها. وانتزع من يدها حكمها ظلماً وعدواناً. و(السمعة) التي يحتفظ بها النجديون خاصة، وسكان قلب الجزيرة العربية على وجه العموم للأُسرة الحاكمة، فالأُسرة تحكم البلاد بالعدل واللين والمساواة، وتقيم شرع الله، ولا تأخذها نزعات قبلية ولا إقليمية. ولأنّ النجديين في مدنهم الرئيسة متحضرون، يعتمدون على الزراعة والتجارة، فقد كانوا أحوج ما يكونون إلى حكومة حضرية، تنهي التناوش على المراعي والموارد، ولهذا أصبحت حواضر نجد ترقب عودة الأُسرة بفارغ الصبر. ولما قدم الملك (عبد العزيز)، كانت عدّته وعتاده: الشرعية والسمعة. ومن ثم أقبل الناس بأنفسهم وأموالهم مختارين طائعين، وانضموا تحت رايته، وشكّلوا جيشه، وعدّته وعتاده. وبعد إنجازه لمعركتي: (التكوين) و(البناء) قضى نحبه، فتلقّى الراية من يده أبناؤه: (سعود 1953 - 1964م) و(فيصل 1964 - 1975م) و(خالد 1975 - 1982م) و(فهد 1982 - 2005م) - رحمهم الله جميعاً - و(عبدالله 2005م - ....) وفّقه الله، وكلُّهم يترسّمون خطاه، ويتخلّقون بأخلاقه. ولكلِّ عهد سماته ومبادراته وتحوُّلاته، وهي سمات ومبادرات وتحوُّلات تفرضها الظروف المعاشة، والأحداث المحيطة، إذ لم تضطرب أحوال البلاد داخلياً، ولكن أحداث فلسطين، واليمن، والعراق، والحروب العربية الإسرائيلية والحروب العربية العربية، والحروب الإسلامية، والفتن الداخلية، كلّها بطأت في تنفيذ الخطط التنموية الطموحة، ولكنّها لم تغيِّر ثوابت الملك. وسياسة البلاد الداخلية والخارجية لم تتبدّل، ولكنّها تتطوّر، لتوائم المتغيرات العالمية، وقد تكون هناك مبادرات ملفتة للنظر في بعض المحطات، كما حصل في عهد الملك (فهد) رحمه الله، إذ تحققت في عهده أكبر التحوُّلات للمجتمع المدني، وهي بمجملها تحوُّلات مصيرية تمثَّل بعضُها في: - النظام الأساسي للحكم. - نظام مجلس الشورى. - نظام مجلس الوزراء. - نظام المناطق. - إنشاء المجالس العليا والمؤسسات والهيئات والمنظمات. وأبرز ما في الأنظمة انتقال السلطة، وتداول المسؤولية، بحيث حددت مدة العمل لعضوية مجلس الوزراء والشورى وأمراء المناطق. ونظراً لأنّ المملكة تحتضن المقدسات الإسلامية، وتهفو إليها أفئدة الأُمّة الإسلامية، وفيها أكبر مخزون من النفط في العالم، ولها أعماقها الجغرافية والسكانية، وموقعها الاستراتيجي وعراقتها السياسية، وثقلها في العالمين العربي والإسلامي، فقد توخّى قادتها سياسة الاعتدال والوسطية والتوازن، والدعم السخي للشعوب الفقيرة، وفتح جسور الإغاثة في النكبات، والدخول كوسيط حمَّال في مجمل النزاعات الأهلية والحدودية، والمتابع لخطابات الملك (فهد) رحمه الله، وتصريحاته وكلماته يجد أنّها تركز على سياسة عدم الانحياز، ونبذ أيّ خلاف، وعدم التدخُّل في شؤون الغير، ورفض أيّ تدخُّل خارجي في سيادة البلاد وقراراتها المصيرية، وتؤكد على احترام العهود والمواثيق العالمية، والتعاون مع المؤسسات العالمية، وخدمة السلام والأمن الدولي، وتَتَبنَّى مجمل المبادئ الحضارية: كالعدل، والاستقرار، والتعايش السلمي. والحرص على إبعاد المنطقة عن الصراعات الدولية. ولكن الرغبة في توقّي الصراعات لم تتحقق، لانفراد بعض القادة العرب باتخاذ القرارات المصيرية، أو التورُّط في اللّعب الكونية. كما أنّ المملكة بقيادته - رحمه الله - كان لها أكبر الأثر في حل المشاكل المستعصية إقليماً وإسلامياً. وليس أدل على ذلك من (مؤتمر الطائف) لحل الأزمة اللبنانية و(مؤتمر مكة) لحل الأزمة الأفغانية، واستقطاب العالم لتحرير (الكويت). لقد كان حضور المملكة في القضايا كافة، يمثِّل الدعم: الحسي والمعنوي، ويحقق التوازن في إقرار الحقوق الإنسانية، وحقوق الشعوب والأقليات. وممارسة الدول لقضايا السياسة العالمية تتم عن طريق القنوات المشروعة كالمنظمات العالمية. وليس هناك أهم من احترام حقوق الشعوب في العالم الثالث المسكون بالفوضى والثورات الدموية، والتدخُّلات الأجنبية. وقد لا يتأتّى للشعوب المحكومة بالحديد والنار، والمهددة بالسجون والمنافي تقرير مصيرها، ولكن المملكة مع هذا تفضل احترام حقوق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها قدر المستطاع. والسياسة المتوازنة في المملكة تعارض استخدام القوة في حل القضايا، مهما كانت مستعصية. ولقد تبدت أفضال هذه الرؤية بعد احتلال (العراق) وتعرُّضه لفراغ دستوري. والمملكة عايشت تدخُّلات واحتلالات، وكان موقفها واضحاً. فاحتلال الكويت وأفغانستان والعراق شواهد على المواقف المتوازنة والذكية من قِبل المملكة. لقد حذّرت ونصحت وتحفّظت، ولكن لم يطع لها أمر، فكان ما كان. وسياسة الاعتدال والتوازن والدفع بالتي هي أحسن والتناجي بالبر والتقوى، تمثّلت في نجاح الدولة في تسوية النزاعات الحدودية مع جيرانها، لقد جنحت للسلم، وأعطت تنازلات معقولة ومقبولة، ومارست حقها بالهدوء والسكينة وطول النفس، وطرح عدة خيارات، كما مارست سياسة الخطوة خطوة، واستبعدت خطابات التشنج والتهييج، وإقحام الشعوب في الهتافات الغوغائية، وتفادت الحديات وللاءات، ولم تسمح لأيّ طرف التدخُّل في مشاكلها الحدودية مع جيرانها. وتمثَّلت سياسة طول النفس واللقاءات الثنائية، والاشتغال في الممكن، ورفع الملفات الساخنة. ومع رصدها لإيقاع التحوُّلات العالمية، فقد كانت استجابتها محكومة بالضوابط الشرعية، ومن ثم حاولت الانتقال إلى (المجتمع المدني) دون الوقوع في الممنوع، وتلك معادلة صعبة، لا يحسن تخطيها إلاّ أولو العقول الواعية والتجارب السديدة. فالتخطِّي إلى المجتمع المدني بمختلف صوره في زمن الخلطة المستحكمة والاندفاع الجامح، يحتاج إلى بصر وبصيرة، وحلم وأناة، ذلك أنّ التردُّد والاندفاع كليهما مؤذن بفساد كبير. والدولة بمختلف مؤسساتها استطاعت أن تحفظ التوازن، وأن تستدرك الأمر، وأن تأخذ من المتاح بأحسنه، ولهذا استطاعت أن تحقق متطلَّبات (المجتمع المدني) دون أن تفرِّط بشيء من ثوابت الدِّين، وفي إطار التحوُّل أعطت المرأة حقها في التعليم والعمل والتجارة، ولكنها لم تندفع، بحيث تمكنها من السّفور والتبرُّج والاختلاط والخلوة وممارسة الفن الهابط، ومفارقة مهماتها الأُسرية. ومع الخلاف القائم داخل البلاد حول هذه الحقوق، فقد حفظت التوازن، ولم تنصاع لأيّ من الطرفين، وظلّت ترصد لكلِّ الخطابات وتأخذ بأحسنها. وعلى مستوى القضية الأهم والأعقد والأخطر (القضية الفلسطينية) فقد واجهت المملكة تحدِّيات وتجاوزات وإحراجات، ولكنها تخطّت ذلك كلّه بالحكمة والروية، وكان لضلوع أمريكا في مساندة الكيان الصهيوني أثره الكبير في تحميل المملكة أثقل الأعباء. فأمريكا حليف قوي وصديق قديم مع المملكة، وليس من مصلحة الطرفين التفريط بتلك العلاقات التاريخية، بل ليس من مصلحة المنطقة العربية منازعة دولة كأمريكا، وأمريكا مع هذا منحازة إلى الكيان الصهيوني، وتلك معادلة صعبة لا يواجهها إلاّ الأشداء من الرجال. لهذا أصبح الخطاب السياسي في هذه القضية خطاباً حذراً ومعتدلاً، فلم يرض بالاعتراف، ولا بالتطبيع، ولا بالاتفاقات الثنائية مع الكيان الصهيوني، ولم يقع فيما وقع فيه غيره من الهرولة والاتفاقات المنفردة. وتلك من أصعب المواقف، فالدولة تواجه واقعاً عربياً يندفع إلى السلام دون ثمن، ودولةً كبرى يودُّ كلُّ رئيس فيها أن يسجِّل له التاريخ الحديث مبادرة إسرائيلية فلسطينية، كاتفاقية (كامب ديفيد)، ومع رفض المملكة قبول السلام بلا ثمن، فقد استطاعت أن تحتفظ بعلاقاتها الحذرة مع الولايات المتحدة، وأن تحتفظ في الوقت نفسه بالتزاماتها الإسلامية والعربية. لقد كانت مواقف المملكة من القضايا العربية قائمة على العدل وتبادل المصالح والدعم غير المحدود في الأزمات للأشقاء والأصدقاء، وليس أدلّ على ذلك من موقف المملكة من احتلال الكويت. أما موقفها من القضايا الإسلامية، فقد تمثَّل بالتواصل الإيجابي القائم على التعاون، وتقديم المساعدات، والدفاع عن حقوق الأقليات والتوسُّع في إقامة المراكز والمساجد والمنظمات، ولولا أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لكانت (أمريكا) برمّتها قاب قوسين أو أدنى من الدخول في الإسلام كافة. وعلى الرغم من ظروف الشك والارتياب من أي عمل إسلامي، فقد اضطلعت الدولة بمهمات جسام، تمثَّلت بالدفاع عن مجمل القضايا الإسلامية العادلة والمشروعة، ومساندة الحكومات والشعوب الإسلامية والأقليات والمنظمات والمراكز، أمام أيّ تعدّ يمسُّ كيانها أو سيادتها. وتلك المواقف الداعمة تجسَّدت منذ عهد الملك (فيصل) رحمه الله، الذي سعى لإنشاء منظمات إسلامية قوية، كرابطة العالم الإسلامي، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وبنك التنمية، ومنظمة الجامعات الإسلامية، ورابطة الأدب الإسلامي، وسائر المنظمات العالمية، هذه السياسة المتوازنة الحصيفة، جعلت المملكة في ذروة الاهتمام العالمي، وفي الوقت نفسه جعلتها مادة حديث للإثارة وكسب الأضواء، فكلُّ من تعجل الظهور قبل أوانه، تناولها من أيّ زاوية، مفترياً الكذب، وهو في قرارة نفسه يعرف الحقائق. تلك هي سياسة التوازن وتوازن السياسة، التي جعلت المملكة في السياق العالمي دولة استثنائية أحبها قوم، حتى جعلوها فوق هام السحب، وكرهها آخرون حتى تآمروا على قتل قادتها. ويقيني أنّ الطريق أمامها محفوف بالمخاطر، ولكن أرصدتها التجارية، وإمكانياتها النفطية، ومقدّساتها الإسلامية، وعراقتها السياسية قادرة على حمايتها متى أذن الله بذلك، وهو آذن إن شاء الله، فوعده الحق {... ... إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }(محمد: 7)، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: 41)، وخطبة التنصيب التي ألقاها الملك عبدالله، تنطوي على نصر الله وإقامة أوامره، وتلك بوادر النصر والتمكين.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:25 PM | #92 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..! (2-3)
د.حسن بن فهد الهويمل أحسب أن ما سبق نشره في (13 - 6 - 1426ه) توطئة لا بد منها، واستهلال لم يأتِ من فراغ، إذ هو مخاض رصد دقيق ومتابعة واعية لفلتات الألسنة حول الموقف من المبادئ والقيم الحضارية المهيمنة ك(الحداثة) و(الليبرالية) و(الاستغراب) وسائر المصطلحات الحاضر منها والباد. وكل المزايدات تتسم بالسخرية والتجهيل والتطاول والاستعداء من مبتدئين متذيلين، لا يفقهون شروط التعالق، ولا أدبيات الحوار، وهم لفيف من قراء وكتبة ما كنا نعرف إمكانياتهم ولا خلفياتهم الثقافية، ولا نعرف لهم قولاً محكماً في الشأن الفكري، ينفي عنهم جهل الذات، أو جهل الحال. ولسنا فيما نقول نحقر خطرهم، فالبعوضة تدمي مقلة الأسد، ولا نحقر ذواتهم، وقدوتنا فيمن طُلب منه إباحة الزنا، واتخاذ ذات أنواط، وما كان منه إلا التعليم، كما لا نود منهم الكف عن التساؤل، ولكننا نود منهم تساؤل المستعلم لا سؤال المستنكر، ليكون من المفيد تداول الآراء معهم. وحديثنا لن يمتد إلى سائر القضايا المثارة، ولن يوغل في التفاصيل، ولكنه محاولة ناصحة لإرشاد المزاحمين بالمناكب الغضة والأجنحة القصيرة. والدين النصيحة، وخشيتنا من أن تأخذهم العزة بالإثم. وتناولنا سيقتصر على بعض القضايا التي دأب الكتاب على ترديد القول فيها وعنها، إلى جانب ظواهر وقضايا ومذاهب، ليست من مفردات حضارتنا ك(العولمة) و(العلمنة) و(الليبرالية) و(الديموقراطية). ونفي المصطلح لا يعني نفي المقتضى الموافق لمقاصد الشريعة، وقد يمتد الحديث إلى قضايا اجتماعية وتربوية وغيرها. ف(الحداثة) بوصفها مفردة من تلك المفردات الفاقعة اللون، التي أدى التعالق معها إلى مزيد من التشرذم، حيث شغلت الأوساط الأدبية عن كل مفيد، وفرقت شمل الأدباء، وبخاصة بعد أن (أدلج) القول الإبداعي، وسيست القضايا، واجتالت المشاهد مذاهب مادية ووضعية، ليست من الإسلام في شيء. و(الحداثة) كما (الماركسية) من قبل، استأثرت بالمشهد الأدبي العربي ردحاً من الزمن، وقال فيها وعنها الأنصار والخصوم ما لا يتطلب المزيد. حتى لقد أصبحت من المعروف الذي لا يعرف، والذين أعادوها من كُتاب الشغب عبر رموزها أو عبر خصومها أو عبر مفاهيمها المتناقضة، أو عبر الكتب التي رصدت لمرحلة أصبحت في ذمة التاريخ لا يمتلكون التصور السليم عنها، وأن امتلكوه فإنهم لايتحرجون من لي ألسنتهم بالكذب. وحديثي عن (الحداثة) الموَّزع بين