|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
23-11-2006, 09:29 PM | #99 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jul 2005
البلد: الرياض
المشاركات: 146
|
يا سلام عليك يا عباس ...... والله جمع راااااااااااااائع ....
استمتـــعت بقراءة بعض المقالات ... وسأعـــــود ... لهذه الحروف الجميييييييييييييييييله .... |
23-11-2006, 09:29 PM | #100 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
أيّها الأمير ألا تحب أن يغفر الله لك؟
د. حسن بن فهد الهويمل كلُّ من سمع تشنُّجات وزير داخلية العراق (بيان جبر صولاغ) التي ردّ بها على تحذيرات وزير خارجية المملكة العربية السعودية الأمير (سعود الفيصل)، أُصيب بالغثيان والاشمئزاز والإحباط، وأحسّ أنّ العراق سيظلُّ مرتهناً لمن لا يحسن الصدور ولا الورود، حتى يقيِّض الله له من يقيل عثرته، ويدرأ عنه عوادي الزمن، ويأذن بعودته إلى الصف العربي متخلِّياً عن الإيضاع في الفتن، وإذكاء الطائفيات والعرقيات، والاتجاه صوب التقسيم. والذين صدمتهم هذه الاهتياجات الرعناء، تنوّعت عندهم ردود الفعل، وكلُّها على حساب بلد مهيض الجناح. وبقدر الاستياء، جاءت السخرية من الذين شهدوا نكوص الوزير على عقبيه عبر صحيفة (الشرق الأوسط) 6-9- 1426هـ، ومحاولته مواراة سوأته، وذلك بعد أن تبيّن له أنّه شقّ عصا الطاعة، وخالف سياسة بلاده، وأحرج قادتها، وأكرههم على الاعتذار والتخلِّي عمّا بدر منه {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ}، والمستاؤون والساخرون من القول ونقيضه يزدادون احتقاراً له وللواقع الذي وسع مثله، والحكماء يقولون:- لا تقولنَّ شيئاً تحتاج معه إلى الاعتذار، ولا تدخلنَّ في أمر حتى تقدر على الخروج منه. والخوف والإشفاق من أن تشكِّل هذه المتناقضات موقفاً عدائياً من العراق الجريح، وتصوِّره خصماً واعياً لخصومته لدول الجوار وللمملكة على وجه الخصوص. ومن ذا الذي يستطيع امتصاص الاحتقان الشعبي، والتأكيد على أنّ هذا الرد غير الموفّق نزوة أحمق، وليس قرار أُمّة. ويقيني أنّ أسلوب المواجهة - عندي على الأقل - مختلف جداً، فما (العراق) وبعض مسؤوليه الموتورين والمتوتِّرين والشانئين إلاّ كما المريض الذي يهذي تحت تأثير المخدر، وحقه على كلِّ مسلم أن يواسيه أو يأسوه أو يتوجّع. لقد سمعت مع السامعين تلك التجشؤات الفارغة من رجل مغلوب على أمره، يمشي على أشلاء أهله وعشيرته، ولمَّا يستطع لملمة تلك الأشلاء الطافحة فوق حمام الدم والمهترئة تحت أقدام الراقصين على الجراح ومواراتها. وردّ المسؤول العراقي المتدنِّي إلى حد التخلُّف على تحذيرات سمو الأمير، ردٌّ غير مسؤول، يكشف عن خبيئة المتفوه، ولا يصيب المقصود بسوء. وما هو إلاّ ترديد للعنتريات الثورية التي يجترّها ببلاهة معتقة المسلِّعون للخطاب البلاغي أمثال (نزار قباني) و(أحمد مطر) وشعراء الهزيمة وكتّابها ورغاتها، فلقد ساءهم تفجير الله لكنوز الأرض لمن أخذها بحقها، ولم يجدوا من المآخذ إلاّ غرابة الجمع بين الإبل والنفط، والبدوي الذي مر من فوق الأرض على جمله فامتلكها. وإذ يكون الاختلاف في وجهات النظر مشروعاً، وتحفظ الدولة المعنيّة على ما تراه في غير مصلحتها الخاصة من حق مسؤوليها فإنّ هناك أساليب وقنوات (دبلوماسية) يمارس من خلالها الاختلاف والرد. وما دامت المملكة حمَّالة المآسي، وعاقلة الجناة، وسموم الفتن تشوي أطرافها، فإنّ مراجعة مسؤوليها لا يكون بهذا المستوى، كما أنّ إبداء النصح ليس من الوصاية ولا من التدخُّل في شؤون الغير. وأحداث العراق الدامية يمتد دخنها إلى دول الجوار، ومن حقهم الرصد والمتابعة وإبداء التخوُّف وإسداء النصح. وكم نسمع من يعيب الصمت العربي، ويلوم المتخاذلين من أهل الشأن. ولقد كنت ممن يفضِّلون مرور الكرام، واستذكار مقولة الشاعر:- (ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثمة قلت لا تعنيني) ولكن طائفة من الردود العنيفة، تدعو إلى القطيعة، وتخلي المملكة عن دورها الرائد في الأخذ على يد السفهاء والأخذ بيد المتعثِّرين، هذه الكلمات الحادة غيَّرت وجهة نظري، وفتحت شهيَّتي للكلام التطميني، ليس رغبة في التصعيد، ولا حبّاً في توتير الأعصاب، ولا حاجة في استعداء المقصود بالكلمات الهجائية المسفة. وإنّما تحرُّفاً لإطفاء الضغائن، وتهوين الأمر، والتذكير بواجب الأخوة الإسلامية على حد:- (إذا احتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها) وعلى حد لفتات (المتنبي) ل(سيف الدولة)، وهو يطارد فلول (بني كلاب):- (وكيف يتم بأسك في أناس تصيبهم فيؤلمك المصاب ترفّق أيّها المولى عليهم فإنّ الرفق بالجاني عتاب) وأخشى أن يكون مثل هذه البذاءات غير المقبولة من الجرم الذي يجره السفهاء على قومهم، ثم يحل على غير جارمه العذاب. والعراق الذي يتقلّب على سفود الفتن منذ نصف قرن بحاجة إلى من يسارعون لإنقاذه، لا إلى من يطربهم نحيب ضحاياه وهذيان محموميه. وفي تلك الأجواء المكفهِّرة أذكّر الأمير المتعذب من واقع أُمّته بكلِّ ما يتوفّر عليه من رحابة صدر واستجابة لله ولرسوله إذا دعاهم، أذكِّره بما هو أعلم به مني، وأسوق له مواقف مشرقة في سير أعلام النُّبلاء، ولمَ لا يكون له بمن سلف أُسوة حسنة، وهو سليل أُسرة لها عراقتها في الشأن السياسي، ففي (حديث الإفك) دروس وعبر، أصبحت نبراساً لكلِّ من فتح الله عليه ووفّقه. فمن الذين أشاعوا الفاحشة على (عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها (مسطح بن أثاثة)، وكان (أبوبكر) الصديق رضي الله عنه، ينفق عليه لقرابته وفقره، ولما أن علم أنّه ممن أسهم في إشاعة الفاحشة على ابنته، بعدما نزلت براءتها في كلام يُتلى إلى يوم القيامة، أقسم ألاّ ينفق عليْه، وأن يقطع برّه وصلته. فنزل قول الله تعالى: -{وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، فما أن سمع هذا الأمر، وهذا الوعد، حتى قال بملء فمه:- (بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي). فأمدّ (مسطحاً) بما كان يمدُّه به قبل أن يشترك في إشاعة الفاحشة:- (وما قتل الأحرار كالعفو عنهم ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى ولكن تفوق الناس رأياً وحكمة كما فقتهم حالاً ورأياً ومحتدا) ومثلما بدرت تلك المواقف الإنسانية الفذة من (أبي بكر) بدر مثلها من أبي حفص (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه، حين قدم عليه (عيينة بن حصن) برفقة ابن أخيه (الحر بن قيس) الذي شفع له بالدخول على عمر، و(الحر) أحد القراء الذين يدنيهم عمر، ويقبل شفاعتهم، فقال (عيينة) ل(عمر) حين أذن له بالدخول عليه:- (هِيْ يا ابن الخطاب! فو الله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل) فغضب عمر، وهمّ بمعاقبته، فبادره (الحر) قائلاً:- (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)، وإنّ هذا من الجاهلين، فكفَّ عمر، وكان وقَّافاً عند كتاب الله. وشاعر الحكمة والتروي زهير بن سلمى يقول: (ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم) والذين خاضوا معترك السياسة، وليسوا من أهلها، يأتون بما لا يستطاع احتماله، وما أضاع الشعوب، وهدَّم الديار، وأهلك الحرث والنسل إلاّ أغيلمة وجدوا أنفسهم بالصدفة على مدرجة السياسة المليئة بالألغام، فمشوا دون أن ينظروا إلى مواقع أقدامهم. وهل أحد لا يرثي ل(العراق) بكلِّ ما ينطوي عليه من عراقة وحضارة؟ وهل تغني أمجاد التاريخ عن قوم لا يفقهون؟ ومن أراد أن يرى الاستقرار والأمن والرخاء والتلاحم غضاً طريّاً فليزر بلاد البدو الذين يمتطون الجمال، ويشربون من ألبانها، ويتخذون من أوبارها بيوتاً، يستخفونها يوم إقامتهم ويوم ظعنهم. وكم من مكلوم يتمنى أن يجد دفء البلاد ورخاءها واستقرارها وتلاحم جبهتها الداخلية. وإذ تكون البلاد مهوى أفئدة الطائعين، فهي مسرح عيون الطامعين، وحين جمع الله لها من كلِّ شيء أحسنه، وفَّقها للمساندة والمساعدة، وممارسة الصُّلح والنُّصح. لقد قدَّمت البلاد وأهلها تضحيات لا يمكن تصوُّرها، فضلاً عن حصرها لكلِّ دول الجوار وشركاء الهم والعقيدة والمصير. تضحيات: مادية ومعنوية، عرَّضت خطط التنمية للتعثُّر والإبطاء، ووضعت مثمِّنات البلاد تحت طائلة المكر، وكادت تمس استقرارها بلا اضطراب. ولما لم نكن ملزمين بهذا القدر من الدعم فإنّ بإمكاننا ألاّ نفعل، بل كان بإمكاننا أن نكون كغيرنا قوَّالين غير فعَّالين. ولكنّنا مع النكران والمكر والإزلاق لمَّا نزل نستبق الخيرات بفتح الجسور الجوية للإمداد والرحلات المكوكية للإصلاح، وسنظل كما كنا، نفك الأسير، ونطعم العاني، ونواسي المصاب، فتلك سجية فينا. وإن قوبل إحساننا بالإساءة ومعروفنا بالنكران، فكم من أيدٍ كسرنا قيدها حتى إذا ذاقت طعم الحرية رمتنا بالحجارة وأزلقتنا بالأبصار، وكم من بطون جائعة أشبعناها حتى إذا أمتنا سعار الجوع سعَّرت تحت أقدامنا نار الحقد والضغائن. ومع كلِّ خيبات الأمل سنبقى كما كنا نطعم القانع والمعتر، لوجه الله، لا نريد منهم جزاءً ولا شكوراً. ولما نزل مع طبعنا نقابل الإساءة بالإحسان والذنب بالعفو، نفعل ذلك طبعاً لا تطبُّعاً، ونقف حيث يجب علينا أن نقف، ولو كان وقوفنا في جفن الردى، وهو مستيقظ لا نائم. أيُّها الأمير المسكون بهم أُمّته وقضاياها، لا يثنيك حاسد ولا حاقد ولا جاهل عما أنت قائم به ف:- (على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم ويعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم) لقد كنت وراء مصالح أُمّتك، مترجماً إرادتها، ومعبِّراً عن سياسة حكومتك، تنصح وترشد وتحذر وتعد وتتوعّد، وقد لا يستبينون النُّصح ولا في ضحى الغد، ولو استبانوه لما آلت أمورهم إلى وضع لا يُطاق، ومرض لا يرجى برؤه، ف({كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا}. والكلمات السوقية التي أطلقها مَن لا خلاق له إن هي إلاّ صراخ طفل جريح في وجه طبيبه الذي يضمد جراحه، دون أن يعلم أنّ العافية والسلامة بذلك التدخُّل الجراحي. وكيف لرجل مثلك في تجاربه أن يطلب عند المبتدئين ما عند نفسه، وأن يتصوَّرهم آذاناً واعية، وقلوباً حافظة، ونوايا حسنة، ومقاصد سليمة، إنّ هذا تكليف للأشياء فوق طباعها:- (ومكلف الأشياء فوق طباعها كملتمس في الماء جذوة نار) والأمير الممتلئ بهموم أهله وعشيرته الأقربين وبقضايا أُمّته من واجبه أن يريح قلبه من غمِّ العداوات والمناكفات والتلاسن، وأن يدفع الشر الذي تفيض به نفوس المرضى والمأزومين بالتي هي أحسن، وكيف لا تبادر إلى مثل هذه الفرص النادرة وطريق المغفرة والجنة في كظم الغيظ والعفو عن الناس. إنّ المؤمن كما النخلة في الثبات والارتفاع على الترهات، وليس من المعقول أن يجاري الشرفاء أصحاب الخلق الدنيء، والشاعر العربي يقول:- (إذا جاريت في خلق دنيء فأنت ومن تجاريه سواء) وما العيب إلاّ أن تكون مسابباً لمن لا خلاق له - كما يقول الشافعي -، وكم من الفرق بين الضعة والتواضع، بين الحلم والضعف، وقد يتصوّر ذوو الأنفة أنّ العفو من الذل والهوان. صحيح أنّ من يهن يسهل الهوان عليه، ولكن عفو المقتدر يُعَدُّ من صفح التفضُّل. والذين يطلقون الكلمات المسفة، ولا يلقون لها بالاً يفتقرون إلى أبجديات اللغة السياسية، وتنقصهم الخبرة والتجربة، وهؤلاء إثمهم أكبر من نفعهم، وحسبهم مرور الكرام. وها هو بعد أن بدت له سوأة كلامه، يلعق إمضاءه، ويراجع نفسه، ويصف سياسة المملكة بالحكمة والتوازن والهدوء، وينفي أن تكون تصريحاته رسمية أو معبِّرة عن رأي الدولة. وهو إذ يتخلّى عن تصريحاته فإنّما يؤكد من حيث لا يدري أنّه ركب مركباً صعباً ليس من أهله، لقد وصف تجاوزاته الشخصية بأنّها سحابة صيف، وما أكثر سحب الصيف التي تمر بأجوائنا ممن نتوقّع منهم الاعتراف بالجميل. وهو بهذه الحماقات الهوجاء لم يكن بدعاً من الأمر، فلقد تعرّضت المملكة وأبناؤها لتجاوزات من الذم والسخرية لو قيلت بحق غيرها لثارت ثائرته، وأفقدته السيطرة على مشاعره، ويكفي ما تعرّضت له البلاد بعد احتلال الكويت من إقبال المغفلين بسكاكينهم لاقتطاع حصتهم من (الكعكة) الشهية التي صوَّرها لهم جشعهم وسوء مقاصدهم، ولما خيّب الله ظنّهم، أقبلوا يردِّدون محفوظهم:- {عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف}ومرت كما سحابة صيف، وستظل سحائب الصيف يأخذ بعضها برقاب بعض، ونحن نتجرّع مرارات نكران الجميل. والكتّاب الذين انبروا لِصدِّ هذه المفتريات، أنحى بعضهم باللائمة على بلد مهيض الجناح، وما كان من القول السديد أن نجهر بالسوء، وألاّ تزر عندنا وازرة وزر أخرى، وبخاصة حين يبتدر الكلمات المجتثة من فوق الأرض من لا يغيِّر من الأمر شيئاً. وعلينا أن نروِّض أنفسنا على استقبال سحائب الصيف، وسماع عفا الله عما سلف، ولكن يجب ألاّ تكون ذاكرتنا مخروقة، ومن أغضب ولم يغضب فهو ....!
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:30 PM | #101 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الحقَّان: الفني والأخلاقي بين المعانقة والمفارقة
د. حسن بن فهد الهويمل كلُّ من لاقيتُ يبدي خوفه، وإشفاقه على (أدبية السرد) و(شعرية النظم) من استفاضة مصطلح (الأدب الإسلامي) المستبطن ل (النقد الأخلاقي) بكل ما يقومان عليه من قمع ومصادرة للحق الفني ولحرية الفنان، وذلك ظن متسرِّع، فوَّت على المشهد الأدبي فرصة الاستقطاب للموروث والمجلوب، وعرَّضه لخطاب التّنافي.. وفي ضوء الفوات لا يجد المتحفّظون بداً من التردد والتساؤل.. ومن حق كل مستقبل أن يقدم بين يدي حديثه ما يشاء من تساؤلات عن كل نظرية لا يدري ما مرادها، لا لعدم القبول بحقها في الوجود، لكن لمزيد من الاطمئنان.. {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}.(260) سورة البقرة. و(النقد الأخلاقي) سابق لمصطلحه المستوعب له، وقد تقصَّاه دارسون أكاديميون، منهم الدكتور (محمد مريسي الحارثي)، والدكتور (إسماعيل عبد الخالق)، والأستاذة (نجوى صابر) في كتب ثلاثة، تختلف منهجاً ونتائج.. ومن واجب المسوّقين للمصطلح الأعم أن يبثوا الثقة في النفوس، وألا يصادروا حق الاستنباء، وعلى الذين يجدون في أنفسهم حرجاً ترويضها على قبول الحوار الحضاري، وإلقاء السمع لسائر الأطروحات.. فما من مصطلح جديد إلا ويكون مثار شك وتساؤل، ولا تثريب على أي مستقبل أن يسأل أهل المصطلح وخاصته، وأن يتأمل مفاهيمهم لمقتضياته، فهم أهل الذكر، وهم الأحق بالتقديم، وإزالة الخوف، ولا مشاحة، فالمشهد الأدبي يتسع لأكثر من خطاب، ولكن أين المتفسِّحون في المجالس؟ ومبعث الخوف رواسب المفاهيم المتضاربة، والتزييف المتعمَّد لمقتضيات ما جدَّ من مصطلحات، لم يستوعبها المتلقي وفق مقاصد ذويها، وكل جدل عقيم يستمد سداه ولُحمته من ذلك التضارب أو من تأليه الهوى والتعصب المذهبي.. وطلاب المعرفة يحسمون أمرهم باستكمال ما ينقصهم، أما المريبون فهم كمن يعمد إلى اللغو وعدم السماع، ولو أن الأطراف المتناجين التقوا على كلمة سواء، واقتصر همُّهم على البحث عن الحق، لكان أن تحررت المسائل، ولما هُدِّمت كيانات ومذاهب، وتيارات يذكر فيها القول السديد والكلم الطيب. ومرادنا للجدل والحوار أن يحررا المفاهيم، وأن يبلغا مأمنهما.. والحقيقة كما سَقْطُ الزند، لا يُوْريها إلا الاحتكاك.. و(الأدب الإسلامي) الذي يتحقق بالنقد الأخلاقي أحرصُ المذاهب على المواجهات الحضارية، فهو يمتلك العمق التاريخي والحجة البالغة والاستجابة للفِطر السليمة.. ومتى أُتيحت له الفرصة لتقديم نفسه وطرح مشروعه، استطاع أن يقنع الباحثين عن الحق.. فالمشروعية التي يشكك بها البعض، ليست مجالاً للجدل، فكل حضارة لها فنها وأدبها ونقدها وأخلاقياتها، وليس من المعقول أن تتفلَّت مفردات الحضارة عليها، ولا أن تفر إلى الحضارات المضادة.. وقبول مفردات الآخر مشروطة بعدم التأثير على الثوابت.. فكل حضارة لها مع من سواها مساحات مشتركة، والعقلاء من يجنحون للتفاعل الإيجابي، ويستثمرون تلك المساحات بما يثري حضارتهم، ولا يذيبها في الآخر. ولو ذهبنا نستنبئ المصطلح، لإثبات المشروعية والسلامة، لوجدنا أن مصطلح (أدب) ليس قائماً بنفسه، بل لا بد أن يضاف أو يوصف.. والمعنيون يحيلونه إلى عصره، أو إلى إقليمه، أو إلى لغته، أو إلى دولته، أو إلى دلالته، أو إلى حضارته. وما من أحد من أولئك تذمَّر أو امتعض من إحالة مصطلح (الأدب) إلى أي شيء مما سبق، ولو فُهم المصطلح بعد التركيب حق الفهم في ظل مشروعية الإضافة أو الوصف لكان أحقَّ من غيره بالمشروعية والحضور، فكل أدب لا ينتمي إلى حضارة، ولا يحيل إلى تراث أدب مجتث من فوق الأرض. والمتصدون ليسوا سواء في مقاصدهم، وإنما تتنازعهم مواقف و(أيديولوجيات) مختلفة، وهدفنا من الحديث طرح القضية كما هي دون أي تمويه، ومتى فُهم المصطلح أصبح من اليسير الإقناعُ والاستمالة.. والنظر في (الحق الفني) في ظل هذا المصطلح المثير يستدعي (الحق الأخلاقي).. والإشفاق على الفنيات هي الحجة الواهية التي يستنجد بها خُصوم هذا الحق.. وإذ يقولون ما يبيتون: إن (الأدب الإسلامي) يأتي على حساب الفن والجمال والانزياح والمجاز والإيجاز وحرية الفنان، وإنه يقترف المنع من الانطلاق والحرية، وإنه يحرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، وإنه يقيِّد الأدب في نطاق (الأحكام الفقهية) مما يفوّت على الأديب نصيبه من الفن، وتلك شنشنات أخزمية مللنا من سماعها والرد عليها، والبعض من أولئك يحيل إلى مقولات تراثية، تؤكد أن الأدب في معزل عن الدين، وأن الشعر نكد لا يصلح إلا مع الكذب، و(البحتري) يقول: كلفتمونا حدود منطقكم فالشعر يغني عن صدقه كذبه وقد يكون لتخوف البعض منهم بعض المشروعية، متى عوّلوا على الوقوعات والآراء الفردية لبعض الأنصار.. والشيء الذي نُطمئن المتخوفين به، أن رقابة الإسلام لا تحول دون استكمال (الحق الفني)، فالإسلام حين يكون مهيمناً وشمولياً، لا يقمع الفن، ولا يقيّد المبدع، وكل دوره أن يضمن (الحق الأخلاقي) وأن يحول دون سفاسف الأمور التي لا يقبل بها أصحاب الفِطر السليمة.. وكم من قائل: إن (الأدب الإسلامي) قائم على حساب الخصوصية الإبداعية، والناهضون به لا يبالون بأي وادٍ هلكت سمات الفن الرفيع.. وتلك مفتريات أملتها طوائف تختلف في مشاربها ونواياها ومدركاتها، وكل متصدٍ لهذا المصطلح يحيل إلى المفاهيم الخاطئة.. والذين حسموا أمرهم، وخرجوا بقناعات أوحاها المشككون، ظلوا كما أشرطة التسجيل، يكررون القول ولا يملكون الاستبداد المشروع وفض النزاع وحسم الأمر في تفكيك المصطلح، فهو مكوَّن من مصطلحين: - مصطلح (الأدب). - مصطلح (الإسلام). ولكل مصطلح مقتضياته وحيثياته، والجمع بينهما يعني استدعاء مقتضياتهما قبل التركيب.. ف(الأدب) مصطلح يختلف عن الفقه والتاريخ وسائر المعارف الإنسانية، إنه جماع الإبداع القولي، بكل ما يتطلَّبه من أركان وعناصر ولغة أدبية وصور بلاغية، لا يجوز المساس بها.. وإذا أطلقنا كلمة (أدب) تبادر إلى الذهن المعهود السالف لهذه الكلمة: فماذا تعني كلمة (أدب)؟ إنها تعني أدبية النص القامئة على الجمال والجلال والإمتاع والإقناع والاستمالة، ف (الأدب) لا يكون إلا بفنياته وشروطه ومقتضياته، وأنواعه الشعرية والسردية. وإذا أخفق الشاعر الإسلامي في شيء من ذلك، فتلك مسؤوليته هو، وخطأ الممارسة لا يمس المبادئ.. فالمسلم يرتكب المحظورات، وقد يقترف الكبائر، ويتحمَّل ذاته المسؤولية، وفي الحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).. ونحن نقول: لا يكون الشاعر الإسلامي شاعراً إسلامياً، وهو لا يمتلك الموهبة والتجربة والثقافة والأجواء التي تساعده على التَّألق، ويُقال مثل ذلك بحق السرديين والنقاد والدارسين والمنظّرين الذين يحيلون أخطاءهم إلى (الأدب الإسلامي)، فالمصطلح بريء من تجاوزاتهم وإخفاقاتهم، وكل نفس بما كسبت رهينة. وضعف الإبداع يُحال إلى المبدع، ولا يُحال إلى المصطلح، وكم من الشعراء العرب الذين أخملهم ضعف ملكاتهم وضحالة مدركاتهم، ولمَّا يُحمِّل أحدٌ منهم (الأدب العربي) مسؤولية الإخفاق.. والقول بأن الإسلام أدى إلى ضعف الشعر قول له وعليه، لقد حصل الضعف، لكنه لم يكن هدف الإسلام، وإنما هو ناتج مرحلة انتقالية، تغيَّرت معها كل وجوه الحياة، بما فيها الشعر، إضافة إلى أن الانبهار ب(القرآن الكريم) أطفأ وهج الشعر، وزاحمه في الإمتاع.. فالضعف حاصل، لكنه لم يكن مطلباً إسلامياً، كما يدّعي البعض.. فنفاة الضعف وجاعليه هدفاً إسلامياً مخطئون، فالضعف حاصل، لكنه ليس هدفاً إسلامياً، والدخول في التفاصيل يند بنا عن متن الموضوع. ولأن الإسلام اعتقاد في الجنان، وقول في اللسان، وعمل بالأركان، فإن المبدع حين لا يكون كذلك في السر والعلن، يضطره الانتماء للأدب الإسلامي إلى التّكلف، ليقول ما لا يعتقد في سره، فيبدو الخلل.. وقد يكون قوي الإيمان، لكنه ضعيف الملكة، ومن ثمَّ لا يستطيع أن يجلِّي، وقد يتوفر على قوة العقيدة وقوة الملكة، لكن التجربة والموقف والأجواء تكون دُون المؤمل، فيخفق، فيحال إخفاقه إلى انتمائه.. وطبيعة الحياة أن تتخلَّف بعض العناصر عن بعض المبدعين.. ولقد جاء رديء شعر (المتنبي) من هذه الإخفاقات، ولهذا تألق لمثله الأعلى (سيف الدولة)، وأخفق في الكثير من مدائحه ل (كافور) وكان ذلك مسرح النقاد، ومجال تعاملهم مع شوارده. ولكل شاعر متألق شعر رديء، لا يحال إلى مذهبه، وإنما يحال إلى لحظات المخاض غير المواتية.. والشعراء المخضرمون، وجدوا أنفسهم في أجواء إسلامية لم يألفوها، فكان أن تعثّروا شيئاً قليلاً، ثم استقام معهم الشعر، فاستعادوا تألقهم، وإذا أخفق الشاعر الإسلامي في الجوانب الفنية والذوقية في مرحلة من مراحل حياته، فإن مرد ذلك جدة الأجواء.. وما كان للأدب الإسلامي رؤية ذوقية ولا فنية تختلف عن (الأدب العربي).. والفهم الخاطئ للمقتضى والخصوصية جعل المناوئين يلتمسون (الأدب الإسلامي) ونقده على ضوء ذلك التّصور الخاطئ، حتى إذا لم يجدوه كذلك، استبعدوا إمكانية وجوده، مع أنه قائم بينهم، يتجلى من خلال القول السديد، والكلم الطيب، والمدح المعقول، والغزل العفيف، والنقد المعياري والذوقي المتوازن. وإذ لا نجد مانعاً من التّصدي للشعراء والسرديين المنتمين إلى هذا الأدب ودراسة إبداعهم بآلية النقد العربي، ورد الرديء منه، فإننا نمانع من إحالة الإخفاق إلى الانتماء، ذلك أن الموضوعات والضوابط والالتزام لا ينعكس أثرها على المبدع بشكل سلبي.. ولقد روجع الشعراء غير الهجَّائين في ذلك، فقال قائلهم: من استطاع أن يصف بالكرم، يستطيع أن يصف بالبخل.. وكذلك الحال بالنسبة لشعراء الخمريات والغلمانيات والغزل الفاحش.. فحين يعف الشاعر المحتشم عن ذلك، فإن ذلك لا يكون ناتج ضعف، لكن العفة تحول دون ترديه في مهاوي الرذيلة.. حتى لقد خاف (زهير بن أبي سلمى) من عقوبة مصمية تسقط عليه كسفاً من السماء كلما تذكر قوله في آل حصن: (وما أدري ولست إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء) و (الأدب الإسلامي) حين يؤكد على المعاني الشريفة، لا يختلف موقفه الفني عما سواه من الآداب.. ف (الحق الفني) مطلب (الأدب الإسلامي) كما هو مطلب (الأدب العربي)، وما اختلف (الأدب الإسلامي) عن سائر الآداب العربية والعالمية في شيء إلا في جانب من البعد الدلالي المتمثِّل ب (الحق الأخلاقي)، فهو يؤكد على (شرف المعنى) قدر تأكيده على (شرف اللفظ)، وعلى حمل الهمِّ الإسلامي والذود عن حياضه، والاشتغال بما يهذب الأخلاق، ويربي الأذواق ويحافظ على الإمتاع واللهو البريء.. إن هناك جمالاً وجلالاً، فالجمال متعلِّق بالشكل، والجلال متعلِّق بالمعاني، و(الأدب الإسلامي) يحتّم السمتين: الجلال والجمال، فيما يكتفي البعض بالجمال. ولن نضرب الأمثال فكل (أدب عربي) هو (أدب إسلامي) إلا إذا خالف نصاً شرعياً قطعي الدلالة والثبوت، وشرط (الأدب الإسلامي) فنياً ولغوياً هو شرط (الأدب العربي).. وما كان ل (الأدب الإسلامي) استقلالية في جوانبه الفنية والذوقية، بحيث تخص ذلك بدراسة مستقلة، ونعمِّق الجفوة بينه وبين سائر الفنون، وإنما القصد رد الافتراء.. نعم (الأدب الإسلامي) يرفض (العامية) بحجة واقعية اللغة، ويرفض (النثرية) بحجة أن (قصيدة النثر) لها حضورها، ولها روادها ونقادها، ويرفض (الإغراق في الغموض)، بحيث لا يدري الشاعر ما يقول، فضلاً عن المتلقي، ويرفض (خلق الأسطورة) التي تحول دون أدنى قدْر من التوصيل، ويرفض تقويض أركان الفن الروائي، بحجة انعدام الشكل الروائي. ورفضه هذا مشروع، فكل ناقد عربي لا يمت إلى الأدب الإسلامي بصلة له رؤيته ومواقفه الرافضة.. ولا يدخل هذا الرفض في الأحكام الفقهية، لكنه يدخل في شروط الفن، وسلامة الأذواق، واستكمال شروط النوع الإبداعي. فالشعر له شرطه وسمته، والسرديات لها شروطها وسماتها.. ولا تعرف القصة إلا بسماتها.. ولا تعرف الرواية إلا بسماتها، ومن أخلَّ بشيء من ذلك تعرَّض للمساءلة المشروعة. وتمسُّك الأدب الإسلامي بأصول الفن لا يحول دون التحرف للتجديد. و(الأدب الإسلامي) يضع كل شيء في نصابه، فلا يعد التخريب تجريباً، ولا الحداثة الفكرية المنقطعة تجديداً، ولا التّفحش في القول حقاً من حقوق المبدع، ولا الفوضى حرية.. ومع أن تلك الرؤى دُولة بين سائر النقاد في مختلف المذاهب، فإن تضخيمها بحق الناقد الأخلاقي جور وظلم. وفي النهاية فإن (الأدب العربي) أصل ل (الأدب الإسلامي) وما اختلف الأدبان إلا في الأقل من البعد الموضوعي، فإذا رضي (الأدب العربي) بالعهر والكفر، واتسع لذلك فارقه (الأدب الإسلامي)، وإذا احتفى بالكلمة الطيبة والقول السديد عاد الأدب الإسلامي إلى حواضنه، على حد {.. إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ..}. ومن تصوَّر (الأدب الإسلامي) على غير ذلك فليأت ببرهانه إن كان صادقاً. وجملة القول: إن الجوانب الفنية والذوقية قاسم مشترك بين (الأدب الإسلامي) وسائر الآداب العالمية، والأدب هو البوابة الأولى، والإسلام هو البوابة الثانية، ولا يكون أدب إسلامي حتى يبارك فنياته الأدب العربي، و(الحق الفني) و(الحق الأخلاقي) صنوان، وبهما يخفق الأدب في فضاءات الفن الرفيع.. وإذ نقبل طائعين أو مكرهين ب (الأدب) الوجودي، والحداثي والماركسي والواقعي والسريالي وسائر الإضافات أو الأوصاف فإن القبول ب (الأدب الإسلامي) حق مشروع.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:32 PM | #102 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الترويح وأثره التربوي..! 1 - 2
د. حسن بن فهد الهويمل عندما يعن لي الحديث عن أي ظاهرة معرفية أو سلوكية، أحاول أن أحرِّر مفهوم الكلمة: لغوياً واصطلاحياً، وأن أتقصّى أمداءها فيما تيّسر من (الحضارات) البادية والبائدة، وأن أستشرف محطاتها الزمانية، إذ لكلِّ حضارة مفاهيمها وشروطها وتحوُّلاتها، بل ربما يكون لكلِّ (مصر) رؤيته، كما المذهب القديم والجديد للإمام (الشافعي) - رحمه الله -، وتحرير أيّ معلومة يُعَدُّ من المقدّمات الصحيحة، المؤدِّية إلى نتائج صحيحة. وإشكاليات المشاهد في اضطراب المفاهيم حول المسمّيات ومقاصدها. وما اختلف المتابعون حول المتداول بين العلماء والفلاسفة والمفكِّرين إلاّ عندما لا يكون تحرير المفاهيم والمقاصد لكافة المصطلحات والظواهر دقيقاً ومحدَّداً، وبخاصة الوافد منها، متى نقل أو عُرب ولم يُترجم. وكلمتا (ترويح) و(تربية) كلمتان عربيتا الأصل والمنشأ، ولكنهما بإزاء مصطلحات غربية مماثلة، قد يؤدِّي هذا التماثل إلى الخلط بين المقتضيات. والمصطلحان أكثر ارتباطاً بالمناهج التعليمية، وإن كان الترويح مقصداً إعلامياً وتربوياً في آن، إلاّ أنّه أكثر لصوقاً بالتربية، والتربية صنو التعليم. ف(التعليم) إيصال المعلومة. و(التربية) تنمية الوعي وتوفير المهارات: الفكرية، والعلمية. فأستاذ النحو يعلِّم الطلبة أنّ الفاعل مرفوع وأنّ المفعول منصوب، وأنّ النواسخ ترفع وتنصب أو تنصب وترفع، وأنّها حروف وأفعال وأسماء، ولكن التطبيق العملي لا يتم إلاّ عن طريق (التربية)، فكيف يستطيع المعلِّم أن يحرِّك المخزون الحفظي، ويحوِّله إلى ممارسة عملية، بحيث يتحدّث الطالب ولا يلحِّن، ويكتب ولا يخطئ، وبحيث يوظّف مكتسبه المعرفي فيما يقول ويكتب ويفعل. وكم من حافظ لفن القيادة المكتوب لا يقدر على ممارستها. وكم من إنسان يحفظ المتون، ولا يقدر على الفهم، ولا يحسن الاستعمال ولا الاسترجاع، حتى لا يقيم كلمة، ولا يستنبط حكماً، وهذا هو الفرق بين التعليم والتربية، والحفظ والفهم، والنظري والتطبيقي. والتعليمُ الحشوي التلقيني يخرِّج حفظةً لا يتمثّلون. و(الترويح) من حيث مدلوله اللغوي لصيق بالمدلول الاصطلاحي، والجذر اللغوي له دلالات متفاوتة، لا مجال لاستقصائها ومنها: الرواح، والمراوحة، والارتياح، والريح، والمروحة، والتراويح، وهي صلاة التهجُّد في رمضان. ومن حيث الاصطلاح: نشاط حركي أو استمتاع سمعي أو نظري يبعث في الممارسين الراحة والأنس، ويعيد نشاطهم الذي فقدوه في جد العمل أو يطرد السأم والملل والقلق الناشئ من الفراغ. وما من عامل جاد إلاّ هو بحاجة إلى الترويح عن نفسه، وفي الأثر:- (روِّحوا القلوب فإنّها تمل كما تملُّ الأجسام)، والترويح يتنازعه القول والفعل والاستماع والمشاهدة والاسترخاء. فالسباحة وركوب الدراجات والحيوانات وسائر الألعاب، وكافة الممارسات، تكون رياضة، وتكون ترويحاً، وقد تكون أداءً وظيفياً. والقصد وحده، هو الذي يحدِّد المقاصد. و(الترويح) مصطلح اجتماعي ثقافي، يكثر تداوله في مجالي التربية والإعلام. ومقاصده الأولى كسب الراحة والسرور من عمل غير إلزامي، عملٍ تهواه النفس، وتميل إليه، عملٍ مفتوح، وليس محدَّداً، إنّه عمل حر ينطلق معه الإنسان وفق إرادته الشخصية. وهناك فرق بين مفهوم الترويح بوصفه ممارسة، ومفهومه بوصفه نتيجة، ومفهومه بوصفه أنماطاً وسلوكيات. والمعنيّون يفرِّقون بين المفاهيم. و(الترويح) يتحقّق باللهو واللعب وبالعمل الجاد، إذا ارتبط بالهوايات الصعبة، كصعود الجبال والممارسات الكشفية والتنقيب عن الآثار والتعرُّف على طبائع الحيوانات والحشرات والزواحف. ذلك أنّ ما تهواه النفس قد يجعل الممارس لأصعب الأعمال وأخطرها في حالة من الرفاهية والراحة، وفي الحديث (أرحنا يا بلال بالصلاة) وهي ثقيلة على المنافقين، ومن الناس من لا يقوم إليها إلاّ وهو كسلان. وحين لا تكون هواية غالبة، لا يتحقّق الترويح إلاّ باللَّهو المباح أو المحظور. وعندما نستدعي كلمة (لهو) قد يثار حولها أكثر من علامة استفهام. ذلك أنّ من اللهو ما هو محرّم، ومنه ما هو مكروه، ومنه ما هو مباح، والفقهاء يختلفون في حدود المباح. ومتعلّق المترخصين قول الرسول صلى الله عليه وسلم:- (إنّ الأنصار يعجبهم اللهو) وحضور الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجته عائشة (رقص الأحباش) في المسجد، وسماعه للشعر المستهل بالغزل، وإحضاره للجاريتين المغنِّيتين لبيت عائشة في يوم العيد. حتى لقد تفاوت موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع موقف (أبي بكر) و(عمر) رضي الله عنهما، فما أحضره الرسول صلى الله عليه وسلم لعائشة عدّه (أبو بكر) من مزامير الشيطان، و(عمر) حصب الأحباش بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. كلُّ هذه الممارسات والرخص دليل على أنّ في الإسلام أكثر من فسحة، ومنشأ الخلاف بين المجيز والمانع مراوحة الأحاديث بين الخصوص والعموم، وتحامي الهزل، والإغراق في الورع، وحمل الناس عليه، والأخذ بالعزائم، والتحفُّظ على الرخص، استبراء للدين والعرض، وبين هذا وذاك يدخل الناس في التنطُّع، أو ينفلتون من الضوابط المشروعة. والفقهاء الأصوليون من أهل الاجتهاد يعرفون حدود ما أنزل الله، وموقف البعض من الغناء موقف شديد الحساسية إزاء موقف آخرين من ظاهرية ومتصوّفة. ولسنا هنا معنيين بتحرير الحكم، فذلك يُسأل عنْه أهل الذِّكر، ونحن تبع لهم فيما يقرُّه الشرع. وإشكالية الغناء أنّ الفرق الإسلامية والمذاهب الفقهية تفاوتوا في الأحكام. ف(الجمهور) على التفريق بين المباح والمحظور، و(الظاهرية) على التسوية في الإباحة، وطائفة من (المتصوّفة) يربطونه بالعبادة. ونحن هنا نود الحديث عن المباح من الترويح في كلِّ مجال لا في مجال السماع وحده، لأنّه مجال حساس، والفطر السليمة كما القلوب المستفتاة عن البر والإثم. وحين نعود إلى مفهوم (الترويح)، نجد أنّه بكلِّ صوره نشاط طوعي اختياري، يمارسه الإنسان أثناء الفراغ، أو بعد إنهاك العمل الجاد، وقد يكون جزءاً من التربية والتعليم، ولكنه يؤدّى بطريقة مغايرة، لمجرَّد تنوّع مصادر التعليم. وكلُّ ممارسة طوعية لا بد أن تحدّد دوافعها وأهدافها ومشروعيتها ونتائجها وآثارها السلبية والإيجابية. ومتى أصبحت مشروعة، وكان من الضروري رسم خطط لها، ووضع تصوُّر سليم، يحول دون الفوضى أو الوقوع في المحظور. والخطة والتصوُّر يمكِّنان من الممارسة على ضوء الضوابط الحضارية. ولقد ذهب الدكتور (خالد العودة) إلى اختيار تعريف يشتمل على مشروعية الأهداف والنتائج، فقال:- (نشاط هادف ممتع يمارس اختيارياً بدافعية ذاتية وبوسائل وأشكال عديدة مباحة شرعاً، ويتم غالباً في أوقات الفراغ)، وهذا التحديد مرتبط بالمذهب السلفي الذي ينتمي إليه المعرِّف، إذ كلمة (مباحة شرعاً) تجعل التعريف إسلامياً سلفياً، وليس إنسانياً، وهو ما نجنح إليْه. والعادة جرت عند الحديث عن القضايا المختلَف فيها أن يقال: إنّ الإسلام دين الوسطية، وقد يكون مفهوم الوسطية مؤدِّياً إلى الوقوع في المحاذير، فالبعض يحيل إلى الوسطية ما يراه هو، لا ما يقع ضمن مفهوم الوسطية. واستغلال الخصوصية للرؤى الذاتية انحراف بالمفهوم عن مجاله، ووقوع في المحذور. والبعض حصر الترويح بين مطالب (الروح) و(الجسد)، وآخرون انفتحوا في مفهومه، وجعلوه سبيلاً من سبل الوقوع في الرخص المختلف حول مشروعيتها. والمتحفِّظون الآخذون بسد الذرائع ودرء المفاسد والورع والاستبراء للعرض والدين - على حدِّ قولهم - يتحفَّظون على إطلاقات غير محدّدة، وقد يبلغ بهم التحفُّظ حد التنطُّع، وقضايا المحظور والمباح تحتاج إلى الدقّة. فالمنع والإباحة والتوسُّط رؤى لا يصار إلى شيء منها إلاّ بعد التصوُّر السليم، أو سؤال أهل الذِّكر المشهود لهم بالعلم والورع وفقه الواقع، والناس أوزاع بين العقلانية، والنصية، والهوى، والوقوف عند حدود ما أنزل الله، وقليل ما هم. وكلّما أراد الإنسان القبول بشيء عوّل على قوله تعالى:- {وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77) وقوله:- {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ}(الأعراف: 32) وأدخل في النصيب والزينة كلّ محظور، وإذا أراد رفض الشيء عوّل على قوله تعالى:- {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}(لقمان: 6)، وقوله تعالى:- {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} (الأعراف: 157) فيدخل في اللهو والخبائث كلَّ مباح. والإشكالية في تحديد (الأنصبة والزينة والخبائث والطيِّبات). ولا يمكن ترشيد الفتيا، وتجنيب الناس مضلاّت الأهواء إلاّ بالرجوع إلى المؤسسات الدينية، ك(هيئة كبار العلماء) و(المجمع الفقهي)، كما لا يجوز لأيِّ مؤسسة أن تبادر إلى الفتيا في النوازل إلاّ بعد التمحيص والتداول والسماع والبحث عن الحق دون تغليب الهوى والتعصُّب المذهبي. ولقد سمعت من يحدِّد الترويح في أربعة أشياء:- - ملاعبة الرجل لامرأته. - وتأديب الرجل لفرسه. - ومشي الرجل بين الغرضين. - وتعلُّم السباحة. وآخرون زادوا:- المصارعة والرماية. لحديث (عليكم بالرمي فإنّه من خير لعبكم)، وحديث مصارعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومصارعة اليوم تختلف عن مصارعة ما سلَف، إذاً هناك لهوٌ مباحٌ ومصارعة مباحة، وتحت اللهو والمصارعة مفاهيم تزل بها الأقدام، وتضلّ الأفهام. وإذ يكون من أوجب الواجبات مراعاة المحاذير الشرعية، فإنّ حفظ الوقت والجهد والمال لا يقل أهمِّية عما سواه، ومع مجمل المحاذير الدينية والدنيوية فإنّ الإنسان بشر، والبشرية لها مطالب مادية، والله يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر. والترويح السليم لا يتحقق إلاّ في ظل التربية السليمة والتوعية الحضارية، فهو رغبة توجّه إليها التربية المتوازنة. وللترويح مجالاته المتغلّبة على الحصر، والعاقل من يزن الأمور، ولا يحمِّل الأشياء ما لا تحتمل، ولا يترك لنفسه الحبل على الغارب. والمتابعون للمداولات التربوية ذات العلاقة بعلم النفس الحديث، يقفون على دراسات موضوعية، حاولت أسلمة العلوم الحديثة ك(علم النفس) و(علم