[الطالب للحق]

لا يزال آباؤنا وإخواننا العميان يأتون بالعجائب السلوكية التي ربما يعجز عنها المبصر منا , فمنذ أن سطرت الكتب عنهم إلى يومنا هذا ونحن نجد ما لا نجده في غيرهم , فقد ألف صلاح الدين الصفدي ( 696 – 764 هـ ) كتابًا بعنوان ( نكت الهميان في نكت العميان ) , وعقد ابن قتيبة الدينوري في ( المعارف ) شيئًا من ذكرهم , ومثله ابن الجوزي في ( تلقيح فهوم أهل الأثر ) , وابن بانة في ( رأس مال النديم ) وغيرهم كثير ربما لا حصر لهم , ولعل حديثي يقتصر في ذكر بعض العجائب التي رأيتها منهم وربما سمعتها عنهم في أيامنا هذه , وليس هناك فرق بين الأكمه وهو الذي ولد بلا بصر , أو الأعمى الذي فقد بصره لاحقًا , فإني لن أنـزع إلى تصنيفهما .

كنت طالبًا في المعهد العلمي ببريدة , وكان أحد المدرسين أعمى , لا أذكر اسمه وإنما لقب عائلته , أذكر أن اسم لقبها المقبل , ونسياني تقصير مني بلا أدنى ريب , كان أن أعطاه الله معرفة كبيرة في تمييز مكان الطالب المشاغب , فتراه يحدده في مكانه , ولو نطق غير الطالب المعني مبعدًا التهمة عنه لصدقه ليشير إلى الطالب المشاغب نفسه , كان يعلم إذا كان باب الصف ( ولا تقل الفصل ) مفتوحًا أم مغلقًا , إذا سأله طالب يقعد ( ولا تقل يجلس ) يمين الصف التفت يمينًا , وإذا كان يسارًا التفت يسارًا , كان في الدقائق الأخيرة من الحصة يحدثنا بحديث المبصرين , تراه يقول رأيت كذا , وكان بجانب كذا , وخلف كذا .

ذكر لي أحدهم أن هناك أعمى في محافظة رياض الخبراء يدعى ( أعمى انسور ) أو قريبًا من هذا اللقب , كان يركب دراجة هوائية ويسير على الخط الأصفر الموضوع في الطريف المزفت , كان لا يحيد عنه إلا قليلاً , له صنعة قد نعجز نحن المبصرين عنها , ألا وهي تصليح المذياع المتعطل , تراه ينـزع براغيه واحدًا تلو الآخر ليقف على سبب العطل فيصلحه توًّا .

أحدهم توفي منذ زمن بعيد من أهل محافظة عيون الجواء , كان مشاكسًا وفطنًا , يملك ذكاء حادًا , ودهاء يفوق دهاء الثعلب , تحدى ذات يوم رفقة له أن يغني في الجامع بعد أن ينصرف الإمام إلى المأمومين مباشرة , فما إن انصرف الإمام حتى بدأ في الغناء , أطال فيه , مختارًا أغنية شهيرة , كان من بجانبه يشده من ثوبه علًّه أن يقعد بعد أن انتصب واقفًا , لم يلتفت إلى من يشده , فتابع الغناء بلا توقف , كان المصلون ما بين ضاحك منه , وما بين حانق عليه , فلو كان مبصرًا لشده المصلون من تلابيبه وقذفوا به خارج الجامع , فما إن انتهى حتى أخذ يعظ الناس ويلومهم على سماع الأغاني , كان يحذر بشدة من الاستماع إلى المذياع الذي لم يكن يوجد غيره آنذاك , حتى إذا انتهى من إتمام تحديه دعاه الإمام إلى تناول طعام الغداء تعبيرًا عن رضاه بما صنع .


نادرة : قيل لبشار بن برد : ما أذهب الله كريمتي مؤمن إلا عوضه الله خيرًا منهما . فبمَ عوضك ؟ قال بشار : بعدم رؤية الثقلاء مثلك .

آمل ألا أكون ثقيلاً من جراء هذا الموضوع . . .

محبكم / أحمد المهوس