|
|
|
|
||
ســاحـة مــفــتــوحـــة المواضيع الجادة ، والنقاشات الهادفة -- يمنع المنقول |
|
أدوات الموضوع | طريقة العرض |
11-08-2003, 12:29 AM | #1 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jun 2003
البلد: بغداد
المشاركات: 181
|
المنافقون بين العيان والحقيقة
المنافقون بين العيان والحقيقة
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على رسول الله. قال تعالى: {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألدّ الخصام* وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسدَ فيها ويهلكَ الحرث والنسل*والله لا يحبّ الفساد, وإذا قيلَ له اتّقِ الله أخذته العزّة بالإثم فحسبه جهنّم ولبئس المهاد}(البقرة204-205-206). ما الذي يأسر قارئ هذه الكلمات الإلهيّة؟! وما الذي يجعله يُشَدُّ إليها فيرجع إليها المرّة تلو المرّة, ويعيد النظر فيها ذهاباً وإياباً! ألأنّها كلمات الربّ والتي هي صفة من صفاته؟ وهو القائل: {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله}. أم لأنّها تكشف للمرء حقائق الباطن وتُصوّر ظواهره بأبلغ كلامٍ وأحسنه! والله يقول: {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً}. أم لأنّها تُريك صوراً بشريّة كثيرة تنطبق عليهم تمام الانطباق فلا يخرمون منها شيئاً مهما قلّ أو صغر! أم لأنّها تُسَلّيك في مواطن كثيرة تُغلب فيها بكلام الآخر في باطله وتعجز عن ردعه وغلبته في جولة المبارزة بالكلام, فتَجْبُر آلامك العظيمة فتطمئنّ أنّه {حسبه جهنّم ولبئس المهاد}. أم لأنّها تهدّئ روعك وجزعك أمام الظواهر الكاذبة مهما علت وتعاظمت, ومهما طال تغييبها الحق عن الناس! إنّها لذلك كلّه ولغير ذلك من أمور عظام. يا إلهي ما أحسن حديثك وما أعظمه وما أحلاه وما أطلاه! وقبل أن يتمثّل المسلم الصور البشرية المختزنة في هذه الآيات العظيمة فإنّه لا بدّ أن يَعْلَم ما في داخلها من معادلات, وكيف تعرض هذه الآيات فضائح المخبوء في هذه الصور القبيحة -صور المنافقين- المعادلة: الشقّ الأول: الدعوى والشق الثاني: الحقيقة أولاً: الدعــــوى 1– {يعجبك قوله في الحياة الدنيا}: الإعجاب بالحديث يقع في النفس لسببين:- البلاغة والموافقة؛ فالمرء يمدح القول ويتفاعل معه إذا رأى فيه قوّة الخطاب، فهي كالسحر كما سمّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالجمل البلاغيّة وصبّ المعاني في قوالبٍ من اللفظ الحسن تدعو السامع ولا بدّ إلى الإعجاب، والإعجاب هو مقدّمة قبول القول وقائله، لأنّ الإعجاب مبنيّ على الاستحسان، والاستحسان لا يقع إلاّ بعامل الرضا، وههنا القرآن الكريم يكشف لنا عن مزلق من المزالق التي يقع فيها الكثير من الناس جهلاً، ويستخدمها دعاة الشرّ خبثاً، إنّه مزلق جمال الخطاب وقوّة البيان وحسن صياغة الأفكار، وهذا المزلق استُخدِم كثيراً في تاريخنا، كما يُستخدم اليوم كثيراً في واقعنا، فكم من داعٍ على أبواب جهنّم تمكّن بحسن بيانه وقوّة خطابه أن يأسر الناس إليه، ويسوق الجموع إلى فكره وعقيدته، فعلى العاقل الفطن أن لا ينساق إلى هذا المزلق، فلا تغرّه الظواهر التي تزيّن الباطل، بل عليه أن ينظر إلى حقيقة الموضوع وإلى المعاني الجوهريّة، فيدرس الأمور دراسة الوعي والعلم، لا دراسة الجمال والزينة. ثمّ إذا نظرنا إلى الجانب الآخر من هذه المسألة لوجدنا كذلك أنّه من اللازم على دعاة الحقّ أن لا يغفلوا عن تقديم ما عندهم من حقّ وخير بأحلى عبارة وأجمل خط اب، إذ عليهم أن يتخيّروا العبارت والصور البيانيّة ما يكون داعياً للسامع أن يُقبِل على ما عندهم من هُدى، ولا نعني بهذا أن نجمّل الحقَّ بالشهوات، وأن نخلط الحقّ بالباطل، لأنّ الكثير من الناس يتمنّون أن يَعرضوا القرآن برغيف من "الساندويتش" أو أن يَلبس السنّة ثوب امرأة حسناء ليسارع الناس إليهما، وليس هناك مثل القرآن أعظم في هذا الباب، فهو{أحسن الحديث} ولهذا وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقرأ القرآن ولا يعمل به مثل الريحانة، ريحها طيّب وطعمها مرّ، ومثل المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به مثل الأترجة، ريحها طيّب وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة طعمها حلو ولا ريح لها، وهذا يدلّ على أثر القرآن واتّخاذه