الاجتماع) و(مناهج التربية والتعليم)، والحضارة الإسلامية حضارة شمولية، تضع المعالم في الطريق، وترقب من بعيد مؤكدة على المقاصد والغايات، ولا تحول دون التعالق الواعي مع مستجدات الحضارات، وانفتاحها يدع للإنسان حرية الاختيار ورسم الخطط، ووضع المناهج، فالعقل السليم يميِّز بين الحق والباطل، وهو العقل الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم باستفتائه، وهو العقل الذي أحال إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله (أنتم أدرى بأُمور دنياكم). و(الترويح) إمّا أن يكون مرتبطاً بالتربية، أو يكون عاماً للكافة، ومجيئه في غالب الأمر بعد الجد المرهق أو الفراغ الممل، وقد يبتدره هواة لا ينظرون إلى الجد ولا إلى قلق الفراغ. ونحن هنا نورد الحديث عن الترويح بوصفه الشامل ودوافعه المتعدِّدة، وإن عرَّجنا إلى خصوصية الطالب وحاجته إلى النشاط المفتوح. والراهن العالمي والعربي على وجه الخصوص راهن غارق بالفتن والمغريات ومحكوم، بوسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة. ودعاة السوء ينفذون إلى الأذهان والأفكار والغرائز والشهوات من كلِّ جانب. والذي يجيل نظره أو يلقي سمعه يرى أنّ القنوات الفضائية وأشرطة (الفيديو) ومراكز المعلومات والمواقع المتعدِّدة وثورة المعلومات والاتصالات تعمل على التضليل والإفساد، وتوفِّر المتع الزائفة، ولقد ثبت أنّ فساد الأفكار أخطر من فساد الأخلاق، وظاهرة الإرهاب ناتج الاختراقات المغرضة. والتحذير والمنع ليس حلاً، فكلُّ شاب قادر على أن يدخل على كافة المواقع، وأن يشاهد كافة القنوات، وأن يتصل بكافة مصادر الإفساد الفكري والخلقي، وهو مستلق على سريره أو متكئ على أريكته، وأساليب الحسبة بحاجة إلى مزيد من العصرنة لتواكب المرحلة المعقَّدة. والخطورة أنّ الغزو الفكري محكم ومنظَّم ومتعدِّد القنوات. وعلماء السوء يتخطَّفون الشباب، ويأتونهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم. والشباب في فترة من المراهقة وخلو الأذهان وثورة الغرائز وطغيان المثاليات صيد سهل وثمين. ولأنّ الشباب عرضة للإغواء والاستدراج، فقد عجب الله من شاب ليست له صبوة، وأكدت الأحاديث الصحيحة أنّ الشاب الذي نشأ في طاعة الله يظلُّه الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه. وليس أدل على سهولة انقياد الشباب لدعاة السوء من سقوطهم في حبائل الإرهاب، فكلُّ الإرهابيين شباب في مقتبل العمر، ويعاضد قنوات الغزو ومواقع التضليل الإمكانيات المادية التي وفّرت القدرة على السفر والقدرة على إقامة الاستراحات، والتجمُّع فيها، وإضاعة الوقت، ومفارقة الأهل والأبناء، وكلُّ هذه الأشياء تُعَدُّ من وسائل الترويح غير البريء وغير المشروع. وليست كلُّ التجمُّعات، ولا كلُّ الاستراحات موبوءة، ولكن التخلِّي عن صناعة محكمة للترويح تحت أيّ مبرر سيفتح المجال لمبادرات شخصية غير مأمونة، والشباب كما الصيد السابح في الفضاء، وكلُّ طائفة تصوِّبُ آلياتها لإسقاطه في حبائلها. فهل نمتلك آليات منافسة؟ أحسب أنّ المسألة بحاجة إلى مكاشفة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:34 PM | #103 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
الترويح وأثره التربوي..! 2-2
د. حسن بن فهد الهويمل وأمام طوفان الغزو المتعدِّد المنافذ، والتحوُّلات المزامنة للنظام العالمي والعولمة، يجب على المؤسسات: الدينية والتربوية والإعلامية والثقافية التحرُّف الجاد لإعداد وسائل حضارية للترويح والترفيه، والتخفيف من التحفُّظ الزائد والخوف المعوِّق. فالمؤسسات كالمضطر، عليه ألاّ يكون باغياً ولا عادياً، وللضرورات أحكامها: فراغ ممل، وشباب بريء، وإمكانات متعدِّدة، ودعاة سوء، وكاسيات عاريات مائلات مميلات، وأغانٍ ماجنة، وتمثيليات مسفة. وفي ظلِّ هذه الظروف تتضاعف المسؤوليات، وتتعقَّد الحلول، وتصعب المواجهة، مما يتحتَّم معه التحرُّف والتحيُّز. وقطاعات التربية والإعلام والدعوة والثقافة والهيئات تمثِّل خط الدفاع الأول، ولا شك أنّها حريصة على تحقيق الأهداف التربوية السليمة، ولكن الظروف العصيبة تتطلَّب إعلان النفور بأحدث الوسائل وأدق الآليات. ومع أنّه من الضروري حفظ التوازن، ودرء المفاسد، وسلامة المقاصد، وملاءمة البرامج للمستويات العمرية وتعدُّدها، وعدم تأثيرها على الواجبات الدينية والدنيوية، وتوفّرها على تنمية المهارات وسلامة القدرات العقلية والصحية والجسمية، والتربية الخلقية والمعرفية، فإنّ مؤسسات الترويح الرياضي تقع تحت غزارة الإنتاج وسوء التوزيع، ومن ثم تفقد التعميم والاستمرار، وتتصف بالمنطقية والرتابة، وقد لا تتمتع بالقبول الجمعي، وقد لا تجد الراحة للمتابعة والمراقبة بحجّة التخصُّص وأهلية المسؤولية، وأحسب أنّ المرافق العامة لا تملك خصوصية التنفيذ، ولا تسمو فوق النقد والمساءلة. ومع تعدُّد المجالات وتنوُّع المفردات والانفتاح على كلِّ شرائح المجتمع، فإنّ الأهم وضع الضوابط التي تحول دون النقص أو الانفلات أو المخالفة. والضوابط قد تكون متعلّقة بذات الممارسة، أو بذات الممارسين، أو بمكان الممارسة، أو بزمانها، أو بمقدارها، أو بأزيائها. ولست أشك أنّ المؤسسات ذات العلاقة تضع كلّ الاعتبار للضوابط والشروط، ولكن آراء الناس مختلفة حول الشرط والضابط، وهذا الاختلاف يضع المؤسسة تحت طائلة المساءلة. وليس من المجدي أن تذعن المؤسسات لكلِّ دافع أو مانع، ولكن المجدي توخِّي التوازن. ومتى تُركت الممارسات الترويحية للظروف والصُّدف، أو غلّت أيدي الممارسين، حادت العملية عن مسارها التربوي. وأحسب أنّ هذا الزمان المليء بالمغريات، المفعم بالقلق والملل والترف بأمسّ الحاجة إلى التوسُّع في مجالات الترويح، فالشباب صيدٌ ثمينٌ لكلِّ مغرض، ولأنّ الدول المتقدمة في ظاهر الحياة الدنيا قد أخذت قسطاً وافراً من وسائل الترويح، وهي وسائل قد لا تكون مباحة في الشريعة الإسلامية، فإنّ من واجبنا عرض ما يفد منها على ضوابط الشريعة، فما كان منها مقبولاً أخذ به، وما كان محظوراً وأمكن التعديل أو التبديل لزم ذلك، وإلاّ وجب المنع، وفي إسلامنا من الفسح والرخص ما يغني ويقني. وإذا كان الإحقاق والإبطال متعلّقين بالاختلاف المعتبر وجب الميل إلى المحقّقات، ذلك أنّنا في وضع استثنائي، يتطلّب منا المبادرة وتدارك الأمر قبل فواته. ونحن إذ نحفز على المبادرات فإنّنا نجد الأُمّة العربية قد وقعت في التبعيّة، وتحقّق فيها خبر الرسول صلى الله عليه وسلم (لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر)، وكثير من وسائل الترفيه والترويح مجلوب دون وعي بمفاسده، في ظل البدائل الأكثر سلامة والأعم فائدة، والأنسب لناشئة الأُمّة. ولست من الذين يضعون كلّ بيضهم في سلة (الرياضة البدنية) ولا مع المنبتين الموغلين في الدين بدون رفق. وإذا تكون الرياضة البدنية صنو الرياضة الروحية فإنّ في الرياضتين ما هو مطلب إسلامي، وفيهما ما هو مخالف للشرع، ولن ندخل في التفاصيل، والعقل السليم والفطرة النقية تميِّزان بين البر والإثم، ولأهمية الترويح والترفيه: بدنياً وروحياً، يتحتّم القصد وحفظ الجهد والوقت، فالترويح حين يزيد عن الحاجة يتحوّل إلى الترف، والترف ورد ذكره في القرآن الكريم إحدى عشر مرة، كلّها في سياق الذم. وقد يوصف الترويح باللعب، واللعب مباح بضوابطه، وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (كان لكم يومان تلعبون فيهما، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما، يوم الفطر ويوم الأضحى). على أنّ المسلم قد يجد الراحة في جدِّ العبادة، والترويح من الراحة، فالجذر واحد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أرحنا يا بلال بالصلاة)، وقد تكون تسمية (صلاة الترويح) من هذا الملمح، ومن الخطأ الفادح أن يتصوَّر البعض أنّه بالإمكان تحقُّق الراحة في العبادة عند كلِّ الناس. ولهذا يتذمّر البعض من إقامة (المدن الرياضية) أو لا يرى المساعدة على إقامة (الأندية الرياضية) وقد يتصوّر ذلك من الصوارف عن العبادة، والحق أنّها اذا أخذت بحقها، وحفظ بها التوازن أصبح وجودها ضرورياً ومفيداً، وفات المتحفِّظين أنّنا إن لم نتعرّض لشبابنا بمثل هذه المدن، وبمثل هذه الأندية تعرّض لهم غيرنا بما هو أسوأ. وما في الرياضة من بأس، وحاجة الحواضر والأحياء المكتظة بالسكان إلى ساحات وحدائق لممارستها. ولا بد للمعنيين من التوازن بين مطالب الروح والجسد. ولدخول (الفن) كافة في مجال الترويح الروحي، فقد كان للفقهاء مواقفهم المتباينة، وأشدها حساسية الموقف من فن الغناء والرسم والنحت والتصوير والتمثيل والرقص، ودون ذلك الفن القولي، كالإبداع الشعري والسردي، ولا مجال لتقصِّي الضوابط لأنواع الفنون، وإزاء الانفتاح لا يجوز أن نذعن للواقع، ولا أن نجعله حجة، وبخاصة في الفن القولي الذي أفسده أدب الاعتراف وأغوته (الحداثة) وحادت به عن مساره السليم، والفن بكلِّ فنونه إمّا أن يربي الأذواق ويصلحها أو يفسدها، وأنواع الفنون جزء من الترويح. ومما نفقده في مدارسنا تربية المهارات بوصفها جزءاً من الترويح. فأين القاعات والصالات والمعامل والمختبرات والجمعيات؟ وأين اليوم الدراسي؟ أين المكتبة والمرسم؟ اين الإذاعة والمسرح؟ أين الكشافة والرحالة؟ ... كلُّ ذلك قد يكون موجوداً، ولكنه دون المؤمل. على أنّ الرياضة البدنية تُعَدُّ من أهم مفردات الترويح، وأكثرها شيوعاً وتنوُّعاً. والرياضة ممارسة، وليست تشجيعاً، وأنواع، وليست (كرة قدم)، وبالتالي فإنّ الاكتفاء بالنظر، والتشجيع، وتنظيم المسابقات، يُعَدُّ من سلبيات الرياضة. وحين أدركت جهات الاختصاص العدول عن الممارسة إلى المتابعة، طرحت مشروع (الرياضة للجميع) بمعنى أنّها لا تتحقّق فائدتها إلاّ بالممارسة الذاتية. والرياضة التي تميل النفوس إليها تحوّلت إلى إشكالية، وكادت تنحصر في (كرة القدم) ولم يعد هنالك اهتمام مماثل بأنواع أهم: كالسباحة والجري والفروسية والدراجات. والأسوأ من ذلك كلّه أنّ المسؤولين عنها عالمياً يسوُّون بين الرجل والمرأة، ولا يَعِفُّون عن العري والاختلاط والخلوة، وفي هذا مفسدة للأخلاق، وانحراف بالظاهرة عن مسارها المشروع، حتى لقد بدؤوا يلوِّحون بحتمية مشاركة المرأة في (الأولمبيات) مع ما في ذلك من مفاسد لا يقرُّها الإسلام، ولا تقبل بها الدول الملتزمة، وهذا التعنُّت إخلال في سيادة الدول، وتصدير تعسُّفي للحضارة الماجنة، وخلط قسري للحضارات المتناقضة، وممارسة القوة في فرض الإرادة والتمادي في التعنُّت والتعسُّف مؤذن باستفحال الإرهاب والعنف، وإذ لا يكون إكراه في الدين، ولا سيطرة للرسل، فإنّ ما سوى ذلك أولى. وأهم شيء في مفردات الترويح تفادي إزعاج (الرأي العام)، فإذا كان الرأي العام يضيق ذرعاً ببعض الظواهر المختلف حول مشروعيّتها، فإنّ من الحكمة تفادي ذلك، لأنّ (الرأي العام) جُبل على قناعات تشكّلت مع الزمن، لا يجوز تكسيرها بعنف، وليس هناك ما يمنع من التحوُّل المرحلي، وبخاصة إذا كانت القضايا بين الفاضل والمفضول، وليست بين الخطأ والصواب. ولعلّنا تابعنا العبثيات المؤذية حول الاحتراف، والدخول في التحدِّي، والمنافسات غير الشريفة، إذ وصل التحدِّي بالفرقاء إلى أن بلغت قيمة اللاعب أكثر من (أربعين مليون) ريال، وفي ذلك تبذير، وكُفْرٌ بالنعمة، وتصرُّف في مال الله الذي أعطاه لصاحبه بشرطه. وإذ يكون من المتوقّع العقوبة بزوال النعم، فإنّ الخوف أن يكون الزوال عاماً، وليس خاصاً، وفي الذكر الحكيم {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(25) سورة الأنفال. فالعقاب قد يمس الجماعة، إذا جاهر المستخفون بالذنب، ولم يجدوا مَن يأطرهم على الحق، وفي الأثر: (إن فيها عبدك الصالح ...)، ولأنّه لم يتمعّر وجهه لله، فقد بدئ بالعقوبة، ومثل هذه المزايدات الرخيصة توغر نفوساً فقيرة، لا تجد كسرة من الخبز، والإسلام ينهى عن كسر نفوس الفقراء بالمباهات، وإن كان من المشروع أن يظهر أثر النعمة على المنعَم عليه. ولسنا بصدد التقصِّي لمفردات الترويح ومجالاته المحظور منها والمباح وترتيبها في سلّم الأولويات، فالمهم ليس في استيفائها، ولكنه في تفعيلها وضبطها. والترويح يكاد يتربط بالأنشطة المدرسية المتمثّلة بالمراكز الصيفية، في فصل الصيف، وقد يتداخل مع التنشيط السياحي، بحيث يتنازعه النشاط المدرسي وفترات الصيف التي يواجه فيها الشباب فراغاً مملاً، والفراغ حين لا يملأ بالجد أو بالمُتع المباحة يفضي بذويه إلى المفاسد والشاعر يقول:- (إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة) وإذا كانت القنوات الفضائية ودعاة السوء يفسدون الأفكار، فإنّ تجار المخدرات والفن الرخيص يفسدون الأخلاق، والشباب الخليجيون بالذات مستهدَفون، لسعة ذات اليد عندهم، ولتمكُّنهم من الوصول إلى أي مصدر معرفي أو ترفيهي أو ترويحي. ولسنا بحاجة إلى الحديث المفصّل عن التعريف والمفهوم والأهمية والأهداف والشروط والوظائف للنشاط المدرسي الفصلي أو المستمر، فذلك كلّه مبسوط في الكتب التربوية، وأهم شيء في هذا المجال التخطيط، والتنظيم، ووضع الأساليب المجدية، وتوزيع المسؤوليات والمهمّات، والانفتاح الواثق على كلِّ جديد، وتهيئة الصالات والميادين والمباني المناسبة المفتوحة طوال اليوم، وعدم الحساسية وسوء الظن. إنّنا في سباق مع الجريمة، وفي سباق مع الرذيلة، وما لم نسيِّج أجواءنا ونمتلك الآلية والمهارة، سبقنا الشر إلى المواقع الحساسة. ولتحقيق التفوُّق لا بد من اختيار الكفاءات للتخطيط والابتكار والإشراف والمتابعة. ولست مع الذين يتصوَّرون أنّ الترويح لا يتحقق إلاّ بالرياضية البدنية، ولا مع الذين يقصرونه على الرياضة الحديثة كالملاكمة والمصارعة و(الجمباز) وحمل الأثقال وسائر مفردات الرياضة العضلية، إنّ الترويح في توفير متطلَّبات الهوايات كافة، والطلبة يختلفون في هواياتهم، فقد تكون (الورشة) و(الكمبيوتر) و(المرسم) و(التمثيل) مجالات رحبة للترويح. والإشكالية أنّ المدارس قد عوّلت على الرياضة وحدها، وصرفت نظرها عن النشاط الثقافي والعلمي والفني والاجتماعي، وإن أقامت لذلك بعض الوزن إلاّ أنّه وزن دون المؤمل، ولو وازنّا بين هذه الأنواع لوجدناها كلّها مجتمعة لا تساوي النشاط الرياضي، وتلك ظاهرة عامة تعاني منها وزارات التربية والتعليم في الوطن العربي. والتربية الفنية وإن كان لها نصيب وافر، إلاّ أنّها ليست أهم من التربية الثقافية المغيّبة بإزاء التربية الرياضية والفنية.والنشاط الثقافي بوصفه من مفردات الترويح لا يقتصر على الكتابة والقراءة والكتاب والمكتبة، وإنّما يمتد الى الإذاعة، والتعويد على إعداد البرامج والإلقاء والتمثيل وإعداد المسرحيات، ومعرفة متطلَّبات التمثيل والإخراج وغيرها، والمحاضرات والندوات والصحف والمجلات، والتعويد على الإلقاء والإنشاد والحوار والرسم والخط والإملاء. وفوق كلّ ذلك المكتبة والكمبيوتر وطرائق البحث في المعاجم والموسوعات وتحضير المعلومات في أسرع وقت وأقل جهد، وأنواع القراءة والنقد والتلخيص والتحقيق .. كلُّ ذلك يمكن أن يتحوّل من جهد مضنٍ إلى ترويح. فالقراءة عند البعض تُعَدُّ فترة للراحة والترويح، ولا يكون ذلك إلاّ بعد التعويد وغرس الهواية في النفوس في وقت مبكر، لقد أدى الاهتمام بالرياضة البدنية إلى تقليص الرياضة الروحية وتنمية المواهب. ومما لا يمكن إنكاره أنّ الطلبة أحوج ما يكونون إلى صقل مهاراتهم، ولقد أدركت الدولة ضعف الشباب في الحوار، وعدم قدرتهم على التعبير عن وجهات نظرهم، ومن ثم أنشأت (مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني)، وإشكالية الناشئة إنّهم لم يعوّدوا على الحوار داخل الفصول، ولا على الحديث المرتجل عبر الإذاعة المدرسية، ولا الكتابة في الصحف المدرسية، وليس هناك ما يمنع من تكثيف البرامج الثقافية، وجعلها من مفردات الترويج والترفيه، ذلك أنّ زرع الهوايات الحميدة تجعل القراءة والكتابة ترويحاً. والترويح في ظل الظروف القائمة أصبح مهماً للغاية، ولا بد من إعادة صياغته، والنفاذ به إلى المنزل، وتذكير الآباء، والأمهات بأهميته، ولا بد من العمل على أسلمة الترويح، وتشذيب أي مفردة مستوردة، ولا بد أن يقتنع المجتمع أنّ الترويح والترفيه واللهو واللعب نافذة بقوة الوسائل والإمكانيات، فإن اعتمدنا المنع والتخويف والتقوقع على الذات، فوّتنا على أنفسنا فرص المبادرة، ونحن الأقدر على طرح مشروعنا الترويحي لحماية شباب الأُمّة، وكيف لا نبادر والذِّكر الحكيم يحثُّنا على تدارك نصيبنا من الحياة الدنيا، ويتساءل مستنكراً على من حرم زينة الله التي أخرج لعباده. وخلاصة القول إنّ الترويح رافد من روافد التربية السليمة، وسبيل قاصد لتحقيق مقاصدها، وليس أضر على الأُمّة من جد ضاغط أو فراغ قاتل، فالضغط يفضي إلى الانفلات، والفراغ يؤدي على الفساد، والدولة الواعية لمهمّتها تضع قضايا الشباب في أولويات اهتماماتها، ولن يتحقق الخلوص من المعوقات إلاّ بملء الفراغ بالمفيد، ومتى أحس المسؤول بأنّ الوقت لا بد أن يمتلئ بما يحقِّق الأهداف، فإنّه إن لم يمتلئ اختياراً امتلأ اضطراراً، وبين الاختيار والاضطرار تكمن الإشكاليات العصيّة الحل، فلنبادر إلى امتصاص فائض الجهد والوقت بما يعود على الأولويات بالإيجابيات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:35 PM | #104 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
كن وديعاً أبا وديع