المقالات والمقابلات والتأليف والمحاضرات حديث رجل عاشها زمن الإقبال والإدبار، وعرف مالها وما عليها، وليس كما عابر السبيل، أو مثقف السماع، الذي لايجد حرجاً من التعالق مع كل طارئ. ولربما تكون (الحداثة) هي الوحيدة بعد (الماركسية) التي تحتل أكبر مساحة في مكتبتي: تنظيراً وتطبيقاً وإبداعاً، ولربما تكون الوحيدة التي عايشت أصحابها، وعشت معهم في (مصر) و(الشام) و(العراق)، فاكتشفت وجهها الآخر من خلال تصرفاتهم (البوهيمية) وممارساتهم (الوجودية)، حتى لقد رأيت البعض منهم يقلد في الأزياء والشعور و(الغليون) والحركات المتسمة بالفوضى، وكأني بهم مأخوذون بفرية العلاقة بين العبقرية والجنون، أو هكذا يتوهمون ويوهمون. وقولي فيها وعنها قول متابع لكل رموزها من غربيين ومستغربين منظرين ومبدعين مؤصلين وتبعيين، لا قول خب يخدعه الخب. والذين يتعمدون إثارة الزوابع باستدعاء المتحدثين عنها والمؤلفين فيها بأسلوب ساخر، وتشبع فارغ، لا مكان لهم ولا لطرائقهم في مشاهد الفكر والسياسة. وظنهم الذي أرداهم تصورهم أن السخرية بالمتصدين للغربنة بكل وجوهها سترديهم. و(الحداثة) التي ألهت بني جلدتنا عن كل مكرمة: ظاهرة فكرية وأدبية، بل هي ظاهرة حياة، وإذا سُلّم لها في جانب، فإنه من المستحيل التسليم لها في كل الجوانب، ولا يحق للمتعالقين أن يسفهوا من يتحفظ على تجاوزاتها: الفنية والفكرية والأخلاقية. ولو أن كل اختلاف يستدعي التسفيه والتجهيل والسخرية لفسدت مشاهد الفكر والأدب. والمعضل أن الذين يتحرشون ويحرشون، لا يلمون بشيء ذي بال عن المستجدات: الفكرية والأدبية والسياسية، ولا يعرفون أبسط مقاصدها، ف(الليبراليون) الذين تلقفوا الراية من (القوميين) بعد سقوطها ومن (الثوريين) بعد فشل الثورات وتعري أصحابها، لا يدرون ما الجذور (الأيديولوجية) لمناطهم. وإذا أراد الغواة تبني المنافحة العلمية عن (الحداثة الفكرية) ولا أحسبهم قادرين على ذلك، ولا أحسب السدنة المؤصلين لحداثتهم متفائلين بنصر مَنْ لايملك إلا الهتاف الغوغائي - فإنَّ على كل غاوٍ أن يحيي ليله، ويظمئ نهاره، ويمسح آلاف المقالات والدراسات والكتب المؤلفة والمترجمة: المنظرة والمبدعة والمطبقة. وأن يعرف الأنساق والسياقات والأجواء، فلا خير في كثير من النجوى المقوية. فالحداثة ليست من السهولة، بحيث يقال عمن تصدوا لها قولاً صحفياً أقرب إلى الإنشائية، وليست الإثارة الصحفية لقلب الطاولة على من عايشوها من المهد إلى اللحد. ومعاذ الله أن أكون غاضباً أو خائفاً، أو ساخراً بأحد، إذ ليس من المحامد أن ينهى أحد عن خلق ويأتي مثله، ولكنني لا أريد لمشاهدنا أن تكون مرتعاً للرجال الجوف الذين لايتوفرون على المعرفة ولا على مناهج البحث العلمي وآلياته. والمهمون المهابون من أهل الحل والعقد لن يختلط الشحم عندهم بالورم، لأنهم يتوفرون على كافة الإمكانيات، ويحسنون استخدام المجسات والمسابير، والوقوف على الحقائق طال الزمن أو قصر. وما نشاهده من إلحاح ولجاجة، ليس بإمكانه أن يلغي كل ما قاله الخبيرون بدخائل النفوس وجذور الظواهر، ولا أن يشكك بكل ما توصلت إليه بحوثهم وتحرياتهم. فأصحاب الفكر المتوازن أكبر منهم، وممن معهم من الذين يحسبون أن التعالق مع الحداثة على إطلاقه هو عين الصواب. وأدبُ الحداثة الفكرية، وأحب أن نضع تحت كلمة (فكرية) أكثر من خط، لأن هناك من يطلق الحداثة على التجديد، ومن يطلقها على المعاصرة، ثم لا يحسن التفريق بين التجديد والحداثة، حين يتحدث عن المنحرفين والساقطين، وإذ لا مجال للمغالطة في ظل توفر الوثائق الفاضحة التي يباركها المتعالقون، فإن من الكذب الصراح تضليل المتلقين بادعاء التجديد، وذلك من الالتفاف الغبي. والأهم من هذا وذاك أن الحداثة ليست رؤية أدبية وحسب، إنها ممارسة فعلية في علم الإدارة والاقتصاد والإعمار وسائر مستجدات الحياة. ونحن بتصدينا وتحدينا وصمودنا نعرف ماذا نعني ومن نواجه. ولقد قلنا إن الحداثة التي نواجهها هي (حداثة الفكر) وفق تصور الغرب الذي أنشأها، وليس وفق تصور المتعالقين معها من مثقفي السماع والتبعية. والأغرار غير الكرماء من الكتاب الذين يتصورونها مطلق التجديد، يجهلون أبسط المفاهيم. ونحن لا نتحدث عن هؤلاء، ولا نجد فيما يقولون قيمة معرفية، فما نحن إلا مجددون ومعاصرون، وتعلقنا بالتجديد لا مزيد عليه. وإذا أراد أحدٌ أن يتقحم سوحنا بهمز أو غمز أو تساؤل إنكاري، أو أن يجالدنا ويجاهدنا، فعليه أن يتصور رؤيتنا، وما نذهب إليه، وأن يعرف ما نحن عليه من مواقف متوازنة، وما نتوفر عليه من معرفة تاريخية وجذور فكرية للحداثة، سواء كانت كما أرادها أساطينها في الغرب، أو كما أرادها غيرهم من دعاة الاستغراب. ونحن هنا لا ندعي، ولا نزكي أنفسنا، وإنما نؤكد معرفتنا بالظاهرة وخبرتنا بها. فالحداثة عصارة أفكار ومذاهب وتيارات، وكل متحدث فيها أو عنها ، لا بد له من رصد دقيق لعقائد المفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع، ومتابعة متأنية لسائر المذاهب الغربية، إذ لم تكن الحداثة نزعة خالصة، لا علاقة لها بما سلف من مذاهب وتيارات. ومراحل تشكلها ومرجعياتها أكثر من أن تحصر. فهل ألَّم المتعالقون بما كتبه المفكرون والساسة عن (عصر التنوير) وما يعج به من أفكار متناقضة، بوصفه الحاضن الطبيعي للحداثة الفكرية المنحرفة؟ وهل تعرفوا على (السريالية) و(الدادية) و(الوجودية) بوصفها المذاهب العبثية المرهصة أو المزامنة للحداثة؟ لقد كان جديراً بمن يستعذبون السخرية بالمختلفين معهم أن يرصدوا لتاريخ (النهضة العربية) وتحولاتها وانكساراتها من مشارف (الحملة الفرنسية) إلى (الحملة الأمريكية) ثم ليرجعوا أبصارهم كرتين إلى (ثورة الأنفوميديا) و(بنية الثورات العلمية) وتحولات العالم من اليقين إلى الشك، ومن الإيمان إلى التمرد والثورة على الثورة، وما خلفته من أزمات وصدمات، أدت إلى ثورة العقل على ذاته. وكل تلك المخاضات وسعتها مشاهد الغرب، فالحداثة لا يمكن تصورها بمعزل عن سائر المذاهب الفلسفية والاجتماعية ومفاهيم الحرية. وتلقيها من متعالق لا يحسن التفريق بين (قرنين) من الزمان، تقاس المسافة بينهما بالسنة الضوئية مؤذن بتفاقم الأمية. وذلك ما نراه متدفقاً عبر أنهر الصحف. ولست بهذه المناصحة والمكاشفة خائفاً أترقب من فلتات الأقلام، فأقلامنا وألسنتنا لما تزل قوية متحفزة، ولديها الاستعداد لمنازلة جديدة، ف(الحداثة الفكرية) (حرب ضد الله) وإفساد متعمد للأخلاق، وجناية سافرة على سائر الفنون القولية، ومن أنكر ذلك فليأت ببرهانه، وما أقوله أحكام محكمة، لم أتقوه بها من عندي، ولا من عند علماء الإسلام، إنها مقولة أرباب الحداثة الذين يرونها مشروعهم ورهانهم الذي أنتجه العقل المنصف بالكونية والشمولية. ورموزها الفاعلون هم أهل الحل والعقد الذين يرجع إليهم في الإفتاء، وإذا سألنا غيرهم عن مفهوم الحداثة، فقد ظلمنا المشهد الأدبي. وما قلناه، وما نقوله عن الحداثة إن هو إلا قول أربابها وأساطينها، يطلقه المنظرون، وينفذه المبدعون. فهل المنافحون يرون مرجعيات أخرى؟. لقد استبعدنا من لايثقون بهم من علماء ومفكرين إسلاميين، أملاً في أن يكون شهودنا من أهلها. والذين يودون أن يستبرئوا لدينهم وعرضهم، ويكفوا الغيبة عن أنفسهم، وينجوا من مآزق المصطلحات والمذاهب والمبادئ والظواهر الملتبسة بعد ما هلك فيها من هلك، عليهم أن يستبينوا طرق الاستقامة، التي يدعو بالهداية إليها كل مسلم في صلاته، وليست سهلة ولا ميسورة، والشيطان يتهدد، ويتوعد عندما أغواه الله {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16)، ومن سولت له نفسه أن يخوض خضم الحداثة مع الخائضين فعليه أن يصيخ لخطابات قائمة وأخرى خاوية، وأن يرصد للتاريخ الفكري العربي والغربي وسائر التحولات ما جد منها وما اندثر، تمشياً مع مقولة (كانت): - (فلسفة العلم بدون تاريخ خواء وتاريخ العلم بدون فلسفة العلم عماء). فالعالم اليوم أصبح كما القرية الصغيرة، مختلط الأصوات ملتق الأمواج، وليس بين عذبه الفرات ولا ملحه الأجاج برزخ يحول بين بغي أحدهما على الآخر. ومن تقحم أمواج المعارف والمبادئ دون أن يحصن نفسه أصابه دخنها، بل أرداه وباؤها. وذلك ما نراه، وما نسمعه عن أناسي، كنا نعدهم من المفكرين المتمكنين فإذا هم رئيس في مهب الريح. ودعك من ناشئة خالية الوفاض، غرر بها مَنْ لا خلاق لهم، واستدرجوهم من حيث لا يعلمون لمواجهة المتحفظين على كل طارئ والمتعاملين معه بحذر شديد واحتياط أشد. ولو كانت المواجهة متكافئة، أو كانت علمية يتجاذب فيها الأطراف حقائق المعارف، لما كان في ذلك مشاحة، بل هو عين الصواب. وعلماء السلف اختلفوا فيما بينهم، وكانت لهم مذاهب، وكان للمذاهب أئمة، وكان للأئمة أتباع وأشياع، وكانت لكل مذهب أصوله وقواعده ومقدم مذهبه ومفردات إمامه، وما كان في ذلك من بأس. ومن تصور أن الحضارة الإسلامية لا تقبل الخلاف، ولا تحسن الحوار الحضاري، ومن ضرب الأمثال في ضيق عطنها ب(الحلاج) ومحنة (ابن حنبل) و(ابن رشد) فقد ضيق واسعاً، والتقط وقوعات مبتسرة من سياقها، وقد لاتكون بالضرورة معبرة عن نسق الحضارة الإسلامية وسياقها، ولو فعل مع حضارة الغرب فعله مع حضارته، لكانت الأضيق عطناً والأعنف تعنتاً. لقد أبدع المتعالقون المسرحيات الشعرية عن مأساة (الحلاج) بوصفه متحرراً، ونسوا إعدام (جيوفروي فاليه) عام 1574م عندما ألف كتابه (ذروة الصفاء الروحي) المنكرة لوجود الله، وتضييق الخناق على (جول بيدل) عندما رفض التثليث، وآمن بوحدة الإله، فلكل حضارة شواذها المغردون خارج السرب، وليس من العدل الابتسار، والتقاط وقوعات خارج سياقها، وقد تكون هناك مسايرة بلهاء في العمليات الإبداعية ف(مأساة الحلاج) تفكيك ل(جريمة قتل في كاتدرائية). والبائسون من المبهورين يقعدون من أساطين الحضارة الغربية مقاعد للسمع الأبله، ثم يعودون إلى أوباشهم، ليقولوا لهم إنا سمعنا ورأينا شيئاً عجباً، يستقبل أهله المادة، ويصنمون العقل، ويعبدون الشهوات. والمؤلم أن الكذب الأبله أعذب الحديث، وتكراره وتقليبه يؤهله ويصدقه، وذلك بعض ما يفعله المصابون بداء الاندهاش، المستهلكون باستجداء الآخر. والصدام حول المستجدات من السنن الكونية، ومن الظواهر الصحية، ولكن لكل خافقة سكون يستدعي المراجعة والمساءلة والنقد والتقويم. وليس بدعاً أن ينبري لأي حركة فكرية أو دينية أو سياسية أو أدبية من يحرض على إجهاضها، والمتعالقون على غير هدى هم الذين يستفظعون المواجهة، ويعدونها من ظواهر التخلف، وعندما اندلعت الثورة (البلشفية) في أواخر العقد الثاني من القرن العشرين، انشق عليها عدد كبير من الأدباء والمثقفين والمفكرين، واحتضنتهم (أوروبا)، وأصدروا مجلات وصحفاً وكتباً تندد بالثورة والثوار، واشتهر منهم عدد كبير، استطاعت شهرتهم أن تدخل بهم مشاهد العالمية، أمثال (ديمتري) و(بالمونت) و(بوتين). وفي العصر الحديث نسمع ونقرأ لمفكرين وعلماء وأدباء غربيين يعارضون السياسة الغربية والفكر الغربي أمثال (جارودي) و(تشومسكي) و(تانباسي هسو) ولم يستخف أحد بعقلياتهم، ولم ينالوا من مكانتهم، وإن ضويقوا، وطوردوا من قبل المخابرات العالمية. والمستفيض أن الاعتراض قائم، وليس مؤشر ضعف أو تخلف، كما يتصور الفارغون، وإذ يكون الحكم على الأشياء فرعاً عن تصورها فإن أوجب الواجبات على المزايدين أن يعيدوا تكوين ذهنياتهم وبناء عقولهم، ليستبينوا الرشد قبل فوات الأوان، فإذا ضعف التكوين واعوج البناء جاءت بصائر الأمة حُولاً، على حد قول شوقي: (وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة جاءت على يده البصائر حولا)
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:26 PM | #93 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مأزق التعالق ومزايدة الفارغين..!! ( 3 - 3)