وسيلة في الحجاج والحديث، ودوام الاستشهاد به، فإنّ الريح الطيّبة مدعاةٌ للقرب والقبول. والقصد من هذا بيان أنّ اللفظ الحسن لا يصحّ أن يتّخذ حاكماً على قضيّة من القضايا، كما أنّه كذلك لا ينبغي لأهل الحقّ أن يُعرضوا عنه لأثره على النفوس والقلوب. وأمّا الشقّ الثاني الذي يقع بسببه الإعجاب فهو الموافقة لما يقوله المتحدّث، والإعجاب ههنا بهذا الصنف من الناس يقع بسبب إظهاره موافقة أهل الحقّ لما عندهم، وإن كان هو في حقيقة الأمر يستخدم هذا لما يريده فيما بعد ذلك من المخاصمة وإثارة الشبهات وتزوير الحقّ الذي عند المؤمنين، لقوله سبحانه وتعالى {وهو ألدّ الخصام}. وهذا كلّه على اختيار أنّ قوله تعالى {في الحياة الدنيا} متعلّقٌ بقوله سبحانه {يُعجبك}، أيّ أنّك تستحسن قوله ما دام في هذه الدنيا، لأنّه لا يصدر منه إلا القول الحسن، فهو يتكلّم بما يوافق ما عندكم من الحقّ والخير. وقال بعض أهل العلم: إنّ قوله تعالى: {في الحياة الدنيا} متعلّق بقوله {قوله} أي أنّه يتقن الكلام فيما هو من شأن الدنيا. والذي أراه -والله أعلم- أنّ القول الأوّل هو الصواب، فإنّ إعجاب المؤمن بكلام المرء لا يكون إلاّ حين يتكلّم المرء بكلام الدين والحقّ، وأمّا كلام الدنيا فليس هو معيار الإعجاب عند المؤمن، ثمّ إنّ مراد الآيات هو بيان مخالفة كلام المرء بقوله الحسن مع فعله القبيح -وهو الإفساد في الأرض. 2– {ويشهد الله على ما في قلبه}: إنّ أوّل ما يخطر على بالك عند هذه الكلمات أن تسأل: لماذا يسارع المجرم والمُبطِل -غالباً- إلى نقل الموضوع الذي يدور حوله الخلاف إلى المنطقة الخطأ؟ ولماذا يحاول المبطل -غالباً- التنبيه على ما يمكن أن يتّهم به لقرائن الحال؟! فههنا رجل لو كَشَفَ الله تعالى عن قبله لرآه الناس من أقبح القلوب وأشنعها، ولأبصروا فيه أفاعي الشرّ وعقارب السوء، وهوام الحسد والحقد، وغيلان الزور والكذب، وهو مع ذلك يستهتر بربّه، وقد جعله من أهون الناظرين إليه، فالحديث معه يدور حول فعله القبيح -الإفساد في الأرض- فلماذا ينقله إلى أمر لا يمكن الاطلاع عليه على الحقيقة إلا من خلال هذا الظاهر، والقصد أنّ نقل الحوار والمناقشة إلى هذه المنطقة من الحديث هو نقل تعسُّفيّ يُراد منه إدخال الناس في الحوار الخطأ وصرف النظر عن القضيّة المهمّة، وهي: لماذا تُفسد في الأرض؟ فهي تحذير لنا أن لا نقبل من القول إلاّ ما احتفت به الأدلّة، وأن نحذر الحوار فيما لا يمكن البحث في حقيقته. ولماذا يحلف بالله على صدق ما في قلبه وحسن نيّته؟! وهل ثمّة أحد سأله عن هذا؟ أهو تطبيقٌ للمثل القائل: يكاد المجرم أن يقول خذوني؟ أم هي قاعدة: لا بدّ للمجرم أن يعود إلى مكان جريمته؟ أم هو هاجس الكذب وقلقه على النفس، فيبقيه شاعراً بمعرفة كلّ الناس له مع استحضار عاقبة الخيبة والخسران؟ إنّ هذه الآيات بمقدار ما تفضح الأيمان الكاذبة، بمقدار ما تنفّرك وتقزّزك من هذا السمت والنمط، فهي تبيّن أن جريمته الأولى ليست خصومتهم مع المسلمين، وإنّما هي جريمة أخرى تسبق ذلك، إنّها جريمةٌ تقع منهم تجاه ربّهم وخالقهم، فانظر إلى استهتارهم بنظر الله إليهم، وبهوان مراقبة الله لقلوبهم، فهم يحلفون بالله ويشهدونه عما في قلوبهم دون خجل أو حياء، أفمثل هؤلاء الذين لا يُقيمون رأساً لنظر الله إليهم يمكن أن يطمع المرء العاقل أن يقيموا رأسا ًلنظر الناس إليهم؟!! والآية لا تبيّن لنا ماذا يشهد هذا المنافقُ ربَه على ما قلبه، بل تركها الربّ لنا مفتوحة لأنّ هذا الترك هو قمّة الامتلاء، فإنّ هناك العديد والآلاف من الصور التي يمكن للمرء أن يملأها من واقعه، فهي دعوة لنا أن نملأها بالصور التي نراها وتعيش بيننا. فإذاً هو: {يعجبك قوله في الحياة الدنيا} و {ويشهد الله على ما في قلبه}. هذا هو شقّ المعادلة الأوّل. لكن ما هي حقيقة هذا المدّعي؟ وأيّ صنفٍ من الناس هو؟ هذا ما أراد القرآن بيانه. وممّا يستوقفك هنا أنّ هذه المقدّمة تجعلك تسير سيراً حسناً مع الموصوف وكأنّك في راحةٍ من حاله ووضعه، فقوله حسن تَعْجب له، وأيمانه مُغلَّظة أنّه صادقٌ محسن، ولكن ما يأتي يجابهك بصدمة تعادل صدمتك بما تراه من واقع الموصوف، وهي صفة لازمة لهذا القرآن العزيز أنّ مراد الربّ في كلامه معروض مع حركة الكلام الإلهي. فههنا مقدّمة تريحك وتبعث في نفسك الراحة والاطمئنان، ولكنّها تريحك لتكون الصدمة القادمة والعاصفة الآتية أكثر تأثيراً على نفسك. فكان بعد ذلك أن قال: {وهو ألدّ الخصام}، وكلمة "ألدّ" تقطع النَفَس الذي انساب قبل قليل مرتاحاً مع قوله سبحانه وتعالى {ومن الناس...