(قول في عموم الدلالة..!) د.حسن بن فهد الهويمل همي أبداً منصب على استثمار الوقوعات العارضة والتقاط نثارها، وإن لم تكن بذاتها على جانب من الأهمية، إذ هي بعض تجارب الحياة، وما الحياة إلا كالأودية المفعمة من قطرات المطر. والوقوعات وإن صغرت في أعين الخليين إن هي إلا لبنات في بناء الحياة. وما فعلت ذلك إلا لتأسيس حوار حضاري، يأخذ العفو، ويُعرض عن الجاهلين. فما عدنا بعد هذا العمر الطويل والتجارب العميقة نحفل بالتناجي المقصي والمصادر لحق الشريك في القول والفعل. وليس من المفيد أن نمر بمشاهد القول، وكأننا لم نسمع ولم تقل. وإذ يكون الاختلاف حتماً مقضياً، فإنه قدر الواقع المأزوم، وواجبنا توجيهه قِبَل الإشراقات المعرفية. ومن توهم حسم الاختلاف، تصيده الوهم فيمن تصيدا. ولما لم يكن بد منه فإن من الحكمة ترويض النفس على معايشته. وشيوع الاختلاف ملمح إيجابي، متى ضبط إيقاعه، واستقامت أوضاعه. ولكن أن يشيع في ظله التفحش، ويستفحل الاتهام، وأن يحيد الجدل عن القول المعروف، فأمر مع توقعه مرتعه وخيم. والناس فيما يتصورون مذاهب، والعدول بهم عما يشتهون مغامرة محفوفة بالمتاعب، ولكنها من فروض الكفايات. وتصعيد الفعل ورده إلى حد العنف سجية لا يتخذ سبيلها إلا المستجدون على المشهد النقدي، ممن لا يعرفون أنه ما من عالم، أو أديب، أو ناقد إلا هو راد أو مردود عليه، إلا من لا ينطق عن الهوى، ومن ألَّف فقد استهدف. والذين لا يروضون أنفسهم على احتمال الخلاف غير المبرر ومعايشة ذويه صوتاً وصورة تضوى أجسامهم من المفاجآت الغريبة والملاحاة العنيفة. هذا الاستهلال مقدمة يراعى فيها عموم الدلالة لا خصوص السبب. والخلاف الأعنف بين أبي وديع/ عبدالفتاح أبي مدين، والأستاذة فائزة الحربي حول مصدرية محاضرته عن (البرقوقي وبيانه) خلاف مشروع، لو كان قول الطرفين لبعضهم حسناً. ف(الكاتبة) تُدِلُّ برسالتها الأكاديمية التي أشاعتها بين الناس، وتفاخر بجهدها الذي طاف بها آفاق المعمورة، و(كل فتاة بأبيها معجبة) و(أبو وديع) يُدِلّ باقتداره وماضيه، وما تركه خلف ظهره من منجزات على مدى نصف قرن ونيف. وفات الطرفين مشروعية تعويل اللاحق على السابق. وبهذا فليس عيباً أن يستمد الدارس بعض ما يحتاج إليه، مما هو مطروح في الطريق، ومبثوث في المراجع. بل أكاد أقطع بأنه لا يوجد نص بريء، وما (الأسد) في النهاية إلا مجموعة من الخراف المهضومة. والمشهد النقدي في مختلف العصور ينوس بالمصطلحات المتعلقة بالتعالق والتناص والتوارد والسرقات، وقد فصل القول فيها (ابن رشيق) في الأقدمين و(أحمد مطلوب) في اللاحقين. وفي العصر الحديث ظهر مصطلح (التناص) الذي شاع في أعقاب استفحال المناهج اللغوية، وأحسب أن وعيه يحسم الخلاف، ويهون مصائب الاتهامات التي يتراشق بها الكتاب، وإن كان مجال (التناص) الإبداع، إلا أنه قد يمتد إلى الدراسات؛ فالأفكار والنتائج التي يتوصل إليها السلف، قد تمتد إلى الخلف من حيث لم يحتسبوا. ومجال (التناص) إذاً في الشعرية والأدبية والنتائج، أما النقل الحرفي فيحال إلى (المصادر والمراجع) ولا يكون من باب (التناص). وفصل ما بين السطو والنقل المشروع تحسمه الإحالة إلى المرجع أو المصدر. وما عيب ناقل من ناقل إذا روعيت ضوابط النقل، ومهما حاول الخلف إخفاء نكهة السلف فإنها بادية لذوي الاختصاص. وكم قرأت من كتب، ونسيت أنني قرأتها، فإذا اندلق لعاب القلم على الورق، قلت بعض ما قالته، حتى يظن القارئ أنه هو، فالذاكرة المتوقدة مع صاحبها كما عفريت (سليمان) يأتي بالمقروء قبل ارتداد الطرف. والدارسة الشاكية ظلم ذوي القربى، ربما أنها أحست بذاتها تتمطى بين سطور (أبي وديع)، غير أنها لم تقتصد في التعبير عن رؤية ذاتها. وأستاذ بحجم (أبي وديع) ووزنه لم يحتمل الاتهام المباشر بهذا القدر، وبخاصة حين أشارت إلى الصعود على أكتاف الآخرين. وكان يتوقع منه حين أسرفت في اللوم ألا يسرف في الرد؛ إذ خير من المجاراة في التنابز أن يرشدها، وأن يلتمس لقولها محملاً حسناً، أو أن يصرف النظر عن تساؤلاتها واستدراكاتها، فما عيب صامت، وقد يكون السكوت جواباً وخطاباً، وما أجدره بلزوم الصمت إن لم يجد إلا هذا الرد الكاسح، ومكمن عتبي عليه أنه أخذ بمبدأ: (من اعتدى عليكم...) ولم يرق له العفو والصفح. ومثل هذه الفلتات جعلتني أضيق ذرعاً بمشهدنا النقدي الذي لما يشب عن الطوق، وكم سئمت الانصراف عن القضايا والاشتغال بالأشخاص: مصادرة وتهوينا. وواجب كل الأطراف المتنازعين حول قضايا الفكر والأدب أن يترافعوا أمام المتلقي حول تلك القضايا، وأن يدلوا بحججهم إلى القراء الذين يفرقون بين الدعوى الصادقة والادعاء الكاذب. ويتحقق ذلك حين يبدي المدعي رؤيته بموضوعية، ويرد المدعى عليه بموضوعية أيضاً. والمتلقي كما القاضي يفصل بين المتخاصمين، إذ لا تجوز الأثرة، بحيث يكون الراد هو الخصم والحكم، وفي النهاية فالحق أبلج، وما ضاع حق وراءه مطالب. و(الدارسة) بعد أن فاقت من هول الصدمة، وتمالكت أعصابها قالت: (هذا غير معقول يا أبا مدين) (الجزيرة 23 - 9 - 1426هـ). واستهلالها ومبتغاها معقولان، ولكنها فيما أرى ارتبكت حين تصورت فداحة السطو على جهودها، و(بنات الأفكار كالبنات الأبكار) ولكن (الحق قد يعتريه سوء تعبير)، ولقد عجبت من فعل عنيف ورد فعل أعنف. ولو كنت مجاملاً أو متقيا تقاة أو مداهنا، لفعلت ذلك مع رجل أخذ بيدي حين تعذرني الناس، وذلك يوم أن فتح لي صفحات جريدته قبل نصف قرن، ولما أزل معه في زمالة وصداقة تنمو مع الزمن. وما كان بودي استفحال الخلاف اللجوج، فالمعارك الأدبية كما الحرائق من مستصغر الشرر، ولست ضدها إذا أخذت بحقها، ولكنني ضد حيدتها إلى ما لا يحتمله الموقف، وبوادر الخلاف بين الطرفين تنذر بالحيدة. ولما يزل مشهدنا رهين المحبسين: البغي وسوء الظن. حتى لقد كاد ينفض سامر عقلائه، بحيث لم يبق به إلا من لا يؤبه به، وإذا كان رواد الحركة النقدية يؤزون الخلاف، فمن ذا الذي يقيل العثرات. ولربما تضيع المعارف تحت غبش الانفعالات الآنية، والقبول بها تحت أي ظرف شرعنة وإلف. ولقد حَمِد المشرِّع امتلاك النفس عند الغضب. وتجاوُز (أبي وديع) الغاضب إلى الرسائل العلمية وأصحابها، كما صنيعة الأعراب في (العرِّ) الذي يكوى غيره وهو راتع، وهذا التجاوز دليل احتقان لا مبرر له. وكم ضقت ذرعاً بمثل هذه الاستدعاءات التي يعمد إليها غير المؤهلين، وبخاصة الكبار بإمكانياتهم لا بمؤهلاتهم، وتلك صيرورة لا يقتضيها المقام. فالكاتبة لم تمس (أبا وديع) لأنه غير مؤهل أكاديمياً، وما كان من حق أحد أن يجعل العصر عصر بطاقات لا عصر كفاءات. وإذ تكون طائفة من حملة المؤهلات العلمية دون المستوى، فإن ذلك محكوم بقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. كما أنها لم تدل بشهادتها، ولم تعب خصمها في شيء من ذلك، وليست دون مؤهلها لتعاب. واستدعاء (أبي وديع) لذوي التخصصات الذين حملوا ما لم يحتملوا مدعاة لتوسيع رقعة المشكلة. ومثل هذا الاستدعاء غير المبرر يعد من لي عنق القضايا، والخروج بها طوعاً أو كرهاً عن مسارها، وتلك بعض إشكالية مشاهدنا الثقافية. ولما كنت ابن بجدة النقد - ممارسة على الأقل - فقد عانيت من فلتات ألسنة شطت بالقضايا عن مدارجها، وطوال أربعة عقود، كنت فيها عرضة لتقويلي ما لم أقل، وكم قلت، وأعدت القول: (اقرؤوا ما تحت السطور، ولكن لا تنطقوني بما لم أنطق)، وقد يكون لعنف (أبي مدين) ما يبرره، فأنا أعرف جيداً أن ناقداً وأديباً بمكانته، لا يمكن أن يركن إلى النقل الحرفي، ولا أن يتخفف بمرجع واحد، حتى ولم كانت لا تكدره الدلاء، وهو بثقافته وممارسته أكبر من أن يتحسس من ذوي المؤهلات، وأكبر من أن يعول على جهد، ثم يتكتم عليه. وهذا الثناء، وتلك التزكية لا تصادر حق (الدارسة) في التساؤل. وحتى لو استرفد منها أو من غيرها فالأمر جد يسير. ذلك أنه في محاضرته يعول على (المنهج التكويني) = التاريخي، والتكوينية هنا تعني مكونات النص، وهذا المنهج نقلي، يتقرى الوقائع والأحداث، ولو اعتمد في محاضرته على غير هذا المنهج فإن ذلك لا يمنع من التداعي، فالكاتب في النهاية محصلة مقروئه، والدارسون والنقاد لا ينطلقون من فراغ، بل هم ك(النحلة) تمتص نسع الأزهار، وبقدر التنوع والكثرة تكون الجودة. وكيف يدعي النقاء دارس أو كاتب، والرسالات السماوية تأتي لتتم مكارم الأخلاق. وحديث (أبي وديع) عن البرقوقي وبيانه الذي استعرضته على عجل ممتع وشيق، وكيف لا وهو سليل عصر (الرافعي) و(الزيات) و(البرقوقي) و(طه حسين) حتى لقد قيل عنه بأنه (طحسني)؛ لوجود شبه بين الأسلوبين المتسمين بالسهولة الممتعة والممتنعة. وهو فيما يكتب كأستاذه العميد العنيد، يغيب النصوص التي قرأها من قبل، ولكنها تُظهر أعناقها، وتشي بنفسها. وكم أعاني من مثل تلك الوشاية في بعض ما أكتب، فإذا عزمت على كتابة بحث أو مقال، أحسست بتداعيات كأنها (الدُّر) المتدفق، وما يخلص منها إلى شبات القلم يكون ك(بنت الدهر) مع (المتنبي) الذي تساءل مستغرباً وصولها إليه: (فكيف خلصت أنت من الزحام). وكم أخشى أن يقع الحافر على الحافر، فأقع تحت طائلة (الأشباه والنظائر). ولقد مس الشعراء الأوائل والأواخر طائف من هذا التعقب، ف(الخالديان) لم يسلم منهما شاعر. ونقاد المشاهير من الشعراء ك(أبي نواس) و(أبي تمام) و(المتنبي) الناقمون والموضوعيون نقبوا في شعرهم، وكادوا يردون كل بيت إلى شاعر قديم وبخاصة مع (المتنبي)، والمهتمون بالسرقات الأدبية أصابوا بأقلامهم أبرياء، حتى لقد أصبحت (السرقة) ظاهرة من ظواهر النقد، درست بوصفها أهم الظواهر النقدية في كتب مستقلة عند (مصطفى هدارة) و(بدوي طبانة) وألف فيها من قبل تطبيقاً (مهلهل العبدي) و(العميدي) و(ابن وكيع) و(الحاتمي) و(البديعي) و(الخالديان)، وشققها البلاغيون، لتكون دركات، ولما تزل الاتهامات المتلاحقة على أشدها. ولقد وُوُجه الشعراء ببعض ما احتملوا، مع أنهم أقدر وأغنى من أن تعدو عيونهم إلى جهد من دونهم، وإن سطا بعضهم بالقوة على شوارد الأبيات، كما فعل (الفرزدق). ومثلما اتهم الشعراء العمالقة، فقد اتهم الكتاب الأقدمون، ف(الجاحظ) اتهم باعتماده على مترجمات (أرسطو) وعيب على تكتمه في البيان والتبيين، كما اتهم الكتاب المعاصرون بسرقة الأفكار والمناهج، وهذا (طه حسين) مَثَلُ السوءِ في هذا يتهم بالسطو على جهد المستشرق (مرجليوث) و(جب)، وتؤلف الكتب لرد دعوى الانتحال، وهذا (محمد محمود شاكر) يتهم أستاذه الذي اضطره إلى قطع دراسته بسرقته، ويصف كتاب (طه حسين) (مع المتنبي) بأنه نسخ موضوعي لكتابه عنه. وهذا (نجيب محمد البهبيتي) الناقم على أستاذه (طه حسين) يشايل من سبق ومن لحق، وهذا (مصطفى هدارة) يتهم (إحسان عباس) و(محمد شعيب) و(أحمد مطلوب) بالنقل من كتابه عن السرقات دون الإشارة إليه. كما أن الصديقين اللدودين (أحمد أمين) و(طه حسين) يشيع كل واحد منهما عن صاحبه ما سربه طلابهم فيما بعد، وكأن كل واحد منهم لم يقدم إلا ما سرق. والمتعقب لظاهرة السرقات، يجدها تمس الكبار والصغار. ولمشهدنا الأدبي النصيب الأوفى، وبخاصة ما تمخض عن صراع (الحداثة) و(التجديد)، وكم أتمنى لو درست هذه الظاهرة وقومت، فليس كل اتهام كاذب أو مبالغ فيه. وعلى الرغم من كل ما سلف فإن الأستاذة (فائزة الحربي) من حقها أن تسأل، وأن تذكر بنفسها وبجهدها، وأن تعتب على أستاذ بحجم (أبي مدين) لم يذكرها عند القراء، وأخشى أن يكون (أبو وديع) كصاحب (يوسف) الذي ظنه ناج منهما فقال له: {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}. و(الأصمعي) وهو يجوب قفار (نجد) يبحث عن شوارد اللغة أفاده أعرابي يرعى غنمه بكلمة أو حكمة أو بيت، ولما رآه يكتب ما سمع قال له: اذكرني في كتابك. ولكن واجب التساؤل أن يكون بأسلوب لا يؤدي إلى الاتهام الصريح والإثارة العنيفة، و(أبومدين) عليه أن يتقبل عتبها بقبول حسن، وأن يصرفها إلى الحق بعطف أبوي، ولاسيما أنها تدعي إهداءه نسخة من الرسالة، والأستاذ لا يقر لها بذلك، ويدعي أنه أنجز بحثه قبل طبع رسالتها، وقد يكون واهماً أو ناسياً، وبخاصة أنه يتلقى كل يوم إهداء، ويستعرض كل ساعة كتاباً. وأذكر في هذا السياق زميلاً لا يرقى الشك إلى اقتداره واستغنائه، وجد بين أوراقه بحثاً أعطاه إياه طالب من طلابه، فظنه بعد طول مكث بين أوراقه أنه له، فبعث به إلى النشر، ولما نشر قامت الدنيا ولم تقعد، وأصر الأستاذ الواهم أنه له، ولم يذعن لدعوى الطالب، ولم يتذكر، ولج الطالب ومن وقف وراءه في عتو ونفور، والبحث برمته لا يقدم ولا يؤخر، ولكن الحق أحق أن يتبع، ولو أن الأستاذ اعترف بالخطأ مذكراً بما ترك خلفه من كتب ودراسات ومقالات ومحاضرات لتقبل الناس اعتذاره وصدقوه. و(الدارسة) في ردها الأخير على (أبي مدين) توخت الموضوعية، وساقت طائفة من النتائج التي توصلت إليها في رسالتها، والتي وافقها فيها (أبومدين) ومع قوة الحجة، فإن ذلك كله لا يرقى إلى اليقين، ذلك أن بحث (أبي مدين) مزيج من الخواطر والانطباعات وشيء من تأريخ قليل، وقد يكون استمد لحمته من معهودات قرائية سلفت، وكما قلت فهو يعتمد (النقد التكويني). والمسألة في النهاية محسومة، لو كانت على ما يدعي أحد المتخاصمين. ف(الدارسة) أمام مقالات أفضى بها الكاتب إلى الناس، وأصبحت جزءاً من التاريخ الأدبي، وتحت يدها رسالتها، وعليها أن تفكك النص كلمة كلمة، وجملة جملة، وعبارة عبارة، وأن تضع شبات قلمها على مفاصل القضية، والناس شهود الله في الأرض، ولقد فعلت بعض ما يجب في مقالها الأخير، وليس (أبووديع) أول من اتهم، وليست أول من أقام الدعوى. وعليها بعد هذه الزوبعة المغبرة أن تنظر في مدى اعتماده على جهدها، ومشروعية هذا الاعتماد، ولكن عليها مع هذا أن تعرف أن الذي هداها إلى المراجع والمصادر قادر على أن يهدي ناقداً مثل (أبي مدين) ولاسيما أنه ربيب الأدب المصري، وأنه ربما كتب ما كتب من هذا المعهود الذهني الذي يختزنه، ولو لزم أن أكتب عن ظاهرة أو قضية فسيكون لمعهودي الذهني قصب السبق، وكم من كاتب ترك السرى خلف المراجع وراء ظهره، وأعطى قارئه من مخزونه فيوض علم غزير. وتعاطفي مع الدارسة، وإشفاقي عليها من تلك الغضبة المضرية، لا يحولان دون رغبتي في أن تعود إلى نفسها، وأن تنظر فيما إذا كانت قد تجاوزت حدود ما يجب بحق أستاذ بسن جدها، عركته الحياة، حتى لم تدع في جسمه موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، كما أود من (أبي وديع) أن يكون وديعاً، فما عاد الزمن كما هو في عصر (الأمواج والأثباج). وما فَعَلْتُ ما فعلت إلا لفك الاشتباك، وترشيد المشهد النقدي، ولقد تحاميت الحكم في القضية، فأنا شاهد لم ير شيئاً. ويبقى الود ما بقي العتاب، ويبقى العود ما بقي اللحاء.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:36 PM | #105 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
كل الناس يغدو..! (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل ليس الغدو المستدعي للاعتناق أو للإيباق خاصاً بالأفراد وحسب، إنه لهم وللمؤسسات وللدول، ولكل مكلف يكشف عن ساق، ليقول أو ليفعل، كلٌ على حسبه وفي موقعه، وبقدر اتساع مجال الغدو، تتسع تبعاته، وتنداح فداحة موبقاته. والذين يقرؤون كلماتي - على قلتهم، يدركون أنها تدور حيث تدور العلل الأربع. - اللعبة واللاعب. - وإشكالية المفاهيم. - والتأصيل والتحرير للمعارف والمسائل. - وخيانة المبادئ. وتلك بعض عثرات الغدو والرواح: المعْتقة أو الموبقة، والعالم الثالثي: النامي أو المتخلف حقل ممرعٌ لكل اللعب: الكونية والإقليمية ولإرهاصاتها، ولسائر عمليات التضليل الإعلامي، والتجريب: الحسي والمعنوي ما ظهر منها وما بطن. حتى يكاد غدوه يكون موبقا ليس إلا، وما كانت صراعات مفكري هذا العالم المتخطف نخبه من كل جانب إلا بسبب: اضطراب المفاهيم، وجريان اللعب فيه مجري الدم، والعجز أو التقصير في تحرير المسائل وتأصيل المعارف، والقول دون الفعل، والوقوع تحت طائلة التسطح والابتسار، والتقحم لعويص المسائل بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وكلما حاولت الانفلات من سلطان (اللعبة) أو (المفهوم) أو (التأصيل) أو (التحرير) و(الادعاء) شدتني أمراسُ كتانها إلى (حليمة) وعادتها القديمة، وارتباطي المأزوم بتلك العوائق يسترفد إصراره غير المستكبر مما تقترفه خطابات فردية مختلطة في ظل غياب الخطاب المؤسساتي، ومما يقترفه كتبة يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، ويستجدون معلوماتهم مما هو دولة بين وسائل الإعلام الموجه، وما كانوا يعلمون أنها تميل مع الريح حيث مالت وكأنهم مراوح الطاقة الهوائية، والتعويل على المتداول في المشاهد، يذكر بالطواف الصعلوكي-: (طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك) أو ب (الطّوّافات) التي تأكل من خشاش الأرض. والمتسكعون في مطارح الإعلام المضلل كما ديَكة المزابل، يتيممون الخبيث منه يأكلون، ويرضون من الثقافة بالمسموع، وهي ثقافة غير موثقة، وغير معمقة، وغير بريئة، ولكنها بقوة الصناعة التقليدية المغرقة للسوق والطاردة للصناعة الأصلية، والناشئة التي قطعت صلتها بالتراث، وخفَّت إلى الحضارة المهيمنة لا تجد حرجاً من أن تجادل في الثوابت بالباطل، لتدحض به الحق. ومن خلال متابعتي للمقول والمكتوب حول القضايا الساخنة كافة في مشاهد أمتنا المهيضة الجناح من ظواهر ومصطلحات ووقوعات ونوازل، وبخاصة ما يتعلق منها بالمستجدات، أدركت أن المصطلحات المهيمنة - منقولة كانت أو معربة أو مترجمة - يفهمها بعض المتنفذين فهماً سوقياً متسطحاً لا معرفياً متعمقاً، وحق المتلقي على من يرودون له ويحفظون ساقته أن يتزودوا من المعارف وأن يتضلعوا من العلوم، وأن يتخطوا به إلى المعاجم والموسوعات والدراسات الموثقة، وأن ينظروا إلى المستجد في مجال التطبيق، ليتعرفوا على الأشباه والنظائر في عقر دارها، ويستوعبوها كما أنشأها أصحابها، لا كما تصورها المتلقون الذين شبِّه لهم. ومن المؤذي أن يجد مثقف السماع من يتلقاه بالأحضان، ومن يأخذ مقولاته، وكأنها قضايا مسلمة، لا معقب لحكمها، على سنن الطاعة العمياء، التي تحتم التنفيذ الفوري، ثم المراجعة على استحياء وتردد. والمصرون على قناعاتهم الفجة المرتجلة، لا يدرون ما المصطلحات ولا اللعب، ولا يعرفون أن قولهم عن الظواهر والمذاهب والتيارات والنوازل قول أقرب إلى العامية منه إلى العلمية، تخطفوه من رسيس الإعلام لا من بحار المعرفة، (ومن قصد البحر استقل السواقيا)، وفوق ذلك فهم يقولون ما لا يفعلون على شاكلة الإسلام الفكري، والغدو مع أولئك أو إليهم من الموبقات، وكان حقاً على كل مستبرئ لعرضه ودينه أن يتبين وأن يتثبت، فخفة العياب خير من امتلائها بالمضلات، والأكل من خشاش الحضارات تضوى به الحضارة المتلقية، والآبقون من حضارتهم والموبقون للسماعين لهم، لا يزيد جهدهم عن تسخين مكرر لما غب من طبيخ الاستشراق، واجترار ممل للمتداول بين وسائل الإعلام الموجه لغسيل الأدمغة. ولك أن تتصور كيف يفهم بعضهم المصطلحات المستوطنة كما الأوبئة، وكيف يغالطون أو يدلسون في المتقضيات، وكيف يتعاملون مع المتحفظين على المضمرات من تلك المقتضيات، وكيف