د. حسن بن فهد الهويمل وطائفة من المتعالقين إساءتهم لحضارتهم ممتدة من الكهولة إلى أرذل العمر، وليست عارضة يرجى زوالها، وكل ما يشغلهم ترديد ما يقوله المستشرقون، حتى لكأن قولهم بضاعة ترد لأصحابها. والقراءة الاستشراقية المحايدة لمفردات الحضارة الإسلامية تتسم بالمادية والوضعية والأنسنة، أما المنحازة فمفتوحة على أسوأ الاحتمالات. ولم يكن أحد من مفكري العرب وعلمائه المستغربين من يركنون إلى مناهج حضارتهم وآلياتها وتصوراتها في قراءة المفردات الحضارية في الغرب. بمعنى أن تكون القراءة لمفردات الحضارة الغربية من خلال نظرية معرفية إسلامية. وإذ يمتلك الغرب حق القراءة لمفردات الحضارة الإسلامية من خلال نظرية معرفية غربية، قوامها العقل المحض والمادية الملحدة، فإن من حق العربي أن يماثل من سواه، ومن ساواك في نفسه فقد عدل. ومن المذلة أن نشاطر المستشرقين نظرية القراءة، وأن تكون المشاطرة ناتج اندهاش صبياني، بحيث تكون أولى الخطوات الانبهار، ثم الإعجاب، ثم التمثل، ثم الإنابة في قراءة الذات. ولقد أفرز الاحتكاك غير المتكافىء مع الحضارة الغربية خطاباً استغرابياً، تقول به طائفة من مفكري العرب ك(الجابري) و(جعيط) و(أركون) ومئات آخرون، تعرف منهم وتنكر، والمؤذي أن ينبري جهلة متعالمون يحرفون مفهومك للأشياء، كي يسوغوا لأنفسهم وصفك بالتخلف والتقليد والماضوية والتكلس، وما شئت من تلك الكلمات الجاهزة. وإشكالية الخطاب العربي، أن المتنفذين فيه فئتان: الرافضون للغرب على الإطلاق. والآخذون بعصمه على الإطلاق. ولا مكان للوسطيين الذين ينشدون الحق، ويزورون عما سواه، متمثلين قول الباري: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. والذي يريد أن يؤصل لمعلوماته ويحرر مسائله، ويعرف (الحداثة) من حيث هي فكر وإبداع، يجب عليه أن يقرأ (الفلسفة الحديثة) القائمة على المادية والعقلية، والنافية للغيبيات كلها، وتصور الفلسفة الحديثة يتطلب ثلاثة أشياء: أولاً: الرصد التاريخي للتحولات الفكرية في الغرب من خلال أساطين الفلسفة الذين يخلطون بين التأليه والإلحاد أمثال: (هوبز ت 1679م). و(هيوم ت 1776م) و(شوبنهاور ت 1788م) و(دارون ت 1882م) و(ماركس ت 1883م) ونيتشه (ت 1900) و(راسل ت 1970م) و(هايدجرت ت 1976م) و(سارتر ت 1905م). وبخاصة الأربعة (ماركس، دارون، فرويد، سارتر) فهم عمالقة الفكر الحديث الماثل للعيان من خلال لحن القول التبعي، ولن نستدعي فلاسفة العلم ولا جدل اللاهوتيين مع الطبيعيين. كما أننا لن نؤكد على الإلمام بظاهرة الإلحاد في الغرب عند أعلامها من أمثال (وليم جودوين ت 1836م) و(شلي ت 1822) و(ستيورات مل ت 1873)، وإن كانوا جميعا لهم أثرهم فيما يجد من ظواهر. ثانياً: الرصد التاريخي والفكري ل(الثورة الفرنسية) لكونها منطلق الحداثة ول(عصر التنوير) من حيث رؤيته لما وراء الطبيعة والمنطق والأخلاق، وكل متعلقات الحياة التي تداولها (جون لوك) وبخاصة (مقالته في العقل البشري) و(فولتير) وقد أجمل الحديث عن طائفة منهم (ايسايا بيرلين) في كتابه (عصر التنوير) ومن لم يستوعب مطارحات مفكري (عصر التنوير) و(الثورة الفرنسية) فلا مكان له في الحديث عن (الحداثة). ثالثاً: والباحث المحترم لنفسه ولقارئه من واجبه السيطرة على المصطلحات المتشعبة والمتقلبة عبر الحقب التاريخية، ومن أراد أن يسيطر على مصطلح (الحداثة) بوصفه مصطلحا مراوغاً، ويكبح جماحه، ويفهم الحداثة على وجهها، ويحمي نفسه من ضحك العارفين، لابد أن يعرف تحولات الأفكار والعقائد، بعد تحول السيطرة من الدين إلى العقل، ومن العقل إلى العلم، ومن العلم إلى الفوضى، و(الفوضوية) ظاهرة نسلت من (السريالية) و(الدادية) و(الوجودية)، وهي في الأصل (نظرية سياسية) ولكنها امتدت للأخلاق والاجتماع، ولقد أسس لهذه التحولات اكتشافات فلكية وعلمية وفكرية، دفعت العقل المفتوح على كل الاحتمالات إلى التمرد والدخول في متاهات الفوضى والإلحاد. وقد أجمل الحديث عن (إرهاصاتها) عباس محمود العقاد في كتابه (عقائد المفكرين في القرن العشرين) مثل تحولات (مركز الكون) في الفكر المعاصر، (وقوانين المادة) المتسيدة، ومذهب (التطور) عند من أرهصوا (لدارون) وعنده، وعند من تلقوا الفكرة من يده دون وعي بجذورها ومناحيها، ولما تزل نظرية فرضية مدحوضة من العقل التجريبي، وسواء عولت على المادة والإلحاد، أو لم تعول، فهي الأكثر صخباً والأفشل نظرياً. ولأن (الحداثة) تشكل قواسم مشتركة لا قاسماً واحداً بين العلماء والادباء والفلاسفة، فلابد والحالة تلك من أن يلم الداخل في مآزقها بعقائد أولئك كل على حدة والذين يقاربون الحضارة الغربية وبالذات الأوروبية، لأنها تشكل المنطلق، ثم لا يحررون مسائل العقيدة في الغرب، وما يعكسه الخواء الفكري الذي استمرأ الإنكار المطلق لكل ما هو سائد بوصفه جزءاً من الانقطاع المعرفي الذي ربك المبتدئين، مثل هؤلاء يمارسون وجودهم كما (الأطرش في الزفة).. وعندما اقرأ لمثل أولئك رداً أو تساؤلاً أحس بالخجل والألم، الخجل من جهلهم، والألم من تغريرهم بالمبتدئين، ثم أنفجر بالضحك، وشر البلية ما يضحك. فالحداثة مخاض (ايديولوجيات) متشابكة، وأوروبا مرت بحالة زلزلة فكرية، صدعت كل شيء أتت عليه، وذلك بسبب تعارض الأصول العلمية مع الأصول الإيمانية المحرفة، وخلوصا من هذه الدوامة تلمَّس البعض نجاته المتوهمة بالرفض والإنكار أو التخلي، وصياغة معتقد وضعي يصنعه العقل وتباركه العاطفة والصائرون إلى الإنكار المطلق لا يجدون حرجاً في إنكارهم، ذلك أنه هروب من المساءلة والتحرير والتأصيل، والمنكرون للغيبيات استدبروا الأشياء والأفكار معاً، واشتغلوا في صناعة وجود على قدر عقولهم، لا يجدون فيه مشقة ولا عناء، والفلسفة الأوروبية قامت في معظم أمرها على النفي والإنكار، وعولت على عالم الشهادة، ولكن الثورات العلمية المتلاحقة نزعت من أيديهم كل شيء حتى المادة، فكانت فلسفة العلم، الأمر الذي أدخل النظريات في دوامة التناقض وتناسل القيم والمبادئ والمذاهب المرتجلة، وما (الحداثة) إلا شظية من شظايا فلك خرج عن مداره، والمبهورون الذين حولوا انبهارهم إلى ابتهاج بحضارة الغرب الفكرية لا الشيئية، يرون ذلك ناتج العقل والعبقرية، وما هو كذلك، فالمنكرون والنفاة يتخلصون من الأشياء، ولا يتخلصون من الأفكار السابقة، إذ ما من مذهب إلا وهو خليط من مذاهب شتى. وذلك الذي دعانا إلى لفت نظر الشداة المهرولين وراء سرابيات الحداثة، لإعادة النبش في أجداثها، ولقد نهيت عن نبش الحداثة، وإن رم جرحها على فساد، ذلك أن الوقت غير مناسب، والمتلاسنون لا تبلغ المعرفة تراقيهم، ولاسيما أن الفكر الغربي ك: (ملاعب جنة لو سار فيها ... سليمان لسار بترجمان) إن لكل مفكر غربي وجدانه ومنهجه وآلياته ومعتقده، وخلفياته المعرفية والثقافية، وهو مرتهن بهذه الخلفيات والأنساق. ولذلك الوجدان بشقيه (الخالص) و(العملي) إن صح هذا التوقع على شاكلة (إمانويل كانت) في نزعته النقدية للعقل البشري منطلقات علمية أو (ميتافيزيقية) توجه مساره ولهذا قال (جيمس استيفن) في نهاية القرن التاسع عشر، وهو يحيل إلى العلم بوصفه الحل الامثل للمعضل الكوني: (إذا كانت الحياة الإنسانية في نشأتها قد استوفى العلم وصفها، فلست أرى بعد ذلك مادة باقية للدين، إذ ما هي فائدته، وما هي الحاجة إليه، إننا نستطيع أن نسلك سبيلنا بغيره)، وهذا الصوت النشز ليس هو المسيطر الوحيد على الفكر الغربي، إذ هناك من الف بين قوانين العلم والعقيدة اللاهوتية، نجد ذلك عند (ماثيو) في كتابه (مقالات في البناء)، وآخرون فرقوا، ومنهم من تردد بين الإيمان والإلحاد، وحتى المذهب الواحد يتبناه ملحدون ومؤمنون على الطريقة النصرانية، نجد ذلك عند مفكري (الماركسية) و(الداروينية). لقد نشأ الصدام بين العلم والإيمان، وهو صدام، مفتعل، إذ لكل تفكير وجهته، ولا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول. كما يقول (ابن تيمية)، والمنعتقون من شرنقة الانبهار المردي، اكتشفوا الجفوة المفتعلة بين الدين والعلم، وهي جفوة أطلقها الماكرون صدقها المغفلون. وكل متحسس لنبض (الحداثة) في نشأتها الأولى ومنشئها، لا يملك القدرة على الرصد الدقيق لتحولاتها واتجاهاتها، إلا إذا تقصى الاسباب والعلل التي هزت الثوابت، واكتسحت السوائد، ونفت المسلمات، وهي أسباب نسلت من جرأة العلماء والمفكرين والفلاسفة على تلاحق المساءلة. فالمذاهب المادية ألهت المادة، وأسقطت التصديق والقداسة والاعتقاد، ونظرية (دارون) التي منحت من المصداقية ما لم تمنحه أي نظرية، صادمت الأخبار الصادقة،. ولما فعلت فعلها في الفكر الإنساني، سقطت كأسخف نظرية، وأكذب فرية، ولكن آثارها باقية في أذهان الكهفيين، واختراق المفكرين لأصول الديانات وتجميعها وتقديمها للمتلقي الإنساني الخالي الوفاض أدى إلى الميل إلى أنسنة الديانات، والتعامل معها بوصفها جهداً بشرياً. ولقد تولى كبر (الأنسنة) في الفكر العربي (محمد أركون) وإن تناوله من خلال التراث الأدبي ومن زوايا مغايرة، وذلك في كتابيه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) و(معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) ومن بعده (نصر حامد أبوزيد)، الذي أنسن الذكر الحكيم بمجرد تلبسه باللغة. وظهور مذاهب مسيسة لعبت دوراً إكراهياً ك(الماركسية). أما الجانب الأخلاقي فتصدرته مناهج (علم النفس) و(علم الاجتماع) والتوت به إلى الفلسفة الأخلاقية التي اتخذها (الجابري) مناطاً لنقده للعقل العربي، وقد تناول ذلك في كتابه الرابع والأخير لمشروعه النقدي الذي قلد فيه (أمانويل كانت) حذو النعل بالنعل، كل ذلك يشكل جذوراً للحداثة المراوغة. والحداثة التي يتجاذبها الجذر العربي والمقتضى المصطلحي ستظل مزلة أقدام ومضلة أفهام، وهي بهذه المراوغة الدلالية كنافقاء اليرابيع، كل من حوصر فيها نفذ بجلده مدعياً أنه يعني التجديد، وتسيد الجهلة والمبتدئين للمشاهد الإعلامية والأدبية سيزيد الموقف التباساً والتياثاً. ولو طلبنا الشواهد الدامغة من مشاهدنا العربية لضربنا الأمثال ب(أدونيس) وفي مكتبتي أكثر من خمسين كتاباً له وعنه، هذا فضلا عمن تعرض له مدحاً أو قدحاً في عشرات الكتب. و(أدونيس) من أساطين الحداثة، وممن يعول عليه كل الحداثيين، هذا الإنسان يقول الكفر البواح والإلحاد الواضح والعهر الفاحش. ومن لديه أدنى شك في ذلك، فليرجع إلى كتبه (الثابت والمتحول) و(الصوفية والسريالية) إضافة إلى أعماله الإبداعية، ومن بعده أو معه يأتي (يوسف الخال) و(أنسي الحاج) و(نزار قباني) و(معين بسيسو)، بوصفهم مبدعين مثلوا القدوة السيئة لمن جاء بعدهم من عشاق الإثارة والأضواء. أما على مستوى الإبداع السردي فحدث ولا حرج، فالروايات التي تنضح كفراً وعهراً تكاد تسود المشاهد، ويتقبلها الخليون بقبول حسن، وقد لا يجدون حرجاً من الدفاع عنها وعن أصحابه. ولك أن تتذكر (وليمة لأعشاب البحر) و(مسافة في عقل رجل) و(الخبز الحافي) و(أولاد حارتنا)، لتقف على تجاوزات لا يقبل بها العربي الجاهلي فضلاً عن العربي المسلم، ألم يقل عنترة بن شداد: أغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مخباها وكيف لا يحفل الشعر الجاهلي بالقيم الأخلاقية والرسول صلى الله عليه وسلم بعث ليتمم مكارم الأخلاق، ولقد استوفى الأخلاقيات في الشعر الجاهلي الدكتور (زهدي الخواجا) في كتابه (الجانب الخلقي في الشعر الجاهلي). إن الحديث عن الحداثة وعن أنصارها وخصومها يتطلب الامتلاء المعرفي من فيوض المشاهد الغربية والعربية، ومن لم يتمكن من ذلك فعليه أن يلحق بمدارس محو الأمية، لا أن يتصدر منابر الثقافة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:27 PM | #94 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ليت شعري هذه السياحة لمن..؟