}. فهي كلمات تتأنّى في قراءتها وكأنّك تسير مع سهل منبسط تحت قدميك، ولكن للحظة مفاجئة تأتي الهزّة: {وهو ألدّ..} إنّها نفس الحالة الواقعية في تعامل المسلم الموحّد مع هذا الصنف من البشر. فتذكّر هذا مع كلّ آيات الكتاب تراه جليّاً واضحاً، وتذكّرها فيما يأتي من قوله سبحانه: {ولبئس المهاد}. فكلمة المهاد تبعث على الراحة والهناء، ولكن ما قبلها يرفع هذا المعنى إلى ضدّه {ولبئس} فكأنّك مع فراش وثير في ظاهره ولكن حقيقته الشقاء والتعب، إنّه نفس الخداع الحاصل من حال هؤلاء المنافقين -الظاهر شيءٌ والباطن شيءٌ آخر-. فتذكّر هذا مع القرآن ولا تنساه. إنّه {وهو ألدّ الخصام}، هذه أوّل علامة من العلامات الدالّة على قبح صورته الحقيقية من غير تزوير وتخييل، عوج المجادلة فلا يستقيم على حقّ في خصومة، واللدّ في اللغة: شدّة الخصومة وعوجها، فهولا يخضع لحقّ ولا يقبل دليلاً ولو أتيته بملء الأرض حججاً. إنّ مقابلة هذا الصنف من البشر هي أسوء ما يمكن للمرء أن يلقاه في حياته، ولكنّ صورها في الواقع كثيرة وكثيرة جدّاً، إنّ من صور هذه الكلمات في واقعنا وفي حياة البشر: كلّ من حاجج بباطل، وكلّ من استخدم الكذب في حواره، وكلّ من تعالى عن قبول الدليل الحقّ، أو أخرج أي بحثٍ عن موضوعه من أجل التمويه والغلبة، وكلّ من آنف أن يعترف للآخر بالحقّ والصواب. وفي هذه الكلمات الربّانية تسلية للمؤمن ولصاحب الحقّ أنّه وإن فاتته الغلبة على خصمه المجادل لتصرّفه بالكلام المعسول، أو لتركيبه مقدّمات متناقضة للوصول إلى أهدافه، فإنّه وإن ضاع حقّه في الدنيا فلن يضيع عند الله تعالى. وفيها الردّ على من ظنّ أن نهاية أي حوار بين حقّ وباطل، بين سنّة وبدعة، بين صواب وخطأ، ينبغي أن ينقطع الباطل في جداله وسكوت صاحبه، لا، إنّ هذا القول خطأ ولا شكّ، فإنّ من قاس ميزان الصواب والخطأ بهذا المقياس سيجني على نفسه الشرّ ولا شكّ، ولكن لنتذكّر أنّ للحقّ نوراً وعلامات. ذكر الذهبي في السير(11/249) في كلامه عن المحنة للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، قال: قال صالح بن الإمام أحمد عن أبيه: فإذا جاء شيء من الكلام مما ليس في الكتاب والسنّة، قلت: ما أدري ما هذا. والقرآن الكريم علّمنا أن نعرض عن المجادل المعاند، واقرأ إن شئت قوله تعالى: {لا حجّة بيننا وبينكم}[الشورى]. فإنّها جليّة واضحة في أنّ حججنا عند المعاندين لا تُقبَل لعدم اهتدائهم بها، ولأنّهم لا يُقيمون لما نحتجّ به رأساً، فإنّهم لا يعتبرون أنّ الكتاب والسنّة يقطعان حجج المناظر، كما أنّ أدلّتهم من الباطل لا نقيم لها شاناً، فليس هناك من أرضيّة مشتركة للحوار بين الموحّد وبين المعاند، وهذا إن تفكّر المرء به في هذا الزمان رأى أن الكثير من الزاعمين لفتح الحوار بين الأديان أو بين المذاهب للتقريب بينها فيما يزعمون إنّما يضطرون إلى مسايرة أهل الباطل في الكثير من مبادئهم وذلك بِكَتْم بعض ما أنزل الله تعالى أو بتأويل بعض معانيه ظانّين أنّ عداء اليهود والنصارى لدين الله تعالى إنّما هو لعدم فهمهم للدين، ولذلك راحوا يشرحون الإسلام بصورة زعموا أنّها الحق، بها يرضى اليهود والنصارى عن الإسلام، وهي في الحقيقة صورة تشوّه الإسلام ولا تحسّنه. ولذلك صدق من قال: إنّ الله لما علم أنّ في الناس من لا ينفعه الكتاب الذي أنزله الله، أنزل معه الحديد فيه بأس شديد لعلمه أنّه لا يُخرج المراءَ من أدمغة أهل اللجاج إلا الحديد. وإلاّ فماذا يصنع المسلم مع من يقول: {ربّنا عجّل لنا قطّنا} أي عذابنا؟ إنّ الجواب هو قوله تعالى: {إصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنّه أوّاب}[ص:16-17]. إنّ هؤلاء القوم: {ولئن جئتهم بآية ليقولنّ الذين كفروا إن أنتم إلاّ مبطلون}[الروم]، {فإنّك لا تُسمع الموتى ولا تسمعُ الصمَّ الدعاءَ إذا ولّوا مدبرين، وما أنتَ بهادِ العمي عن ضلالاتهم إن تُسمِع إلاّ من يؤمنُ بآياتنا فهم مسلمون}[الروم: 52-53]، فالفصل بين الناس ليس في هذه الدنيا، إنّما هو ليوم الفصل، يوم القيامة، ومن ظنّ أنّه يمكن الفصل بين كلّ المختلفين في هذه الدنيا فهو مضيّع لوقته في غير ما فائدة. ولذلك كان الواجب على المسلم أن يبيّن الحقّ كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تبديل، وبالطريقة النبوية التي عرض بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الدين، وكلّ زعْمٍ أنّ هناك طريقة أسلم أو أعلم من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو زعمٌ ضالٌّ مبطل. ثانيا: الــحــقــيــقــة 1– {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسدَ فيها ويُهلِكَ الحرثَ والنّسلَ والله لا يحبُّ الفساد}: فهذه هي الحقيقة التي تكذّب كلّ الدعاوى اللفظيّة، وهي التي ينبغي أن يُحكَم على المرء من خلالها، فإنّ آلاف المحسّنات اللفظيّة لا يمكن أن تقفَ أمام حقيقةٍ واقعيّة، وإنّ الأيمان المغلّظة المزعومة لا يمكن أن تثبُتَ أمام حجج الواقع العيانيّة. إنّها تكشف استخفاء هؤلاء القوم، فهم أمام المؤمنين يتكلّمون الكلام الحسن، ويبشّون في الوجوه، ويحلفون إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً، فإذا طلب منهم العمل المؤيّد لما يقولون لم يأتِ منهم إلا الشرّ، فإذا خرجوا من عندك {إذا تولّى} ملأ الدنيا شروراً وفساداً {سعى في الأرض} والسعي هو المشي السريع، إنّها كلمات تملأ النفس بصورِ حكّام الردّة والكفر، فانظر بالله عليك إلى مطابقة الخبر الربّاني لمخبَر هؤلاء المجرمين. فحسبنا الله ونعم الوكيل كم خدعوا من جاهل وكم لبّسوا على الناس. وههنا نقطة مهمّة جليلة وهي الخلاف حول ميزان القبح والحسن، ميزان الخير والشرّ، ذلك لأنّ هؤلاء المجرمين من لددهم الباطل وجدالهم الفاسد ما كشفه الله تعالى بقوله: {وإذا قيلَ لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنّما نحن مصلحون ألا إنّهم هم المفسدونَ ولكن لا يشعرون} فهم يسّمون إفسادهم إحساناً. ألم يسمّوا الزنا والدعارة حرّيةً وفنّاً؟!! ألم يسمّوا الخمر مشروبات روحيّة؟!! ألم يسمّوا الزندقة حرّية فكريّة؟!! ألم يسمّوا بيع البلاد والعباد سلماً وإخاءً؟ وهكذا تحوّل الفساد في الأرض إلى خير وجمال، وصار معيار الشيطان في الحقّ والخير هو المعيار والميزان. ولكنّ قوله سبحانه وتعالى {والله لا يحبّ الفساد} يقطعُ عليهم أهواءهم، فإنّه سبحانه وتعالى ما نهى عن أمرٍ إلا وفيه مفسدة، وما أمر بأمر إلا وفيه مصلحة. فهو سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، ولا معقّب لحكمه. 2– {وإذا قيل له اتّق الله أخذته العزّة بالإثم، فحسبه جهنّم ولبئس المهاد}: وههنا دليلٌ آخر على كذب دعواه، وأنّه لا يُقيم لربّ العزّة شأناً، وأنّ أمر الله تعالى عنده هيّن لا قيمة له. فإنّه إذا نُوصِحَ أعرضَ وتولّى، بل {أخذته العزّة بالإثم} ، وانظر إلى هذا الكلام الربّاني: {أخذته} ، فكأنّها تنقله نقلة بعيدة، إنّها نقلةٌ إلى الشرّ، وما الحامل له على ذلك؟ {العزّة بالإثم}. إنّه يتعامل مع حقائق باطنيّة ثابتة لديه: الإثم، فهو قرينه ووليّه، وهو مقياسه وميزانه، يغضب له وينتصر له ويتحاكم إليه، وهو مفتخر به، يتعالى بصحبته، والمرء المسلم يعتزّ بالحقّ وبانتسابه إليه، ولكنّ هذا: عزّته بالإثم، فانتصاره له يحكم مواقفه، ومحبّته له تسيّر خطواته، فإذا كان الخيار بين {اتق الله} وبين {العزّة بالإثم} كان المقدّم عنده: العزّة بالإثم. وههنا نكتة لا بدّ من ذكرها وهي تكشف الحقائق المخفيّة: رجلٌ في حال السعة والرخاء وترتيب المواضيع على مهل وتؤدة يُعجبك قوله، فهو محضر نفسه للعرض أمام المؤمنين، ألبَسَ نفسه القناع. ولكنّه في هيجانه الشيطاني وخلال سعيه الدؤوب للإفساد في الأرض: لو فاجأه موحّد بقوله: "اتق الله" تفجّرت حينئذ الحقائق وكشف عن مخبوء نفسه وفجأة: أخذته العزّة بالإثم. ولم تبيّن لنا الآية ماذا فعل حين أخذته العزّة بالإثم: لأنّ الترك ههنا كما هو في كلّ موضع من أبلغ الإملاء والإحاطة. فحسبه جهنّم ولبئس المهاد، وههنا سأتكلّم عمّا شعرت به في نفسي حين وقفت وكلّما وقفت على هذه الخاتمة: إنّه شعور الرضا، شعور الأمان بأنّ الله لن يترك هؤلاء على آمالهم الكاذبة، وشعور الثقة أنّ الله هو الحقّ المبين، وأنّه سينتصر للضعفاء وسيذلّ المستكبرين، ثمّ هي تبيّن عاقبة هذا المكر السيّئ وهذا النفاق القبيح، ما الذي سيجنيه؟ أيظنّ أنّه يخدع ربّ العالمين، وسيأخذ الدنيا والآخرة؟ لا والله! بل حسبه جهنّم ولبئس المهاد. والحمد لله ربّ العالمين منقول