غلبوا على أمرهم، وأوحي إليهم أن (الليبرالية) و(الديموقراطية) الشائعتان على كل لسان لا تعنيان إلا (الحرية) وحسب، وأن القبول بهما من متطلبات المجتمع المدني، وأنهما كما استبدال الكهرباء بالسرج، وأن عثرات النظم السياسية في الدول النامية لا يقيلها إلا ما أقال عثرات عصور محاكم التفتيش وصكوك الغفران، وأن سائر المستجدات وسائل ووسائط وأطر، وليست أفكاراً ولا مناهج ولا مبادئ، هذا التصور الناقص يقبل من الدهماء، ويستغرب من قادة الفكر. ولأن المَلَكة والثقة والعقل معطلة فإن ما قيل عن (الماركسية) و(الوجودية) يقال عما خلفهما ولا من مدكر. وتداول هذه المفاهيم في الأوساط الثقافية يبدي سوأة الرؤى المستبدة في المشاهد، وليس أضر على الأمة من ربط المصطلح بمفرده من مفرداته المقبولة، أو التعليل الخاطئ على حد {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى}، والكتب الميسرة التي تقدم مبادئ ومداخل للمتداول من الأفكار، تنطوي على مفاهيم أولية، لا يتوفر عليها المتنخوبون، وتلك المعلومات الغائبة أقل ما يجب التوفر عليها. ف (الحرية) مفردة من مفردات المصطلحين الآنفي الذكر، كما أن (التجديد) مفردة من مفردات (الحداثة) الفكرية المنحرفة، وبعض مشمولات تلك المصطلحات تشكل قاسماً مشتركاً مع مصطلحات حضارة الانتماء، ولكل مفردة حد وشرط، وفات المخادعين بطُعم الحرية أن لتلك المصطلحات مقتضيات ومفردات مناهضة ومناقضة لحضارة الانتماء وفكرها السياسي ومقاصدها الأدبية، وأن سائر اللعب تختفي وراء الأصباغ التي تستدرج الموبقين من حيث لا يعلمون، وتصيب الذين يلحقون بهم. وإذ يفتقر العالم الثالث إلى مزيد من الحرية، وإلى مزيد من الإصلاح الجذري لأنظمة الحكم، وإلى مزيد من المؤسسات الفاعلة المفعَّلة، وإلى تمثل واعٍ للمقول، فإن المنقذ له أن يصوغ أنظمته على ضوء مقتضيات حضارته المتسعة لكل متطلبات المجتمع المدني السوي، ورفض المصطلح لا يعني رفض إيجابياته، ولا يعني التسليم المطلق للأوضاع القائمة، ولا يعني تجاهل المنجز الغربي والاستخفاف به، والقول بشيء من ذلك إجهاض للمصداقية. وإذا كان الفكر السياسي الإسلامي منقذاً كما (الديموقراطية) لذويها، فإن الإسلام أحق أن يتبع، فنحن كهم نحتاج إلى حياة كريمة، ولكننا نرجو من الله ما لا يرجون، والعالم الثالث حين يكون في حاجة ماسة وفورية إلى الإصلاح الشامل والجذري والفوري فإن الإحلال على طريقة لعبة المكعبات لا يعد من الإصلاح في شيء، والاستيراد للأنظمة والأفكار لا يكون كما الاستيراد للأجهزة والمعدات، والخلط بين الحضارة والمدنية كالخلط بين الوسائل والغايات، والمجربون والراصدون لا يجدون بداً من المرحلية، وتهيئة الأذهان للقبول والتفاعل، فالشعارات الجوفاء زاد رديء للاستهلاك الإعلامي، والمتغنون بمثل هذه المصطلحات المغرية، أشد الناس عداوة وإجهاضاً لمضمراتها. وكلما قال المنذرون قولاً لينا، وطالبوا بتهيئة الأجواء النفسية والاجتماعية والسلوكية المناسبة للمستجدات النكرات، بادرهم الموبقون بحتمية الحرية والتجديد، وما دورا أن أخذ الحذر عبر المساءلة والمكاشفة لا يعني نفي المشترك. وهل يتصور عاقل إمكانية رفض العدل والحرية والمساواة والتجديد؟، وهل يدور بخلد إنسان سوي قبول الظلم والاستبداد والتخلف والعبودية، هذا الاضطراب المخل في المفاهيم، يقف بالمفكر والعالم والسياسي على مفترق الطرق وبنيات الطريق؛ ليحسم أمره، ويعتق نفسه من رق الجهل وعبودية الهوى. ولن تبدو بوادر النجاة إلا بتصحيح المفاهيم أولاً، وتنقية الأجواء من غبش الضلالات ثانياً، وتحرير المصطلحات الشائعة بكل تراكماتها، وفرز اللعب عن المبادرات، ومعرفة اللاعبين الماكرين، وما غدوت في أهل الجدل الفكري أو السياسي أو الأدبي إلا وجدت المغالطات الموبقة. ولو أن مدعي الإعتاق في المشاهد الثقافية والإعلامية والفكرية عرفوا تلك المصطلحات على وجهها، لما حصل تنازع، ولا قامت عداوات - بهذا الحجم على الأقل -، وإلا فالاختلاف إكسير الحياة، ولا يحقق الثراء المعرفي إلا القبول بالرأي الآخر بشرطه، ولما أزل أقول: إن اضطراب مفهوم المصطلحات مصدر كل الإخفاقات، وإن تفخيخ اللعب من المكر السيئ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، ومتى لم نأخذ بأسباب النجاة من قوة رادعة، وسياسة محكمة، وإمكانيات مغنية، وعزم على مناصرة الحق ومراجعة النفس، تجرعنا مرارات الكيد، وما على المستهدف بالمكر والكيد إلا التحرف للخلوص من الموبقات، و{وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ} «سورة الحج 40». وكل الغادين والرائحين يتغنون بالمستجدات والحريات، لا لشيء إلا ليقال وقد قيل، فماذا بعد هذا، وهم - بكل الرهانات الخاسرة - في معزل عن مجال التطبيق، ف (الحداثة الأدبية) وحسب - على سبيل المثال- كما هي في أرض المنشأ، لا تعني التجديد وحده، وإن كان التجديد بعض مقاصدها، وهي فيما سوى الأدب مشروعة ومقبولة، أما في الفكر والأدب والتربية وسائر العلوم الإنسانية فخلق آخر، لا يجوز فيه القبول المطلق ولا الرفض المطلق، ذلك أنها مصطلح تداوله الغربيون، وفق مفاهيم ومقتضيات ليست على وفاق مع قيم الحضارة المتلقية، ولقد دارت شبه وشكوك حول سدنتها واستفاض تواطؤهم بثمن بخس مع قوى البغي والعدوان، وما (الديموقراطية) و(الليبرالية) عن ذلك ببعيد، إذ هما في النهاية مصطلحان سياسيان لا يعنيان (الحرية) وحدها، ولا يعنيان المجالس النيابية والسلطات الثلاث والفصل بينها، وإن تضمناها، والقبول بهما على ما هما عليه عند الغرب المنتج، إقصاء للفكر السياسي الإسلامي وللتجديد الفني واللغوي والدلالي. ودعوى الإفراغ أو التشذيب لتوافق المقتضى الإسلامي تحصيل حاصل، إذاً يجب - والحالة تلك - الاستغناء بمصطلحات الإسلام: السياسية والأدبية والفكرية المتسعة؛ لما وسعته تلك المصطلحات الوافدة، وإذ تتسع (الديموقراطية) لعدد من المؤسسات التشريعية والنيابية والشورية والقضاية والتنفيذية، فإن حضارة الانتماء لا تجد مانعاً من التماثل دون الذوبان أو التسمي والاستبدال. وإذا أخفق العالم الثالث في التطبيق، أو حصلت ممانعة أو تقصير، فإن ذلك يستدعي تصحيح المسار، لا نسف المبادئ، ومثلما نقع في اضطراب المفاهيم، نقع في اضطراب التصورات عن مجمل التدخلات العسكرية و(اللوجستية)، ونقع في الخلط بين الإرهاب والمقاومة. وتفادياً للتذبذب الذي وقع فيه المنافقون، وخشية من الوقوع فيما حذر منه (ابن خلدون) من أن من طبع المغلوب (تقليد الغالب)، ومما تخوف منه (مالك بن نبي) من استفحال (القابلية للاستعمار)، تجب علينا قراءة الظواهر والأحداث بعيون المؤسسات لا بالبصيص الأعشى والعشوائي للأفراد. وهذا الاضطراب في المفاهيم، وتتابع اللعب السياسية المهلكة إن هو إلا ترجمة حرفية للغدوِّ الموبق، وخطورته المتيقنة جعلتني أُبدئ القول وأعيده المرة تلو الأخرى، وكأني ذلك الخطيب البسيط الذي كرر خطبته طوال العام، ولما روجع في ذلك، قال: لو أقلعوا عما أنهى عنه ما كان مني أن أكرر القول، فهل يكون غدونا أفراداً وجماعات لفهم الأشياء والأخذ بأحسنها، أم أنه بيع للثوابت، وهتك للمسلمات، ووقوع في الموبقات. وجملة القول: إن الممانعة المحرمة والاندماج المطلق في عالم القيم، كاليأس من رحمة الله أو الأمن من مكره في (علم الكلام)، وحفظ التوازن مؤذن بالخلاص من الموبقات.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:37 PM | #106 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
كل الناس يغدو..! (2-2)
د. حسن بن فهد الهويمل واستكمالاً لما سبق من تلميحات وتصريحات عن اللعب السياسية الممسك بعضها برقاب بعض، والمتشابهة إلى حد التكرار، وعن اللاعبين الأذكياء، والمنفذين الأغبياء، وعن مجالات اللعب، وأساليبها الذكية، أود أن أتساءل: من الموبق؟ ومن المعتق المنفذ الأجير، أم المتنفذ الخطير؟ إنه تساؤل مشروع. وما ينبئك مثل مجرب أو حاضر للحدث سامع للمختصمين. والمؤمن الواثق بقدرة حضارته على الإدارة والتحكم واستشراف المستقبل والتفاعل الإيجابي يعمل من خلالها، ولا يتلقى نقائضها. ولقد قلت من قبل: - إن مسرح السياسة مصمت، ليست له (كواليس)، فإما أن يظل اللاعب لاعباً، أو يتعرض للتصفية بالتنحية أو بالنحر أو بالانتحار، وذلك حتم عندما تقترب شفرات اللعبة من التجلي، أو حين يذهب كل لاعب بما كسب أو اكتسب، أو عندما يكون الموءود كنيف الأسرار الخطيرة، بحيث تموت بموته ملفات كثيرة، لو أباح بشيء منها لمسَّ العذابُ كل الأطراف. وما أكثر الذين اختفوا من مسرح العرائس، وهم في أوج تألقهم الإعلامي. والذين أغواهم بريق اللعب، وخدعهم اللاعب الخطير بالوعود والأماني، يتهافتون عليها كما الفراش، وكم من لاعب دخل مسرح اللعبة طائعاً مختاراً، وكان بإمكانه ألا يدخله، ولما أراد الخروج منه، لم يكن قد أعد له عدته، فتحول من قائد مهيب إلى مقود خانع أو جثة لا تجد من يواري سوءتها، أو متفلت لجوج تُحكم قيده اللعبة ببطء كما الذباب ولعاب العناكب. وكم من مغرور احتنكته اللعبة، وهو يرقب سراب القيعان ووعد الغرور، الذي لم يصدق منه إلا وعد (بلفور). وشواهد الموبقات ثاوية في المشهد السياسي، يعرفها العالمون ببواطن الأمور، وأبسط التحريات تقف بالمتابع على أطلال وأناسي بلغت ببعضهم الدعاية وصناعة النجوم هام السحب، حتى إذا شارفت المسرحية على فصولها الأخيرة بلغت معها الروح الحلقوم. وما صناعة النجوم وتلميعها إلا جزء من متطلبات اللعب، كي تعشي الشخصيات الزائفة المزيفة عيون الدهماء، وما دروا أنها تعكس النور ولا تشعه، لقد سمعت بأذني ورأيت بعيني متعالماً في إحدى دول الجوار يقول عن أغبى اللاعبين في بيت من بيوت الله: - إن الملائكة تقاتل معه، وحين حصحص الحق لم يدرك السذج فداحة الكارثة، وصدق الله: - {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (يس:62) ولما كانت اللعب المعشية والمصمة ناتج مطابخ سياسية عريقة فإنها لا تفاجئ النظارة بالمسرحيات دون مقدمات، كما الصدقة بين يدي النجوى، إذا لا بد - والحالة تلك - من صناعة النجوم بالقدر الذي يقربهم إلى قلوب النظارة، ولا بد من صناعة المسرح بحيث لا يضيق عن الأدوار وتزاحم الأضداد. وللاعب المحترف قبل أن يأتي بلعبته يختلق المشاكل التي تمهد لها الطريق، وتستحث قدومها، ولاسيما أن العالم الثالث يقوم على تركيبة سكانية وعرقية وطائفية وقطرية وحدودية قابلة للاشتعال في أي لحظة، والمستبد يتأبط الملفات الساخنة يطوي وينشر منها ما يشاء، تحت سمع الضحية وبصرها، وكأن الوهن والحزن قد بلغا الدرك، فما عاد الضحية يميز بين التمرة والجمرة. وإذ تقوم السياسة على التمثيل والخداع فإن ذلك يتطلب براعة الإعداد ودقة الإخراج وتوفير سائر متطلبات مسرح التمثيل، وما كل غاد إليه معه حذاؤه وسقاؤه. والمضحك، وشر البلية ما يضحك، أن مسرح العرائس يُصنع تحت وهج الشمس، ولكن اللعب تتشابه على الذين لا يفعلون، كما تشابهت بقر بني إسرائيل، ومع فقاعة اللون فإن الدهماء تهتف للأبطال المزيفين. والعالم الجشع المتغطرس تحكمه مصالحه الجائرة، وهو بسبيل تحقيق أكبر قدر منها. وكما أن الإنسان موزع بين التسيير والتخيير، وليس جبرياً ولا قدرياً، فإن الكيانات السياسية الصغيرة كذلك، تملك قدراً من السيادة وحرية الاختيار، ولكن البعض منها لا يحسن استغلال المتاح والممكن، ومن ثم تخضع لتقلبات الطقس وقوانين اللعب، وفي النهاية فإن الكلمة الأخيرة لمن يقدر على إنفاذها، وما أكثر (التيميين) الذين قال فيهم جرير: - (ويُقْضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ) (وإنك لو رأيت عبيد تيمٍ وتيماً قلت أيهم العبيدُ) وبعض الكيانات بلغت من الضعف والارتباك والتردد حداً سهل عليها الهوان، وأصبحت لا تتألم من الصفعات والركلات والقعود الذليل كما الطاعم الكاسي: - (مَن يَهُن يَسهُلِ الهَوانُ عَلَيهِ ما لِجُرحٍ بمَيِّتٍ إيلامُ) واللعب التي تستدرج الموبقين تعد في النهاية (فتن) لا تصيب الذين غدوا إليها خاصة، وكم من معتزل أو دافع بالتي هي أحسن مسه طائف من عذاباتها، وذيولها أشد خطراً من متونها، وللرسول الناصح صلى الله عليه وسلم لفتات معجزة ففي قوله: - (الفتنة نائمة) دليل على كمونها في أي تجمع إنساني، وليست طارئة عليه. والدخول فيها : - قولاً أو فعلاً يكون في البداية اختياراً، ولكنه في النهاية يبلغ حد الاضطرار. والذين يستعذبون الخوض في المسكوت عنه، ولا يجدون حرجاً من نبش الخلاف، واستمراء السخرية من حضارتهم وإنسانها والتهافت على رموز الآخر متخذينه عدواً وحزناً، كل هؤلاء من أولئك الذين يبيعون أنفسهم فيوبقونها، وبخاصة حين يكون النبش في زمن المتردية والنطيحة والموقوذة. كما أن تصعيد الخلاف حول الثانويات تمهيد لإيقاظ الفتن النائمة والوقوع في رقها، وما أكثر الذين يغدون أحراراً، ويروحون أرقاء، وفي ضجة العويل والانكسارات نقول لكل متضور متألم: - (يداك أوكتا وفوك نفخ). فمن فتح الأبواب، ومهد الطرق، لتدفق الأسلحة، وقيام القواعد، ومن طبَّع وهرول، ومكَّن للآخر من اختراق الأجواء؟ إن تنفذ الآخر يضع يد المتيح في القيد طائعاً مختاراً، ويجعله يبيع نفسه بأبخس الأثمان. وإذ لا يكون بالإمكان الاعتزال فإن الاستعداد قبل المفاجأة بعض التوقي والعتق. والمؤكد أنه ليس بمقدور أي كيان، وبخاصة كيانات العالم الثالث أن يغلق عليه بابه، ولا أن يكسر سيفه، ولا أن يعض على جذع شجرة حتى يأتيه الموت، وإذ يكون الغدو حتماً، فمن الخير سلوك سبيل العتق، وتفادي طريق الإيباق، ومن أراد النجاة اتخذ أسبابها، من استشارة، واستخارة، واستبانة، وأناة، ورفق، واعتزال للشبهات. والزعماء والمفكرون الذين يحتملون ما لا يفهمون وما لا يطيقون يهلكون أنفسهم وأمتهم، والتحدي غير الصمود، والدفع غير الطلب، والقعود غير التوقي، والاهتياج والاتقاء غير المداهنة، ولا يخفى إلا ما لم يقل وما لم يفعل، وفي ظل ثورة الاتصال لا تخفى على الناس خافية، والموبقون يعرفهم الناس بسيماهم، والإفراج عن الوثائق أو تفلت الألسنة فضح على رؤوس ا لأشهاد، وحين يملك البعض القدر الكافي من الحرية واتخاذ القرار المناسب، يُبلى ببعض المستهمين معه على ظهر السفينة، ممن لا يجد بأساً من خرقها باسم حرية التصرف، مفوتاً بخطيئته فرصة النجاة. وهل حروب العقدين الماضيين التي قضت على كل المثمنات والآمال من صناعة الذين يتجرعون مراراتها،؟ أم هي كما القتام تسوقه الرياح ليزكم أنوف الملثمين. إن كل منفذ غبي يمتد أثره السيئ إلى من حوله، وما أكثر الذين يفضلون السلامة، ثم لا يمكنهم سفهاء القوم منها، وصدق الله {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} (الأنفال: 25)، ولما كانت رياح التغيير تهب من كل جانب فإن مبادرتها بالقبول المطلق دون النظر الثاقب والتبصر الحصيف مدعاة لضياع ما في اليد. وتفويت الاستفادة منها حياد سلبي، يحرم الأمة من الفرص التي لا تطرق الأبواب إلا مرة واحدة. وكم من مجازف أضاع ما في يده وإن قل، ولم يظفر ببعض ما في أيدي الناس وإن كثر. وإذ يكون من طبائع الاستبداد إكراه كل طرف ليمسك بشطر من رداء اللعب، أو أن يكون لاعباً رئيساً فيها، فإن من الحكمة ركوب أهون الضررين. وتحامي الضلوع في اللعب الكونية التي تأتي على الحرث والنسل غدو معتق. واللاعبون الذين ضاعوا، وأضاعوا بلادهم، هم أولئك الذين غدوا ليوبقوا أنفسهم ومن تبعهم من المكرهين أو الطائعين، وكم من هالك مهلك زُيِّن له سوء عمله فرآه حسنا. وكم: (يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن) لقد كان بإمكان الموبقين وعشاق الأضواء ألا يكونوا رؤوس الحراب، ولكنهم رضوا بتولي كبر التآمر، وممارسة دور اللاعب الأكبر ظلماً وعدواناً، ومع ذلك لا يكون في أنفسهم حرجاً من مقاتلة من حولهم من الشركاء في الأرض واللغة والدين والهم المشترك. والقابلية تجعل الناشطين في الفتن مجالاً للعب المرهصة واللعب النافذة. يتجلى ذلك في الأحلاف والاتفاقات والاعترافات وعقد الصفقات المؤثرة على المنظومة السياسية، ولقد بادر إليها من شق عصى الجماعة، وعطل الاعتصام بحبل الوفاق، الأمر الذي أفقد المؤسسات الجماعية دورها المنشود. وعلى كل الأحوال فالعالم خلق ليصطرع، ولكل قوم مصلحة بينة أو خفية من هذا الصراع، ومن أولويات مهماته أن يحافظ على أقصى حد منها، وأن يمهد الطريق إليها، أو أن يحققها بأقل الخسائر، ولا ينجي الضعفاء من الغدو الموبق إلا التكتل والاجتماع والاعتزال الإيجابي لكافة اللعب، وتفادي التوطئة لها، والاتقاء المشروع، والدفع بالتي هي أحسن. إن اللجاجة والحماقة والعنتريات في زمن الضعف وقلة الحيلة والهوان مدعاة إلى كسر العظم وحرق الأرض وحز الرقاب، وكل مشعل للحرب سيكون بعض وقودها، وكل مطلق للكلام على عواهنه سيكون تحت مراقبة الأقوياء، ومن المؤذي أن يضطر المحارب إلى التراجع بعد فداحة الخسائر، وقبل تحقيق الأهداف، أو أن يضطر المتعنتر في خطابه إلى التخلي أو الاعتذار، لقد ملّ المستضعفون من الرغاء بعد الصهيل، وضاقوا ذرعاً ب(البراقشيين)، الذين لم يجنوا على أنفسهم وأهلهم وحسب، بل امتدت أذيتهم إلى من يؤثرون السلامة، ويجنحون إلى السلم، لقد انتهى عهد الدكتاتورية والمقابر الجماعية، وإخراج المعارضين من ديارهم ومطاردتهم في الآفاق، انتهت الخطابات الحدية والتحدي والانتفاخ والمغالطات، ولن يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. لقد شهد العالم الثالث ثورات دامية، تحولت فيها الشعوب إلى غنيمة لمن يستيقظ من نومه قبل الفجر، ويمتطي صهوة الدبابة، وعايش أحداثاً جساماً، كان فيها الموقد والوقود، وعندما خبت نارها، رحل اللاعب بالغنائم، وظل الموقد والوقود يتجرع مرارات ذيولها، ولسنا بحاجة إلى الشواهد، فكل ماهو قائم من فتن، إن هو إلا بداية لعبة أو ذيولها، وخير مثال نضربه واقع الأمة العربية والإسلامية، وكأن كل الغادرين موبقون، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: - (كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) وإذ لا نقدر على الإعتقاق الشامل فلا أقل من تفادي الإيباق القاتل.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:39 PM | #107 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ما يُنشر باسمي في المواقع تَقَوُّل وافتراء..!