د. حسن بن فهد الهويمل في كل عام تغص المطارات، وتنوس المحطات، وتشتعل المنافذ، وتُستنفر القوى البشرية، لفك الاختناقات، وتسهيل العبور إلى آفاق المعمورة.. وما أحد أخذ أولئك المتدافعين بالنواصي والأقدام، وإنما هو خيار شخصي محض، والمتدافعون لا تجد فيهم المثني ولا المعذر لعقابيل السياحة ومتاعبها.. وعجائب السياحة لا تنتهي، فالسائحون في كل زمان ومكان، لا ينفكون منها، ولا ينفكون من ذمها، والشكاية منها.. ولقد شكا (المتنبي) وهو في (شعب بوَّان) من المبارحة، واشتكى من ملاعبها، فكان قدوة لمن خلف.. والاختلاف حول الظواهر والقضايا والأناسي ظاهرة صحية، ومؤشر إيجابي، متى أخذت الأمور بحقها.. وهذا التباين في المواقف والآراء لمح من خلاله رائد العبقريات مؤشرات العبقرية، فما اختلف الناس حول شيء إلا كان له شأنه الذي لا يُستهان به.. وما من عبقري إلا وللناس فيه مذاهب شتى، يرفعه قوم، حتى لا يعلوه مخلوق، ويهبط به آخرون، حتى لا يكون دونه مخلوق. والأشياء كالأناسي، فما من مؤسسة أو هيئة أو مسؤول إلا ولهم مستنهضون ومثبطون، مستفيدون ومتضررون. وليست العبرة بالفيض العاطفي، ولا بمجازفة المدح أو فاحش الهجاء، وإنما هي في الأداء المسدد والحضور الفاعل، والتصور السليم.. ولقد كان لي تناوش قبل عام مع هيئة السياحة، أحسبه مهذباً ومتوازناً، ومن نتائجه تقوية الروابط مع أربابها، ولم أكن يومها مادحاً، ولا قادحاً، بل كنت ناقداً يعيب نقص القادرين على التمام، ولا يطلب المستحيل، ولا ينكر الجميل. وحين يحلو للكاتب أن يتحدث عن عوائق السياحة ومشاكلها، فليس ذلك بالضرورة منصباً في أوعية المسؤولين دون غيرهم.. وإذ تكون الهيئة أو المنطقة طرفاً في كل متعلقات السياحة فإنهما لن تكونا مسؤولتين عن كل تلك المتعلقات.. وحين تكون الهيئة أو غيرها طرفاً، ثم لا تكون سبباً رئيساً فإن من أولويات مسؤولياتها أن تنقّب في المعوقات، وأن تلتمس الحلول، لا أن تبحث عن المعاذير، ولا أن تشجع المعذرين.. وحين تبدو المعوقات ماثلة للعيان، أو مهداة لها من الكتاب، ثم لا تكشف عن ساقها، وتركض برجلها، لتلافي أي معوق، يتحوّل التساؤل إلى مساءلة، والتذكير إلى نكير. وتجربتي مع صاحب السمو الملكي الأمير (سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز) ومن معه من صفوة العاملين مغرية بمزيد من المطالبات الطموحة، حيث استقبلوا ما سلف من نقد برحابة صدر، وأبدوا ما لديهم من مشاريع منفذة وأخرى تقرب التنفيذ.. وما استأت من شيء استيائي من تصريحات متذمرة، تشكو العوائق، وتضيق بالواقع الذي لا يبارك الخطوات التطويرية.. ولست أشك أن السياحة حمالة أوجه، وهي بحاجة إلى مزيد من التحديد والمكاشفة والعناية والدعم: الحسي والمعنوي، فالناس أعداء لما جهلوا، وفوضى السياحة فيمن حولنا مدعاة إلى مزيد من التساؤل، ومن عرف السياحة معرفتي بها خاف مما لا يخاف منه، وهي كما قضايا المرأة محفوفة بالشبهات. وإذ تواجه مشاريع السياحة بعض المعوقات، فإن ذلك مؤذن بمزيد من التفكير والتقدير والتدبير، فالتحفظ حق مشروع لكل مواطن، وواجب المسؤول أن يستمع وهو شهيد لكل تساؤل أو تحفظ، فإن كان ما يُثار مشروعاً، وجب تقبُّله بقبول حسن، وإن لم يكن مشروعاً، وجب دفعه بالتي هي أحسن.. وحين يتخوّف (الرأي العام) من المبادرات، أو حين يبدي تحفظه على التصريحات فإن على المسؤول أن يصيخ، وأن يتصرف بطريقة تبعث على الثقة والاطمئنان، ف(الرأي العام) ظاهرة طبيعية، لا يجوز تجاهلها، وكل الوسائل الإعلامية والتربوية والدعوية بحاجة إلى إتقان سياسته، وتحويله من المواجهة إلى المعاضدة، و(الرأي العام) المتشايل أو المتسائل لا يعد من جماعات الضغط المتربصة. وأي مجتمع مدني لا يخلو من جماعات ضغط وأحدية الرؤية، ورأي عام متعدد الرؤى والتصورات، ومثلما أن أي تجمع إنساني يتمخَّض عن سلطات متعددة: حميدة أو سيئة، فإن ذات التجمع حين يرقى إلى مستوى المدنية يتمخَّض عن جماعات ضغط وعن رأي عام حميدين أو سيئين، متأصلين أو عارضين.. وحق (الرأي العام) الملاطفة والتطمين، أما جماعة الضغط فشيء آخر.. ولكل ظاهرة آليات مواجهتها وتفكيكها.. وحين يفرز المجتمع مثل هذا النوع من الجماعات، ثم تجرؤ على تهييج (الرأي العام) تكون المواجهة أكثر تعقيداً.. وبلادنا والحمد لله لم تبلغ فيها جماعات الضغط ولا معارضة الرأي العام حد الظاهرة، وما يبدو من تساؤل أو تحفظ إن هو إلا ظاهرة طبيعية.. والموقف المتحفظ أو المتردد من المستجدات ليس حكراً على السياحة، فكل قطاع يشكو التساؤل والتأويل المخالف، وما نقوله عن السياحة إن هو إلا من باب ضرب الأمثال. ولما كانت الدولة تتجه صوب المأسسة، ولما كانت كل مؤسسة قادرة على ممارسة مهماتها وفق مقتضيات المصلحة العامة، فإن عليها معالجة قضاياها بالحلم والأناة، والذين يظنون أن حياتهم العملية ستمر كما السمن على العسل يجهلون سنّة الله في خلقه، وهي سنّة الاختلاف (ولهذا خلقهم).. فالاختلاف والصراع إكسير الحياة، ولا حياة بدون اختلاف، بل لا لذة ولا قيمة للحياة بدون صراع إيجابي. المهم ألا تصل طوائف الأمة وأطيافها إلى حد الصدام المؤدي إلى الفرقة والتّربص.. والمتابع للتاريخ الاجتماعي، وبخاصة ما تمَّ رصده عن (الرأي العام) يقف على محطات متوترة، ولقد وقفت على دراسات اجتماعية عن أحوال العامة ومواقفهم في العصور الذهبية لصدر الإسلام، وبالذات في الحواضر الإسلامية ك(بغداد) و(القاهرة) في العصر العباسي والفاطمي، فوجدت ما يُضحك ويُبكي في آن، وكم عنَّ لي أن أرصد تململ الرأي العام في التاريخ الحديث وأثره على مشاريع الدول ومبادراتها، وتراجع بعضها في بعض الأحوال أو تعديلها لبعض المبادرات.. والهدف من ذلك تسليط الضوء على أساليب المعالجة الحكيمة للمعارضات الإيجابية، وإثبات أن للرأي العام كلمته التي قد تعلو على كلمة السلطة الشرعية، وذلك مؤشر على أهلية (الفكر السياسي الإسلامي) وقدرته على مواجهة النوازل ومسايرة النظم السياسية الحديثة.. و(الرأي العام) عرف بمفهومه الحديث مع (الثورة الفرنسية)، لكنه بوصفه ظاهرة من ظواهر التجمع الإنساني يرجع إلى عهود تاريخية سحيقة، ولقد تمَّت رعاية مشاعره في الإسلام، بل روعي على يد رسول الرحمة. أحسب أن هذه التداعيات شطت بي عن صلب الموضوع، وهي وإن كانت تداعيات مرتبطة بالحدث والحديث إلا أنها مأخوذة بالاستطرادات (الجاحظية) المحببة إلى نفسي، وعوداً إلى متن الحديث، أقول: إن الناس في كل مكان يشكون من السياحة، بل أكاد أجزم أن سوادهم الأعظم لم يفهمها على وجهها. ومصطلح (السياحة) كأي مصطلح حديث تتشعب به المفاهيم، حتى لا يكون جامعاً مانعاً.. وهو في (النص التشريعي) يعني الصيام وجذره اللغوي: الذهاب في الأرض، وهو كافٍ لتحمل المتعلقات الحديثة، وللغويين تأويلات بعيدة المناط حول ذلك.. والشايع في كتاباتنا الإصلاحية جعل المؤسسة والمسؤولين فيها المصدر والمورد، فهم وحدهم المقصرون والمسؤولون، وما من كاتب عدت عينه إلى الواقع وما يعج به من عواتق، فالمقدمات الخاطئة تؤدي في النهاية إلى نتائج خاطئة. نعم هناك تقصير من المؤسسات ومن المسؤولين القائمين عليها، فهم في النهاية بشر عاملون، والعصمة للرسل وحدهم، لكن دعونا نتجاوز المسؤولين، ولو إلى حين، لنوقظ واقعنا المخدر بالتزكية والمثالية والادعاء العريض، ونقف به على تقصيره أو تثبيطه، والوقوف الشحيح معه سيكشف عن أكثر العقبات تعقيداً. ومن نماذج المعوقات: تفاوت الآراء حول مشروعية (الترويح) بوصفه من أهم مفردات السياحة.. وللتذكير فقد تناولت هذا الموضوع وتأزمه بين الإفراط والتفريط في محاضرة سلفت، مع أنه ضرورة خارج إطار السياحة، ولا سيما بعد الغزو المحموم عبر القنوات والمواقع وثورة الاتصالات، وسوف تأخذ المحاضرة طريقها إلى النشر بعد تنقيحها.. ومجمل القول: إننا لسنا مع الانفتاح المخل بالحشمة، ولا مع الورع المفوّت للزينة واللهو البريء الذي يعجب الأنصار. ولست أشك أن من المعوقات - وهي في نظري من المسلمات - ضعف التأهيل: الطبيعي والبشري، ونقص الاستعداد للتوفر على أجواء سياحية مغرية، وبخاصة في العنصر البشري، وإذ لا نفكر في تهيئة الكوادر البشرية في المنظور القريب فإن علينا أن نبادر في إنجاز ما يمكن إنجازه من الخدمات الأخرى، فالمساكن والمتنزهات والخدمات والمواصلات والأسعار والتسهيلات والعلاقات دون المستوى المطلوب، وإذ يكون لدينا ثلاث مناطق سياحية مهمة فإنها متفاوتة في الإمكانات: الطبيعية والصناعية. ف(أبها) تقدم قومها في الأجواء والدعاية وشيء من الاستعداد، وإن لم تزل دون المؤمل، أما ما سواها فمشيها وئيد، وقد يوصف بالتوقف.. ولأن البلاد تعتمد على الاستيراد والعمالة، فإن عوائد السياحة مدخولة، لكن النظر فيما تستنزفه السياحة الخارجية من المواطن مدعاة للتحرف السليم، وبين هذا وذاك ترتفع نبرة الاختلاف حول الضرورة والترف السياحي. وما تمارسه بعض المناطق من إعداد مكثف للبرامج الترويحية، يمتلك جذب المواطن، ولا يغري السائح الغريب، وهو عمل صاخب لا يتم إلا بالإنفاق الباذخ والجهد الجهيد، وليس هناك توازن بين الإنفاق والعائد، وليس في مجمله تأصيل للسياحة، وإذ أكون سائحاً بطبعي، ومنوعاً للسياحة في الزمان والمكان والراحلة والرفقة فقد خبرتها حتى لكأني (بنو لهب) أو (حذام). وفي كل عام أحاول نفض وضر العمل ومعاناة الرتابة بالفرار إلى منتجع سياحي داخلي أو خارجي، وقد أجمع بين الشتيتين، متى اختلفت آراء العائلة، فتكون الرحلة داخلية خاطفة، أنفذ بعدها بجلدي إلى رحلة خارجية، ولقد كانت رحلة العام المنصرم في منتجع (بلودان) أكثر إيجابية ومتعة، ومن فوائدها التّفرغ لقراءة فكر (عبد الله القصيمي) والخروج بملاحظات خاطفة تمثَّلت بمقالات (تداعيات قراءة دمشقية).. ولقد هممت أن أعيد الكرة في مصر، فاختار مفكراً مثيراً مثل (العشماوي) أو (فودة) أو (أبو زيد) لكن (القاهرة) و(الإسكندرية) كانتا محطة عبور إلى منتجع (مارينا) قرب (العلمين)، ولقد وجدت مكتبات صغيرة منتشرة في المنتجع الممتد على طول عشرة أكيال أو تزيد على الساحل الجميل بزرقة مائه، وصفاء هوائه، وخفة سكانه، وتقارب مدنه السياحية ومنتجعاته. ومنتجع (مارينا) الذي أنفقت فيه الشركات المحلية والعالمية المليارات من الدولارات، حتى فاق نظائره، ك(درة العروس) ينقصه الشيء الكثير، وينقص نزيله الشيء الأكثر، وهو منتجع ممتد عامر بالقصور والبحيرات الصناعية والأسواق والمطاعم والملاعب، وسوحه وأسواقه وبحيراته وشواطئه أشبه بملاعب الجِنَّة في (شعب بوَّان)، والمنصرف إليه والمنصرف منه كما وقع السهام ونزعهن أليم. وإشكالية السياحة الخارجية أنها محكومة بما لا يقبل به كل سائح من صخب سخيف يعده ذووه من الفن الرفيع، وما هو إلا العبث الوضيع، ومن تبرج وقح من فتيات عربيات وأعجميات كاسيات عاريات يعدونه من المدنية والتّحضر وحرية الممارسة الشخصية، وما هو إلا عين العهر والتفسخ.. والجميل في ذلك المنتجع الحديث أنه يتداخل مع مدينة (العلمين)، وهذه المدينة الصغيرة تتمطى على صفحات التاريخ الحديث، يعرفها كل من له أدنى إلمام بأحداث الحرب العالمية الثانية. ففي عام 1942م تقدمت القوات الألمانية من (طبرق) ب(ليبيا) حتى مدينة (العلمين) في زحفها المدنس نحو الإسكندرية، وبعد عام من الزحف المشؤوم هزمت القوات البريطانية الألمان في معركتين رئيستين، عند تلك المدينة الصحراوية، ومنعت الألمان من غزو مصر.. ولقد ظلت المدينة الصغيرة الصحراوية البدوية تحتفظ بأشياء كثيرة، ولم يلحقها بالمدينة إلا ما اكتشف فيها من (بترول) ومن ذلك السيل الجرار من السياح العرب والغربيين الذين يقرؤون على صفحات الصحراء جنون الحرب وعنفوان التسلط، لقد أكلت الصحراء آلاف الجنود الغربيين وطمرتهم تحت سوافيها، ولم تزل صحراء العلمين تحدث الناس عن جنون الإنسان وتسلطه. مررت بهذه المدينة الصغيرة، ووقفت حول مواقعها التاريخية (وقوف شحيح ضاع في التراب خاتمه)، وتأملت أحياءها وأسواقها ومنعطفاتها، وعدت بالذاكرة إلى تلك الساعات العصيبة التي عاشتها تحت سنابك الخيل ومجنزرات الراجمات والدبابات وعجلات المدافع وآلاف المجندين من ألمان متغطرسين وبريطانيين ماكرين، وما حقق المعتدون من تلاحم جيوشهم إلا الخسار والبوار. وتأكد لي أن الآيات والنذر لا تغني عن قوم لا يؤمنون، فالمتغطرسون يعيدون الحرب جذعة، وشبابهم تزهق أنفسهم بعيداً عن ديارهم.. وقراءة المواجهات الشرسة في (العلمين) بين الألمان والبريطانيين ليست بأسوأ حال مما يجري في بقاع كثيرة من العالم: وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا وما هو عنها بالحديث المرجم لقد جنت الحروب على موقديها وعلى وقودها من الناس والأشياء ويلات وعذابات، وستترك آثاراً سيئة على المدى الطويل، وكل من خرج خاسراً لا يفكر بالخسارة، وإنما يخطط لجولة أكثر خسارة، ويكفي شاهداً عدلاً على ويلات الحروب ما نشاهده في (عراقنا) الجريح، الذي يفقد ذاكرته وعروبته ووحدته، وليس بمقدور أحد أن يعيد له بعض ما فقد.. وستظل السياحة مشروع تساؤل ومضمار لزز لكل من أنفق فيها جهده وماله ووقته، ثم لم يعد بموعظة أو بمعلومة، ولما كانت السياحة سفراً فإنها تسفر عن وجوه الرجال وعما هم عليه من أخلاقيات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:27 PM | #95 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
كتبة تحت الطلب..!