__________________
|
11-08-2003, 04:00 AM | #2 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Aug 2003
البلد: حائل
المشاركات: 19
|
جُزيت خيراً أخي الكريم ....
واسمع يارعاك الله لجزء من كلام نفيسٍ لابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه ((مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين)) قال رحمه الله في الجزء الأول: وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاثة فى أول سورة البقرة : المؤمنين والكفار والمنافقين فذكر في المؤمنين أربع آيات وفي الكفار آيتين وفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح وهو غاية الجهل والإفساد فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من علم له قد طمسوه ! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه ! وكم ضربوا بمعاول الشبه فى أصول غراسه ليقلعوها ! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها ! فلا يزال الإسلام وأهله منهم فى محنة وبلية ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون [ البقره : 12 ] يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون [ الصف : 8 ] اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون [ المؤمنون : 53 ] يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [ الأنعام : 112 ] ولأجل ذلك اتخذوا هذا القرآن مهجورا [ الفرقان : 30 ] درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع فى الصدور منها والأعجاز وقالوا : ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز أعدوا لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين وقالوا لما حلت بساحتهم : مالنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين وعوامهم قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين فإنهم أعلم بها من السلف الماضين وأقوم بطرائق الحجج والبراهين وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور فطريقة المتأخرين : أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين : أجهل لكنها أسلم أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين ويقولون [ آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ]البقره )،رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون [ يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون [ البقره : 9 ] قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون [ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون [ البقره : 10 ] من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه غافلون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون [ البقره : 1112 ] المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون [ البقره : 13 ] لكل منهم وجهان وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين وله لسانان : أحدهما يقبله بظاهره المسلمون والآخر يترجم به عن سره المكنون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون [ البقره : 14 ] قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذى لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحى يستهزئون الله يستهزىء بهم ويمدهم فى ظغيانهم يعمهون [ البقره : 15 ] خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين [ البقره : 16 ] أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفىء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون [ البقره : 17 ] أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ البقره : 18 ] صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظعت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا فى الهرب والطلب فى آثارهم والصياح فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم : المناظرين والمقلدين فقيل : أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين [ البقره : 19 ] ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير [ البقره : 20 ] لهم علامات يعرفون بها مبينة في السنة والقرآن بادية لمن تدبرها من أهل بصائر الإيمان قام بهم والله الرياء وهو أقبح مقام قامه الإنسان وقعد بهم الكسل عما أمروا به من أوامر الرحمن فأصبح الإخلاص عليهم لذلك ثقيلا وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا [ النساء : 142 ] أحدهم كالشاة العائرة بين الغنمين تيعر إلى هذه مرة وإلى هذه مرة ولا تستقر مع إحدى الفئتين فهم واقفون بين الجمعين ينظرون أيهم أقوى وأعز قبيلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا [ النساء : 143 ] يتربصون الدوائر بأهل السنة والقرآن فإن كان لهم فتح من الله قالوا : إلم تكن معكم واقسموا على ذلك بالله جهد ايمانهم وان كان لأعداء الكتاب والسنة من النصرة نصيب قالوا : ألم تعلموا أن عقد الإخاء بيننا محكم وان النسب بيننا قريب فيا من يريد معرفتهم ! خذ صفتهم من كلام رب العالمين فلا تحتاج بعده دليلا : الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين بيلا [ النساء : ] يعجب السامع قول أحدهم لحلاوته ولينه ويشهد الله على ما في قلبه من كذبه ومينه فتراه عند الحق نائما وفي الباطل على الأقدام فخذ وصفهم من قول القدوس السلام : ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام [ البقره : 204 ] أوامرهم التي يأمرون بها أتباعهم متضمنة لفساد البلاد والعباد ونواهيهم عما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد وأحدهم تلقاه بين جماعة أهل الإيمان في الصلاة والذكر والزهد والاجتهاد وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد [ البقره : 205 ] فهم جنس بعضه يشبه بعضا يأمرون بالمنكر بعد أن يفعلوه وينهون عن المعروف بعد أن يتركوه ويبخلون بالمال في سبيل الله ومرضاته أن ينفقوه كم ذكرهم الله بنعمه فأعرضوا عن ذكره ونسوه وكم كشف حالهم لعباده المؤمنين ليتجنبوه فاسمعوا أيها المؤمنون المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا لله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [ التوبه : 67 ] إن حاكمتهم إلى صريح الوحي وجدتهم عنه نافرين وإن دعوتهم إلى حكم كتاب الله وسنة رسولهرأيتهم عنه معرضين فلو شهدت حقائقهم لرأيت بينها وبين الهدى أمدا بعيدا ورأيتها معرضة عن الوحي إعراضا شديدا وإذا قيل لهم : تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا [ النساء : 61 ] فكيف لهم بالفلاح والهدى بعد ما أصيبوا في عقولهم وأديانهم وأنى لهم التخلص من الضلال والردى ! وقد اشترا الكفر بإيمانهم فما أخسر تجارتهم البائرة ! وقد استبدلوا بالرحيق المختوم حريقا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله : إن أردنا لا إحسانا وتوفيقا [ النساء : 62 ] نشب زقوم الشبه والشكوك فى قلوبهم فلا يجدون له مسيغا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا [ النساء : 63 ] تبا لهم ما أبعدهم عن حقيقة الإيمان ! وما أكذب دعواهم للتحقيق والعرفان فالقوم فى شأن وأتباع الرسول في شأن لقد أقسم الله جل جلاله في كتابه بنفسه المقدسة قسما عظيما يعرف مضمونه أولو البصائر فقلوبهم منه على حذر إجلالا له وتعظيما فقال تعالى تحذيرا لأوليائه وتنبيها على حال هؤلاء وتفهيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك في شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما تسبق يمين أحدهم كلامه من غير أن يعترض عليه لعلمه أن قلوب أهل الإيمان لا تطمئن إليه فيتبرأ بيمينه من سوء الظن به وكشف ما لديه وكذلك أهل الريبة يكذبون ويحلفون ليحسب السامع أنهم صادقون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون [ المنافقون : 2 ] تبا لهم برزوا إلى البيداء مع ركب الإيمان فلما رأوا طول الطريق وبعد الشقة نكصوا على أعقابهم ورجعوا وظنوا أنهم يتمتعون بطيب العيش ولذة المنام في ديارهم فما متعوا به ولا بتلك الهجعة انتفعوا فما هو إلا أن صاح بهم الصائح فقاموا عن موائد أطعمتهم والقوم جياع ما شبعوا فكيف حالهم عند اللقاء وقد عرفوا ثم أنكروا وعموا بعد ما عاينوا الحق وأبصروا ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [ المنافقون : 3 ] أحسن الناس أجساما وأخلبهم لسانا وألطفهم بيانا وأخبثهم قلوبا وأضعفهم جنانا فهم كالخشب