د. حسن بن فهد الهويمل (*) أطلعني أحد الإخوة على مقال طويل نُشر في موقع (شبكة القلم الفكرية) بتاريخ 28-6-2005م، تحت عنوان (الليبراليون السعوديون وتجديد المكارثية) وقيل إنّه نُشر من قبل في (مواقع الساحات السياسية) تحت توقيع (حسن بن فهد) وهو حديث عن (الليبرالية) و(الديموقراطية) و(العلمانية)، وكاتبه الذي ربَّما أنّه تقنّع باسمي، أو أتفق معه - وهذا بعيد - والمتقنّع يتوخّى في كتاباته القضايا السياسية والفكرية التي أتناولها في مقالي الأسبوعي كلّ يوم ثلاثاء في جريدة (الجزيرة)، والجريدة تنشر مقالاتي في موقعها على (الانترنت)، وقد يستحسنه البعض فينقله إلى مواقع أخرى، ليكون مجال إعجاب أو سخريّة وتندُّر، وقد حصل ذلك أكثر من مرة، وليس في النَّقل والتعليق من بأس، (والناس فيما يعشقون مذاهب)، وإن كان بعض النّاقلين والمعلِّقين يفهمون ما أقول على غير مرادي، ولكنّها حرِّية القراءة، (ومن ألف فقد استهدف). ومع أنّ الكاتب المتقوِّل يحاول قدر المستطاع التزام رؤيتي حول المستجد من المذاهب، إلاّ أنّه لا يتحرَّج من ذكر الأسماء التي قد اختلف مع بعض توجُّهاتها، وهو اختلاف يتراوح بين التنوُّع والتعارض، ولا يجد حرجاً من الحكم عليها والنَّيل منها، وما كان من عادتي التفحُّش في القول ولا تعمُّد التعيين. والمقال الذي عثرت عليه، والمقالات التي لم أعثر عليها بعد، والمقالات التي قد تُكتب فيما بعد، وإن اتفقتْ مع وجهة نظري في بعض ما أذهب إليه، إلاّ أنّها تختلف رؤيةً وأُسلوباً وطريقةَ أداءٍ، ومهما كانت تلك المقالات مساندة لرؤيتي فإنّني استنكر نسبتها إليّ، وأستعدي السلطة للبحث عن المزوّر إن كانت تقدر على ذلك، وعن أصحاب المواقع الذين يتقبَّلون هذه المقالات، ثم لا يبادرون إلى إلغائها من مواقعهم ومحاسبتهم على جرأتهم. فأنا كاتب لا استدعي إلاّ المبادئ، وموقفي منها موقفٌ علميٌّ متَّزن، وليس لي شأن بأصحابها، فهم زائلون، يمرُّون بها، ثم يتحوّلون عنها، أو تخترمهم يد المنون. ومن ثم لا أسمح لنفسي استدعاء أشخاص بأسمائهم، ولا أسمح لنفسي باستعداء أيّ سلطة عليهم، إلاّ إذا دخلت معهم في جدل أو هم سمحوا لأنفسهم باستدعائي. وأرجو من كلِّ داخل على تلك المواقع أن يشعرني متى وجد مقالاً منسوباً إليّ، وأنا واثق بقُرَّائي ومعارفي على صفحات الصحف، فهم يعرفون أسلوبي، ويعرفون منهجي، وطريقة تناولي للمبادئ والظواهر والقضايا والأشخاص، وتعفُّفي عن ذكر الأسماء ما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وسوف لا يلتبس عليهم ما يُكتب باسمي، ويتعمّد التجريح في أشخاص بأعيانهم، وإن كنت اختلف معهم، فأنا أحترمهم، وأشفق عليهم، وأرجو لهم السّداد والتوفيق، وليس من هدفي المساس ولا التشهير بالمخالف، وكتاباتي دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ودفعٌ بالتي هي أحسن، أجتهد ما وسعني الاجتهاد لتمثّل الحلم والأنّاة والبعد عن المهاترات، وكم أتمنى أن تظلّ القنوات مفتوحة مع الخصوم، فأنا باحثٌ عن الحقِّ، ولست باحثاً عن الغلبة، ومثلما أتمنى أن يجري الله الحقَّ على لساني، لا يسوؤني أن يجريه على لسان خصومي، وكلّ الذي أتمناه أن يوفِّقنا الله جميعاً، وأن يسدد خطانا، والحقُّ ضالّة المؤمن. (*) رئيس نادي القصيم الأدبي ببريدة رئيس المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية بالرياض أستاذ غير متفرّغ للأدب الحديث بجامعة القصيم
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:40 PM | #108 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ارتباك المشهد السردي نقداً وإبداعاً..!! (1 - 2)
د. حسن بن فهد الهويمل لم يكن من عادتي أن أكمل قراءة عمل روائي في وقت قصير أو متواصل، بل لم أكن جاداً في قراءة الأعمال الروائية، وليس ذلك بمانعي من القول في شأنها قدحاً أو مدحاً، والسعي لإقالة عثرات المتخافتين بقول ليس من الإبداع ولا من النقد، ومغالبة المعوقات في المشهد الأدبي محليا على الأقل. وحين لا يكون لي اهتمام حاضر المشهد في هذا اللون من القول السردي فإن اهتمامي بالدراسات التاريخية والتنظيرية والتطبيقية لا يقل عن اهتمامي بالشعر وفنونه، وما صرفني عن النصوص السردية إلا ما يعتريها من عجف في اللغة لا ينقي، وتسطح في الأفكار لا يغني، وخروج متعمد على الضوابط لا يحتمل، وكتابات كما الخنثى المشكل، لا تعد من الإبداع في شيء. ودعك مما سوى ذلك من جنوح أخلاقي، أو انحراف فكري، وشطح سياسي، يسوِّق به الكتبة المبتدئون كاسد أعمالهم. وعزوفي عن رديء الأعمال ما كان له أن يحول دون التواصل غير العازم وغير الدائم مع عمالقة السرديين في الوطن العربي، ومع ما ترجم من أعمال عالمية. ولن استعرض شيئا من ذلك، فهي معروفة عند ذوي الشأن. ولربما جاء ذلك العزوف نتيجة الإخفاقات الذريعة مع تأثره برأي (العقاد) في السرديات الروائية، فهو لا يرى تكافؤاً بين الجهد والوقت من جهة والقيمة المكتسبة من جهة أخرى، ومن ثم يفضل قراءة الشعر، لكثافة الدلالة وانزياح اللغة، ومغالبة الفهم، ولقد كانت له مع ذلك إلمامات نقدية وله رواية يتيمة تقص حبه الفاشل. وجناية بعض الروائيين الأحداث أنهم لم يسيطروا على اللغة، ولم يجودوا نظامها، ولم يتضلعوا منها بالقدر الكافي، كما أنهم لم يتوفروا على (تقانة) السرديات الإبداعية التي لا يجوز المساس بها، والبعض منهم مارس الكتابة في غياب الموهبة والتجربة والثقافة، حتى لقد أصبح مولوده على هذه الشاكلة خداجاً مبتسراً، فيما أسفّت طائفة من الموهوبين والأدعياء معاً في البعد الموضوعي إسفافاً اشمأز منه الغيورون على قيمهم الأخلاقية، وفي ذلك الاقتراف ضياع للإجلال والجمال. وتلك الظواهر والسمات الخارجة على المألوف يستمرئها المنطفئون والقاعدون، ويشيد بها المجاملون حياء أو مقايضة، ولأنني ممن فُرضت عليهم متابعة الحراك الإبداعي والنقدي بحكم تخصصي وميولي واشتغالي، فقد وجدت من خلال متابعتي للأعمال السردية وللقراءات النقدية التطوعية على الأقل محلياً وعربياً شططاً وتحاملاً من كل الأطراف. فالإبداع الروائي ونقده في النهاية ظالم ومظلوم، ولإنقاذ الموقف، وترشيد المسار، لا بد من مبادرة حصيفة، توقف هذا الهدر المسرف والتدهور المفجع. فالمبدعون الروائيون في الوطن العربي كافة، لا أكاد أستثني أحداً منهم، يمارسون الصلف والتعنت والتعالي، وكأنهم بقية الفن الرفيع، جاؤوا على فترة من عمالقة الإبداع، وأحسب أن السامري أضلهم حين قال: (الزمن زمن الرواية). والنقاد المسايرون للمبْدعين المبتدئين والكتبة المتطفلين على الفن السردي، يسرفون في الإقبال والإدبار، فلا يحبون هوناً، ولا يبغضون هوناً. ومتى فقدت الموضوعية والمعيارية، وغاب الاعتراف بحق المتلقي، دخل أطراف السرديات في متاهة التلاسن القائم على الإقصاء والإلغاء والتجهيل. وحين يكون هناك عنف ورد فعل أعنف، لا يجد الوسطاء مناخاً مناسبا لفض الاشتباك وتقرير الحق، ولا يجد الوسطيون أجواء ملائمة للحراك المتوازن، فكل طائفة تحمل شطراً من الخطأ، وما كنت فيما أقول بسبيل البحث عن المشاجب، فكلنا خطاءون، والخيرية فيمن يستبق الخيرات، ويستجيب لداعي الحق، ويبحث عن سبيل يؤدي إلى إحياء الفن الأصيل، ويعمل على إيقاف نزيف القول المجاني. والمتقرئ لركام القول يحس بأن المصداقية تكاد تكون مفقودة من كل الأطراف، الأمر الذي فوت على الراهن النقدي فرصاً ثمينة، وهذه التشنجات أفقدت المشهد الأدبي التوازن والإيجابية. والمحبط أنها تصَّعَّد في سماوات الأدب، فيما تظل بوارق الأمل ضعيفة. الذين يُنحون باللائمة على النقاد المحجمين أو المترددين، ويصفونهم بالتقصير أو بالعجز، لا يدور في خلدهم ما يحول بين الناقد المحتشم وما تشتهي نفسه من إبداع آخذ بمجامع الجلال والجمال، فأكثر الأعمال ضعيفة، وردود الفعل المسفة على أشدها، والنافخون في القرب الفارغة يوهمون الرجال الجوف بالامتلاء، والناقد الذي يحترم مكتسبه ومصداقيته، لا يمكن أن يفرط بشيء مما اكتسب، لأنه متى زج بنفسه في تلك الأتون سلقته الألسنة الحداد، وقد يدخل بين أطراف متشنجة مسكونة بالمراهقة الفكرية والأدبية، تقول الكلام على عواهنه، ولا تلقي له بالاً، وهي بما تقول لا تبحث عن الحق، وإنما تنشد الغلبة والتهوين من شأن الناصح الأمين، ومثل هذه المواجهات التصفوية للسمعة تصرف أصحاب المثمنات عن الدخول في مناكفات خاسرة من أصلها. وفي كنف هذا الاندفاع المهتاج والإحجام المتخوف، لم تعدم السرديات القصصية أو الروائية المتابعين الواعين من النقاد الأكاديميين ذوي التخصصات السردية من الطلبة الدارسين. ولكن الرسائل الجامعية تظل حبيسة الأدراج، فلا تسد خلة، ولا تروي غليلاً، ثم إنها محكومة بمناهج وآليات وخطط تقليدية متكررة، يفرضها الآمرون في الأقسام العلمية، وكثرتها أميل إلى الرصد والتوصيف والتاريخ، بحيث يقع الحافر على الحافر. والتناظر والنمطية في المناهج والخطط والآليات فوت عليها أشياء كثيرة، وأفقدها الألق والجاذبية، وقعد بها دون الاستفادة من الآليات والمناهج الحديثة، حتى لقد زهد أصحابها بها، وترددوا عن نشرها، فكانت كأن لم تكن، وما شذ عن القاعدة يؤكدها. على أن قلة من الدارسين أخذتهم الثقة والشجاعة، وأقدموا على طباعة رسائلهم، فكان أن سدوا خروقاً أوسع من الرقاع، ومما طبع محلياً على سبيل المثال رسالة الدكتورة (منال العيسى) عن صورة الرجل في القصة القصيرة، ورسالة الدكتور (محمد العوين) عن المرأة في الرواية، ورسالة الدكتور (حسن حجاب الحازمي) عن البطل، ورسالة الدكتور (إبراهيم الشتوي) عن الصراع الحضاري في الرواية المصرية، وقد وقع فيما وقع فيه سلفه من تجانف لما لا يمكن القبول به، ومن قبل هؤلاء رسالة الأستاذ (سحمي الهاجري) عن القصة القصيرة، وهي أعمال تتميز بالضوابط الأكاديمية، وتترسم خطى من سبق. والدراسات التنظيرية والتاريخية في متناول اليد، وشروط الرواية وأركانها ومتطلباتها الأسلوبية والفنية والدلالية مبسوطة ومبذولة لكل من أعوزته المعرفة على أصولها. وقد تكون الدراسات المترجمة أكثر اتزاناً وتوازناً، وأوفر معلومة، وأكثر حيادية. وليس هناك ما يحول دون معالجة التقصير في أي عمل إبداعي، ولكن الإشكالية في رفض معطيات الخلفية القرائية، وفي عقابيل ذلك. فالناقد المحافظ على الشرط السردي والضابط اللغوي والتميز الأسلوبي لا يقبل التجريب المنفصل عن تلك السمات. والمغرم بالتجريب لا يجد بداً من رفض هذا النوع من النقد، لأن المتهافت على بوارق التجديد يكاد يقع في التخريب من حيث يدري أو لا يدري، وهذا الميل الكلي يحمله على رفض الناقد المتمسك بحق التجريب المعقول، بالشرط الفني المتداول في المشاهد النقدية كافة. والمبدع الذي انزلق في متاهات التجريب، وأغوته الإغراءات الجامحة، لا يجد بداً من المواجهة العنيفة لكل من أراد أطره على ضوابط العمل الروائي. والمتحفظ المتمكن المتابع للمستجدات المميز بين التجديد وحداثة الانقطاع، لا يمانع من التجريب المعقول، ولكنه لا يقبل الانقطاع اللغوي والفني، ولا يستسيغ النثرية التي لا تتوفر على الأدبية. والذين يتقبلون هذا اللون من التجريب الذي قد يتجاوز حد الانقطاع، يعنفون في مواجهة الناقد المصطحب لشروط الفن، ويزدرون الحد المعقول من الضوابط، وهم في ظل الاهتياج الفارغ لا يقولون الحق، بحيث يشيدون بموقفه المشروع، ويثمنون تمسكه بالضوابط، ثم يبدون اختلافهم المعتبر معه، وإنما يعمدون إلى التجهيل والاستخفاف. ورجل يؤثر السلامة، ويغلّب جانب الإبقاء على قنوات الاتصال وجسور التواصل، لا يريد أن يطرح سمعته للعلك الرخيص، ولا يريد أن يفقد العلاقات الطيبة من نظرائه، وحتى لو تحامل على نفسه، وأجرى سفينه، فإن بعض الأعمال لا تمتلك العمق القادر على تمكينه من التحرك بحرية، لأنها مستنقعات ضحلة موحلة. وبعض الأقلام طويل الشباة، يحتاج إلى أعماق تمكنه من التحرك بحرية، ومن قصد البحر استقل السواقيا، والناقد المعياري الجاد أو اللغوي المتمكن لا يجد ما يحمل قلمه عليه، فيعف عن ممارسة النقد، وهذه التراجعات الاختيارية أو الاضطرارية جعلت المشهد دولة بين المتقارظين والمتقايضين المتلاسنين والمتشايلين، ممن لا يحسنون إلا تبادل أنخاب الثناء، أو التنابز بالألقاب. وفي هذا إضاعة للنقد والأدب الحقيقيين، وتشويه متعمد لسمعة المشهد النقدي، وكم كنت أتمنى من كل الأطراف مجافاة الإقصاء والتهميش، وتفادي تبادل الاتهامات الشخصية. وأذكر في هذه المناسبة أنني كتبت مدخلاً تاريخياً وصفياً للإبداع السردي المحلي، وجعلته فيما بعد مقرراً دراسياً وفصلاً من كتاب مخطوط، وحاولت بجدية تفادي التعميم ومجانية القول، ومع ذلك لم يعجب ما ذهبت إليه طائفة من الشباب، وبخاصة من كانت لهم محاولات سردية، لا تستحق الإشارة فضلاً عن الإشادة، وإن كانت بعض تلك الأعمال تنطوي على مؤشرات واعدة. وايم الله إنني لم أدخر وسعاً في الإنصاف، وليس رهاني على التألق، ولكنه على الصدق وتوخي الحق. ومن بعد هذا تناولت (النقد البنيوي للرواية) متخذاً ناقدين مغربيين مجالاً للنقد التطبيقي، ونشرت الدراسة في خمس وثلاثين حلقة، واجتهدت ما وسعني الاجتهاد في الممارسة التطبيقية، والمؤسف أن هذه الدراسة هي الأخرى لم ترُق لآخرين من الدارسين والكتبة، ولم تواجه بالنقد الموضوعي، وتقصي الإخفاقات المنهجية أو الاستنتاجية المتوقعة، وبهذا الانحياز السلبي حُرم المشهد النقدي من مطارحة الآراء والوصول إلى مستقر الحق، وإذ لا أقطع بصحة ما أقول ولا تألقه، فإنني في الوقت نفسه لا أقطع بخطئه، وإنما هو كما قيل: (قولنا صواب يحتمل الخطأ)، فأين الذين يحقون الحق، ويستدركون الخطأ دون سخرية أو استهزاء؟ وإشكاليتنا أن المبتدئ يريد أن يكال له المدح، حتى لا تبقى كلمة ثناء إلا ساقها المقرظون، كما أن الناقد المادح بمجانية يريد الأشياع والأتباع، وحين يخلو المشهد لهذا وذاك يفقد المصداقية وقول الحق والأهلية، وغرروا بالناشئة وبالمبتدئين، حتى أنسوهم أنفسهم، وإذا استنفد المبتدئ كل المحامد في محاولته الأولى، لم يبق لعمله الثاني ما يمكن أن يقال، وعلى المتردد أن يستذكر ما قيل عن (الحزام) و(سقف الكفاية) و(الفردوس اليباب) و(بنات الرياض) وما سيقال عما يلحق من أعمال. لقد وقعت تلك الأعمال تحت طائلة الجزر والمد، وكلا طرفي الإفراط والتفريط ذميم. ومن طبعي ألا أجازف في الثناء، وإن أعطى المبدع في محاولته الأولى مؤشرات التألق، فلست ممن يستدر عواطف الشدات، ولا ممن يخلط بين النثر العادي والسرد الإبداعي، وأكره ما أكره أن أسمع من يطلق الثناء على كل من لملم نثاره وأخرجه إلى الناس بوصفه عملاً إبداعياً وما هو بشيء، حتى ولو كان للثناء نصيب من الحق، فنحن لا نستفيد من أنخاب الثناء. نحن نريد قراءة لغوية وفنية لسائر الأعمال، تزن الأمور، وتضع يدها على التجليات والإخفاقات. ولكن المجاملات الزائفة، حرمت المشهد من كلمة الحق التي تسهم في تصحيح المسار. ولقد لُمزتُ حين آخذت شهداء الزور والمزايدين وموزعي صكوك النبوغ الزائف، وحين أنفت من تحويل المشهد النقدي إلى جوٍّ كنسي، لا يجود إلا بمنح صكوك التألق كما صكوك الغفران. وعلى الرغم من كل التحفظات والإخفاقات فإن المشهد المحلي يمتلك القدرة على الرهان: إبداعاً ونقداً، وحاجته إلى مبدع يبحث عن مرايا النقد المقعرة، والمحدبة، ليرى نفسه بكل ملامحها. والناقد المنصف لا يمكن أن تعدو عينه عن أعمال روائية محلية لا تقل عما حفلت به المشاهد العربية، ومهما توفر بعض الروائيين المحليين على مقومات الأعمال الروائية فإن قلم الناقد لا يمكن أن يذعن لهم، ولا أن يسالمهم، وليس من مصلحة المشهد المصالحة والتغاضي. وخسارة المشهد في التواطؤ على الثناء والتزكية الزائدة عن حدها لأعمال لها وعليها، إن المبالغة في الثناء تحرم الأعمال مزيدا من التداول النقدي الموضوعي، فالمدح كحز الرقاب، وفوق ذلك فهو قتل متعمد لفعاليات المشهد النقدي، ولعل المتابع لآخر الأعمال المثيرة (بنات الرياض)، يجد أن اللغط حولها لم يدخل في العمق، إذ لم يفكك متعاطي النقد اللغة فيبدي سوآتها، ولم يقوض الدلالة فيفضح انحرافاتها، ولم يشرِّح الفنيات فيكشف عن إخفاقاتها، ومجمل ما يقال ثناء مفرط أو ذم مفرط، ولمّا نزل مرتهنين لثنائية: (الملائكية) و(الشيطنة).