د. حسن بن فهد الهويمل في إحدى العواصم العربية، ونحن على مشارف النهاية من مؤتمر ثقافي تختلط فيه السياحة بالمهمة، أو تأتي في أعقابه لتمسح أتعابه، عنَّ لي أنا ورفيقي الذي سبقني بالسفر، وسيتخلّف عني بالعودة أن نقلب أوضاعنا المألوفة رأساً على عقب، فالسائح في أخريات أيامه يشغله ترتيب متطلّبات العودة، وتؤلمه مخاضات المغادرة، وتربكه مشاكل تصفية الحسابات مع المتعاملين، وتطييب خاطر المرافقين. وفيما سبق من زيارات عمل وسياحة امتدت على مدى ثلاثين سنة، أُتيحت لنا فرص ذرعنا فيها كلّ الطرق، ومشطنا كلّ الزوايا، وزرنا كلّ المتاحف والمكتبات والآثار، ولم تخف علينا خافية لها مساس بالسياحة، الأمر الذي حفزنا على استدعاء السائق، وسؤاله عما لم تطأه قدم سائح، وأمام هذه المفاجأة تلبث ملياً، يحك صدغه، ويجيل نظره، ويقضم أظافره. وبعد تردُّد وجل، قال: تلك مفاجأة لم أفكر فيها من قبل، وتضاحكنا من ارتباكه، وقلنا له: دعها مفاجأة من عندك، ونحن طوع بنانك. خرجنا من عامر المدينة، والتوت بنا أزقّة ترابية مليئة بالحيوانات الأليفة والأطفال المتربيين، وفجأة وقف بنا على مشارف طريق ترابي ضيق، لا تعبره إلاّ الدواب والكلاب، وما ان طلب منا الترجُّل، انتابنا الخوف، فالطريق خال معتم وفيه التواء ووحشة، والمباني تكاد تتعانق في السماء، لتزيد من الوحشة. لقد أحسسنا أنّنا دخلنا في دوامة الإرهاب أو ترويج الممنوعات، ونظرنا إلى بعضنا بارتياب، وفكرنا في أمر السائق، ربما يكون من أصحاب السوابق، لكنّنا نعرفه من قبل، كان أسبقنا إلى الصلاة، وكان أميناً، لم نعهد عليه خيانة قط. ولما اثَّاقلنا إلى المقعد الخلفي، ألحّ بالنزول، فلم نجد بداً من حزم أمرنا، والتوكُّل على الله، وتفويض أمرنا إليه، خرجنا من السيارة في خوف وترقُّب، وأحسسنا أنّ التعثُّر يعتري أقدامنا وألسنتنا، وقلنا بصوت متلعثم: - إلى أين يا عوضين؟ - إلى مكان لم تطأه قدم سائح. - وهل فكرت وقدّرت، نحن نخاف على سمعتنا، وعلى حياتنا، ولا نريد أن نُرى في مكان لا يليق بنا. - ما عليكما، فأنا أعرف من تكونان. ومشيناها خطى وئيدة، كأنّنا نحمل جندلاً أو حديداً، أو كأنّنا أسد (المتنبي) في وطئه للثرى، نحسب كلّ صيحة علينا، ونتنصّت تنصُّت المخبر. وفجأة هبّ لاستقبالنا أكثر من سمسار، كان في مقدمتهم رجل حليق الذقن، طويل الشارب، جاحظ العينين، حافي القدمين، حاسر الرأس، مهلهل الثياب، أسمر اللون، أغبر أشعث، نسل من باب ضيق. وقال: وبدون أيّ مقدمات: - فرح أم ترح؟ - قلنا بصوت مشترك: سل صاحبنا. - وانطلق السمسار إليه، وهو يردِّد: فرح أم مأتم. قال: لا هذا ولا ذاك. - إذاً ماذا تريدون. - مجرّد التعرُّف على (الوليَّات). وساعتها ضرب كفاً بكف، مفتعلاً الضحك الصاخب، وقال: الفرجة في السرادقات يا (باشوات)، هنا مجموعة من العجائز والأرامل والعوانس، ينتظرن من يحملهن إلى سرادقات التعازي، أو إلى مخيمات الأفراح بثمن بخس، يرد عنهن غوائل الجوع والفاقة. - قال السائق: نحن نريد أن نتعرَّف على هذه المهن، وأن نقابل بعض العجائز، وسوف نُكْرم الجميع. صاح السمسار بصوت يعرفه كلُّ من في الشارع إلاّ أنا وصاحبي، وهبّت العجائز والأرامل والعوانس من كهوفهن، كما الأسمال التي تعصف بها الرياح، وأشار بيده إلى من تجمّع منهن، فبدأ العويل والنحيب وشد الشعر، وتمزيق الملابس، وحثو التراب على الرؤوس. وكدنا نصدق أنّنا أمام كارثة لا تبقي ولا تذر، وما أن تألمت نفوسنا، وضاقت صدورنا، واغرورقت عيوننا، ضرب كفاً بكف، فانقلب النواح إلى ترنُّم، والعويل إلى غناء والنحيب إلى مكاء وتصدية ومواويل، والتلوِّي إلى تمايل، والارتعاش إلى زفن وهز أرداف، فانتابنا الابتهاج والسرور، ولم نتردّد في تكريم كلِّ من حضر. وعدنا، وقد أخذنا العجب من قدرة النسوة المحترفات على الخلط بين نوح الباكي، وترنُّم الشادي في لحظة واحدة، وكأنّهن (المعري) الذي لا يُجدي عنده هذا ولا ذاك في رثائيته الخالدة: غير مجد في ملّتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شادي وشبيه صوت النعيِّ إذا قيس بصوت البشير في كل ناد هذه الشريحة التي تحصل على قوتها من الفعل ونقيضه، تتحرّف لإتقان فنها والتأثير على جمهورها. وفي طريق العودة أخذنا بأطراف الحديث بيننا، وكان عن دهشتنا بهذا التلوُّن الحرباوي الذي لا يفصل بين متناقضاته الصارخة إلاّ لحظات. وفي غمرة الاندهاش التفت إليَّ صاحبي، وقال: ألا تظن أنّ مجتمعك الصحفي يشبه هذه الفئة من (النائحات) و(المترنِّمات)، قلت: كيف؟ قال: إنّكم أصداء للأجواء المحيطة بكم، يتحسس المتابعون من خلالكم اتجاه الريح وتقلُّبات الطقس، لا تفكرون إلاّ بالتدفُّق على أنهر الصحف نائحين أو مترنِّمين حسب الطلب، وما من رأي تتفوهون به إلاّ وهو على موعد مع النقض، تغزلون وتنقضون غزلكم بعد قوة أنكاثاً، وتبنون وتهدمون، وتركِّبون وتفككون، وترفضون أن تُسألوا عما تفعلون. لم أمتعض من هذا الاتهام، فليس هناك مجتمع ملائكي، كما أنّه لا يمكن أن يكون مجتمع الكتّاب مجتمعاً شيطانياً، لا يقول إلاّ العهر أو الكفر. والواقعيون غير المثالبين، فهم يروضون أنفسهم على اختلاط الأصوات وأنكرها، ويعرفون أنّ كلّ تجمُّع فئوي فيه علية وأراذل، وهل عاب مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم أن كانت فيه فئتا: اليهود والمنافقين؟. والواقعية المعتدلية لا تقبل تدهور المصداقية، ولكنها لا تمانع من المداراة والاتقاء وتقديم الصدقة بين يدي النجوى. ولكي نحسن الموقف، ونقر في المشاهد ما هو قائم، لا ما نشاء قيامه، نقر بأنّ المشاهد الإعلامية العربية تفيض بالكتّاب الذين لا يختلفون عن (النائحات) و(المترنِّمات)، وليست الإشكالية في وجود المتردية والنطيحة والموقوذة من الكتّاب، ولكنها في تشابه البقر على المتابعين والمتلقِّين، وعدم القدرة على التفريق بين أصحاب المواقف وأصحاب المصالح. فهل (أحمد بهاء الدين) بمثاليته وتوازنه مثل (محمد حسنين هيكل) بانتهازيته ومزايداته؟ وهل (جهاد الخازن) بمنطقيته ومعلوماتيته مثل (عبد الباري عطوان) بتسليعه للكلمة ولجاجته؟ وهل (مراد هوفمان) بمصداقيته وعفّة لسانه مثل (روجيه جارودي) بخلطه وارتزاقه بامكانياته، إنّ من الخطأ أن نجعل المسلّعين للألسنة والأقلام والأفكار كالكرام الكاتبين، ومن الخطأ أن نربط بين الضعف والخيانة، فالعملاء لا بد أن يكونوا مقتدرين على الإقناع والاستمالة، واللاعبون الكونيون يصنعون عملاءهم على عيونهم ويمهدون لشهرتهم واختراقهم للأجواء والأدمغة وبدوهم بمسوح الطهر والنقاء، ليخدعوا السذج والمغفلين. ولو أنّ نظّارة المشاهد الإعلامية ومن فيها يعرفون الصادق من الكاذب، لكان الأمر جد يسير، ولكن التمويه والتقنُّع يفوتان الفرص على الناصحين، وآلية الفرز غير قادرة على القول: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (سورة يس: 59)، والعقلاء المجربون لا يقطعون بنظافة المجتمع من متخللين بألسنتهم كما البقر، ولا يراهن على سلامة الأمة من المندسين الذين يتربَّصون بها الدوائر إلاّ الغر الذي لم يكتو بلهب اللعب، والمسلِّعون لإمكانياتهم المعرفية وقدراتهم البلاغية تعرف في وجوههم بؤس الشقاء وريبة الصدور، وكلّ مساوم على مثمّنات أمته يواجه، ولا يعالج، وموعظتنا لمن فيهم رسيس من المروءة لتدارك الأمر. ولو استحوذت علينا المثالية، وتحكّمت بنا الحدية، فحالت دون المصانعة والمداراة والاتقاء، لضرَّستنا الأنياب، ووطئتنا المناسم. وحين نضيق ذرعاً، بالتناقض في المواقف ومسايرة الأوضاع، وتقلُّبات الطقس، فإنّما نشير إلى كتبة لا يواجهون ضغوطاً، ولا يعيشون تحت وطأة التباس الأمور، وإنّما نقصد الذين يركبون رؤوسهم، ويسغفلون السذّج من الناس، ويقولون الشيء ونقيضه على مسمع ومرأى من المتابعين الراصدين، وهؤلاء المقترفون كمن بلوا بالقاذورات، ولم يستتروا، ومثل هؤلاء لا يحترمون مشاعر الناس، ولا يبالون بالمجاهرة، وكأنّهم ممن لم يستحوا، ومن لم يستح يصنع ما يشاء. والراصد لفيوض الإعلام العربي عبر صحفه وقنواته، يضيق ذرعاً، بمن يميلون مع السياسة العالمية حيث مالت، يناقضون أنفسهم، ولا يحتالون لتمويه كذبهم، فالسياسة في أبهى صورها، لا تعدو أن تكون (فن الممكن)، واللاعبون الجشعون لا ينظرون إلى الوثائق القولية عن اللعب السابقة من دراسات ومقالات وتصريحات وتحليلات ومعاهدات، والأغبياء المنفذون قد لا يعرفون قوانين اللعب، ولا يحسنون تهيئة النفوس لعكس الطريق، والذين يرقبون المشاهد في أمسها ويعونها في يومها ويستشرفون لمستقبلها، يفجؤون ويفجعون باختلاط المياه العذبة بالآسنة، وأكثر الناس تخدعهم اللعب، ويحسبون أنّ رهان الأقوياء هو نهاية التاريخ، ومن ثم لا يرفعون أقلامهم في سبيل تأهيلها، حتى إذا لعبت دورها، ورحلت لتحل محلها لعبة ثانية مناقضة قالوا عنها ما قالوه عن سالفتها، وهم بهذا يناقضون أنفسهم من حيث لا يشعرون. والمتابع للأحداث الجسام التي تمر بها الأمم يعرف كم هو الفرق بين خطاب ما قبل الحدث وخطاب ما بعده. ولعلّنا لا نجد حرجاً من استعادة الهدير الثوري، قبل نكسة حزيران، وخوار القوميين قبل الحروب العربية العربية، والرغاء الاستسلامي بعد اتفاقية (كامب ديفيد)، ولعلّنا نقفز لنرى ونسمع خطابات ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتي، وأثناء مقاومته في أفغانستان، وما بعد ذلك، وخطابات ما قبل الحادي عشر من سبتمبر وما بعده. ودعك من الخطابات المرهصة والمشيِّعة لحروب الخليج الثلاث، وبعد الاستعراض السريع لهذه الخطابات والخطباء نتساءل: هل هناك تقارب بين الخطابات أم أنّ هناك تناقضاً صارخاً، لا يمكن تصوُّره ولا احتماله؟. وهل أحد يقدر على التبرير والتعذير، والتاريخ يحتفظ برموز الكذب والمبالغة وبراعة المراوغة؟ وأين المعذرون من (أحمد سعيد) و(الصحاف) و(هيكل) و(عطوان) وما هؤلاء نشزٌ في السياق ولا في الأنساق، والمؤلم ليس في التدافع على القول، ولكنه في توظيف القدرات المذهلة، لافتراء الكذب، كما يفعل (هيكل)، في هذه السن وفي ظل هذه الإمكانيات والتنفذ، ولقد هممت من قبل أن أنشر مقالاً في أعقاب صدور كتابه (خريف الغضب) تحت عنوان (من خريف الغضب إلى خريف السمعة) وحين وقعت على مستودته أسفت على تأجيله خوفاً من ردود الفعل. فما من متابع ل(هيكل) يشك في اقتداره وبراعته وجمال عرضه وغزارة معلوماته وكثرة أشياعه. وعندئذ هل (النائحات) اللاتي يحضُرن مأتماً ليمارسن البكاء والعويل، ثم ينتقلن في ذات اللحظة إلى سرادق احتفالي، ويمارسن الرقص والغناء، للحصول على البلغة وسد الرمق، كما الكتّاب المتقلِّبين بين لحظة وأخرى تكاثراً وجشعاً؟ أم الكتّاب الذين لا يمتلكون مواقف ولا يستبطنون (أيديولوجيات) كما (النائحات) و(المغنيات)؟ وحين نستلطف العجائز المرتزقات، فإنّه من الخطأ الفادح أن نستسيغ التذبذب الموقفي من كتّاب يعدون أنفسهم من قادة الفكر وحماة الثغور. وكلّ من تقلّب مع الطقس فهو نائح أو مترنِّم، ومن البلية أن يجد اللاعبون الكبار كتبة متطوعين، يريقون الأحبار ويبيعون ماء الوجه لشرعنة الاعتداء على حريات الشعوب والتدخُّل في شؤونها الخاصة وانتهاك سيادتها، ومن العار أن يعترض بعض الكتبة على إبداء مشاعر الاستياء من المقتولين بأفتك الأسلحة، وأن يحيل هذه المشاعر وهي أضعف الإيمان إلى وحشية المسلمين. (حبل الفجيعة ملتف على عنقي من ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا) وإذا كان اليمين المتطرف الأمريكي يقول بأنّ (إعصار كاترينا) عقوبة الخروج من (غزة)، فمن ذا الذي يلوم المقهورين في إبداء مشاعرهم العفوية، ثم لا يتردّد في تحميله على الخطاب الإسلامي ظلماً وعدواناً. وكتابات الحيص بيص تحال إلى حرية التفكير والتعبير، ويتطلّع هذا الصنف من الكتبة إلى أن يحمدوا بما لم يفعلوا. وكيف يقرأ الراصدون والمتابعون ما يفيض به الإعلام العربي من نيل جارح لكلِّ ما هو إسلامي؟ لمجرد أنّ الغرب تحوّل من سلفيته وجهاديته أثناء حرب الأفغان إلى غسيل الأدمغة وشحن النقيض، ولم يتحرّج من وضع الإرهاب في سلة الإسلام، وفات الطيبين السذج أنّ الإسلام لافتة يعلقها على واجهته كلُّ من تحرّكت في أعماقه شهوة التسلُّط، ولأنّ الغرب القوي المتغطرس قد أحال كلّ تصرف مدان إلى الإسلام، فقد شايله البعض دون وعي، وأصبح الإسلام المصدر الوحيد للعمليات التي تنفّذ في أيّ مكان، وكأني بالحجر يكاد ينادي: أيها الغربي هذا مسلم ورائي تعال فاقتله، ومصيبة المسلم أنّه لا يملك كما اليهودي شجرة (الغرقد)، ليحتمي وراءها. أحسب أنّ هؤلاء الرجال الجوف، وتلك العجائز الخاويات يدخلون ضمن الأشباه والنظائر، ويختلفون في النوايا والمصائر، والأعمال بالنيات. بل أكاد أجزم بألاّ فرق بين كاتب (براقشي) يطلع كلّ يوم بموقف يحرض على أهله وعشيرته، وعجوز يحملها سمسار على ظهر عربته مع أخريات لإحياء مأتم أو عرس، وفي النهاية تموت العجائز، وتزهق أنفس الكتّاب، ثم يبعثون على نيّاتهم.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:28 PM | #96 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
درس في محو الأمية عن الحضارة الإسلامية..!