المسندة التى لا ثمر لها قد قلعت من مغارسها فتساندت إلى حائط يقيمها لئلا يطأها السالكون وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم ! قاتلهم الله أنى يؤفكون [ المنافقون : 4 ] يؤخرون الصلاة عن وقتها الأول إلى شرق الموتى فالصبح عند طلوع الشمس والعصر عند الغروب وينقرونها نقر الغراب إذ هي صلاة الأبدان لا صلاة القلوب ويلتفتون فيها التفات الثعلب إذ يتيقن أنه مطرود مطلوب ولا يشهدون الجماعة بل إن صلى أحدهم ففي البيت أو الدكان وإذا خاصم فجر وإذا عاهد غدر وإذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان هذه معاملتهم للخلق وتلك معاملتهم للخالق فخذ وصفهم من أول المطففين وآخر والسماء والطارق [ الطارق : 1 ] فلا ينبئك عن أوصافهم مثل خبير يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير [ التوبه : 73 ] فما أكثرهم ! وهم الأقلون وما أجبرهم ! وهم الأذلون وما أجهلهم ! وهم المتعالمون وما أغرهم بالله ! إذ هم بعظمته جاهلون ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون [ التوبة : 56 ] إن أصاب أهل الكتاب والسنة عافية ونصر وظهور ساءهم ذلك وغمهم وإن أصابهم ابتلاء من الله وامتحان يمحص به ذنوبهم ويكفر به عنهم سيئاتهم أفرحهم ذلك وسرهم وهذا يحقق إرثهم وإرث من عداهم ولا يستوي من موروثه الرسول ومن موروثهم المنافقون إن تصبك حسنة تسؤهم وإن تصبك مصيبة يقولوا : قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون قل : لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون [ التوبه : 5051 ] وقال تعالى فى شأن السلفين المختلفين والحق لا يندفع بمكابرة أهل الزيغ والتخليط إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط [ آل عمران : 120 ] كره الله طاعاتهم لخبث قلوبهم وفساد نياتهم فثبطهم عنها وأقعدهم وأبغض قربهم منه وجواره لميلهم إلى أعدائه فطردهم عنه وأبعدهم وأعرضوا عن وحيه فأعرض عنهم وأشقاهم وما أسعدهم وحكم عليهم بحكم عدل لا مطمع لهم في الفلاح بعده إلا أن يكونوا من التائبين فقال تعالى ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ثم ذكر حكمته في تثبيطهم وإقعادهم وطردهم عن بابه وإبعادهم وأن ذلك من لطفه بأوليائه وإسعادهم فقال وهو أحكم الحاكمين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين ثقلت عليهم النصوص فكرهوها وأعياهم حملها فألقوها عن أكتافهم ووضعوها وتفلتت منهم السنن أن يحفظوها فأهملوها وصالت عليهم نصوص انقرض منهم طوائف خلفهم أمثالهم فذكر أوصافهم لأوليائه ليكونوا منها على حذر وبينها لهم فقال ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم هذا شأن من ثقلت عليه النصوص فرآها حائلة بينه وبين بدعته وهواه فهي في وجهه كالبنيان المرصوص فباعها بمحصل من الكلام الباطل واستبدل منها بالفصوص فأعقبهم ذلك أن أفسد عليهم إعلانهم وإسرارهم ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم أسروا سرائر النفاق فأظهرها الله على صفحات الوجوه منهم وفلتات اللسان ووسمهم لأجلها بسيماء لا يخفون بها على أهل البصائر والإيمان وظنوا أنهم إذ كتموا كفرهم وأظهروا إيمانهم راجوا على الصيارف والنقاد كيف والناقد البصير قد كشفها لكم أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم فكيف إذا جمعوا ليوم التلاق وتجلى الله جل جلاله للعباد وقد كشف عن ساق ودعوا إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون أم كيف بهم إذا حشروا إلى جسر جهنم وهو أدق من الشعرة وأحد من الحسام وهو دحض مزلة مظلم لا يقطعه أحد إلا بنور يبصر به مواطيء الأقدام فقسمت بين الناس الأنوار وهم على قدر تفاوتها في المرور والذهاب وأعطوا نورا ظاهرا مع أهل الإسلام كما كانوا بينهم في هذه الدار يأتون بالصلاة والزكاة والحج والصيام فلما توسطوا الجسر عصفت على أنوارهم أهوية النفاق فأطفأت ما بأيديهم من المصابيح فوقفوا حيارى لا يستطيعون المرور فضرب بينهم وبين أهل الإيمان بسور له باب ولكن قد حيل بين القوم وبين المفاتيح باطنه الذي يلي المؤمنين فيه الرحمة وما يليهم من قبلهم العذاب والنقمة ينادون من تقدمهم من وفد الإيمان ومشاعل الركب تلوح على بعد كالنجوم تبدو لناظر الإنسان انظرونا نقتبس من نوركم لنتمكن في هذا المضيق