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:42 PM | #109 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
ارتباك المشهد السردي نقداً وإبداعاً..! (2-2)
د.حسن بن فهد الهويمل ولما كانت الساحة الأدبية - كما اللحد الذي تصوره (المعري) ضاحكاً من تزاحم الأضداد - تفيض بواعدين، لم يبلغوا حد النضج، وتزدحم بموهوبين استكملوا عدة الإبداع، وتموج بأدعياء يكتبون، ولا يبدعون، ويشيرون، ولا يثرون، ويطنبون، ولا يطربون. ولما كان المشهد النقدي دُوْلة بين أوزاع المبدعين والأدعياء والنقاد المداهنين؛ فقد أصبح لزاماً على حراس الفن الرفيع أن يأخذوا على أيدي العابثين والمعذرين، وأن ينفوا عن مشهدهم زائف القول وردي الكلام، وأن يتولوا إقالة العثرات. فكل مشهد أدبي بحاجة إلى من ينقي أجواءه، ويرشد ضاله. ولاسيما أنه مسرح للأحداث المتزببين، وللكهول المتصابين، ومثل هؤلاء يسارعون بالتافه من القول، والصارم من التأييد، وواجب المقتدرين أن يبذلوا جهداً مناسباً، يحمي من الجور والمجازفة. ولكيلا نصل بالتيئيس حد الإحباط، فإننا نشير إلى مبدعين تخطوا بأعمالهم نطاق المحلية، وإلى نقاد متمكنين، يتوخون الحق والموضوعية. ولكن الفئتين من القلة، حيث لا يتراءاها إلا ك(زرقاء اليمامة)؛ لضياعهما وسط اللغو الغالب والصخب الفارغ، فعلى مستوى الإبداع المحلي لا نجهل جيل الوسط من أمثال (رجاء عالم) و(عبده خال) و(يوسف المحيميد) وآخرين غيرهم، يمثلون الوسطية الزمانية بين فئتي الريادة والتأسيس من جهة، وفئة الانطلاق التي اختلط فيها الحابل بالنابل. فالثلاثة طليعة الممثلين لتلك المرحلة، من حيث البعد الفني على الأقل. والأخيران يمتلكان موهبة سردية، وإن لم يتضلعا من (الثقافة) ولم يسيطرا على (اللغة) بالقدر المتكافي مع مبلغهما من الفن، ولكنهما يتصدران لداتهما، ومثل هذه الإمكانيات تعفو عن كثير. ف(الخال) يكتب عن معاناة و(المحيميد) يكتب عن انطباعات، والثلاثة لا يقدرون على إعتاق المشهد. ولكل مرحلة من مراحل: الريادة والتأسيس والانطلاق مبدعون لا يقيلون العثرة، ولكنهم يخففون من حدتها ومأزوميتها، فعلى مستوى الريادة والتأسيس نجد (السباعي) و(الدمنهوري) و(الناصر) و(خوقير)، وعشرات آخرين، ممن لهم أعمال تمد بسبب إلى الأصالة بمفهومها الغربي، ولقد رصدت ذلك كله في (المدخل السردي). والتصدي للمتهافتين على الكتابة السردية قبل النضوج وصد الممجدين لهم قبل الاستيعاب، لا يعني النفي من المشهد، وإنما الغاية ترشيد مساره، وتسديد سهامه. ولن يستقيم أمر الإبداع السردي إلا بالمكاشفة والمواجهة، وفق آليات ومناهج وخبرات ومعارف. ومتابعة الدراسات الأكاديمية المخطوطة والمطبوعة تكشف عن أبعاد فنية ولغوية ودلالية، تطفئ غضب المأزومين من غثائيات الأدعياء. فالأستاذ (معجب العدواني) تقصى مجمل تلك الأبعاد في أعمال (رجاء عالم)، والدكتورة (عائشة الحكمي) والدكتور (عبدالله الحيدري) تقصيا أطرافاً من الجوانب اللغوية والفنية والدلالية لطائفة من السرديين. ولقد كنت سعيداً بالإشراف أو بالمناقشة لبعض تلك الرسائل، والثلاثة المبدعون الذين ضربت بهم المثل، ليسوا وحدهم ممن يشار إليهم بالبنان كنماذج لاستيفاء مؤهلات الإبداع، ولكنهم الأكثر حضوراً والأقل توفراً على احتفاء المشهد. ولسنا نريد بالاحتفاء الإشادة، وإنما نريد الدراسة المعمقة وتثوير كل المنطويات. وروايات (الخال) و(المحيميد) أثارت المشهد، ولكنها إثارة متواضعة لا تحرر رؤية، ولا تؤصل لمعلومة. والتحفظ على بعض الهنات لا يصادر الحق، ولست هياباً ولا وجلاً من مسايرة المتحفظين على بعض استفزازات (رجاء عالم) وإن كانت كاللمم، والحسنات يذهبن السيئات. وبودي لو حكم المشهد بالعدل، حيث لا يكون في نفوس المبدعين وأشياعهم حرج مما حكم به النقاد العدول. وكم كان بودي أن يفرغ المتمكنون لقراءة سائر الأعمال السردية، وأن يواجهوها بمناهج وآليات تحفظ الحقوق للمتلقي وللمبدع وللمشهد؛ فالنقاد والمبدعون كالمستهمين على مشهد الأدب، ومن الخير ألا يستقر فيه إلا ما ينفع المتلقي لغوياً ودلالياً وفنياً. والاستقراء المحكوم بضوابطه هو الحل الأمثل في زمن الانفجار السردي وفوضويته، ولاسيما أن المستجد من الأعمال يشكل منظومة تحولية: شكلاً ودلالة، لغة وتِقانة. فأين منّا الناقد الجدير والمبدع القدير؟. ولو عدنا إلى بعض ما يشغل المشهد لوجدنا أن رواية (القارورة) - على سبيل المثال - خليط من ظواهر شتى، ولقد كنت أحسبها من قبل رمزاً للمرأة، حتى إذا قرأتها تبين لي ألا علاقة لها بالقوارير؛ إذ هي كما قماقم العفاريت، أو صناديق المصفدين في الأغلال، على شاكلة (شُبيك لُبيك) وتلك خليقة الحكواتيين، فالسارد عوَّل فيها على الحكاية الخرافية، وكاد يخلط بين الوقائع الحقيقية بكل فقاعتها، كأحداث الخليج ومتعلقاتها وحكايات العجائز على الأطفال. وما ساقه على لسان الفتيات الثلاث كان شائعاً ومعروفاً ومتداولاً على ألسنة الأطفال في (نجد) بل في (بريدة) بالذات، وهو من أبنائها. وكنا قد سمعنا شيئاً من هذا في طفولتنا من أمهاتنا وجداتنا، وكنا نسمي تلك الحكايات الخرافية (سباحين) الواحدة (سبحانية). والأديب (عبدالكريم الجهيمان) ساق أطرافاً من هذه الحكايات في أساطيره الشعبية، كما ساق شيئاً من ذلك (فهد المارك) في كتابه (من شيم العرب) وجاءت أمشاج من الخرافات والأساطير في بعض كتب الشيخ (محمد بن ناصر العبودي)، وجاءت باللهجة العامية البسيطة في سلسلة كتب شعبية ألفها وطبعها الكاتب الشعبي (سليمان بن إبراهيم الطامي) ومن قبله والده رحمه الله، وألم بشيء من ذلك كله الكاتب (سليمان بن محمد النقيدان) رحمه الله. وتوظيف التراث العربي أو الشعبي يتطلب الرحيل بالموروث لا الرحيل إليه، وتحويله من نص حكواتي إلى نص إبداعي، وعيب المستثمرين النقل الحرفي المتنافر مع عبارات الربط. والمتابع للمسترفدين، لا يجد مسافة فنية بين التناولات، حيث يمتاز العرض الروائي عن سائر العروض الأخرى، وبخاصة حين يتخلى الروائي عن حسه القصصي، ويقع تحت طائلة التجريب التي ترفض الشرط، وعلى ضوء هذا التمييع للضوابط فإن بإمكاننا أن نسمي مشروع معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر (أي بني) عملاً روائياً؛ لأنه إطلالة على الماضي والحاضر. و(المحيميد) أكثر جرأة من (الخال) في الخروج على الشرط الروائي، والاثنان يمتلكان موهبة سردية لا مزايدة عليها، وتلك الموهبة وذلك الاقتدار لا يصادران حقنا في القول، ولا يحملاننا على المداراة والمداهنة. والاحتفاء بالمبدع لا يبيح غمط المتلقي وإكراهه على قبول الهنات التي يمكن تلافيها، والتي تعد من عجز القادرين على التمام. والأساطير والخرافات وأدب الاعتراف والانطلاق من قعر الواقع بكل تدنياته أخذت طريقها إلى بعض الأعمال الروائية بعد أمة، ولم يكن هذا الاحتفال مبادرة من المبدعين والنقاد؛ ولكنه ناتج إصاخة لما يعتمل في المشاهد الغربية، ومشاهدنا مرتهنة لتجريب الآخر أو تقليده، ولما نشب عن الطوق، والعاجز من لا يستبد، ولا يؤز الخلاف إلا المكابرة، فكلما قيل لمدَّعي المبادرات: هاتوا برهانكم، انفجروا كالبراكين، وتعمدوا الإقصاء والتجهيل وتلفيق الاتهامات. وبدهي أن يكون للموروث العربي في التفسير والتاريخ احتفاء بالخرافة والأسطورة، ولكن المشهد الأدبي ولاها الأدبار، حتى التقطها الغرب من تراثنا، فكان أن نبهنا إلى أهمية ذلك، وحملنا على استرداد بضاعتنا، دون علم، ودون وعي، وكان اندفاع المفسرين لأسطرة أحسن القصص تعويلاً غير سديد على قول الرسول - صلى الله عليه وسلم- : (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج...) وهو تعويل يدل على خصوبة الخيال والاستجابة لفطرة الإنسان الميال بطبعه إلى الأساطير. وتوظيف الرمز والأسطورة والخرافة في الأعمال الروائية التجريبية مثار جدل صاخب بين النقاد والمنظرين، ومثله توظيف التراث التاريخي، والمعضلة أن المشهد دولة بين النفي والإثبات. لقد أتيحت لي فرصة القراءة ل(كتاب التجليات: الأسفار الثلاثة) ل(جمال الغيطاني) ومتابعة ما كتب حول ظواهر الرمز والأسطورة والتاريخ، وبخاصة في جانب التوظيف التراثي، فتبين لي أن الإغراق في الأسطورة والخرافة عشق المبدعين المعاصرين، وهو إغراق غير متوازن، وغير منضبط، وقد يكون دون وعي، وقد تزامن ذلك مع الإيغال في التجريب، الأمر الذي قد يفوت علينا متعة الفن القصصي الرفيع، ولربما تتداخل تلك النزعات مع ظاهرة الرواية التاريخية، ولكنه تداخل يحتاج إلى مزيد من الاستقراء. والاندفاع في التجريب أدى إلى الانقطاع المتعمد، حتى أصبح المتابع لا يقدر على التفريق بين القصة والرواية والسيرة والأسطورة والتاريخ والحكاية الخرافية، إلا إذا تطوع الكاتب، وكتب على الغلاف نوع العمل، إن كان رواية أو ديوان شعر أو قصة أو سيرة ذاتية، فالشكل لم يعد ذا قيمة، مع أنه السمة الأهم للتفريق بين أنواع الإبداع القولي. ومع أن رواد الإبداع السردي في (مصر) و(الشام) قد استزلهم الغربي، إلا أن الممانعة حالت دون الوقوع في المسخ. والراصدون من النقاد يستبينون حجم المتغير الشكلي والفني واللغوي والدلالي، وهو حجم يتنازعه الإسراف في التهافت على المستجد لدى الشباب، والاعتدال المتردد لدى الكهول. وعلى سبيل المثال فقد اختلف المنظرون في التفريق بين الرواية والقصة، وذلك في إطار المستجد الشكلي، وجاءت آراؤهم في غاية من العماية والتيه، حتى لقد اختلفوا حول عمل (نجيب محفوظ) (اللص والكلاب)، هل هو عمل روائي أم قصصي؟ ذلك أن للرواية أركاناً وشروطاً ومواصفات تتعلق بالشخصيات والأحداث والأزمنة والأمكنة، ولا ترتبط بالمقدار الكلامي على سنن المفرقين بالكم. والإشكالية حين تتشابه الأحداث والشخصيات، وتطول الأزمنة، وتمتد الأمكنة في إطار تشابه الأشكال. ومثلما ظهرت مدارس نقدية في الغرب بعدد النقاد، وتفاوتت في الشأن السردي والنقدي والأدب المقارن، فقد ظهرت في المشرق العربي حالات مماثلة، ولكن البعض منها مجتث لا يقر، وبخاصة عند المبهورين من سرعة التحولات في المشاهد الغربية والعاجزين عن ملاحقتها. والنقاد في ظل التحولات السريعة يختلفون حول النوع الإبداعي، فقائل بأنه عمل روائي، وقائل بأنه عمل قصصي، وقائل بأنه قول لا يلحق بالرواية ولا بالقصة. وسبب اختلافهم الاختلاف حول التقيد بأدنى حد من الضوابط والمعايير، والمعضلة نفسها امتدت لسائر الظواهر الأدبية، ولكنها دون إشكالية الرواية. ويقيني أنه لا مكان للفوضى ولا للتسيب، فالشعر يجب أن يكون شعراً، والسرد يجب أن يكون سرداً، ولا تتحقق الشعرية ولا السردية إلا بسمات وضوابط لغوية وفنية وشكلية، يعرفها النقاد، ويركنون إليها حين يختلفون؛ إذ كل نزاع فني أو لغوي لابد له من أهل ذكر يفضون التنازع بوصف أو بضابط أو بعرف، وليس هناك شيء في الوجود إلا وله معهود ذهني يهرع إليه المختلفون، وله نظام يحكم حركته، وتعديل الأنظمة والشروط يختلف عن إلغائها. والمصير إلى مفهوم (الكتابة) بوصفه مصطلحاً مفتوحاً يلوذ به كل عابث يعطو إلى فُسَحِ التسيب والتمييع لا يمكن أن يفض التنازع. وإتاحة الفرصة لكل مبتدئ أو مدعٍ أن يقول عن محاولاته الفجة: إنها شعر أو سرد فني، إمعان في الضياع، وشعوره بأن من واجبنا أن نذعن له، وأن نقبل قوله وكأنه (حذام)، ولا نكلف أنفسنا عناء البحث عن مبررات تثبت أن هذا العمل شعر أو سرد، وما هو - في نهاية الأمر - بالشعر ولا بالسرد، هذا الشعور، وتلك الفوقيات الآمرة أضاعت الضوابط، وخولت أدناهم أن يكتب سطراً أو سطرين أو حتى كلمة واحدة، ويسمي ذلك عملاً قصصياً، وقد اقترف البعض مثل هذا، وأقبل المعذرون لإكراهنا على الاحتفاء بهذا العبث، بل طاروا به فرحاً، وعدوه فتحاً مبيناً في عالم السرديات، والمخجل أن هذه الدعاوى على رغم فجاجتها لم تكن من عند أنفسهم، ولو أنهم ابتدروها لكنا استسغناها، وقبلنا بها على مضض، وألحقناها بنظائرها من (التوقيعات) مع الفارق، ولكنها لفحة سموم من لفحات الغرب عصفت بنا فتلقيناها، كما لو كانت مبادرة لا يستقيم شأننا إلا بها. ومن المؤذي أن طائفة من المبتدئين يمارسون التفحش والانحراف، ليكون قولهم مثار جدل موضوعي لا فني، وهذا الجدل في نظرهم كاف لتحقيق الحضور، وما يدري أولئك أن السقوط الأخلاقي والانحراف الفكري والجنوح السياسي، لا يجني من ورائه المقترفون إلا سبة الدهر، حتى إن البعض من أولئك تسلل لواذاً وطبع عمله خارج البلاد، ثم سربه عبر النوافذ، وأتاح الفرصة للكتبة لتوجيه اللوم إلى من يتهمونهم بقمع الحرية، وممارسة الحق وأطر المتفلتين هو عين الحرية؛ إذ لا حرية في ظل الفوضى. والفن الرفيع هو الذي يظفر صاحبه بشرف اللفظ، وشرف المعنى، وجودة الفن، ولقد قيل: إن الفن يرفس في القيود، ولا فن بدون شروط قاسية تقمع الأدعياء والمغثين، ومتى تعرض المبدع لأي إخفاق في السمات والضوابط، تحول العمل إلى زبد يذهب جفاء. وكل الإيجاف بالقول أو بالفعل لا يغير من الأمر شيئاً: (أيَكونُ الهِجانُ غَيرَ هجانٍ أم يَكونُ الصُراحُ غَيرَ صُراحِ؟)
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:47 PM | #110 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مدائح الملك عبدالعزيز في صحيفة أم القرى (1-2)
د. حسن بن فهد الهويمل ظواهر الأدب وقضاياه تتبادل المواقع في الحضور والغياب والأهمية، واتجاهات النقد كما تقلبات الطقس، تحركها تحولات المشاهد الثقافية: عربياً وعالمياً، والمحو والإثبات تحكمه رياح التغيير. والراصدون لسنّة التدافع يتفاوتون في القبول والرفض، كما يتفاوت الشعراء في استباق الترثنة والعصرنة. وخير المختصمين والمستبقين من يغلّب جانب الجلال على الجمال، والزكاء على الذكاء، ولا يجد غضاضة من التفسح في المجالس لكل ظاهرة فنية أو دلالية تثري ولا تلغي، فحق الناس أن يجدوا ما يشبع رغباتهم، إذ لا شرعية للمصادرة والإقصاء، ولا مكان للنمطية والسكونية، والإشكالية في حفظ التوازن بين التراث والمعاصرة. و(شعر المناسبات) وبخاصة ما يتعلق منه بالمديح، لا يحفل به المشهد النقدي المعاصر، وهو داخل في جدل الذاتي والغيري، ولكل عصر هادٍ ينذر أو مضل يستدرج، والخلاص في التوفر على المستجيب للذوائق والحاجات وفق قدر من الشروط والضوابط المعتبرة. ولقد كانت لي وقفات توفيقية لعقلنة المواقف، وتحامي الإلغاء والأثرة. والحديث عن محتويات (جريدة أم القرى) بعد أن دخل ماضيها المجيد في ذمة التاريخ قول ثقيل وشاق، ولكنه بتضافر الجهود أصبح في متناول اليد، ولقد عرفتها معرفتي بما عاصرت من صحف، وكان ذلك عبر مصدرين رئيسين: المصدر الأول: ما أنجزه الأستاذ الدكتور (منصور بن إبراهيم الحازمي)، وهو جهد كشّافي (ببليوجرافي) يضع مواد الجريدة بين يدي القارئ، بحيث يلم المتابع من خلال هذه الفهرسة باهتماماتها وبكتّابها وبمبدعيها وبسائر قضاياها. وفي ذلك رصد إحصائي دقيق. أما المصدر الآخر: فكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى)، ولقد كان لي شرف الإسهام في إنجازه، وقصتي مع الكتاب ظريفة وطريفة، فلقد بُعثت لي مخطوطته في مجلدين ضخمين للتحكيم، وحين أبديت ملاحظاتي، أوصيت بأن يكتب المقدمات ثلاثة من المتخصصين في التاريخ والأدب والإعلام، رغب الناشر اختصار ذلك كله بواحد، فكنت هو، حيث طُلب مني النهوض بالمهمة الثلاثية، فكان أن راجعت مادة الكتاب، وأعددت كافة مقدماته: التاريخية والأدبية والإعلامية. ومرت السنوات، لأعود إلى الموضوع مرة ثانية, وذلك حين حُكّمت في كتاب (الاتجاهات الموضوعية والفنية في كتاب: الملك عبدالعزيز في عيون شعراء صحيفة أم القرى) وأحسبه عملاً أكاديمياً، تناول النصوص التي اشتمل عليها الكتاب عبر دراسة مسحية شاملة، وطبعيٌّ - والحالة كذلك - أن تتجدد الرغبة في العودة إلى ذلك المصدر الثر، لأعيد قراءة موضوع واحد من موضوعات شتى وسعها الكتاب، وهو موضوع (المدائح) التي أبدعها شعراء الآفاق العربية وخصوا بها (الملك عبدالعزيز) رحمه الله، لا يحرك مشاعرهم إلا الحب والإعجاب والإكبار. وقصائد المناسبات تتنازعها قيم تاريخية وسياسية واجتماعية ودينية، وهي بلا شك (ديوان ذلك كله)، والشعر كما يقال (ديوان العرب) يرصد أحداثهم، ويهذب أخلاقهم، ويثري معارفهم، ويصقل مواهبهم. وليست العبرة في خصوص السبب، ولكنها في عموم الدلالة، وتألق العمل، وبراعة الشاعر، وقدرته على شد الانتباه، وإثارة المشاعر. وهل يجرؤ عاقل على التفريط بمدائح (أبي تمام) للمعتصم، أو بمدائح (البحتري) للمتوكل، أو بمدائح (المتنبي) ل(سيف الدولة)؟ وهل أحد ينكر ما تنطوي عليه تلك الإبداعات من ثروات: لغوية وفنية ودلالية؟ وأذكر أن إحدى الدارسات في (جامعة الملك سعود) أفاضت في دراستها ل(سيفيات المتنبي)، وخرجت بنتائج مثرية. وتلك الدراسة القيمة أوحت لي بعنوان دراسة جاءت في سياق الاحتفاء بالمئوية، عنونتها ب: (سعوديات ابن عثيمين) نشرت أولاً في (مجلة الدارة)، ثم ألقيت ثانياً في (نادي أبها الثقافي) وصدرت فيما بعد في كتاب متداول. وأياً ما كانت دوافع القصائد فهي منْجم ينطوي على قيم ثمينة، لا يجليها لوقتها إلا النقاد المقتدرون الذين يتجاوزون حدود المناسبة إلى تداعياتها، على سنن (البنيويين) الذين يميتون متعلقات النص ليفرغوا لذاته. ولقد أحسست وأنا أقرأ شعر (العصر الذهبي) أن المادحين والممدوحين قضوا نحبهم، ولم ينتظر إلا ذلك الشعر الزاخر بالقيم الفنية والدلالية. ولعلنا نستذكر مقولة (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه لأبناء (هرم بن سنان): ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. والمدّاحون متفاوتون، فمنهم من هو أهل لحثو التراب في وجهه، ومنهم من يستحق (بردة الرسول) صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف الفضل لذويه إلا ذوو الفضل. واستعادة المدائح منذ العصر الجاهلي إلى العصر الحديث تثري المتلقي لغةً وأدباً ومعاني. فأين نحن من (زهير بن أبي سلمى)، و(حسان بن ثابت) وأصحاب النقائض و(المتنبي) ومن خلف من بعدهم؟. صحيح أن الشعر الذاتي أصدق قيلاً، لأنه يجسد الهموم ولا يستجدي الموسورين، غير أن الشعر الغيري ألصق بالموضوعية، وأغنى بالمعاني، وأثرى بالتجارب. وللمتابع أن يوازن بين شعر (عمر بن أبي ربيعة) بوصفه شاعراً ذاتياً، فرغ لنفسه، ولم يفرغ لجيبه، كما يقول (طه حسين)، وشعر سائر الشعراء الذين في ظلال القصور، ثم لينظر أيها أزكى قولاً، ولسنا مع هذا ننكر الكذب والمبالغة. ولأن متعلقات الشعر الغيري موضوعية فإن دراستنا ستُعوّل على القيم الدلالية. وقبل أن نباشر النص الشعري نود أن نلمح إلى ظروف تشكله وبيئاته لتجهيز أرضية الانطلاق، إذ ما من شعرٍ إلا وله مكوناته المرتبطة بذات الشاعر، أو بالبيئة التي تحيط به، أو بالأحداث الجسام التي أثارت كوامن الشعراء. والشعر النابع من قعر الواقع يعطي مؤشرات قوية، تبدو معها ملامح البيئة بمختلف وجوهها، وخطوات التشكل لكيان (المملكة العربية السعودية) تكمن في منطلقات الشعراء، وكيف لا ينطوي الشعر على ظروف المرحلة وخطواتها، وهو لسان الأمة أو العشيرة. لقد كانت أقاليم البلاد خارج متن التاريخ أشلاء قبلية وإقليمية وطائفية مرتهنة للجفاف والتصحر والجهل والأوبئة والحروب، يكاد قوت الكفاف يكون عزيز المنال، لا تمتد إليه الأيدي إلا بالأسنة والرماح، وكل قاصد لبيت الله معرض للسلب والنهب. ولما أن قيض الله لهذا الواقع المؤلم من يجمع كلمة أهله، ويوحد صفوفهم، ويحدد أهدافهم، ويقيم الأمن في الحواضر والبوادي، جاء الشعر ممجداً للمؤسس، مذكراً بأفضاله، محذراً من مناوأته، موازناً بين أمسه ويومه، متفائلاً بغده. والمدائح في ظل هذه المنجزات والمعجزات لا يكون افتراء على الناس، ولا تزييفاً للواقع، ولا تزلفاً عند الممدوح، ويكفي تلك القصائد تألقاً أنها تروي حكاية التكوين والبناء. وتجربة (الملك عبدالعزيز) رحمه الله ثرية بجلائل الأعمال والأحداث الجسام. والشعراء الذين مثلوا بين يديه، واتخذوا من فِعاله المجيدة مادة