د. حسن بن فهد الهويمل قضيت نصف قرن ونيف في التعلم والتعليم على مقاعد الدراسة، وانخرطت في سلك التعليم، بعد حصولي على (الشهادة الابتدائية)، وكان من حولي يسمونني ب(الأستاذ الصغيِّر) وسط نخبة من كبار السن والعلم، أفدت منهم ما قيدت به نفسي، (ومن وجد الإحسان قيداً تقيدا). والحاجة المادية إذ ذاك الجأتني إلى الجمع بين التعليم ليلاً ونهاراً، وإلى التعلم انْتساباً وانتظاماً، فكان أن مارست التدريس المسائي في (المدارس الليلية) لمحو الأمية بمكافأة زهيدة، وكان الدارسون يكبرون أبي سناً، ولما كان كرسي الطلب سحرياً - كما يقال - فلقد بُليت بمدرسة كمدرسة المشاغبين، يمارس أشقياؤها الهمز واللمز، كلما غفلت أو استدرت صوب (السبورة)، وكان المهذبون منهم يمتعضون، وقد يتفوهون بالاعتذار، كلما احمر وجهي، وأحرجني الموقف، ومنذ ذلك الحين أدركت أن الدور للعقل الرزين والعلم الغزير، وليس للسِّن واللَّسن، وأن التاريخ يعيد نفسه، ف(الرجل السبعيني) كما يحلو للساخرين إطلاقه عليَّ، لن يعدم المتخلقين بأخلاق المشاغبين من الأميين في همزهم ولمزهم، كما عرفت أن الأمية ماضية إلى يوم القيامة، وأنها ليست وقفاً على الذين لا يقرؤون ولا يكتبون، فكل من (سَفِهَ نَفْسَهُ) البقرة 130: 2 وتقحم سوح ما يجهل أميّ يثير الشفقة والسخرية. و(أمية التخصص) ظاهرة مستفيضة، تؤكد ذلك، والعصر الذي فرض أدق التخصصات، وسَّع دائرة الأمية، وكم من حامل للأسفار. (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول) والحياة المفتحة الأبواب على صنوف المعارف بحاجة إلى المثقف بمفهومه الأوسع، وهو: (من يعرف كل شيءٍ عن شيءٍ وشيئاً عن كل شيء)، إضافة إلى اتقان مهارة الوصول إلى المعلومة في أسرع وقت وأقل جهد مع دقة الملاحظة وقوة الحافظة، فثورة المعلومات والاتصالات والإعلام والمواقع والأقراص المدمجة والموسوعات والمعجمات وسهولة البحث والدخول على المواقع، قربت المعارف، وكشفت الأدعياء، وعرَّت الزيف، وفرقت بين المشِئين والمتضلعين، وبين النص الإنشائي المتسطح والنص المعرفي العميق. و(الثقافة) و(المثقف) مفهومان مشرَّعان على كل الاحتمالات، وإشكالية الأميين الذين لا يعرفون أميتهم أنهم يمارسون الجدل في القضايا الفكرية والسياسية والأدبية، وقد يتخطون ذلك، فيجرؤون على الفتياء الجازمة الصارمة في الدين والسياسة والفكر وسائر القضايا المصيرية، و(أجرؤ الناس على الفتيا أجرؤهم على النار)، وإذا أرشدت ضالهم، وسدَّدت مخطئهم، لم يكتفوا بالإصرار والاستكبار واستغشاء الثياب، وإنما يبيحون لأنفسهم الرتوع في عرضك المصون، مستدبرين القضايا مناط البحث، ومثل هذه الممارسات مؤشر جهل وإفلاس، فالقضايا هي مجال الاختلاف، ومن حق كل مقتدر أن يتعامل معها وفق رؤيته ومفهومه المحكومين بما لا تتحقق الحضارة إلا به، فحرية القول مقيدة بالرد إلى النص التشريعي القطعي الدلالة والثبوت، والثقافة المأخوذة على وجهها تسهم في فك اختناقات الأمية المجهولة، ولكنّ المترفين من القراء والكتَّاب لا يغالبون القراءة وفق نظرية (الاستقراء البيكوني) ولا يتمثلون القضايا على وجهها، والتسطح على الأشياء دأب المتسرعين والذوَّاقين، وتلك مصيبة المشاهد الثقافية. ومهما اختلفت الآراء حول القضايا الكبرى في الإسلام، كمفهوم الحضارة وعمقها وشمولها واحترام حملتها وحتمية الرد إلى نصها فإن هناك قاسماً مشتركاً يلتقي حوله الخصوم، وأدبيات الحوار والمناظرة لا يلقاها إلا ذو علم عميق، وعقل راجح، وتجربة واعية، والذين لا يفقهون ما أوتوا، ولا يتحلون بأدبيات الحوار يفرون من تلك القواسم المشتركة في محاولة مستميتة لحفظ ماء الوجه وتغطية الهزيمة النكراء، والعقلاء العالمون يستدرجون خصومهم المهتاجين العزل للتوغل في دوائر الضوء، كي يستجلوا اعترافاً لا إرادياً، يعريهم أمام الملأ، ويؤكد أنهم أميون فيما يخوضون فيه من معارف، ولا سيما أن قصة الحضارات السماوية والإنسانية مستوفاة وفي متناول اليد. وقول المقوين في (الحضارة الإسلامية) قول مكرور، يستعيره الضغث من الإبالة، والإشكالية ليست في مبتسرات المقوين على غير فهم ولا نظام، ولكنها في غياب الاستيعاب والفهم والتمثل، كما هي عند (ابن مسعود) رضي الله عنه، وفي عدم الخلوص من سلطة النص المبتسر إلى سلطة القراءة، حسب الرؤية (التفكيكية) عند (جاك دريدا)، وفي الافتقار إلى دقة الملاحظة، وذكاء الرصد، ونباهة التحري، كما هي عند (الجاحظ)، وضرورة الوصول بعد التقويض إلى ضرب الآراء بعضها ببعض، والخروج برؤى وتصورات مدعومة بالحجج والبراهين الأقوى، وآراء العلماء والمفكرين المتناقضة ثاوية في الموسوعات والدراسات المؤلفة والمترجمة، ودور المستدعي الحاذق سرعة الوصول، ودقة الانتقاء، وإتاحة التفاعل بين القول والقول المضاد، ورباطة الجأش عند اكتشاف الرأي ونقيضه، وتفادي الوقوع تحت هيمنة المتداول الغربي، كالقول ب(الكهنوتية) و(التنوير) فأمر (الدين) قائم على التجديد، وسؤال أهل الذكر لمن لم يعلم، والرد عند الاختلاف إلى الله والرسول، ولو عرف المتهمُون لعلماء الإسلام حقيقة (الكهنوتية) لكرموا علماءهم، ولو قرؤوا كتب الخلاف بين المذاهب وفي المذهب الواحد والفقه المقارن وحتمية الاجتهاد وندرة الإجماع لأكبروا الإسلام وعلماءه، وتداول القول الغربي دون وعي بمدلوله مؤشر أمية وادعاء. والفارغون المتنفذون في المشاهد والمواقع يجترون ببلاهة معتقة مهترئ القول الاستشراقي، ويعوِّلون على من يمرُّ بهم على مفتريات من سلف ومن خلف منهم، وإذا انتهبوا تهمة من أكاذيبهم، ادعوا أنها من عند أنفسهم، ليظفروا بردود الفعل التي تعرَّض لها المستشرقون، وحسبهم أن يبنوا لأنفسهم قلاعاً ورقية في بؤرة الضوء الزائف، وما دروا أن هذه البؤر تكشف عن ثقافة التسول والخنوع والتملق، والغرب يستميت في نفي (الغزو) و(التآمر)، ويدعي أن تشكيكه في اليقينيات الكبرى لإنقاذ المسلمين من خرافة الدين، وأن اختراقاته لأجواء الفكر والسيادة من أجل توفير (الحرية) و(الديموقراطية) و(المدنية) و(التحضر)، وإذا كان بالأمس يجند رجالاته من رحّالة ومبشرين ومستشرقين لتسريب هذه المفتريات التي لا تخدع إلا الأمي أو المبهور المواطئ فإنه اليوم يجد من المغلوبين من ينهض بإشاعة حسن المقاصد، ويستبعد ظاهرة (الغزو) و(التآمر) ويرى أن إشاعتها للتبرير والتعذير والإسقاط وتزكية النفس، ويصف أهل الذكر ب(الكهنوت) ويستعير آلية (التنوير) لمواجهة الحاكمية والهيمنة الإسلامية، والغرب فتح شهية (الغزو) و(التآمر) في العصر الحديث باتفاقية (سايكس بيكو) تلك المعاهدة السرية الماكرة بين دولتين دائلتين (بريطانيا) و(فرنسا) بشأن تقسيم الولايات (العثمانية)، وهو اسم مركب من ممثلي الدولتين (مارك سايكس) البريطاني و(جورج بيكو) الفرنسي، تم ذلك عام 1916م، ولم يفتضح أمر المؤامرة إلا عام 1917م على يد القوات الألمانية، وقد تسربت الاتفاقية وبنودها الاثني عشر من روسيا القيصرية بعد الثورة. ومضامين الاتفاقية وبنودها تجعل الأمة العربية قطيعاً مطيعاً، تتوفر له أجواء الحظائر لا ميادين اللزز والتنافس الشريف، وهو إذ فتح شهية الغزو والتآمر بما سلف، فقد أشبعها بمنظماته وصناديقه وهيئاته وعملائه ولعبه الكونية وحصاره ومقاطعته، ومن هذه الأجواء نسل اتباع الحضارة الغربية والذابون عن عواجيزها، وتنفسوا في أجواء القبضة المحكمة والضغط المرهق المدعوم بالغزو والاحتلال والاستيطان والقواعد، ظناً أن جحافل التغريب ستمضي قدماً من دول لأخرى، لتمنحهم الحرية المزعومة (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)، وما علموا أن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن تجربة الغزو العسكري الماثل للعيان والضربات الاستباقية المهلكة للحرث والنسل، يحرض عليها اليمين المتطرف، ليبقي على التفوق (الإسرائيلي) وها هو (كولن باول) يكشف بعض الحقيقة في قضية غزو (العراق)، ومقولته تمثل صحوة الضمير المتأخرة، وهل ينفع العراق كلمة اعتراف، ودون الذي يؤمّله فراغ دستوري، وقتل همجي، وطمس للتاريخ، وتمزيق للوحدة. وإذا لم يكن هناك (غزو) ولا (تآمر) فمن الذي بارك الدعوة إلى (الفينيقية) و(الفرعونية) و(البربرية) وأزهق أرواح مليون شهيد في (الجزائر)؟ ومن الذي ركل قبر (صلاح الدين) قائلا: - ها نحن عدنا يا صلاح؟ ومَن الذي أرهص للدعوة إلى (العامية) واستبدال (الحروف اللاتينية) ب(الحروف العربية)؟ ومَن الذي أقبل بجيوشه المدججة بالسلاح ليحتل أقوى دولة عربية؟ ومَن الذي ضرب المفاعلات أو منعها؟ ومَن الذي أجهض التجارب (الديموقراطية) في بعض الدول الإسلامية؟ ومَن الذي شوه الحضارة الإسلامية عبر (أفلام هوليود) و(مواقع الإنترنت)؟ ومَن الذي طارد العلماء العرب؟ وأين منكرو الغزو من (الحروب الصليبية) وحملة (نابليون)، وأمواج المبشرين، وحملات المستشرقين على القرآن والحديث والفقه والتاريخ الإسلامي وسائر المنجزات الحضارية للإسلام، مما تفيض به كتب المستشرقين؟ وأين هم ممن يتبنى المذاهب الهدامة، وينفق عليها، ويعلي من شأنها؟ وأين هم ممن يعزز الطائفية و(الإثنية) و(القومية)؟ وأين هم مما استفاض عن (الطابور الخامس) وسائر المنتديات التي يتبناها المناديب وكبار موظفي السفارات؟ سيقول المخذِّلون: يدُ الأمة أوكت وفوها نفخ، ونقول ما قال (مالك بن نبى): تلك القابلية للاستعمار، والمخذِّلون مثل السوء لهذه القابلية. والذين جندوا أنفسهم لتسويق الآراء الاستشراقية ما عرفوا أن ما يسوقونه بضاعة ليست من عند أنفسهم، إذ هي بضاعة الاستشراق التي استهلكت نفسها، ولم تعد مجدية يوم أن كانت تدار بأيدٍ قوية مدعومة في أوج جدتها وحدتها، فكيف يكون أثرها اليوم بعدما افتضح أمرها، وتلقاها بالشمال المشكولة جهلة مجندون، وصدق الله (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ). والذين يسخرون من تداول مصطلح (الغزو) و(التآمر) يعمقون السخرية بطلب ممارسته من (الشرق) المستضعف في (الغرب) المتغطرس. وكيف يتأتى (الغزو) و(التآمر) من أمة يخذلها أبناؤها العققة الذين غرسهم الغزاة ليجسدوا (الطابور الخامس)؟. والآخذون بعصم الاستشراق تدركهم أزماته، ويقعد بهم اجتراره، فالأولون الهالكون منهم لم يغادروا من متردم، فقد استوعبوا كل المتشابه في كل مفردات الثقافة الإسلامية، ونفذوا من كل الثنيات، وشككوا في عالم الغيب والشهادة، وطالت أذيتهم كل المعارف، ولم يتلقهم علماء الأمة وحماة الحضارة الإسلامية بثقافة الانبطاح، وإنما نفذوا إليهم بالحجج الدامغة والحقائق الملجمة، ومن جاء بعدهم من المتذيلين، لم يجدوا ما يقولونه لمن خلفهم من الأشياع والأتباع إلا اجترار مقولات مهترئة من الترديد. وأزمة الاستشراق الحديث ظاهرة للعيان، وهي حقائق لا مجال لإنكارها، وقد استوفاها المهتمون بالشأن الاستشراقي، والذين يستفزون قومهم بساقط الرأي، لا يعلمون بهذه الإخفاقات الاستشراقية، وهم فيما بين أيديهم كما أهل الكهفَ ووَرقِهم، وكنت أود من عقلائهم الأخذ على أيديهم واقتيادهم طوعاً أوكرهاً إلى مقاعد محو الأمية للحصول على مبادئ الجدل المعرفي، ومثلما أن الاستشراق بوصفه ظاهرة جدلية متذيل للاستعمار، ومشتغل في شأنه، فإن المتهافتين على مقولاته متذيلون للاستشراق المتذيل، وهذه المذلة تذكرنا بمقولة الشاعر: (ولو أن عبد الله مولى هجوته ولكن عبد الله مولى مواليا) ونحن هنا لا نمارس التنابز بالألقاب، ومعاذ الله أن نتهم شخصاً بعينه وإن قال كلمة الاتهام، ولكننا نقتدي بالبر الرحيم في تنبيهه: (مالي أرى قوماً يفعلون كذا)، ونحاول باللمحة وضع المتذيلين أمام أنفسهم عسى أن يرعووا، ويستعملوا ما وهبهم الله في طاعته، والذب عن بيضة الإسلام، والمستشرقون المعاصرون الذين يتخذهم المتذيلون مناطاً لتشبعهم مصابون بداء الضعف المعرفي واللغوي والفكري في مقابل الصحوة والتطور المعرفي وسقوط (الايديولوجيات) الخادعة، ك(الماركسية) و(الداروينية) و(الوجودية). والحضارة الإسلامية التي توصف بالتخلف والمحدودية، وتؤخذ بضعف المسلمين وتفككهم، ويعاد ترميم آلية الضربات الاستشراقية للإجهاز عليها، هذه الحضارة المحاصرة قابلة للمنازلة الشريفة والتحدي الواثق، والصمود المفحم، ومصدر بقائها تعهد الله بحفظها، واتساعها لكل ما يتطلبه إنسان العصر من صناعات واكتشافات وإعداد للقوة، والإسلام لا يشكل عقبة في طريق أي حقل معرفي، ويكفي قول الرسول: (أنتم أدرى بأمور دنياكم)، وما نشاهده من تخلف مادي مرده إلى سنة التداول والتدافع، ومع ذلك كله فإن (الحضارة الإسلامية) تمثل البنية التحتية للحضارة المهيمنة، وهي المستوعب الأقوى لما سلف من حضارات (يونانية) و(رومانية) و(آرية)، والشاهد الذي رأى كل حاجة، وألم بقصة الحضارة الإنسانية (ول ديورانت) يقول: (فإذا درسنا الشرق الأدنى وعظمنا شأنه فإنّا بذلك نعترف بما علينا من دين لما شادوا بحق صرح الحضارة الأوروبية والأمريكية وهو دين كان يجب أن يُؤدى من زمن بعيد). وقوله هذا يحيل إلى حضارات الشرق الأدنى التي سبقت الإسلام، ونفذت إلى حضارة الغرب عبر مشاهد الحضارة الإسلامية، فهي الناقل المتفاعل، وليس الوسيط المؤدي فقط كما يحلو لبعض المستشرقين. والحضارة الإسلامية استثمرت كافة المناهج والمبادئ وسائر المعارف التي نقلت بالترجمة أو بدخول الناس في دين الله أفواجاً يوم أن جاء نصر الله والفتح، واستوعبت الحضارة (السومرية) و(الفرعونية) و(البابلية) و(الآشورية) و(الفارسية) وتمثّل طائفةٌ من علماء الإسلام ما أبقته عوادي الزمن من مناهج وآليات، وما قامت النحل والملل، وما تفاوتت الفرق حول المنقول والمعقول إلا بسبب اتساع الإسلام لكل فيوض الحضارات، والعالم الإسلامي اليوم يشاطر الغرب في بناء الحضارة الإنسانية، فالعلماء والمفكرون الإسلاميون تتخطفهم حواضر العالم الغربي، والدول الإسلامية لم تتأب عن قبول منجزات الحضارة العلمية، وكيف يتحقق التمنع وهي المستهلك الأقوى لمنجز الحضارة الغربية؟ والغرب يعرف المارد، ولهذا يثقل عليه القيود، ولا يصدر إلا المنجز للاستهلاك، أما الشفرات والأنظمة والطرائق فحرام عليه، والإسلام حين يرفض السلوكيات الموبوءة يحال هذا الرفض المشروع إلى رفض منجز الحضارة المادي، وهذا محض افتراء، وإذا اختلف علماء الكلام والفقه مع نظرائهم في المنطق والفلسفة فإن هذا الحراك مؤشر استيعاب وشمول وتفاعل، يحسب للحضارة الناقلة، وإن كان ثمة مزيدٌ من الارتكاس فإنه سيكون على يد من وصفهم (عبدالوهاب المسيري) بقوله: (نعيش حالة تخلف ثقافي شامل، ومثقفونا يعيشون على نفايات الثقافة الغربية) اليمامة 6-8-1426هـ ولمكافحة الأمية أوجه بقراءة كتابين (قالوا عن الإسلام) لعماد الدين خليل، و(الإسلام في عيون غربية) لمحمد عمارة كبداية لفتح الشهية وتجاوز الأمية.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:28 PM | #97 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
تداعيات اليوم الوطني..!