من العبور فقد طفئت أنوارنا ولا جواز اليوم إلا بمصباح من النور قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا حيث قسمت الأنوار فهيهات الوقوف لأحد في مثل هذا المضمار كيف نلتمس الوقوف في هذا المضيق فهل يلوي اليوم أحد على أحد في هذا الطريق وهل يلتفت اليوم رفيق إلى رفيق فذكروهم باجتماعهم معهم وصحبتهم لهم في هذه الدار كما يذكر الغريب صاحب الوطن بصحبته له في الأسفار ألم نكن معكم نصوم كما تصومون ونصلي كما تصلون ونقرأ كما تقرؤون ونتصدق كما تصدقون ونحج كما تحجون فما الذي فرق بيننا اليوم حتى انفردتم دوننا بالمرور قالوا بلى ولكنكم كانت ظواهركم معنا وبواطنكم مع كل ملحد وكل ظلوم كفور ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير لا تستطل أوصاف القوم فالمتروك والله أكثر من المذكور كاد القرآن أن يكون كله في شأنهم لكثرتهم على ظهر الأرض وفي أجواف القبور فلا خلت بقاع الأرض منهم لئلا يستوحش المؤمنون في الطرقات وتتعطل بهم أسباب المعايش وتخطفهم الوحوش والسباع في الفلوات سمع حذيفة رضي الله عنه رجلا يقول اللهم أهلك المنافقين فقال يا ابن أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في طرقاتكم من قلة السالك تالله لقد قطع خوف النفاق قلوب السابقين الأولين لعلمهم بدقة وجله وتفاصيله وجمله ساءت ظنونهم بنفوسهم حتى خشوا أن يكونوا من جملة المنافقين قال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما يا حذيفة نشدتك بالله هل سماني لك رسول الله منهم قال لا ولا أزكي بعدك أحدا وقال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب محمد كلهم يخاف النفاق على نفسه ما منهم أحد يقول إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل ذكره البخاري وذكر عن الحسن البصري ما أمنه إلا منافق وما خافه إلا مؤمن ولقد ذكر عن بعض الصحابة أنه كان يقول في دعائه اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق قيل وما خشوع النفاق قال أن يرى البدن خاشعا والقلب ليس بخاشع تالله لقد ملئت قلوب القوم إيمانا ويقينا وخوفهم من النفاق شديد وهمهم لذلك ثقيل وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم وهم يدعون أن إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل زرع النفاق ينبت على ساقيتين ساقية الكذب وساقية الرياء ومخرجهما من عينين عين ضعف البصيرة وعين ضعف العزيمة فإذا تمت هذه الأركان الأربع استحكم نبات النفاق وبنيانه ولكنه بمدارج السيول على شفا جرف هار فإذا شاهدوا سيل الحقائق يوم تبلى السرائر وكشف المستور وبعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور تبين حينئذ لمن كانت بضاعته النفاق أن حواصله التي حصلها كانت كالسراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب قلوبهم عن الخيرات لاهية وأجسادهم إليها ساعية والفاحشة في فجاجهم فاشية وإذا سمعوا الحق كانت قلوبهم عن سماعه قاسية وإذا حضروا الباطل وشهدوا الزور انفتحت أبصار قلوبهم وكانت آذانهم واعية فهذه والله أمارات النفاق فاحذرها أيها الرجل قيل أن تنزل بك القاضية إذا عاهدوا لم يفوا وإن وعدوا أخلفوا وإن قالوا لم ينصفوا وإن دعوا إلى الطاعة وقفوا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول صدفوا وإذا دعتهم أهواؤهم إلى أغراضهم أسرعوا إليها وانصرفوا فذرهم وما اختاروا لأنفسهم من الهوان والخزي والخسران فلا تثق بعهودهم ولا تطمئن إلى وعودهم فإنهم فيها كاذبون وهم لما سواها مخالفون ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه بما كانوا يكذبون
__________________
ياديرتي سمر الغرايب اقباله...... بشرقي آجايازين زمة احيوره |
12-08-2003, 08:34 PM | #3 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Jun 2003
البلد: بغداد
المشاركات: 181
|
جزاك الله خيرا
__________________
|
29-08-2003, 03:08 PM | #4 |
عـضـو
تاريخ التسجيل: Aug 2003
البلد: أفغانستان ..
المشاركات: 149
|
جزاك الله خيرا ..
__________________
ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ،ـ همنا الدعوة إلى الله بإذنه سبحانه !! لاعددالردود أو الصفحات !!!!! فلنوحد هذا الهم ..!! |
الإشارات المرجعية |
أدوات الموضوع | |
طريقة العرض | |
|
|