شعرهم، أطالوا الحديث عما حققه للمشاعر والوهاد والنجاد من أمن واستقرار ورخاء. وبخاصة مسالك الحج التي ملئت بقطاع الطرق، وهذا التأمين لمنافذ الحج ومسالكه وحده كاف ليكون مادة ثرة للشعراء المادحين. فكيف إذا كانت منجزات (الملك عبدالعزيز) أوسع وأكثر، لقد تخطى بالمجتمع الرعوي المتموج إلى مجتمع مدني مستقر، وفر له كل متطلبات التحضر، وتخطى بالبلاد إلى عتبات التاريخ. ومجتمع بدوي أمي رعوي قبلي صحراوي من الصعب صهره ودمجه وتحويله إلى مجتمع مدني آخذ بأسباب الحضارة. لقد وسع شعر (المدائح) طائفة من ملامح المجتمع وتحولاته السريعة، وكاد يكون هذا الشعر المادح مصدراً من مصادر التاريخ الحديث لقلب الجزيرة العربية. والقارئ لما تحت السطور يستبين ما يعتمل في نفوس الشعراء من إعجاب وإكبار لقائد استطاع أن يختصر معركة التكوين، وأن يبسط الفعل في معركة البناء، وكيف لا يكون مثار الإعجاب والإكبار وهو الذي وطّد الأركان، واستل السخائم، وألّف بين القلوب، وأشاع متطلبات الحياة السوية، ووضع أسس المجتمع المدني، وجاء بشعبة من البدو فوطنهم بالهجر وأمدهم بما يحييهم من تعليم ومشافٍ وزراعة وصناعة، وأعلن اسم (المملكة العربية السعودية) دولة فاعلة في الأسرة الدولية. و(جريدة أم القرى) التي واكبت هذا الحراك الحضاري رصدت كل التحولات المجتمعية، واستقبلت ما قيل في (الملك عبدالعزيز) من مدائح وما قيل في سائر المناسبات من شعر راصد لكل التفاصيل على مدى ثلاثين عاماً، وهذا الكم الوفير من الشعر يعد سجلاً حافلاً لمجمل الأحداث المصيرية التي تهم المواطن العربي فضلاً عن المواطن السعودي. ف(الملك عبدالعزيز) يشكل تحولاً جذرياً في التاريخ العربي الحديث، والشعر الذي رصد الأحداث، وكاد يفصل الحديث فيها جدير بأن تعاد قراءته وفق آليات ومناهج حديثة، للوقوف على المنعطفات التاريخية المهمة. وفي ظل الحراك الحضاري أبدع الشعراء قصائدهم متفاعلين مع مناسبات عدة ك(الحج) وغيره ولاسيما أن (الملك عبدالعزيز) يقود قوافل الحجيج، ويشرف على راحتهم، ويحتفي بالوفود من ساسة وعلماء ومفكرين وأدباء. ومناسبة الحج من أوسع المناسبات، أقبل شعراؤها من كل آفاق الوطن العربي. وقصائد المدح المعنية بالدراسة لا ترتبط بسبب، إنها نظرة إعجاب وإكبار، ومع ذلك فقد نيفت على ستين مطولة، وهي جزء ضئيل من شعر المناسبات، ولقد اتسعت لمختلف المعاني، وتقصت أخلاقيات (الملك عبدالعزيز) وألمحت إلى شيء من منجزاته في المشاعر، وما هيأه لوفود بيت الله الحرام، وما وفره من أمن نفسي في طرق الحج، وأمن غذائي في فجاج مكة، وأمن صحي في المشاعر، فضلاً عن سائر منجزاته في مختلف وجوه الحياة التي رصدها شعر المناسبات. وإذ تجلت وحدة الأمة في شعيرة الحج، وأسهم شعراء الآفاق العربية في تجسيد المشاعر والطموحات فإن شعر المناسبات الوطنية كمناسبة (الجلوس) و(البيعة) و(العام الهجري)، و(افتتاح المشروعات) والمناسبات الاجتماعية والتعليمية والانتصارات الحربية والمؤتمرات والمهرجان والأسفار والرحلات والحوادث والأحداث كاد يختص بها شعراء المملكة. وكل ما نشر في (جريدة أم القرى) مما له صلة بمنجزات (الملك عبدالعزيز) يعد من المدح والتمجيد والاعتراف بالفضل لذويه، وتقصي شعر المناسبات يبعد علينا الشقة. ومن المتعذر والاعتراف بالفضل لذويه، وتقصي شعر المناسبات يبعد علينا الشقة. ومن المتعذر التفريق بين (المدائح) وشعر (المناسبات)، ف(الملك عبدالعزيز) ممدوح بكل لسان، وفي كل مناسبة، ذلك أنه يكاد يكون المثل الأعلى لكل من نشد وحدة الأمة العربية، وتطلع إلى المجتمع المدني، مجتمع المؤسسات والخدمات، و(الملك عبدالعزيز) كاد يسبق ظله في سبيل إنجاز متطلبات الحياة الكريمة. والذين تراءوه في عيون الشعراء، وقفوا على مئات المطولات التي رصدت منجزاته، ومن المتعذر اقتفاء أثر الشعراء الذين فجرت مواهبهم عبقريته، ولكن الإشارة قد تغني عن التقصي، وكم نحن بحاجة إلى من يتعقب هذا اللون من الشعر، ويضعه بين يدي القراء، إذ كل القيم في جوف هذا اللون من الشعر. والمنقب في مشمولات كتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) لا يستطيع أن يفرز قصائده موضوعياً على الأقل، ذلك أنها جميعاً تتخذ من منجزات (الملك عبدالعزيز) وأخلاقياته مجالاً لسبحاتها، وحين تستثير تلك المنجزات كوامن الشعراء يكون (الملك عبدالعزيز) المصدر والمورد، وقيمة المدائح أنها تنطلق من المنجزات، ولا ترتبط بالذات، فهي سجلٌ حافلٌ لجلائل الأعمال، ومن ذا الذي يجهل معركتي: (التكوين) و(البناء) اللتين امتدتا أكثر من نصف قرن، وحققتا وحدة ومدنية غير مسبوقتين في ظل الظروف التي عاشتها البلاد قبل استعادة ملك الآباء والأجداد، وأثناء ذلك، ومتى عرف المتعقب شح الواردات، وتزامُن معركة البناء مع الحرب العالمية الثانية تبين ما يعانيه المؤسس من ظروف عصيبة. وطوفان الشعر يحمل على الخلوص من شعر المناسبات الذي وسعته (جريدة أم القرى) وقصر الحديث عن المدائح المباشرة، لاستبانة رؤية الشعراء لهذا المثل الأعلى. والمدائح التي استخلصت من الجريدة تجاوزت ستين قصيدة، هي بعض ما رفع لمقامه دون أي مناسبة. لقد أوحى لي التقسيم الموضوعي لكتاب (الملك عبدالعزيز في عيون شعراء جريدة أم القرى) الفرق الدقيق بين شعر (المدائح) وشعر (المناسبات)، وكدت أربط ذلك بالفرق بين شعر (الغزل) و(النسيب). ومن النقاد من يجعل النسيب ما يتعلق بالتوله والبكاء ومناجاة الأطلال، فيما يجعل الغزل في الحديث عن ذات المرأة ومفاتنها، أو قل النسيب يرتبط بالعلاقات المعنوية والغزل يرتبط بالعلاقات الحسية. والتفريق بين شعر المديح وشعر المناسبات مرتبط بالمثير، فإذا حفزت المناسبة الشاعر إلى القول كان النص مضافاً إليها، وإذا حفزه الإعجاب بذات الممدوح، كان النص ألصق بالمديح. والموضوعان متداخلان، لا يكاد الناقد يفصل بينهما. وعلى كل الأحوال فإن الشاعر هو الذي يعتق شعره أو يوبقه، فإذا اتخذ من المناسبة أو من الممدوح منطلقاً إنسانياً حضارياً كان شعره مهيأً للشيوع والخلود، وإن ظل مرتهناً للممدوح أو للمناسبة، انطفأ بانطفاء المناسبة أو بموت الممدوح. ولعلنا نضرب الأمثال بشعر (المتنبي) الذي لا يخرج بمجمله عن المدح، ومع ذلك خلد شعره، وشاع، وظل يجمجم عما في نفوس الناس، ولم يضِره ان كان مادحاً مبالغاً بالمدح، فهو يركب المناسبة، ويحكمها، ولا تحكمه، وينطلق منها ولا ينطلق بها، ويسخرها لحمل همومه، وتطلعاته، ومناشداته الصريحة أو المبطنة لقائد فذ حقق لأمته جلائل الأعمال.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:50 PM | #111 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
مدائح الملك عبدالعزيز في صحيفة (أم القرى) (2-2)
د.حسن بن فهد الهويمل وقصائد المديح تقع في مائة وعشرين صفحة من الكتاب، ومن أبرز سماتها الشكلية والبنائية انتزاع العناوين من النص، وانعدام الوحدة الموضوعية والعضوية، وتوفر الوحدة الموسيقية والنفسية واللغوية، فالوزن والقافية ولغة المكارم ومعالي الأمور هي السمات الأبرز، أما من حيث الموضوعات والمعاني فإن القصائد تركِّز على القيم المعنوية واستثمار سائر القيم الدلالية في الشعر العربي القديم، والتزامها لعمودية القصيدة العربية، وإغراقها في المبالغة والإشادة، واستدعائها لأهم منجزات الملك عبدالعزيز المتمثِّلة بتوحيد البلاد، وإشاعة الأمن والعدل، وخدمة الحجيج، وتعميم التعليم.. والتّفنن في المطالع، وطول النفس الشعري. وتعدد مشارب الشعراء وانتماءاتهم أعطى القصائد قيماً فنية ودلالية خلَّصتها من النمطية والتناظر.. والشعراء الذين فجَّر مواهبهم (الملك عبدالعزيز) أوزاع، فمنهم السعوديون الذين نعموا في ظلاله من أمثال (محمد بن بليهد)، وهو شاعر تقليدي، و(محمد بن عثيمين)، وهو شاعر جزل العبارة قوي السبك محافظ على عمودية القصيدة العربية، و(محمد بن صالح الدويش)، وهو شاعر مقل، و(خالد بن محمد الفرج)، وهو شاعر ملاحم ومطولات أرّخ لأحداث الجزيرة في عهد المؤسس، و(أحمد بن إبراهيم الغزاوي)، ويُسمى حسان جلالة الملك، ويُعد من أكثر الشعراء إشادة بأمجاد المؤسس، و(محمد حسن عواد)، وهو رائد التجديد في المملكة، ولم يكن حفياً بشعر المناسبات، و(سليمان بن عبد الله البطاح)، وهو شاعر مقل، و(حسين سرحان)، ويُعد من فحول الشعراء جزالةً وقوة أسر، و(علي بن محمد السنوسي) من جنوبي البلاد، وهو شاعر تتنازعه المحافظة والتقليد، و(جعفر المدني)، وله أكثر من قصيدة، وآخرون لا يتسع لهم بحث مقتضب.. ومنهم غير سعوديين عرفوا أحوال البلاد من أحاديث حجاج بيت الله الحرام الذين أبدلهم الله من بعد خوفهم أمناً، وممن شهدوها حين وفدوا للحج أو للعمل من أمثال (سليم أبو الأقبال اليعقوبي)، و(محمود شوقي الأيوبي)، وله أكثر من قصيدة في المدائح وشعر المناسبات، و(عبد الله نوري الموصلي)، و(علي أحمد باكثير) وهو من كبار الشعراء، ومن ذوي الاتجاهات الإسلامية، والشعر المسرحي، و(عبد القادر الزهاوي)، و(محمد العباسي السلفي)، وله أكثر من قصيدة، و(يوسف داود قاسم) و(محمد سعيد ماشيج) من (يوغسلافيا) وآخرين. والمنقب في المعطيات الدلالية عند شعراء المملكة والوافدين عليها يجد أنها تحكي الواقع المعاش، ف(الملك عبدالعزيز) ظل أكثر من ثلاثة عقود يخوض معارك التكوين، وتلك أجواء حرب ونزال، ومن ثم فإن بعض المدائح تكاد تكون من شعر الفروسية والحماسة والبطولة. يقول الشاعر ابن بليهد: ( في دار قوم رميناها بقاصفة إذا تمزق في أرجائها القتم أضحت خلاء وأمست بعد ساكنها قفراً وللبوم في أطلالها نغم) والشاعر هنا يستمرئ ذاكرته، ويستجدي محفوظه من الشعر العربي القديم، وإلا فالملك عبدالعزيز يستعيد بلاده بأيسر الطرق، ويضم أهله وعشيرته إلى كيانهم الذي فقدوه بعد سقوط الدور الثاني من الحكم السعودي، وليس هو بذلك الغازي الذي يهدم البيوت على أصحابها.. وشعراء الأحياء كافة يستمرئون أخلاف الشعر العربي القديم، ويكاد (شكل القصيدة) العربية القديمة يتجسَّد في شعر (محمد بن عثيمين) من حيث الاستهلال بالغزل، وحسن التّخلص، يقول في إحدى مدائحه: (أقِلا ملامي فالحديث طويل ومن عادةٍ ألا يطاع عذول) ولكي يتخلَّص من الغزل إلى المدح يتخذ ذات الوسائل القديمة، وذلك في قوله: (فدع ذكر أيام الشباب وطيبه فما حالة إلا وسوف تحول) وإذ أخذ بشكل القصيدة العربية، أخذ بالمعاني، فكأنك حين تقرؤه تقرأ ل(أبي تمام) وهو يمدح (المعتصم)، أو تقرأ ل(المتنبي) وهو يشيد بمثله الأعلى (سيف الدولة)، ولولا الارتباط بالزمان والمكان والحدث لما استطعت أن تفرق بين القديم والحديث.. و(ابن عثيمين) بالذات يركِّز على تمسك الممدوح بشعائر الدين وتحكيمه للشريعة واتخاذها شرعةً ومنهاجاً، وهو كغيره لا يكاد ينفك من ذكر الحرب ومتعلقاته، ذلك أن الأجواء المعاشة أجواء حروب. يقول في إحدى مدائحه: (متى ما تصبِّح دار قومٍ بغارةٍ ففي دار قومٍ آخرين تقيل) ولأن (ابن عثيمين) لحق بمثله الأعلى، وقد تجاوز الستين من عمره، فإن شعره ينبض بالحكمة والروية والمناصحة والإشادة بالدين، والحثّ على التمسك به والدعوة إلى الرفق واللين: (هلموا إلى داعي الهدى وتعاونوا على البر والتقوى فأنتم أماثله وقوموا فرادى ثم مثنى وفكروا تروا أن نصحي لا اغتشاش يداخله) وللشاعر أكثر من ثلاث وعشرين قصيدة في مدح الملك عبدالعزيز، توسعت في دراستها في كتابي (سعوديات ابن عثيمين).. وقد جُمع شعره بعد وفاته وشُرح غريبه، وهو ألصق الإحيائيين ب(البارودي) في الجزالة والغرابة وقوة الأسر. أما الشاعر (خالد الفرج) فيختلف عن لداته في المباني والمعاني، إذ كان على صلة وثيقة بالآداب العربية الحديثة، وهو الذي كتب الملاحم التاريخية، ولم ينازعه هذا الاتجاه إلا شاعر الأمة (عبد الله بلخير) الذي فاق أقرانه في المطولات الأندلسية.. ومدائح (الفرج) هي الأخرى تستمد لحمتها وسداها من أجواء الحرب ولمّ الشمل، ولأنه من أصحاب المطولات، فقد يعمد إلى التفصيل، وكأنه يؤرّخ للظواهر والأحداث.. وهو كما أشرت على صلة بالآداب العربية الحديثة في (العراق) بالذات، وهو من الشعراء المتنازع عليهم، ف(الكويتيون) يرونه شاعراً كويتياً، فيما يراه السعوديون سعودياً.. والمتقصي لشعره يلحقه بالسعودية، لأن همّه سعوديٌ، وأغراضه الشعرية مرتبطة بأحداث البلاد، وملاحمه ترصد تاريخ المملكة الحديث، وتواصله مع شعراء الوطن العربي مكَّن شعره من التّخلي عن المطالع الغزلية أو الطللية، وهيأ له الاقتراب من الوحدة العضوية، بل أكاد أجزم أنه من ذوي الاهتمام بقوة المطالع والخواتيم، ولكنه اهتمام لا يربطه بالمطالع القديمة. يقول في إحدى مدائحه: (إياك نختار فاحم البيت والحرما وخذ لنصرك منا العهد والقسما) على أن الحس الإسلامي ينتظم كل القصائد التي مدح بها الشعراء (الملك عبدالعزيز)، بل ينتظم شعر المناسبات كافة، فالأجواء مفعمة بالروح الإسلامية، وما من شاعر إلا وينطلق من القيم الاسلامية.. ولما أن كان الأمنُ مطلباً لكل المكتوين بنار الفتن وأعاصير الفرقة، فقد سيطر على مشاعر الشعراء كافة، وما من شاعر إلا وله إلمام طويل أو قصير بقضايا الأمن. يقول الفرج: (هذي الجزيرة كان الأمن مضطرباً فيها وكان لهيب الويل مضطرما) ويقول ابن عثيمين: (فقد كان في نجد قبيل ظهوره من الهرج ما يبكي العيون تفاصله فما بين مسلوب وما بين سالب وآخر مقتول وهاذاك قاتله) وقوله: (فأمَّنها بالله من أرض جلق إلى عدن مستسلماً كلُّ مجرم) والشاعر الفلسطيني (سليم أبو الأقبال اليعقوبي) يشيد بمنهج (الملك عبدالعزيز) وأخلاقياته وطموحاته وتمسكه بالقيم العربية والإسلامية، ويبدي توجعه مما يعانيه الشعب الفلسطيني من قتل وتشريد، وكأني به يذكر (الملك عبدالعزيز) بما آلت إليه أوضاع المشردين والمقيمين على الضيم، ولقد تعمّد التورية لتجسيد معاناته: (ليت قومي وليتني من رعايا ه فإنني اليوم رهن القيود (كتب الذل في فلسطين والشا م علينا والعربُ غير عبيد) ويأتي شعر الشاعر (محمود شوقي الأيوبي) حثاً واستنهاضاً وإشادةً وضرباً للأمثال واستدعاء لرموز العالم الإسلامي الذين تجسّدوا في شخص الملك عبدالعزيز، ول(الأيوبي) عناية بالمطالع، ولكنها عناية لا تبلغ شأو (مدرسة الإحياء)، وشعره دون غيره، وبخاصة في أوزانه وقوافيه، وهو ذو نفس طويل، يعتمد التّقصي والتّفصيل واستعادة الأمجاد العربية، وأجود شعره قصيدته (يا حاملاً علم الشريعة)، لأنه يحكي رحلة المسير إلى (الملك عبدالعزيز) عبر غنائية طويلة، يفصل فيها رحلته من بلده إلى (الرياض) مروراً بعدد من القرى والمدن، ولقد اتخذ طريق الموعظة بعد الإشادة: (صن بيضة الدين الحنيف بعزمة قصوى فأنت لما تقول فعول) وقصائد شعراء البلاد العربية تشم فيها تطلعاتهم إلى وحدة الأمة العربية، ولهذا فكل شاعر يود من (الملك عبدالعزيز) مواصلة المسير، لجمع الشمل، وتوحيد الكلمة والصف والهدف.. وكأن تجربته بتوحيد البلاد مشروع لتوحيد الأمة العربية، وهو حلم يساور كل شاعر عربي أو سعودي وقف على منجز (الملك عبدالعزيز) واطَّلع على تفاصيل مشروعه الحضاري. يقول أحمد بن إبراهيم الغزاوي: (مليك العرب وحِّدها قبيلا فشعبك للعلا أهدى سبيلا) ويقول (محمد حسن عواد) وهو من الشعراء النقاد الحاملين على المحافظة: شكلاً ومضموناً، وشعره فكري معضل وموسيقاه منطفئة، ولكنه عميق المعاني بعيد الغور ويشبه شعره شعر العقاد: (وحَّدتها في الحكم ثم أعدتها بالاسم واحدة حذار تناقض) ويقول (سليمان بن عبد الله البطاح): (هذا مليك العرب جامع شملها عبدالعزيز محقق الأوطار) ويقول في قصيدة أخرى: (وحَّدت مملكة من بعد ما انقسمت وبعدما كان سُوسُ الخلف قد نخرا) والشاعر المتمكِّن (علي أحمد باكثير) يتساءل عن تلك الفرقة: (ألا ليت شعري كيف تنهض يعرب ومجموعها هذا النسيج المهلهل؟ عباديد شتى انحل عقد وفاقهم كأنهم سرب النعام المجفل) وبعد تطواف موجع جسَّد من خلاله حال الأمة العربية عاد ليقول: (ألا إن ضوءاً في الحجاز فتيله بنجد تراعيه العيون وتأمل) وللشاعر (عبد القادر الزهاوي) قصيدة يستلهم فيها معاني المتنبي وأبياته في الميمية التي يمدح بها (سيف الدولة) والتي يقول فيها: (إذا نظرْت نيوب الليث بارزة فلا تظنن أن الليث يبتسم) والزهاوي يقول: (والدهر كالليث لا تأمن تبسمه فإنما الليث عند البطش يبتسم) وهي قصيدة يمجّد فيها معالي الأمور، ويختمها بالتأكيد على أصالة البطولة والكرم للملك عبدالعزيز، وأن بطولته وإقدامه ليسا تصنعاً، وإنما هما سجية وخليقة: (حاكوك شخصا وما حاكوك منزلة إن القشاعم تحكي شكلها الرخم) أما الشاعر (محمد بن أحمد عسل) فقد تجلت الجزالة والغرابة وقوة السبك في قصيدته (حارس البيت خادم الدين)، وقد أمعن في الثناء على خلال الملك وأشاد بأخلاقه ودعاه لنشر العدل ورفع النابهين: (املأ الأرض باسم ربك عدلا بعد ظلم بها ونكث العهود) ويكاد الشعراء كافة أن تكون أخلاقيات الملك وعزماته مدار شعرهم ومدرج إبداعهم، فهو المثل الأعلى بطولاته، وأخلاقه، وتسامحه، وصفحه عمن تصدوا له، بعدما أقدره الله عليهم، كما أشادوا بعدله، ونشره للدين وجمعه لكلمة المسلمين، يقول جعفر المدني: (والعدل والأمن قد ضاءت شموسهما بذاك قد شهد القرطاس والقلم) والمتعقِّب لهذا اللون من الشعر يجده صورة أمينة للشعر العباسي، وبخاصة أن (الملك عبدالعزيز) تمثَّل أخلاقيات الخلفاء، وجنح إلى العفو والوفاق والتسامح، وأثبت للعالم أنه الحاكم الذي يقابل الإساءة بالإحسان، ويغلِّب السلامة، وينشد السلام، وما من معركة حمل عليها مكرهاً إلا وأنهاها بالعفو والتسامح وإعادة كل مسؤول إلى مكانه، متيحاً فرصة المراجعة لكل خصومة، وهذه الأخلاق أمدت الشعراء بشرف المعاني، وكل شاعر توفرت له المادة، ولم يجنح إلى الافتعال والانفعال يجلي شعره، والقيم العالية تفجر مواهب الشعراء. وشعر المديح الذي وسعته (أم القرى) بوصفه بعض شعر المناسبات يُعد جزءاً مما قِيل في تمجيد القائد المؤسس، ومحور شعر المناسبات كافة وشعر المديح خصوصاً (الدين) و(العدل) و(الأمن) و(الوحدة)، وما فضل من ذلك فهو موجّه للإشادة بأخلاق (الملك عبدالعزيز) من (بطولة) و(كرم) و(تسامح) و(تواضع) و(وفاء) و(صدق) و(تديُّن).. ولأن الشعر ديوان العرب، فإنَّ شعر المناسبات الذي وسعته (جريدة أم القرى) يُعد تاريخاً للجزيرة العربية، فلقد تتبع الأحداث، ورصدها برؤية المبدع وانطباعه لا بدقة المؤرخ وعلميته، ومؤرخو الجزيرة العربية سيجدون في شعر المناسبات مادة تاريخية لسائر الأحداث، وهم قد وجدوا ما يسد خلالاً كثيرة، وما الشعر إلا بعض حيوات الشعراء وممدوحيهم.. والحذَّاق مِنْ النقاد مَنْ يعرفون القدر المتوقع من المبالغات فيطرحونه، والظلم كل الظلم أن نطرح هذا اللون من الشعر بحجة أنه لا يعبِّر عن الذات، ولا يرصد الواقع. وخلاصة القول: إن هذا اللون من الشعر يعطي مؤشرات عدة من أهمها: ملامح المشروع الحضاري الذي ابتدره الملك عبدالعزيز، والمتمثِّل بتوحيد البلاد، وإشاعة الأمن والاستقرار، وتحكيم الشريعة، والأخذ بأسباب الحضارة، والدخول في المنظومة الدولية، وتمكين الأمة من اللحاق بشعوب العالم المتحضِّرة.
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
23-11-2006, 09:58 PM | #112 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Mar 2006
المشاركات: 355
|
استراحة
مع أني أنسخ وألصق إلا أنني تعبت .. فكيف بمن يكتب ذلك بيده !! ولاتنس أنه بقي لنا ضعفي ما قطعنا .. قبل أن نحلق لمقالات 2004م سأنقل لكم لقاءا مع الهويمل في موقع لها أون لاين ثم لقاءا في إضاءات ثم تعقيبا لأحمد المهوس على الهويمل في مرحلة ماقبل ثقب الأوزون :D
__________________
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم × ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم × ومن شاء تعويجي فإني معوج وما كنت أرضى الجهل خدناً وصاحباً × ولكنني أرضى به حين أحرج |
الإشارات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
طريقة العرض | |
|
|