د. حسن بن فهد الهويمل كلما ذكرنا (اليوم الوطني) تذكرنا: الزمان والمكان والإنسان واستذكرنا الظروف العصيبة التي أنجز فيها المؤسس ورجالُه هذا الكيان الكبير. وكل التداعيات تتجسد بشخص الملك (عبد العزيز) رحمه الله. والمتحدثون عنه من خلال هذه المناسبة، ينظرون إليه من زوايا متعددة، وستمضي المناسبة، وتمضي معها الأحاديث الطوال، وتبقى في شخصية الملك عبد العزيز مجالاتٌ رحبة للإشادة والدراسة. في طفولتي المبكرة سمعت الناس يتهامسون فيما بينهم عن وفاة الملك (عبدالعزيز)، وكلما أقبلت على أبويَّ لزما الصمت، أو صرفا الحديث إلى شأن آخر، لرهبة الحدث، والخوف من عقابيله. كان الناس كلهم في وجوم وترقب، ولقد كنت يوم ذاك مع لداتي نلعب حول (جامع بريدة)، والإمام يخطب مؤبناً ومتفجعاً، وبعد الفراغ من الصلاة التي لم نشهدها، سمعت المؤذن ينادي لصلاة الغائب على فقيد الأمة، لم يكن الحدث ملفتاً للنظر بالنسبة لنا كأطفال، ولهذا مضينا في لعبنا، وكل همنا التنقيب في ساحات الدكاكين الترابية عن شيء نمضغه أو نلعب به. وقبل هذا التاريخ، وأثناء زيارة (الملك عبد العزيز) الأخيرة للقصيم، قبل ستين عاماً، كنت مع أمي مختبئاً في عباءتها بين مئات النسوة اللاتي خرجن من خدورهن، ينظرن من تل رملي مطل على احتفالية (أهالي بريدة) بمقدم جلالته، كما خرجت عائشة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتنظر إلى الأحباش، وهم يزفنون في المسجد. كان من أبرز مظاهر الاحتفاء العرضةُ السعودية، وما يصاحبها من زخات الطلقات النارية. ولما انتابني الخوف من اشتعال السماء بالنار، أسرعت بي أمي إلى البيت غاضبة من فوات المشاهد الممتعة. لما تزل تلك الصورة ماثلة أمامي، ولما يزل موقع العرضة والاحتفال، وكأنه إلى الآن يفيض بالرجال والنساء، لقد كان في تقاطع (طريق الملك عبد العزيز) مع (طريق الملك فيصل)، وكان (الملك عبد العزيز) بطلعته البهية يزجي الصفوف تحت عَلَم التوحيد بلونه التفاؤلي، ويشارك المحتفين الغناء والرقص الرجولي. وتمضي الأيام سراعاً، ويشُبُّ الطفل عن الطوق، وتسوقه المقادير، ليكون دارساً، ومدرساً، وأستاذاً جامعياً، ومؤلفاً، ومشرفاً، ومناقشاً، ومحكماً في متعلقات أدب الجزيرة وتاريخه المرتبط ارتباطاً وثيقاً ب(الملك عبد العزيز)، ويتحول (الملك عبد العزيز) من حاكم عربي مسلم إلى مادة تاريخية، تتقاطع مع كل الأشياء، وهكذا العظماء، يشغلون المشاهد: أحياءً وأمواتاً، وإذ لم تمر بي هذه الشخصية الفذة في حياتها إلا مرتين: مرة في الاحتفاء الذي أرهبني، ومرة في الوفاة التي لم ترعني. ولكنها أثارت فضولي وتساؤلي: من يكون هذا الشخص الذي جمَّد الحركة، وغير الأوضاع، وهزَّ النفوس، وأسال الدموع؟ لقد قرأت الكثير عن هذا الإنسان الفذ في كتب المؤرخين والرحالة والمستشرقين الأنصار منهم والخصوم، وسأظل أقرأ، وسيظل التدفق المعرفي عن بطولاته بازدياد، وكلما فرغت من قراءة تطوعية، أو رسمية، أحسست أن الشخص يكبر في عيني، وأحسست أنني أطلب المزيد. بالأمس دخلت مكتبتي، ووقفت أتأمل ما يخص الجزيرة العربية وتاريخها وآدابها ورجالاتها من كتب في التاريخ والأدب والسياسة، ووجدت ان الذين موْضَعوا (الملك عبد العزيز)، أخذتهم شخصيته، وبهرتهم عبقريته، وبخاصة أنه لم يتلق علم السياسة في الجامعات، وإنما حذق ذلك كله من دقة الملاحظة، وطول التجربة، ورجاحة العقل. والحياة مدرسة العباقرة والموهوبين، فكان أن اتفق الأنصار والخصوم على أنه شخصيةٌ استثنائيةٌ. كان فارساً ومتفرِّساً، وحليماً حكيماً. قوياً بغير عنف. وليناً بغير ضعف. يلبس لكل حدث لبوسه، فلا يضع السيف في موضع الكرم، ولا يضع الكرم في موضع السيف، قوياً في الحق، لا تأخذه في الله لومة لائم، يمنح الثقة لرجاله بقدر ما يمنح الفرصة لخصومه، فإذا بالفئتين تستويان بالوفاء له والإعجاب به. كان شخصية جذابة مهيبة. يفد إليه كبار الساسة والمفكرين بمهمات مصيرية، وكل رهانهم أن يستحوذوا عليه، وأن يجعلوه غنيمة لدولهم، فإذا تراء الجمعان، أصبحوا هم الغنيمة الطائعة. يَصْدُق معهم، ويضعُهم أمام ضمائرهم، ويناشدُهم المصداقية، ويسبقهم إلى مكارم الأخلاق، فيكون لهم قدوة. لقد عرفت الملك عبد العزيز في الواقع، لأن كل ما نحن فيه، وما نعيشه ونعايشه ثمرةٌ من ثمرات جهده. وعرفته عبر الكتب، فكان أن تمكن ذاتاً ومعلومة، وسيظل ملء السمع والبصر. عندما أعددت رسالتي للماجستير (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد) كان تاريخ (الملك عبد العزيز) واهتمامُه بالأدب مادة خصبة لهذه الأطروحة، فانجذبت إليه، وانجذب معي المناقشون للرسالة، من أساتذة كلية اللغة العربية ب(جامعة الأزهر). وعندما أعددت كتاب (بريدة حاضرة القصيم)، كان (الملك عبد العزيز) مادة الكتاب في البعد السياسي والتعليمي والاقتصادي، وسائر وجوه الحياة المتحضرة، هذا الحضور أثار كوامن الرغبة في مزيد من الاختراق لحيواته الحافلة بجلائل الأعمال. وعندما أعددت رسالتي للدكتوراه، عن الأدب العربي الحديث في (المملكة العربية السعودية)، كان تاريخ (الملك عبد العزيز) ومنجزاتُهُ مصدرَ الرسالة وموردَها. وعندما درست شعر الشاعر الكبير (محمد بن عبد الله بن عثيمين) في كتابي (سعوديات بن عثيمين) تبين لي من خلال ثلاث وعشرين قصيدة مدحَ بها الشاعرُ (الملك عبد العزيز)، أن هذه الشخصية ثرةُ العطاء، متعددةُ الجوانب والمواهب، وأنها ألهمت الشاعر عيون الشعر. وعندما اشتركت في تأليف كتاب (الملك عبد العزيز في عيون شعراء أم القرى)، والذي يقع في مجلدين، ويشتمل على كل ما قيل في (الملك عبدالعزيز) من شعر على مدى ثلاثين سنة، أحسست أنني أتهجى تلك الشخصية، وأنني لما أزل في أبجدياتها. كان مسلماً لا يساوم على إسلامه. وكان عربياً لا يزايد على عروبته. وكان مواطناً متفانياً في حب وطنه. أنجز وحدة إقليمية لم يسبق لها مثيل. قَدِم إلى نجد من منفاه في (الكويت) تتهاداه التنائف أطحل، واختار شهر رمضان لنقص المؤونة وخوف العيون، يسري ليلاً، ويختفي نهاراً، حتى إذا بلغ مشارق الرياض، نثر كنانته، فلم يجد فيها إلا قوتين:- - مشروعية مطلبه، فهو سليل ملك عريق. - وسمعة أسرته الطيبة المتمكنة من القلوب. فكان أن خفق بهذين الجناحين، على وهاد الجزيرة ونجادها. ولأنه مُصلحُ فسادٍ، وجامعُ شتاتٍ، وموحدُ كلمةٍ، فقد تحركت المصالح التعارضة في وجهه، الأمر الذي طال معه أمد (معركة التكوين)، لأكثر من ثلاثة عقود، وفي النهاية حقَّ الحقُّ وزهقَ الباطل، وأعلن (الملك عبد العزيز) وحدة البلاد، تحت مسمى (المملكة العربية السعودية) ليبدأ بعدها (معركة البناء) الحضاري. هذا اليوم الذي وضعت فيه الحرب أوزارها، وأُعلنت فيه الوحدةُ، يُسمى ب(اليوم الوطني)، وهو ما نعيشه اليوم، ونتحدث عنه، وننعم بخيراته. هذا الكيان بكل ما يعج به من تعليم، وصناعة، وزراعة، وإعمار، وثراء، وأمن، واستقرار، وتلاحم، معطى من معطيات هذا اليوم، ومنجز من منجزات (الملك عبد العزيز) الباهرة. فهل يا تُرى يستحق هذا اليوم مثل هذه الاحتفالية؟ لتذكُّر الأمجاد، وتَذْكِير الأبناء ببناة الحضارة، والوفاء للآباء والأجداد الذين التفوا حول قائدهم الفذ، ومنحوه الأنفس والأموال. إن من واجبنا التوجُّه إلى الله بالحمد والشكر، وترجمة الحب إلى عمل إيجابي، لخدمة هذا الوطن، وتحقيق الحياة الكريمة لإنسانه، وتفادي الهتافات والشعارات الجوفاء، فالمواطنة الحقة: صدقٌ وإخلاصٌ ونزاهةٌ وعملٌ مشرِّفٌ وحمايةٌ لمثمنات الوطن، والتفاف إيجابي حول القيادة يتمثل بالوفاء والمناصحة. أحسب أننا لن نكون أهلاً لما وهبنا الله إن لم نشكر المنعم المتفضل، وندعو للمؤسس بالرحمة والمغفرة، ولعقبه بالنصر والتمكين، إن دولة آمنة مطمئنة، تشق طريقها وسط الأعاصير بثقة واعتزاز لجديرة بالبحث عن لحظاتِ تشكُّلها، والتعرفِ على بُناتِها، وتعريفِ الناشئة بلحظات التكون ومسيرة البناء عبر هذه المناسبة السعيدة، وتحويل هذا اليوم إلى محطة تذكر واسترجاع وتقويم واستئناف جاد للأداء السليم، وبخاصة في تلك الظروف العصيبة التي تمر بها الأمة العربية والإسلامية. ويقضي (الملك عبد العزيز) نحبه بعد إنجاز وامتياز، ويترجل عن سدة القيادة، ليتلقى الراية من بعده أبناؤه. ويقضي رجال (الملك عبد العزيز) نحبهم ليتلقى المسؤولية من بعدهم أبناؤهم، وتمضي المسؤولية مع من ينتظر، ولم يبدلْ تبديلاً. هذا الكيان أمانة في يد أبناء المؤسس، وأبناء رجاله، و(اليوم الوطني) الذي يمر بنا كل عام، جدير بأن يكون مشروع فعل رشيد وقول سديد، ومحاسبة للنفس، واستشرافاً للمستقبل، وما لم نراجع أنفسنا بثقة واطمئنان وشفافية تحول اليوم إلى ممارسة نمطية غير مجدية، حفظ الله البلاد وأهلها وسدد على طريق الحق قادتها، وردَّ كيد أعدائها إلى نحورهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:29 PM | #98 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الرأي العام بين الاختراق والانغلاق..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل كل ظاهرة جديدة في لفظها أو في وجودها، يتوسل المتلقي بالتساؤل عن مدلولها اللفظي ومفهومها المصطلحي، وعن أمدائها ومجالاتها ومشروعيتها، وأسئلة مثل: ما الرأي العام؟ وما آليات الاختراق؟ وما وسائل الانغلاق، أو ما يمكن تسميته بالحماية والحجب؟. أسئلة مشروعة ومحتملة، وقد تكون الإجابة عصية، ولكنها ضرورية، وقد يكتفي المتلقي بالمعهود الذهني وإن قل أو ضل. وأصعب شيء عنده فيما أرى تعريفُ المعرَّف. فالظواهر العصية التجلي على حقيقتها هي البدهيات، ك(الحب) و(السعادة) و(الشعر) و(الجمال)، وتلك أشياء نعيشها، ونعيش معها، ولكننا لا نستطيع تحرير مفاهيمها وتحديد معانيها بالقدر الكافي، وكما قيل عن (الفقر) و(المسكنة). و(الحمد) و(الشكر)، (والكرم) و(السخاء) إذا اجتمعا تفرقا، وإذا تفرقا اجتمعا. فالدلالة تتغير بالسياق أو بالمناسبة، بالعموم أو بالخصوص، بالمجاز أو بالحقيقة، بالوضع أو بالعرف والشيوع. ومن ثم لا يغني الأصل الدلالي عما سواه من معطيات دلالية أخرى. وللخلوص من دوامة المفاهيم، وهي غصص المشاهد ومتاهة المختصمين، نعود إلى جذر المصطلح اللغوي. ول(ابن فارس) رؤية في الأصل الواحد والأصول المتعددة في كتابه (معجم مقاييس اللغة). ف(الراء، والهمزة، والياء)، أصل يدل على النظر بالبصر والبصيرة، وفي محكم التنزيل {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}. و(الرأي العام) ألصق بالبصيرة منه بالبصر، وقد تكون له فراسة تحمل على الفعل ورد الفعل، وفي الأثر الضعيف: - (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله). وكلمة (العام) تلغي التشيؤ المحدد بوصف، ومثلما اختلف الفقهاء حول مفهوم (الإجماع) فإن علماء الاجتماع والسياسة اختلفوا في مفهوم (العام). والرأي ما يراه الإنسان الفرد أو الأناسي عبر أي تجمع يوحد بينهم، ويتحدد على ضوئه تصرفهم. والتلقي يعقبه التفكير ثم التعبير بالصوت أو بالفعل. والتفكير فريضة إسلامية: {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}{أَفَلَا يَعْقِلُونَ}{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ} {لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ}. وتلك استفهامات إنكارية، تحفز على التعقل والتفكر والتدبر والتفقه. وحين ندب الله إلى التفقه في الدين استعمل فعل النفور، وهو السرعة والمبادرة {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}. ولقد عاب الذكر الحكيم القلوب التي لا تفقه، والعيون التي لا تبصر، والأذن التي لا تسمع، ونقم على اتباع الظن، وما تهوى الأنفس، واتخاذ الهوى إلاهاً. وكل هذه اللفتات معالجة استباقية لترشيد (الرأي العام) وهو معرض لكل هذه الأدوات. وأخطر ما تعانيه السلطة التجييش العاطفي، وهو الداء العضال الذي يعاني منه (الرأي العام) وحمايته من اختراقات التضليل حماية لمثمنات الوطن وإنسانه. وأخطر الأحوال التضليل من الداخل. ف(الرأي العام) يحصن في الغالب من اختراقات الآخر المناقض. ولهذا أصبح الإنذار مطلباً شرعياً للتوعية وأخذ الحذر، فكأن القوم - وهم (الرأي العام) - مهددون بالتضليل، ولا سيما أن هذه الآية جاءت في سياق الحديث عن المنافقين والكفار وما بدر منهم من دسائس ومكائد. وتيه (الرأي العام) من الخلطاء الذين يداهنون ويركنون ويهرولون ويحسبون أن (الليبرالية) و(الديمقراطية) مطلق الحرية، والعدل والمساواة، ولو أنهم عادوا إلى المعاجم والموسوعات الغربية المترجمة، لعلموا أن (الحرية) مفردة من مفردات تلك المصطلحات، وأن نجاح الغرب في تسليمه لأنظمته ودساتيره، وأن إخفاق المسلمين في عدم تفعيل مبادئهم، وأن حل مشاكلهم ليس في اللحاق بالآخر، ولكنه في إعادة النظر في الذات. وإذا كانت الإشكالية في التشكيل الذهني للرأي العام المؤثر في المسار والصيرورة فإنها الأصعب في تحديد (الرأي العام)، والتفريق بينه وبين جماعات الضغط والأحزاب والمنظمات والهيئات والنقابات، والتكتلات: العرقية والطائفية والإقليمية. وهي الأصعب أيضاً في تحديد مصادر التأثير عليه، وفي الخارج منه والداخل فيه. فهل النخبة - على سبيل المثال - من (الرأي العام)، أم هي مصدر التأثير عليه وتوجيهه؟ المستفيض أن هناك عقلاً جمعياً يتجلى في المظاهرات وجماهير الرياضة والفن، وسائر التكتلات، وعقلاً فردياً غير مندفع ولا مهتاج. والعالم والمفكر حين يندمجان في الجماعة، يكونان جزءاً من الرأي العام، وحين يعتزلانها، يكونان من النخبويين، يمارسان تشكيل الرؤية العامة. ولقد تجلت هذه الإشكالية في (شاعر غزية) الذي أبان لهم نصحه، وأقر أنه منها في الرشد والغواية، فهو في مناصحته نخبوي، وفي معيته جزء من (الرأي العام). وحديثنا عن (الرأي العام) لم يمتد إلى المكون والطبيعة والحد والتعدد والمجال، وإمكانية الاتفاق أو الافتراق مع المجتمعات الأخرى، ولا في طرق الاتصال وتحليل المعلومات وصناعة النجوم وضبط الدعاية، فذلك مجاله الدراسة الموضوعية المعتمدة على الخطة والمنهج والكم المعرفي. ومع أهمية ذلك فإننا سنقف بالحديث عند خطورة تشكل (الرأي العام) تشكلاً عشوائياً متعدد الرؤى والتصورات في غياب مؤسسات المجتمع المدني، أو عجزها عن مواجهة المرحلة بكل إمكانياتها الرهيبة. والحديث عن الاختراق والانغلاق يستدعي النظر في آلية النفاذ إليه، وآلية التمترس والحماية بالحجب أو بالاستباق. فالنفاذ تتنوع خطورته بتنوع المصادر والأهداف، والاحتراس تتنوع مستوياته بتنوع أساليب المواجهة. فالمنع، والرقابة، والتحذير، والتخويف، والتحريم، أساليب مشروعة، ولكنها مفضولة؛ لأنها دون التوعية والتربية والاستباق والتصدي المتكافئ والمنافسة على (الرأي العام) بوصفه مجال التحرف. إن (الرأي العام) المخترق أو المستبطن من الداخل بحاجة إلى آلية تشكيل لا إلى سياج حفظ، إذ لم يعد بالإمكان الاقتصار على الأمر والنهي والتخويف والتسييج، وإنما الإمكان والفائدة في التربية والتوعية، وتوفير الأجواء الملائمة، التي تمكنه من التضلع المعرفي السليم والمواجهة الذاتية. والإحالة إلى الحرية الشخصية، وحرية التعبير والتفكير والممارسة، والتعويل على البقاء للأصلح إحالة فيها نظر. فالحرية تختلف عن الفوضوية، و(العقد الاجتماعي) يضبط الحرية ولا يلغيها، ولا يمكن أن نتصور تجمعاً إنسانياً إلا بضوابط متفق عليها ومسلم لها، كما أنه لا هوية إلا بسمة مميزة. فالمسلم غير النصراني واليهودي والعلماني، ولكل قوم نحلة تحكم الحرية ولا تُحكّمها. والحرية التي لا يحكمها العقد حرية (وجودية) تقوم على الفوضى والرفض والعصيان. والحياة: حسية كانت أو معنوية، محكومة بنظام، ولا حياة بدون ذلك، وليس بين الحياة بضوابطها وبين الحرية تعارض. والذين تكبح جماحهم ضوابط الحياة يحتجون بالحرية. ومسخ السمة والخصوصية مطلب الآخر، وليس مقتضى الحرية {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. واتباع سنن الآخر قضية مسلمة (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، والتشبث بحرية القول والفعل تعزيز للإرضاء واقتفاء للأثر، وستظل حدود الحرية مجال تنازع. ومشكلة الإنسان بين التخيير والتسيير لما تزل مضمار لزز بين الفلاسفة وعلماء الكلام، وحرية الاختيار والفعل ضرورة ومطلب إسلامي، ولكن لا بد من ممارسة الحرية الإسلامية المقيدة بالمقاصد، وممارسة الأطْر والمناصحة بحدودهما الشرعية. والأمة الإسلامية أمة الدعوة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرعاية (كلم راع....)، وتراتب المسؤولية التنفيذية. والمسؤولية الإسلامية لا تمضي مع مطلق الحرية التي يمارسها الغرب، ويركن إليها المستغربون. هناك حرية تحيل إلى (الديموقراطية)، وحرية تحيل إلى (الليبرالية)، وحرية تحيل إلى (الوجودية)، وحرية تحيل إلى (الإسلام)، وحريات متعددة بتعدد الملل والنحل، تلتقي وتفترق، إذ لكل حرية ضوابطها وأمْداؤها. ومتى ربطنا سائر المؤسسات بالمقتضى الشرعي طائعين مختارين، فلا بد من تمكين هذا المقتضى، ليأخذ دوره، وإلا طالنا المقت الكبير {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}. وشملنا عقاب من لا يتناهون عن منكر فعلوه. وسمة النخبوية الصادقة المخلصة تحديد (الموقف) و(المصدر) و(الانتماء) تحديداً لا تضطرب معه الرؤية، ولا يميَّع فيه الإسلام، ولا يلمَّع فيه الطغام، إذ كل متمرد أو متردد حين تلجمه الحجة يقول: لا مزايدة على الإسلام. والإسلام لا يتحقق إلا بثلاثة أشياء: الاعتقاد والقول والعمل. وما لم يصطحب المفكر والعالم والسياسي وسائر المتنفذين هذا الثالوث فقدوا المصداقية، وقالوا ما لم يفعلوا، وأضلوا (الرأي العام)، ويقال مثل ذلك عن مقتضيات المواطنة، فالشعارات والهتافات أصباغ حائلة، وما قتل الوطن إلا من وتَّنه من الثوريين. والخطورة أن الخطاب النخبوي مفردة من مفردات التأثير على (الرأي العام) الذي يتشكل من عدة مؤثرات تربوية وإعلامية وثقافية ودينية: محلية وخارجية. وليست رؤيته انبثاقاً ذاتياً فورياً، وما كان وجوده طارئاً، بل ظل كامناً في المجتمع الإنساني البدائي على شكل مفهوم صوري، تحول في النهاية إلى حقيقة تصديقية ماثلة للعيان، تحسب لها المؤسسة السياسية كل الحساب، ولا سيما في الأنظمة (الديمقراطية) التي توفر الحرية، وتحيل مؤسساتها إلى الشعب، ولا ترد إلى مرجعية نصية، ومن ثم لا يكتسب أي قرار شرعية النفاذ إلا بموافقة جماهيرية عن طريق الاستفتاء. أما المجتمعات الأخرى فمتفاوتة في كسب ثقته، فقد تحيل بعض تلك الأنظمة إلى النص الشرعي بوصفها تجمعاً إسلامياً، أو إلى مقاصده، وقد لا تكون إسلامية ولا (ديمقراطية)، ولكل قوم شرعة ومنهاج اختطوها لأنفسهم، أو توارثوها على مبدأ: إنا وجدنا آباءنا على أمة، فرضوا بها، أو فرضت عليهم. والفكر السياسي الإسلامي له مصادره النصية، المراوحة بين الاحتمال والقطع، أو الاجتهادية المتسعة للاختلاف المعتبر. ول(الشافعي) و(ابن عقيل) رؤية صائبة ودقيقة في ربط السياسة بالمرجعية الشرعية، فعند الشافعي: لا سياسة إلا ما وافق الشرع، و(لابن عقيل) تحديد وتفصيل: إذ يشترط عدم المخالفة، ولا يشترط التنصيص، أي لا يقول ب(لا سياسة إلا ما نطق به الشرع)، وهناك فرق بين ما نطق به ووافقه. وقد تحيل هذه الأنظمة قضاياها لكسب الثقة والمشروعية إلى (الرأي العام) المفترض فيه فهم المقاصد وتمثلها، وبخاصة حين تتعدد الخيارات. وأنظمة الحكم والدساتير هي التي تحدد آلية كسب الثقة ونفاذ القرارات. وفي المقابل فما كل قرار يُربط بنصه الشرعي، ولكن التدخل النصي يكون في حال الجهل بالمشروعية أو تعارض الآراء، استجابة لقوله تعالى {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}} النساء 59). وإذ تكون أطر وآليات ومبادئ فإن (الرأي العام) يضل أو يهتدي وفق رؤية المتعالق النخبوي، والإشكالية هنا تكمن في عدم التفريق بين (الأطر) و(الأيديولوجيات)، ف(الديموقراطية) على سبيل المقال إطار من جهة و(أيديولوجية) من جهة أخرى، ومكمن الخلل في خلط السمات والخصائص. وإذا تعددت النظم السياسية، وقبلتها الشعوب، لم يعد هناك مجال للمفاضلة ولا للتصدير، فالناس أدرى بأمور دنياهم، ومن حقهم التمتع بسيادتهم المنوط أمرها بمجالس منتخبة أو مختارة على كل المستويات الدستورية والتشريعية والتنفيذية. وفيما يتعلق بالفكر السياسي الإسلامي فإن حرية الاختيار مقيدة بموافقة النصوص أو المقاصد الإسلامية. ومع تلك الضوابط المشروعة فإن (الرأي العام) عبر من ينيبه من أهل الحل والعقد يقرر نظام الحكم، وأسلوب التداول، وتراتب المسؤوليات. والفكر السياسي الإسلامي له تجربته ونظريته. والقبول الطوعي بالنظام يمنحه المشروعية، ويقتضي العمل على ضوء محققاته، و(الرأي العام) هو المؤشر على الشرعية. وقناعته بالنظام الذي لا يشكل عقبة في طريق التطور لا يخول لكائن من كان خلط أوراقه، وتفويت الفرصة المواتية لتلاحم السلطة مع الجبهة الداخلية. و(الرأي العام) لا يظهر عنقه إلا حين يحس بأن هناك حدثاً ما يصادم مسلماته وأنساقه وسياقاته، وليس هناك ما يمنع من القبول بالتغيير، ولكن يجب أن يكون وفق الضوابط والممارسة المرحلية التي لا تربك الأمة، ولا تعرضها لصدمة المفاجأة. وأياً ما كان الأمر فإن على المؤثرين على (الرأي العام) أن يلموا بأنظمة الدولة، وبخاصة (النظام الأساسي للحكم) و(نظام مجلس الشورى) و(نظام مجلس الوزراء) فكل هذه الأنظمة استبقت تحديث (الأطر) في ظل التأكيد الواضح على قواعد الشريعة الإسلامية. ولما تزل إمكانية الإضافات الأخرى على الأطر ممكنة وقائمة، أما القول عن إمكانية (الديمقراطية) أو (الليبرالية) أو (الدستورية) الغربية، وتجاهل تلك الأنظمة، فإن ذلك إرباك لا مبرر له، وتغريد خارج السرب.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
الإشارات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
طريقة العرض | |
|
|